في نوفمبر 2020 نظم مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية رحلة لوفد من الصحافة الدولية إلى محافظة شبوة اليمنية. ضم الوفد عدد من كبار مراسلي الصحف ووسائل الإعلام الدولية.
هي الرحلة الثالثة التي ينظمها المركز لوفد من الصحافة الدولية إلى اليمن بعد تنظيمه رحلة مماثلة إلى محافظة مأرب عام 2017 ورحلة إلى محافظة حضرموت عام 2018. أدناه ترجمة غير رسمية لبعض القصص التي صدرت في وسائل إعلام دولية عن رحلة شبوة الأخيرة.
“نحن نجعل اليمن جميلًا”
كيف يمكن لمحافظ وخبيرة تجميل إعادة بناء بلدهما المدمر
ليا فريسه | مجلة داي زت الالمانية | 15 ديسمبر 2020
الظلام يخيّم على المدينة منذ مدة طويلة. هناك في الداخل، على مسرح المركز الثقافي بمدينة عتق، هاجم رجلان امرأة من الخلف ورموا قطعة قماش خضراء سميكة على رأسها. المرأة لم تأتِ بحركة للدفاع عن نفسها، لم تصرخ، إنما أخفضت رأسها بصمت. أخذها الرجلان ورحلوا بها بعيدًا. مشهد من المفترض أن يرمز إلى السلام والأيام الخوالي والذي لا يزال يشكل مادةً دسمةً للسجالات.
في اليوم السابق، وعلى بُعد شوارع قليلة، في مقر إقامة محافظ شبوة اليمنية، يركض الجنود والسكرتير في الممرات، ويجلس أقوى رجال المحافظة في غرفة الاستقبال: المحافظ محمد صالح بن عديو، قائد الجيش والمسؤول عن شركة النفط. يمضغ الجميع أوراق القات، نبتة منبهة تُتناول يوميًّا في اليمن، ويرتدون على أحزمتهم الخنجر المنحني التقليدي (الجنبية)، رمز القتال والشرف. لكن بن عديو يتحدث عن السلام: “لا نريد اليوم أبطالًا جددًا، بل نريد بلدًا جديدًا”.
يخاطب بن عديو الضيوف الأجانب في الغرفة: اثنا عشر صحفيًّا غربيًّا، بمن فيهم مراسلة هذه الصحيفة الألمانية. كان المحافظ قد دعا الصحفيين لكي يعرض عليهم آخر تطورات عملية بناء المحافظة. نظّم هذه الرحلة مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية، الذي أسسه شباب يمنيون. لعدة أشهر، تفاوض المركز ورجال المحافظ مع أطراف الحرب في اليمن بشأن دخول الصحفيين وأمانهم. بالنسبة للمحافظ، مجرد وجودنا هنا (في شبوة) هو جزء من نجاحه؛ حيث يوجد ضيوف أجانب، توجد دولة.
تدخل الحرب في اليمن هذا الشتاء عامها السابع وقد أودت بحياة أكثر من 120 ألف شخص. في نهاية عام 2020 يحتاج أربعة من كل خمسة يمنيين إلى مساعدات إنسانية، فيما يتهدد خطر المجاعة البلد. تحقيق السلام يبدو بعيدًا جدًا.
في محافظة بن عديو الجنوبية، شبوة، يسود هدوء هش منذ قرابة العام. صنع المحافظ اسمًا لنفسه من خلال تجربته الخاصة؛ إذ أقدم على إطلاق عملية إعادة البناء في المحافظة المغبرة التي يقطنها القليلون. رُصفت الطرق وبُنيت المدارس، كما بُني منتجع سياحي على ساحل المحيط الهندي باسم “دلفين”. يقول بن عديو، 44 عامًا، النحيف والهادئ والمزهو بنفسه: “نصنع في شبوة نموذجًا يُحتذى به في البلاد، اليمن المستقبلي الصغير”.
في اليمن، يراقب كثيرون هذا الرجل عن كثب. فمعظم الناس في هذا البلد المنكوب يتوقون الآن إلى ما هو أكثر من دولة تعمل بشكل مقبول.
ستبحث عن هذا عبثًا على خرائط الدبلوماسيين والمحللين. اليمن اليوم مثل الكعكة التي تتقاسمها القوى الكبرى فيما بينها؛ في الشمال والعاصمة صنعاء تسيطر جماعة الحوثيين المدعومة من إيران، وفي الشرق حيث حقول النفط، تفرض القوات الحكومية المدعومة من السعودية سيطرتها، ويسيطر على مدينة عدن الساحلية انفصاليون مدعومون من الإمارات. تظهر ميليشيات جديدة باستمرار وتغير الولاءات. مع هذا الوضع فإن اليمنيين منقسمين بين مرتزقة أو جوعى.
في اليمن تحضر ذكريات وصور أخرى أيضًا: ذكريات عام 2011، زمن ما يُسمى بالربيع العربي، حين احتجت الجماهير في صنعاء وأطاحت أخيرًا بالرئيس علي عبدالله صالح الذي حكم البلاد لسنوات. بدأ “حوار وطني” ونوقشت فكرة النظام الفيدرالي. في عام 2014، اقتحم المسلحون الحوثيون العاصمة صنعاء بعد أن قدموا من الجبال، كما فرّت الحكومة اليمنية إلى المنفى في الرياض، وأرسلت السعودية والإمارات طائرات مقاتلة وجنودًا ومرتزقة لإعادة النظام القديم. تلا ذلك نشوب حرب بالوكالة، ووصلت الجبهات إلى طريق مسدود منذ العام الماضي. يبدو إنهاء الحرب ممكنًا فقط إذا اتفقت القوى الإقليمية على يمن موحد تتقاسم النفوذ فيه. ومع ذلك، من أجل السلام، يتعين على الحكومة المركزية أولًا إثبات قدرتها على إنشاء كيان اجتماعي يوحّد الجميع. نموذج بن عديو واليمن الصغير ما يزال في مرحلة الاختبار.
تُرعى الغزلان في الخارج بينما يراقبها من نافذة منزله. تلك الغزلان كانت هدية من زعيم إحدى القبائل للمحافظ، كانت تركض وتلهو بين الشاحنات الصغيرة المزوّدة بالمدافع الرشاشة والجنود المدججين بالآر بي جي. الشارع يعج بأكياس الرمل. يتعيّن على نموذج الدولة الجديد أن يرسخ نفسه.
في صباح اليوم التالي تتجمع السيارات وسط عتق. يتدحرج البطيخ في السوق بكميات كبيرة، كما يقفز الزبائن من تاجر إلى تاجر، بالكاد تلمح امرأة واحدة في السوق. نحن الصحفيون نتنقل في الخارج بواسطة عربات مصفحة مخصصة للطرق الوعرة، وآليات الجيش تمشي أمامنا وخلفنا، ولا يُسمح لنا بالانغماس في الحياة اليومية نظرًا لوجود تهديد بالاعتداءات وعمليات اختطاف كثيرة، ومع ذلك، فإن الناس ينقلون لنا كل ما يجري حولنا.
توقفنا عند المشفى الجديد في شبوة، البناء ما يزال قيد البناء، من المخطط أن يحتوي المشفى على 240 سرير ونظام تكييف؛ لن يضطر أي مريض للاستلقاء على الأرض عند إصابته بالحمى كما كان في السابق. صالح علي، رئيس شركة الإنشاءات “نجوم شبوة”، يتجوّل في الطابق الأرضي للمبنى غير المكتمل، شركة أخرى كانت قد وضعت حجر الأساس للمشفى قبل 20 عامًا، كما يقول. كان المشروع قد نُسي تدريجيًّا، أمر كان معتادًا في عهد النظام السابق. خلال الحرب استخدم الحوثيون ركام المبنى كأماكن للتحصّن. في وقت لاحق، تضرر المبنى بفعل هجمات القوات الحكومية وحلفائها. قريبًا سيُعالج المرضى هنا، لكن في ظل المحافظ الجديد هناك نظام مختلف للدفع، كما يقول مقاول البناء علي: “لا يُدفع للشركات إلا عند الانتهاء من المشروع”، وحول هذا يقول المحافظ أيضًا بفخر: “والشركات تعمل بشكل جيد لأنهم يؤمنون بهذا المشروع. لا يمكن الحكم على الدولة إلا من قِبل شعبها”.
بالنسبة إلى بن عديو، السلام يتطلب صيغة: المال مقابل النفط. عندما تولى منصبه في 2018 أجبر الحكومة المركزية على أن تتخلى عن 20% من عائدات النفط من شبوة لصالح ميزانية المحافظة، كانت تلك فكرة تمخضت عن مؤتمر الحوار الوطني، تمامًا مثل الفكرة الفيدرالية التي جسدها بن عديو نفسه: “أخيرًا هناك حاكم من أبناء المنطقة، هذا الحال لم يكن في ظل النظام السابق”.
هل سينجح بن عديو حقًا في إقناع الجميع بمشروعه؟ رجل الأعمال علي يبتسم: “إن شاء الله”. إنه في الواقع يعمل لأجل المستقبل، رغم أنه لم يكن مضطرًا لتولّي مهمة كهذه: “لقد كنا أصدقاءً في المدرسة”.
في المساء، تُنظم عروض في المسرح الخاص بمركز عتق الثقافي، يدور الرجال على خشبة المسرح بخناجرهم المعكوفة. اليمن الذي يعد به المحافظ هو يمن فخور بنفسه، غني بالتاريخ والشجاعة، وليس فقط أرضية لصراعات الآخرين على السلطة.
أُقيم بعد ذلك حفل زفاف تقليدي على المسرح. يحضر والد العروس ويقوم العريس وأصدقاؤه بإلقاء الوشاح الأخضر السميك على رأسها من الخلف، مما يقوّي العلاقة بين العائلتين؛ حفل الزفاف يرمز إلى النظام الاجتماعي القائم على الشرف. وعلى خشبة المسرح، في اليمن المثالي، فإن الرجال يسيطرون على المشهد. تجلس النساء بشكل منفصل على مقاعد الجمهور، وكلهن مغطيات باللون الأسود، “كيف سيتزوجنا الشباب؟”، همست إحداهن. اسمها سحر، كما تقول، وتبلغ من العمر 17 عامًا، كدليل على ذلك، رفعت نقابها وهي تضحك لفترة وجيزة. البلد الذي تعيش فيه أقسى من ذلك الذي يجري تصويره على المسرح. “هل يُسمح لنا بالكلام حول هذا؟”، تسأل سحر.
على هامش برنامج السفر الرسمي، تأتي سحر للقاء صديقاتها برفقة معلمتها مروة ديبان، وهي فتاة تبلغ من العمر 23 عامًا، وهي وفقًا لسحر “منقذتنا”. تقول ديبان: “أنا من عشاق الموضة”.
تنتمي ديبان لعائلة تجارية مرموقة، وتعيش في قصر تقليدي فخم مبني من الطين في بلدة عتق القديمة، لكن عندما تصف منزلها، تصفه كما لو أنه سجن. لا يُسمح لها بالخروج إلا بإذن من والدها أو شقيقها، كما يقومون بمراقبة ما تفعله هي في الداخل. تلك هي الحياة اليومية للمرأة في اليمن بعيدًا عن المدن الكبيرة. ملامح وجه ديبان مخفيّة بقطعة قماش سوداء، وأظافر مطلية باللون البنفسجي اللامع. تقول بصوتها الحزين: “اليمن سيصبح دولة قوية فقط إذا أُتيح للمرأة أيضًا أن تكون قوية!”
“نعم، اليمن في حالة حرب، لكن هناك أكثر من حرب واحدة”، تقول ديبان. كانت هناك حرب مدويّة، خاضها رجال مسلحون، سلبت الجميع شعورهم بالأمان وجعلت من الصعب حتى السفر إلى المنطقة التالية. وهناك حرب “الشرف” و”العار”، وهي الأعراف الاجتماعية التي تدفع النساء بعيدًا عن الأنظار والرجال إلى العنف. وتقول ديبان إنها تعرف رائحة الموت حتى قبل اندلاع الحرب، في إشارة إلى الخلافات القبلية الشائعة في شبوة. في هذه الحرب قررت هي أيضًا القتال، ولكن بسلاحها الخاص!
عندما كانت مراهقة، بدأت بمشاهدة مقاطع الفيديو على موقع يوتيوب، وهناك تعلمت أساليب المكياج والتجميل وقد حولت ذلك إلى عمل تجاري، حيث تقوم بتزيين السيدات عند حفلات الزفاف مقابل أجر مادي، وهي الآن تقدم دورات للشابات، مثل سحر. تقول ديبان إن عملها يتعلق بالتجميل ولكن ما يوجد بالنسبة إليها أهم من التجميل: الكلام. الكلام مثلًا عن الرغبة بالدراسة أو عن عنف الآباء تجاه بناتهم. تقول ديبان: “المكياج هو درعنا الواقي”. إنه يمنحها ثقة بنفسها، ودخلاً كذلك، وبالطبع، حُجةً للتعاون مع نساء أخريات والالتقاء بهن.
خلال الربيع العربي 2011 كانت هؤلاء النساء ما يزلن أطفالًا، لكنهن يتذكرن روح التفاؤل التي سادت في ذلك الوقت. لقد تظاهرت النساء تمامًا مثل الرجال ضد الديكتاتورية. أصبحت إحداهن، الصحفية والناشطة في مجال حقوق الإنسان توكل كرمان، رمزاً للاحتجاجات، فحصلت على جائزة نوبل للسلام. تسأل ديبان: “لكن ماذا كسبنا من ذلك كله؟”.
“في كل مرة يصل فيها حزب إلى السلطة يشتُم سابقه، وهكذا، ثم جاءت الحرب. “من الواضح أنه لا يكفي تغيير الحكومة إذا ما بقي المجتمع على حاله”، نسمع ذلك من النشطاء الشباب الآخرين في شبوة. نزل أشقاؤها الأكبر سنًا إلى الشوارع عام 2011 وأنشأوا بأنفسهم مجموعات ذات اهتمامات اجتماعية، وهم مثل ديبان وأصدقائها: يريدون إعطاء دورات في المدارس للفتيات، اللغة الإنكليزية، السينما، المسرح، وأنشأوا صفحة على فيسبوك: “في كل مكان غيث”، كلمة الغيث تعبّر في اللهجة اليمنية عن الأمل: الغيث بعد جفاف طويل، في اليمن المشهورة بشعرها، ليس هذا التعبير مبتذلًا أبدًا. “جيلي قادر على التغيير”، تقول ديبان: “نحن نجعل اليمن جميلًا”.
لقد أراد هؤلاء النشطاء بالفعل أن يعرضوا الأفلام على المسرح الكبير في المركز الثقافي، كما أرادوا إلقاء الخطب، وربما الغناء، لكن المحافظ كان سيمنع ذلك. يتحدى المحافظ الميليشيات لكنه يبتعد بشكل واضح عن النساء المستقلات، “كتبنا العرائض، ولكنه تجاهلها تماماً”، كما تقول ديبان.
قبل أقل من أسبوعين من زيارة الصحفيين لشبوة، انفجرت عبوة ناسفة أمام مبنى المحافظة، لم يكن هذا الهجوم هو الأول من نوعه، يقول بن عديو بثبات “كان هناك الكثير منه بالفعل، لقد توقفت عن العد”، وهو نفسه يشك في الإماراتيين. لم يتبنى الهجوم أي طرف، ولكن المؤكد أن بن عديو لا يناسب القيادة الإماراتية؛ هو عضو في حزب الإصلاح، وهو جزء من جماعة الإخوان المسلمين، حركة الإسلام السياسي التي وصلت إلى السلطة في عدة دول، بما في ذلك مصر، بعد احتجاجات 2011. ينظر الإماراتيون إلى جماعة الإخوان على أنها العدو اللدود لهم، وينتقدون رؤيتهم الدينية المتشددة ويخشون أن يقوّضوا نظام حكمهم.
يعرف المحافظ بن عديو أنه ليس بمقدور الإماراتيين التصرف كمحتلين بعد هزيمة الموالين لهم في شبوة عام 2019، ولكنهم ما يزالون يحتفظون بقاعدتين عسكريتين وميناء استراتيجي مهم في اليمن، كما يخشى تفضيل الإماراتيين حربًا مشتعلة على يمن مسالم قد لا تناسبهم سياساته.
في غضون ذلك، يشتكي نشطاء حقوق الإنسان في شبوة من اختفاء المتعاطفين مع الإماراتيين في عهد بن عديو في سجون سرية، كما تم زج المتعاطفين مع حزب الإصلاح في السجون الإماراتية.
عند الوداع، بدا بن عديو فجأة متشائمًا وغير مسرور؛ يقول إن جيله ضائع، لم يكن هذا الجيل قد عاش شيئًا سوى النضال المستمر من أجل القليل من الاستقرار.
توجهنا لزيارة مروة ديبان وعائلتها في القصر الطيني قبل مغادرتنا عتق، تصطف صديقاتها المحجبات لالتقاط صورة جماعية، بينما تقول المصوِّرة: “ابتسموا”، للحظة كان الهدوء غريبًا، ثم انفجر الجميع بالضحك بصوت عال. بعد وقت قصير من مغادرتنا، أفادت ديبان أن المحافظ استقبلها وأبلغها رغبته في دعم نساء اليمن.
الحلم تحت النقاب في اليمن
تعيش نساء البلاد في عزلة ويعانين التمييز من قِبل المجتمع الأبوي والقبلي المثقل بست سنوات من الحرب
ناتاليا سانشا | جريدة إلبايس الإسبانية | 11 ديسمبر 2020
تقول راو (اسم مستعار اتخذته العشرينية اليمنية) بحماس: “لا يهمنا النقاب (حجاب يغطي كامل الوجه)، ما نريده هو الدراسة والعيش!”.
أصبح الكذب هو السبيل الوحيد لأن تعيش هذه المراهِقة حياتها المزدوجة، يتجلّى ذلك عندما تخلع النقاب والقفازات السوداء؛ تمد ظاهر يديها وتقول: “أعمل في المنزل بإحدى يداي، وأبقي على الأخرى مغطاة حتى لا يرى والدي طلاء الأظافر”.
الجلد المتآكل والأظافر المتآكلة في يدها اليمنى بسبب ساعات من الغسيل والفرك، هي علامات على حياتها اليومية، والأظافر الطويلة المستعارة، المطلية باللون الأرجواني المعدني على اليد اليسرى، مع بشرة أكثر نعومة ورطوبة، تعكس أحلامها.
تخلع بقية الشابات الخمس الحاضرات في المقابلة قفازاتهن في نفس الوقت، ويضحكن، ويظهرن أظافرهن اللافتة للنظر، دائمًا على اليد اليسرى.
حياة مجموعة من الشابات العشرينيات الثائرات والحالمات ليس لها أهمية تذكر في إحصائيات اليمن، حيث يحتاج ثمانية من كل عشرة أشخاص إلى مساعدات إنسانية، لكن حياتهن عيّنة من جراح حرب مستمرة منذ ست سنوات.
خاضت راو وصديقتها سنال (19 عامًا) ست محاولات انتحار، وتشهد على ذلك ندوب على الرسغين، لكنها تغيب عن المعدة حين ابتلعتا الميثانول. التقتا خلال الشهر الذي أخذتا فيه دروسًا في التجميل معًا في عتق، عاصمة محافظة شبوة، الواقعة بالقرب من الساحل اليمني.
من بين الطلاب الخمسة والعشرين، قرر عشرون تشكيل مجموعة على وسائل التواصل الاجتماعي باسم “في كل مكان غيث”، وتشير راو إلى أنهم يعنون من خلال “الغيث” الأمل، أي أن تتمكن الشابات اليمنيات، حتى لو كن محاصرات في منازلهن، من “النجاح كبشر، والحلم وتطوير مشاريعهن المناسبة”.
ليس هناك ما هو سهل بالنسبة لهؤلاء الشابات في مجتمع أبوي وقبلي تعزز بسبب الحرب، حيث أنهن طُردن تدريجيًّا من جميع الأماكن العامة خوفًا من أن “يحدث لهن شيء ما في الشارع”. تشمل هذه القيود على الحركة المعاهد والجامعات -تلك التي لم تُدمر بعد بسبب النزاع المسلح- ليكن محصورات في مساحة حدودها جدران المنزل الأربعة. في الوقت نفسه، يصبحن غير مرئيات مع النقاب والجلابية (سترة تغطي الجسد حتى القدمين) دائمة السواد مع فتحة للعين فقط.
تجاوز الحدود المقبولة اجتماعيًّا له عواقب وخيمة. تتنهد إحدى الشابات اللواتي طلبن عدم الكشف عن هويتهن وتقول “عندما وقعت في الحب فقدت كل شيء”، كان الشاب صديقًا لأخيها الأكبر، واعتاد أن يتسلل إلى المنزل عند الفجر للعب ألعاب الفيديو في الأيام التي يتوفر فيها إنترنت، وفي اليوم الذي اكتشف فيه والدها المغازلة ضربها، وأخذ هاتفها الخلوي بعيدًا، ومنعها من الخروج وحضور دروسها؛ لتحاول الشابة الانتحار لأول مرة.
تصر الشابة التي تحلم بالسفر إلى الولايات المتحدة لدراسة الموضة وتقول، “أريد أن أتذكر شيئًا ما فعلته في هذه الحياة”، وتؤكد أن الهروب من المنزل ليس خيارًا، والحصول على موافقة الوالدين “مستحيل”، لكنها، ما تزال على الأمل.
في لحظة من الارتياح، تتحدث الشابات عن الاعتداء الجسدي المستمر الذي يتعرضن له من قِبل أشقائهن الأكبر سنًا وآبائهن، دائمًا أمام نظرات أمهاتهن العاجزات. لا، تعارض بسرعة أخت سنال الصغرى، سحر (17 عامًا)، وكلتاهما يتيمة الأب: “في بعض الأحيان تكون الأم أكثر رجولية من الرجل”.
عندما اندلعت حرب اليمن عام 2015 كن مراهقات لا يملكن الكثير من المعرفة للمقاربة، يعلن أنفسهن خارج السياسة ويتحدثن عن السينما والموسيقى والموضة والجمال، ويغطين أنفسهن من الرأس إلى أخمص القدمين، لكنهن يعرّفن أنفسهن بـ”فاشينيسات”، ويتحدثن من جنوب اليمن، ذلك الجزء من البلاد الذي كان شيوعيًّا حتى انضم إلى الشمال عام 1990.
اليوم، حزب الإصلاح المحافظ، وهو فرع محلي لجماعة الإخوان المسلمين، يكتسب أرضية في المحافظات الجنوبية. تقول بلقيس، وهي أستاذة في الأربعينيات من عمرها تُدرِّس في ثانوية محلية بعتق: “في العهد الشيوعي، كانت النساء أكثر حرية”؛ لذا -تتابع المعلمة، وهي تشد حجابها بين إبهامها وسبابتها- “يمكن للنساء أن يلعبن دورًا سياسيًّا واجتماعيًّا وحتى عسكريًّا دون الاضطرار إلى ارتداء هذه الستائر”.
اليوم، في اليمن، تتزوج الشابات زيجات مرتبة بين العائلات في عمر الرابعة عشر والسادسة عشر في القرى، وفي الثامنة عشر بالمدن.
يقول سالم العولقي، المسؤول عن أمن محافظ شبوة، إن “حالات الطلاق أكثر شيوعًا في أبيَن منها في شبوة”، ويعود السبب إلى المبلغ الذي حددته القبائل المحلية في كل منطقة للتعويض في حالة الطلاق: 440 يورو في أبين و4400 في شبوة.
يعترف الزعيم القبلي السبعيني، الشيخ صالح جربوع النسي: “ندفع مئات الملايين من الريالات سنويًّا مقابل جرائم ضد الشرف بسبب الخلافات بين الشباب على صفحات فيسبوك”. ما تزال قوانين الشرف في اليمن تملي قانون الأسرة.
تنظر الشابات بحسد إلى عاصمتي اليمن المقسمة، صنعاء للحوثيين، وعدن للحكومة -مقيمة في المنفى بعد طردها من صنعاء على يد المسلحين الحوثيين نهاية عام 2014- في هذه المدن، تذهب النساء إلى مقاهي الشيشة ويتخرجن من الجامعات. تقول سحر: “في عدن يمكن للمرأة أن تمضغ القات (نبات منبّه له تأثيرات شبيهة بالأمفيتامينات) بل ويمكنها الخروج بالحجاب فقط”.
تلعب النساء في عدن أدوارًا سياسية كما “رابطة أمهات المختطفين”، وهي تجمّع لأمهات وأخوات وبنات الرجال المحتجزين في سجون سرية تعزز بقاء الإمارات والسعودية الداعمة للحكومة في جنوب البلاد، لكن عشرات الصحفيات والناشطات اضطُررن إلى الفرار من هذه المدينة ومن صنعاء إلى الدول المجاورة في المنطقة بعد تعرضهن للتعذيب وتلقيهن تهديدات بالقتل.
مخاء (23 سنة) هي الأكبر سنًا بين مجموعة النساء التي جرى مقابلتهن، وكان والدها هو الذي أصر على أن تدرس بناته الثلاث، وبالتالي “يمكن أن يواجهن أزواجهن على قدم المساواة”.
ماخا هي واحدة من سيدتين تخرجتا هذا العام من هندسة البتروكيماويات من بين 128 طالبًا. الطريق لم يكن سهلًا؛ تقول بعبوس “كانوا يكسرون أرجل الكراسي قبل دخولنا الفصل وعندما نجلس نسقط على الأرض”.
أكدت الفتيات أنهن حصلن على دعم الأستاذ سالم العوني، ومع ذلك، تذكر ماخا أن إحدى زميلاتها استسلمت للضغط وتركت المدرسة لتتزوج و”أنجبت طفلين، كما ينبغي لنا جميعًا في سننا”. بعد تخرجها انضمت مخاء إلى العاطلين عن العمل في قطاع يحتاج إلى استثمارات أجنبية، لكنها تقول: “أحب الحرية مهما كلفني الأمر”.
يقرع والد راو باب غرفة الفندق في عتق، مشيرًا إلى أن المقابلة على وشك الانتهاء وأن الشابات عليهن تغطية وجوههن مرة أخرى قبل مغادرة الغرفة، لتتذمر المهندسة ماخا ساخرة: “هناك أصدقاء يشكون لآبائنا؛ لأنهم يقولون إنهم رأونا على الإنترنت، ثم اتضح أنهم رأوا عينًا على انستغرام، وقطعة من فم على فيسبوك، وجزء من أنف على تويتر، ومن هناك، جعلوا خريطة وجهنا مثل اللغز!”، مطلقة العنان لسيل من الضحك بين صديقاتها.
“ابتسموا للصورة!” حتى الآن، لم تظهر أي منهن وجهها بالكامل، لكن الضحك يُسمع من تحت الحجاب الأسود مع العينين المائلتين، وفي عمل من أعمال التمرد التي يمكن أن يكلفهن ثمنًا باهظًا، قررت الشابات الست الوقوف كاشفات الوجه. تقول إحداهن بنبرة تحدي “الآن ينال المثرثرون الخريطة الكاملة لوجوهنا بدلًا من البحث عن القطع المفقودة”.
كل حروب اليمن
بعد ست سنوات من الصراع تعاني البلاد من أسوأ أزمة إنسانية على مستوى العالم،
على الرغم من أن حمى الضنك وسوء التغذية يتسببان في وفيات أكثر من الرصاص أو فيروس كوفيد-19.
ناتاليا سانشا | جريدة إلبايس الإسبانية | 29 نوفمبر 2020
“إنه مكان خيالي، رحلة عبر الزمن”، هذا ما كتبته البريطانية مناتزا شامداري في 30 نوفمبر/تشرين الثاني 2007 في سجل زوار المتحف الصغير في حبّان وسط محافظة شبوة، وهي إحدى القرى العديدة في اليمن التي تُركت خاوية وغارقة في الفقر.
تتشارك علب الحليب المجفف والطماطم المعلبة من الأيام التي كان فيها اليمن مستعمرة بريطانية، الرفوفَ المغبرة في غرف مبنى من الطوب اللبِن عمره أكثر من قرن، لقد مر زمن طويل منذ أن عبر آخر سائح، فصفحات الكتاب فارغة، والأطفال ينفجرون في الصراخ عندما يرون أجنبيًّا.
تضطر ريم بسام (28 عامًا، من سكان القرية) للسفر قرابة ثلاث ساعات بالسيارة إلى المستشفى العام الوحيد في عتق، عاصمة المحافظة، بسبب ابنتها منى البالغة من العمر ستة أشهر التي تعاني سوء تغذية حاد، تجلس القرفصاء على سرير المستشفى وتطارد الذباب الذي يحوم فوق وجه منى الشاحب.
يوجد في المستشفى 120 سريرًا وأربع غرف عمليات، لكن النزاع عطّل نصف المراكز الطبية، تؤكد ريم بيأس “هذا هو الأقرب”.
مثل بقية اليمنيين البالغ عددهم 30 مليونًا، تعيش ريم في أسوء ما يكون؛ بعد ست سنوات من الحرب وتزايد الفقر، فيما وصفته الأمم المتحدة بأنه “أسوأ أزمة إنسانية عالمية”. أدت المواجهات إلى أكثر من 110 ألف قتيل (10% مدنيون) و3.6 مليون نازح، ويحتاج 80% من اليمنيين إلى مساعدات إنسانية، في حين انقسم البلد إلى جزئين: الشمال بقيادة الحوثيين المدعومين من إيران، والجنوب الممزق منذ عام 2017 بين الانفصاليين الذين يؤيدون الإمارات وحكومة الرئيس عبدربه منصور هادي التي تستضيفها السعودية. وفوق ذلك، ففي هذا البلد الأكثر فقرًا في المنطقة، يموت عدد أكبر من الأطفال بسبب حمى الضنك وسوء التغذية أكثر من الرصاص أو كوفيد-19 الذي انتشر في جميع أنحاء اليمن.
في شبوة وحدها، قدّر مدير مستشفى عتق، علي ناصر سعيد، عدد حالات حمى الضنك بـ3400 (52 ألف على مستوى البلاد)، كان البعوض مسؤولًا فيها عن 15 حالة وفاة من أصل 60 تم تسجيلها الشهر الماضي. بالإضافة إلى ذلك، عادت الأمراض التي يُعتقد أنها اختفت لتطارد اليمنيين مثل الكوليرا أو الدفتيريا، وأمراض أخرى جديدة، مثل الشيكونغونيا.
قبل أشهر زودت المعونات السعودية محافظَة شبوة بأول معمل لإجراء أكثر من 3800 اختبار كشف فيروس كورونا (PCR). تم الكشف عن 90 حالة إيجابية لفيروس كورونا، كما سجلت المحافظة بأكملها 46 حالة وفاة.
يقول هشام سعيد، المسؤول عن المركز، “لم نسجل أي حالات جديدة منذ شهرين”. يلمح بعض الكوادر الطبية إلى “الأخلاق السامية لليمنيين” لتبرير الغياب الذي لا يمكن تفسيره للعدوى، لكن الأمم المتحدة تحذر من قلة الفحوصات والاختبارات ووصمة العار التي يولدها انتشار الفيروس في المجتمع.
ليس كوفيد 19 المشكلة في مستشفى عتق. يعاني رامي صالح (6 أعوام) تحت ناموسية للتغلب على حمى الضنك، وتبرز عينا أمه فاطمة من تحت النقاب، وتشكو النقصَ المتزايد في المواد الغذائية (ارتفعت الأسعار بنسبة تصل إلى 15% منذ 2018 وفقًا للأمم المتحدة، بينما يفقد الريال اليمني ثلثي قيمته)، والنظام الصحي الذي يتوجب دفع 50% من قيمة العلاج فيه.
يكلف علاج الإسهال المعتاد مبلغ 10 آلاف ريال يمني (34 يورو) في بلد يبلغ متوسط الأجور فيه حوالي 100 يورو، ويزور الدكتور محمد اليردي رضيعين مصابين بسوء التغذية الحاد، بينما يكافح الصغار للتنفس. حذرت منظمة أنقذوا الأطفال (Save the Children) من سوء تغذية الأطفال شبه المستوطن في اليمن: حطمت رقمًا قياسيًّا سلبيًّا بزيادة قدرها 10% في عام 2020: ما يترك 100 ألف طفل دون سن الخامسة بين الحياة والموت.
يضاف إلى كوفيد-19 والحرب والمجاعة والفقر، أزمة الحصول على الوقود الناجمة عن الإغلاق التجاري الذي فرضه التحالف على شمال اليمن. الأزمة تجعل السفر إلى المدينة أكثر تكلفة ولا يستطيع جميع الآباء تحمل تكلفة سيارة أجرة لتوصيل أطفالهم المرضى.
يعد الحصول على المياه، ليس فقط الصالحة للشرب، تحديًّا يوميًّا آخر للعائلات التي شغل فيها التعليم منذ فترة طويلة آخر اهتماماتها.
يشكو رئيس وحدة حقوق الإنسان في مكتب مدينة عتق قائلًا: “نشعر بخيبة أمل كبيرة من مساعدة المجتمع الدولي”. تلقت الأمم المتحدة 24% فقط من 680 مليون يورو طلبتها العام الماضي للاستجابة الإنسانية في البلاد.
في هذه الأثناء، يبقي صخب الأكياس البلاستيكية الوردية خمسين رجلًا مشغولين في مكاتب محافظ شبوة محمد صالح بن عديو؛ يستخرجون من الأكياس القات (محصول ذو خصائص محفزة مماثلة لتلك الخاصة بالأمفيتامين) لوضع أوراقه في الفم ومضغها خلال الساعات الست الطويلة التي تستغرقها جلسة المناقشة، بينما تكون الغرفة مليئة بدخان التبغ.
يتحدث بن عديو، الذي شغل المنصب منذ عامين، عن المشاريع والسياحة والطرق والمستشفيات لمجموعة صغيرة من الصحفيين الأجانب الذين وصلوا في رحلة نظمها مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية، وبالنسبة للمحافظ، من الضروري أن تعود الشركات النفطية العالمية إلى الإقليم، مثل شركة توتال الفرنسية.
شبوة هي واحدة من أغنى ثلاث محافظات في البلاد بفضل احتياطاتها من النفط والغاز (الهيدروكربونات). يشيد صالح أحمد باعوضة، نائب مدير مكتب وزارة النفط والمعادن، بعائدات النفط والغاز التي بلغت 35 مليون دولار منذ 2018 في منطقة يسكنها حوالي 600 ألف نسمة. يقول: “الآن 20% من موارد النفط والغاز تدخل الخزينة العامة وتُستثمر في مشاريع تنموية”.
في اجتماع مغلق في فندق بعتق، يهاجم رئيس الدائرة الانتخابية للمجلس الانتقالي الجنوبي، الانفصالي سالم أحمد حسين المرزقي قائلًا: “ما فائدة هذا العدد الكبير من الطرقات الجديدة إذا مات الأطفال بسبب سوء التغذية ولا يوجد أطباء في جناح الولادة بالمستشفى؟ إنهم يبنونها للأغراض العسكرية والتجارية فقط”.
بدوره يدافع محافظ شبوة عن إطلاق إعادة بناء مستشفى ثانٍ يضم ضعف عدد الأسرة الأولى، ويشمل جناح الولادة. بدأ البناء عام 2014 لكنه تعرض للقصف ولم يفتح قط. يحتوي المشروع، الذي تبلغ قيمته 1.7 مليون يورو، على مولد كهربائي قوي لضمان تشغيل غرف العمليات والعناية المركزة، في بلد يغمره الظلام بسبب نقص الوقود.
الحصار بين حربين
يتحول الحديث في مكاتب المحافظ إلى حرب. يقول المحافظ بفخر: “قبل خمس سنوات كنا بالكاد نسيطر على ثلاثة كيلومترات مربعة والآن مديريات شبوة السبعة عشر بأكملها تحت سيطرة الحكومة الشرعية”. يشير بعبارة “الحكومة الشرعية” إلى الحكومة التي يقودها الرئيس هادي، وهي معترف بها من قِبل المجتمع الدولي رغم أنها تدير شؤونها من عاصمة السعودية، أكبر داعم إقليمي لها.
يجلس في الغرفة رجل في الثلاثينيات من عمره، بوجه جامد وتعابير مقسمة، والعديد من العظام المفقودة في يده اليمنى، وزرع اصطناعي بدائي تحت ركبته اليمنى، ويذكر أن في أطراف شبوة حربان وليست حرب واحدة. المتحدث هو العميد عبدربه لعكب، الذي عاد لتوه من الشمال حيث يتقدم الحوثيون ببطء نحو محافظة مأرب المجاورة.
يقود العميد 2500 جندي ويقاتل في الجيش الحكومي، ويحارب تقدم الحوثيين منذ خمس سنوات -بعد أن سيطروا على العاصمة صنعاء في أيلول/سبتمبر 2014، ما اضطر الرئيس هادي إلى نقل عاصمته إلى عدن، حيث طُرد منها في 2018 من قِبل القوات الانفصالية للمجلس الانتقالي الجنوبي. كان حظ الرئيس السابق علي عبدالله صالح أسوأ حيث قُتل في نهاية عام 2017 على يد حلفائه الحوثيين آنذاك- يحذّر العميد في الجيش “إذا سقطت مأرب، ستكون شبوة التالية وستكون باب الحوثيين للجنوب”.
منذ آب/أغسطس 2019، تواجه شبوة جبهة مفتوحة ثانية ضد الجناح العسكري للمجلس الانتقالي الجنوبي، تجري أحداث المعركة الآن في بلدة شقرة الجنوبية. يلخص سالم العولقي المسؤول عن أمن المحافظ: “تريد الإمارات السيطرة على جميع الموانئ من جزر سقطرى إلى مضيق باب المندب الاستراتيجي عبر عدن، هدفهم أيضًا هو طرد حزب الإصلاح”.
كل من هادي ومحافظ شبوة حليف لحزب الإصلاح الإسلامي، وهو فرع محلي للإخوان المسلمين، حيث سيطر على التضاريس السياسية والجغرافية المأخوذة من الحوثيين والقاعدة، وهذا التوسع تحاول الإمارات منعه بواسطة أكثر من 15 ألف من رجال الميليشيات المحلية.
يهدف اتفاق الرياض في تشرين الثاني/نوفمبر 2019 إلى وضع حد للمواجهات في الجنوب بين الحليفين الرئيسيين في التحالف (الإمارات والسعودية) وتوحيد جميع القوات ضد الحوثيين في ظل حكومة من 24 وزيرًا بعد انسحاب ميليشيات المجلس الانتقالي الجنوبي من عدن. لم تلقَ الاتفاقية أي تطبيق ملموس.
بالنسبة للمحافظ بن عديو، تمثّل الإمارات قوة غازية تطمع بموارد اليمن، مثل حقل بلحاف جنوب شبوة، ويذكر أن نحو 200 إماراتي و800 يمني يحرسون المكان. “تحول مشروع صناعي بقيمة 5 مليارات دولار إلى مولِّد كهربائي لثلاث قرى” كما وصفها لويس إمبرت، المتخصص والصحفي من صحيفة لوموند. بالنسبة لأعضاء المجلس الانتقالي، فالرياض هي من تفرض أجندتها في البلاد.
يضيف سالم العولقي “بالنسبة للسعوديين، العدو الرئيسي هو الحوثي وبالتالي الحفاظ على الأمن على حدودهم الجنوبية مع اليمن”. يسود الصراع الدائم من أجل السيطرة الإقليمية بين الرياض وطهران على هذه الجبهة حيث تتلاشى الصراعات الدينية الشيعية السنية على الأرض بسبب ديناميكية قبلية أكثر عمقًا، وفي هذه الجزئية، نصّبت القوة الفارسية نفسها على أنها داعم سياسي لمعسكر الحوثيين بصفته من الطائفة الزيدية الأقرب إلى الشيعة.
يقول الزعيم القبلي السبعيني الشيخ صالح جربوع النسي، على مأدبة عشاء في صحراء شبوة: “المهم أن يحسم السعوديون والإماراتيون خلافاتهم، وهناك سيتحقق الاستقرار، وستوجد فرص عمل”، ولا يبدو أن خيار الدولة الفيدرالية يرضي عددًا قليلًا من القادة الحاضرين هناك.
يرتدي الشبان العشرينيون الملابس التقليدية، عباية مع الجنبية (خنجر محلي) مثبتة على الحزام وبندقية رشاش على الكتف، ويكرر الشباب الذين يكون بديل عملهم رعي الماشية أو تربية النحل أنه “ما من عمل آخر غير عمل الجندي”.
يعبّر المحافظ بتفاؤل بأن “مشكلة اليمن ليست مشكلة عسكرية بل اقتصادية. إن الحفاظ على الأمن هو مفتاح عودة المستثمرين الأجانب والمحليين”، وهي كلمات وجدت صداها لدى المستثمر سعيد عاطف الكلدي إذ أطلق مشروعًا تزيد قيمته عن ثلاثة ملايين يورو لبناء منتجع على ضفاف المياه الفيروزية التي تغمر شواطئ بلدة بئر علي جنوب المنطقة، بجانب نقطة وصول المهاجرين الأفارقة.
يقول المحافظ الذي يعتمد السلام بالنسبة له على عودة البلاد تحت سيطرة حكومة الرئيس هادي: “لقد سئمنا الحرب والقتل والموت، اليمن في حالة حرب منذ 50 عامًا”.
بعد خمسين عامًا، في ظل إفلات جميع الأطراف من العقاب، تستمر الحرب في زيادة عدد الضحايا، منهم الطفل عبدالعزيز صالح الذي أُجريت له في السابعة من عمره ست عمليات جراحية، مخلّفة خريطة من الغرز تغطي جسده النحيل. ضرب قصف مدفعي من الجيش اليمني منزله في بلدة نصاب (35 كيلومترًا من عتق) في 14 حزيران/يونيو خلال معارك مع قبيلة مجاورة.
اضطر والده (37 عامًا)، إلى بيع ماشيته، والدّين من جيرانه ليغطي تكلفة علاج بقيمة 40 ألف يورو كما يذكر، وفرت الحكومة ثلث المبلغ، لكن عبدالعزيز لم يعد قادرًا على ركوب الدراجة، وبالكاد يمشي مع المساعدة جارًّا ساقه اليمنى.
في أرض العسل
اليمن – في وسط بلد موسوم بالحرب الأهلية والأوبئة، استطاع سكان محافظة شبوة من بناء مجتمع فاعل. يأمل محافظ شبوة أن يصبح مسعاه هذا مثالاً يحتذى به.
كريستوف رويتر | مجلة دير شبيغل الألمانية | 2 ديسمبر 2020
في الصباح الباكر لقي مئات السكّان حتفهم، وبالكاد أشرقت الشمس فوق جبال بعيدة وبدأ النحل جولته اليومية بين الأزهار، حتى بدأ الرجل العجوز باستحضار ذكرياته بحسرة وبسردها بصوته المرتجف. القوات الحكومية نصبت نقاطًا عسكرية على الطرق بعد هجوم للقاعدة، “لقد كنا عالقين وكان يتعيّن علينا أن نقود سيارتنا تحت جنح الظلام ونصل قبل طلوع الشمس، ليخرج الناس قبل أن يرمي الفجر أولى خيوطه على تلك الأرض! وإلا سيكون هناك الكثير من الضحايا! لا يحتمل النحل فكرة أن يتم تقييد حركة أجنحته خلال النهار!”.
كان الجميع من حوله يهمس بالموافقة، وحول التنانير الدائرية اجتمع الرجال، بعضهم مع الخناجر التقليدية المنحنية على الخصر، ينحنون باستمرار بين عدد لا يُحصى من العلب والزجاجات الممتلئة بالعسل.
كما هو الحال في كل عام من نوفمبر/تشرين الثاني، يجتمع النحالون من الوديان النائية في جنوب اليمن بمدينة عتق، مركز محافظة شبوة لبيع محصولهم السنوي الثمين، وتتنوع ألوانه من الذهبي الفاتح إلى البني الغامق، وبعض الأصناف طعمها خفيف، والآخر يسبب حرقةً في الحلق كما لو كان مصنوعًا من الفلفل الحار. في كل مكان يوجد تذوق ومساومة وتقييم للألوان، ويجري ذلك في تلك المنطقة التي تتداول أحد أفخر أنواع العسل في العالم وأكثرها قيمة. وسطاء التصدير إلى السعودية والكويت وأوروبا يدفعون ما يعادل 1300 يورو لقاء علبة عسل من عشرة لترات من عسل السدر، الذي يتم إنتاجه من أزهار شجرة السدر.
معرض العسل الدولي في وسط اليمن؛ فإقامة حدث كهذا ليس بالأمر الطبيعي في بلد تحكمه الحرب الأهلية. لسنوات عدة، كان اليمن مرتعًا للأوبئة القديمة والجديدة: الحرب، والكوليرا، وفايروس كورونا المستجد، بالإضافة إلى الأطفال الذين يعانون من ضعف العظام وسوء التغذية.
منذ الإطاحة بالديكتاتور علي عبدالله صالح -الرئيس الذي تربع على كرسي الحكم لعقود- في عام 2012 بعد اجتياح موجة الربيع العربي لليمن، والبلاد تغرق في الحرب. في البداية كان تمرد الحوثيين الشيعة في الشمال ثم بسط سيطرتهم على العاصمة صنعاء وميناء عدن، وفي عام 2015 أطلقت كل من السعودية والإمارات حملة عسكرية لطرد الحوثيين، فشل الهجوم قبل أن يحقق أيًّا من أهدافه، وبدلًا من ذلك نشبت الخلافات في صفوف القوات المدعومة من الإمارات ضد كل من الحوثيين والحكومة اليمنية في المنفى بسبب تجدد النقاش حول انفصال الجنوب؛ والبلد صار أبعد من أي وقت مضى عن تسوية سلمية.
لكن وسط كل تلك الجبهات، لا يزال الناس يرغبون في الحفاظ على الحياة الطبيعية وعلى كفاحهم من أجل العيش. قليلون فقط يقودون سياراتهم عبر البلاد بجرأة مربّي النحل العجوز، بشاحناتهم الصغيرة وخلايا النحل بعد هطول الأمطار بشكل مفاجئ في مواسم ازدهار النباتات الصحراوية الشائكة يقول صالح، “تتركنا الميليشيات دائمًا عند نقاط التفتيش الخاصة بها، فرغم كل شيء، يخاف الجميع من النحل”. إذا شعرت 80 خلية نحل بالانزعاج فلن يكون لدى الرجل الذي يقف خلف المدفع الرشاش أي فرصة للنجاة أيضًا.
ينحدر صالح من محافظة قاومت جميع المهاجمين وتشهد اليوم نهضة غير مسبوقة: شبوة، بجبالها وصحرائها وشاطئها الطويل، والتي تبلغ مساحتها ضعف مساحة ولاية هيسن الألمانية، ويقطنها 700 ألف نسمة فقط، كانت لفترة طويلة منطقة متخلفة ومنسيّة حتى حسب المعايير المحلية في اليمن، ويعيش حوالي 100 ألف شخص في مدينة عتق، حيث يلتقي مربو النحل والتجار في نوفمبر/تشرين الثاني من كل عام.
عندما اكتُشفت حقول النفط في شبوة أوائل التسعينيات، ذهبت جميع العائدات إلى العاصمة صنعاء، وحتى عندما قام تجمع تجاري دولي بقيادة مجموعة توتال الفرنسية ببناء محطة عملاقة للغاز المسال في مدينة بلحاف على الساحل مقابل 4.3 مليار يورو عام 2009، كان دخله يموّل 40% من الميزانية الوطنية اليمنية في بعض الأحيان، وبالكاد وصل شيء إلى شبوة، وحتى اليوم، العمليات متوقفة منذ عام 2015.
أبرز أبناء المنطقة كان أنور العولقي، الداعية الإسلامي ذو الشخصية الكاريزمية الذي دعا إلى قتل الأمريكيين، والمتهم بالمشاركة في المحاولة الفاشلة لمهاجمة طائرات شحن أمريكية. في عام 2011 قُتل بهجوم شنته طائرة من دون طيار تابعة لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية.
إذا اقتربت من عتق اليوم بعد ساعات من القيادة عبر البادية، فإن الرحلة تنتهي إلى طريق معبّد بالأسفلت. منذ أشهر يتم تعبيد الطرق في محاولة لتحسينها. ثمة مبنى قديم على الهيكل عمره أكثر من 20 عامًا على الأطراف التي احتلها الحوثيون في عام 2015، والذي تعرض للقصف من قبل سلاح الجو المصنوع أمريكيًّا. يجري حاليًّا توسيعه وتحويله إلى مستشفى حديث يضم 240 سريرًا ومكيفات هواء يتم التحكم فيها مركزيًّا، مع أنظمة لإطفاء الحرائق، كما تم إنشاء قسم للحجر الصحي خاص بالمصابين بفايروس كورونا مع سبعة أجهزة للتنفس الاصطناعي، وسريرين للعناية المركزة، ومختبر بالجوار. كل ذلك موزَّع على عدة مبان.
قد تبدو هذه التجهيزات بدائية قليلًا، ولكن قبل فترة لم يكن هناك شيء على الإطلاق، حتى مسحات المرضى الخاصة بتحاليل كورونا كان لا بد من إرسالها إلى عدن لتقييمها، الأمر الذي يستغرق ساعات طويلة من السفر. المعدات المخبرية موّلتها السعودية، وباقي التجهيزات تم تمويلها من ميزانية المحافظة. يقول الطبيب هشام سعيد: “يتم الدفع بعد الانتهاء من بناء كل قسم، حيث يقوم مهندسون من إدارة المحافظة بفحص خطط التكلفة والتأكد من الجودة”.
الحياة تعود إلى المدينة من جديد، ولكن كيف نجح هذا؟ كان المحافظ محمد بن عديو قد تفاوض مع الحكومة اليمنية في المنفى بالسعودية على توجيه خُمس الدخل النفطي، الذي كان يندر أن يصل إلى شبوة، إلى ميزانية المحافظة من الآن فصاعدًا. المحافظ رجل ودود في الأربعينيات من عمره يتمتع بملامح لطيفة.
ومع ذلك، كان لا يزال يتعيّن عليه استعادة السيطرة على المحافظة، حتى ممن أتوا كحلفاء، مثل الإمارات. تحكي قصة بن عديو الكثير عن جنون العظمة والفشل الذي يصيب القوى المتنافسة، كما تروي لنا الكثير عن تأثير التقاليد القبلية والسياسة الذكية التي تتبعها.
كان تعيين بن عديو محافظًا للمحافظة من قِبل الحكومة في المنفى نهاية 2018 أمرًا غير معتاد في الحقيقة؛ لم يكن الرجل المفضل لدى الرئيس المولع بالسلطة، وليس الحاكم المحلي المدجج بالسلاح، ولكنه كان خبير البنية التحتية، وعضوًا لسنوات في مجلس مدينة عتق، مع رصيد من الاهتمام بالمصلحة العامة. كما كان فريق إدارته أكثر تألقًا: كان هناك سليم العولقي، “المنسق الأمني” النحيل لجميع القوات المسلحة ولجهاز الشرطة والمخابرات، والذي يبتسم دائمًا ولا يبدو أنه ينام أبدًا، كان مدرّسًا للتاريخ وجاء إلى بن عديو كرهينة بشكل طوعي؛ كان ورقة مساومة لتهدئة نزاع دموي بين قبيلته وقبيلة المحافظ. يقول: “طالما أنا معه، فهذا يعني أن القتال متوقف”. بدا كما لو أنه يعتقد أن هذا نموذج ممتاز للحياة.
وهناك العميد عبدربه لعكب، وهو في أواخر الثلاثينيات من عمره فقط، لكنه يبدو أصغر سنًا ولا يبتسم أبدًا. بعد معارك لا حصر لها، لا يزال لديه ساق ويد ونصف، وأصابع بالكاد كافية لعدّ كل الذين حارب ضدهم في موطنه الأم: أولًا ضد الحوثيين، الذين احتلوا عتق لمدة أربعة أشهر في عام 2015، ولمدة عامين آخرين في الشمال الغربي، ثم ضد مقاتلي القاعدة المتناثرين والعصابات الإجرامية، وأخيرًا ضد القوة التي جاءت لإنقاذ الدولة في عام 2015: فيلق الاستكشاف الإماراتي وميليشياتهم عالية التسليح، “قوات النخبة الشبوانية”. قال بصوت منخفض: “كنت أريد في الحقيقة أن أكون محاسبًا ماليًّا”.
في البداية رُحب بالقوات الإماراتية في شبوة، هذا ما أكده الرجال حول المحافظ، وكذلك رجال الأعمال والصحفي المحلي عوض صالح: “اعتقدنا أنهم سيساعدوننا ضد الحوثيين والقاعدة، وقد فعلوا ذلك بالفعل”. جاءوا مع مروحيات أباتشي وطائرات مسيّرة وعربات ثقيلة من طراز كايمان أمريكية الصنع.
ولكن كلما قل عدد الأعداء الأصليين، ازداد عدد الذين تجندهم الإمارات. وهم اليوم يشكلون قوة قوامها أكثر من 7 آلاف رجل، وسرعان ما تحوّلت إلى أداة لإرهاب سكان المحافظة: “راحوا يفجرون ليلًا قرى بأكملها، ويختطفون الرجال بشكل عشوائي”، يتذكر الصحفي صالح. “أحد القادة هدد بتصفية أي شخص يعارض سلطته”.
بصفتها الشريك الأصغر للسعودية، خاضت الإمارات حربًا عام 2015 لتوحيد اليمن مرة أخرى وفقًا لأفكارها، لكن الوعود الكاملة لوزير الدفاع آنذاك وولي العهد السعودي اليوم، محمد بن سلمان، بأن الحرب ستنتصر في غضون أسابيع قليلة، خابت تمامًا. بنت الرياض افتراضها الاستراتيجي الخاطئ على أن المتمردين سيستسلمون بعد بضع ضربات جوية مدمرة، وتبيّن أن الحوثيين شرسون للغاية، وهي شراسة مبنيّة على فكرتهم التبشيرية المتمثلة في تنفيذ إرادة الله بقوة السلاح.
وكلما اتضح الفشل، ابتعدت الإمارات عن استعادة اليمن ككل، وشرعت في تأمين نصفها الخاص من البلاد: اليمن الجنوبي، الذي كان مستقلًا لمدة 23 عامًا حتى عام 1990، والذي -باسم “جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية”- قاد حرب التحرر من رحمة موسكو. تبيّن أن الحنين إلى الجنوب المستقل شكّل مقاتلين متحمسين، وهكذا أصبحت الإمارات العراب العسكري لـ”المجلس الانتقالي الجنوبي” كما يسمي الانفصاليون أنفسهم اليوم.
أصبح من جاءوا للتحرير محتلين جددًا، وقد أرادوا إضافة شبوة وحقولها النفطية إلى الإمبراطورية الجنوبية الوليدة، لكن سكان المحافظة كانوا يريدون البقاء كجزء من اليمن الموحّد، ولم يريدوا أن يجري تقاذفهم بين ديكتاتورية وأخرى.
في آب/أغسطس 2019، أصدرت الإمارات إنذارها الأخير: يتعين على جميع القوات النظامية في المحافظة تسليم أسلحتها الثقيلة والانسحاب من عتق، وتوغلت بعد ذلك وحدات مدججة بالسلاح تضم أكثر من 7 آلاف مقاتل باتجاه المدينة من عدة اتجاهات، وكان الوضع محرجًا بالنسبة للمدافعين عن المنطقة.
يقول العميد لعكب في اجتماع بمقر المحافظة: “كان لدينا 300 رجل وشارعان أو ثلاثة تحت سيطرتنا”. ويضيف سليم العولقي، المنسق الأمني: “ظللنا نطلب المساعدة العسكرية من الحكومة. إلا أن مطالبتنا ذهبت أدراج الرياح، إذ لم يُصغِ لنا أحد؛ لذلك كان علينا اقتراض الأسلحة”. يتدخل المحافظ بن عديو: قلنا للإمارات إذا أردتم إطلاق النار على الإرهابيين، فاستمروا! لكن لماذا تطلقون علينا؟
بدأت المواجهة مساء 21 آب/أغسطس. “كنا مستعدين لمعركة الحياة والموت”، يتمتم لعكب، لكن بعد ذلك استفاق المقاتلون المحليون من القوات الموالية للإمارات واختلفوا فيما بينهم؛ هل عليهم إطلاق النار على أبناء عمومتهم؟ وبأوامر من الأجانب؟ وطوال الليل وعلى مدار اليومين التاليين، اتصل زعماء القبائل المحلية بالطرفين وناشدوا أقاربهم الموالين للإمارات أن يوقفوا إطلاق النار، والمزيد من قوات النخبة الشبوانية تخلّت عن مواقعها وعرباتها، وفي اليوم الثالث انتهى كل شيء.
استولى المدافعون على تسع مركبات كيمان مدرعة -يرغب بن عديو بعرضها في المتحف المحلي في وقت ما- فيما تواصل الإمارات إرسال مبعوثين وأموال مقابل ولاء المقاتلين هناك حتى يومنا هذا. يقول لعكب: “إذا كنت تقاتل حقًا، فعليك أن تعرف سبب ذلك، المال لا يكفي. ماذا يفعل الرجل الميت بالمال؟”.
شبوة الآن حرة، لأول مرة منذ عقود. اشتُهر بن عديو في جميع أنحاء اليمن بجرأته في تحدي الجميع، حتى الإمارات، ويتضح مدى قوته الآن من حقيقة أنه انتصر على جميع معارضيه، من قوات التدخل الخليجي وحتى من حكومته، مع تأمينه لوفد من المراسلين الأجانب القادمين إلى شبوة بالتعاون مع مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية. يؤكد بن عديو: “لا نريد استقلالًا تامًا، بل نريد فقط أن نُحكم بشكل عادل”.
حالة من التفاؤل الحذر تسود المدينة؛ لقد تدفقت المبالغ الضخمة والتي بلغت 31 مليون دولار على ميزانية المحافظة من عائدات النفط منذ خريف 2019، وهناك وظائف جديدة في قطاع البناء، وزادت رواتب المعلمين ويجري دفعها بالفعل، كما يتجرأ مربّو النحل الآن على الذهاب إلى المدينة مع حصادهم الثمين، وتبدأ جمعية محلية ببناء منتجع لقضاء العطلات على الشاطئ الرملي للساحل.
لكنها حالة غير مستقرة ولا يمكن لأحد التنبؤ بمدتها؛ فالإمارات تسيطر على معسكر العلم في الشمال بين حقول النفط، وقبل كل شيء منشأة الغاز المسال في بلحاف، وفي المنطقة الشاسعة، لا يملكون قاعدة عسكرية فحسب، بل يملكون أيضًا سجنًا سريًّا خارج نطاق الولاية القضائية، وهو ما أكدته الأمم المتحدة ومنظمة العفو الدولية والأطباء في مستشفى المدينة في عتق. من حين لآخر، يتم تسليم المحررين من بلحاف مصابين بـ”كسور في العظام، وأورام دموية، وحروق”، كما يقول أحد الأطباء باقتضاب.
يود المرء أن يسأل الضباط الإماراتيين وقادة الميليشيات اليمنية عن سبب اختطافهم لأشخاص ليسوا بأي حال من الأحوال إرهابيين، وكل ما فعلوه غالبًا أنهم انتقدوا دور الإمارات، وكذلك عن شرعية استيلائهم على أهم منشأة في اليمن، لكن لا أحد يريد التحدث إلى وسائل الإعلام الأجنبية.
ومع ذلك، حتى سلطات محافظة شبوة لا يمكن أن يكون لها أي مصلحة في الانسحاب الكامل للإمارات، حتى لو طلبت ذلك علنًا؛ لأن الحوثيين في غرب المحافظة ما زالوا يتربصون، وفي الوديان النائية ما يزال أنصار القاعدة يتربصون أيضًا. لن يتحقق الحفاظ على الحرية المكتسبة من خلال النضال بقدر ما يتحقق من خلال دراسة جميع المصالح والموازنة بينهما.
ولكن حتى في حالة الفشل، فقد تغير شيء ما في الأفكار السياسية للناس ومن شأن ذلك أن يجعل العودة إلى الديكتاتورية أمرًا صعبًا: الرغبة في دولة فاعلة ومحترمة. حتى هناك، حيث لا يستطيع المرء تصور شيئًا كهذا.
في إحدى الأمسيات يلتقي رؤساء القبائل المهمة من شبوة في الصحراء على بُعد ساعة ونصف خارج عتق لمناقشة الأمور المعتادة: النزاعات القبلية، المراعي والأعراس، حيث تم نصب معرض من الخيام نصف المفتوحة في رمال الصحراء، ولحم الماعز يُطهى هناك على النار.
يتباهى كبار شيوخ الحمامي والعولقي ولقموش بزيّهم الرسمي الكامل. الشيخ صالح جربوع النسي، شاعر أسطوري ووسيط نزاع، يحمل معه بندقيته القديمة، لكن الجلسة التقليدية لا يمكن أن تخفي حقيقة أن شيئًا ما قد تغير في الطريقة التي يفكر بها القدماء. بعد عبارات مهذبة لا تنتهي، يقول النسي: “دولة القانون ليست بهذا السوء في النهاية…إذا نجحنا في الوصول إليها فلن نحتاج للقانون القبلي بعد ذلك”. يعترض آخرون على أن العميد لعكب -ذا القدم الواحدة- يجرؤ الآن على اعتقال المشتبه بهم في جرائم القتل من أبناء عشائرهم؛ العرف القديم القائل بأن القبيلة مسؤولة عن جميع أفعال أقاربها، وحمايتهم، والحكم عليهم، لم يعد مقبولًا اليوم.
الاختبار العملي للاستقلال الجديد يجري حاليًّا في ضوء المعسكر الإماراتي في العلم؛ العشرات من سكان بلدة حضر يخيِّمون هناك منذ أسابيع ويطالبون بالعدالة بعد هجوم على قريتهم. قال الشيخ أحمد المحضار “جاءت قوات النخبة ليلًا وبدأت بإطلاق النار على الفور، هُرعتُ إلى المسجد وناديتهم عبر مكبرات الصوت للتوقف عن إطلاق النار. بعد ذلك شن الطيران الإماراتي عدة غارات قُتل على إثرها تسعة من سكان المنطقة”.
كانت تهمة القرويين المزعومة أنهم تصدَّوا لمجند من قوات النخبة. لم تعترف الإمارات رسميًّا بالهجوم، وقدمت عرضًا غير رسمي قالت فيه إنه يمكن للرجال الانضمام إلى قوات النخبة كتعويض. “في البداية يقتلوننا، ثم يعرضون علينا وظيفة مع القوات القاتلة. هذا جنون!”، يقول المحضار بغضب. “نطالب بتقديم جميع المسؤولين عن ذلك إلى العدالة! سنبقى مسالمين، لكننا سنبقى هنا حتى نحقق العدالة!”.
الشتاء قادم. في كل مكان في تلال شبوة القاحلة، يستعد مربّو النحل للانتقال إلى الأراضي المنخفضة الأكثر دفئًا على الساحل. بالقرب من عتق، يسحب سعيد العولقي بعناية آخر أقراص العسل الممتلئة من الصناديق الخشبية. يقول عن صناعة العسل: “لا ينجح الأمر إلا إذا تعاونّا، إذا قدمتُ إلى النحل في خليتي السكر أو الدواء، يجب أن أخبر الآخرين، لأن نحلهم سيطير أيضًا إلى خليتي. عندما يستخدم المزارعون مبيدات الآفات، يُخبروننا بذلك مسبقًا. إنهم بحاجة إلى نحلنا لتلقيح نحلهم”. كان السكان يتحدثون أيضًا مع بعضهم البعض عن الحواجز على الطرق وعن الأمطار المفاجئة في العديد من مجموعات واتساب.
يتحدث عن العسل، لكنه فجأة يبدو وكأنه بيان للدولة: “إذا قاتلنا بعضنا البعض فقط، سيحاول الجميع فرض نفسه على الآخرين، ثم يخسر الجميع”. إنه يعرف طريقة للتغلب على ذلك. قبل سنوات، كان العولقي من أنصار القاعدة، وقضى لأجل ذلك خمسة أشهر في السجن. واليوم هو والنحالون الآخرون شغوفون بالسياسة، مهتمين بأخبار “ترامب وبايدن وما إلى ذلك”. لكن إذا لم يكن هناك اتفاق، فهم لن يسحبوا أسلحتهم مجددًا بوجه بعضهم البعض، بل سيقومون بتغيير الموضوع: “سنتحدث حينها عن الأشجار والنحل مرة أخرى”.
الجائحة تحاصر آلاف المهاجرين في حرب اليمن
أغلقت السعودية -وجهة طريق الهجرة من القرن الأفريقي- حدودها مع اليمن، خوفًا من انتشار فيروس كورونا.
ناتاليا سانشا | جريدة إلبايس الإسبانية | 7 ديسمبر 2020
تختلط ثمانية أكوام من الحجارة مع الشاخصات، محددةً الأرض الصحراوية التي تملكها القبائل التي تقطن قرية خمر اليمنية، جنوب مدينة عتق عاصمة محافظة شبوة. تذكّر شواهد القبور البدائية المكتوبة بأسماء باللون الأزرق أن الحلم الذي قطعه ثمانية أشخاص بحثًا عن حياة أفضل، جميعهم إثيوبيون، انتهى فجأة هنا بعد الشروع في طريق الهجرة إلى السعودية؛ لقد غرقوا في القارب الذي يعبر من جيبوتي أو من ميناء بوصاصو الصومالي، وهما الطريقان الرئيسيان للوصول إلى الساحل اليمني، والممر القسري للوصول إلى المملكة.
فروا من بلد غارق في الفقر إلى خوض معركة أخرى في زمن الوباء. القبر التاسع ما يزال مفتوحًا. يشرح مهرب البشر، اليمني أحمد الدابسي: “لن يسمح لنا زعماء القبائل بدفنه، والآن سنضطر إلى حفر الباقي أيضًا لأنهم لا يريدونهم في هذه المستنقعات”. في الثلاثينيات من عمره، يؤكد هذا الرجل أنه في السنوات الخمس الماضية “سهّل عبور اليمن” لعشرات الآلاف من المهاجرين، في العامين الماضيين، توفي سبعون منهم. ويؤكد أن جثة واحدة فقط قطعت الطريق العكسي إلى إثيوبيا لتستعيدها وتدفنها أسرتها.
يقول محمد براك، عامل في منظمة غير حكومية محلية في عتق: “المهاجرون الذين يصلون اليمن ليس لديهم أي معلومات. في الواقع، يعتقد الكثيرون أنهم موجودون بالفعل في السعودية عند نزولهم، ومعظمهم من الفلاحين الأميين الذين لا يعرفون حتى أن اليمن في حالة حرب”. تمر جميع الطرق عبر هذه المدينة، لكن السعودية أغلقت حدودها بإحكام منذ بداية الوباء خوفًا من انتشار فيروس كورونا.
قالت أوليفيا هيدون، المتحدثة باسم المنظمة الدولية للهجرة في اليمن، عبر اتصال هاتفي: “انخفض تدفق المهاجرين على الطريق من القرن الأفريقي منذ العام الماضي حيث تم إحصاء دخول 139 ألف مهاجر، مقارنة بنحو 34 ألفًا هذا العام حتى تشرين الأول/أكتوبر”. تغيب المعلومات حول القتلى في الإحصائيات، سواء أصيبوا بالجفاف من الضياع في الصحراء، أو غرقًا في خليج عدن، أو ماتوا بسبب نقص الرعاية الطبية بسبب الإصابة ببعض الأمراض. وفي منظر واحد جنوب شبوة، تجتمع كل من شواطئ “بئر علي” الخلابة، ونقطة إنزال المهاجرين، ومنتجعات تحت الإنشاء، مع مقابر جماعية لمهاجرين مجهولين.
طرق إلى المملكة العربية السعودية
تقدر المتحدثة باسم المنظمة الدولية العدد الإجمالي للمهاجرين المحاصرين حاليًّا في اليمن بـ14500 شخص، بينما تقدرهم السلطات المحلية بـ”عشرات الآلاف”. تقطعت السبل بأكثر من خمسة آلاف شخص في مدينة عدن، منهم 3400 تم تسجيلهم للعودة الطوعية إلى بلادهم، وهناك أربعة آلاف آخرين في محافظة مأرب، بؤرة القتال بين المسلحين الحوثيين والقوات الحكومية. تتأسف هيدون: “لم نتمكن من استئجار أي طائرة لإثيوبيا منذ بداية الوباء، لأن قدرات الدولة على عزلهم عاجزة، بسبب المهاجرين العائدين من دول الخليج”.
من الشائع رؤية مجموعات من عشرات المهاجرين يسيرون على طول الخنادق أو عبر الصحراء على الطريق الممتد على طول الساحل اليمني. المهرب الدبسي، الذي يحمل خمسة هواتف نقالة على حزامه، واحدًا لكل دولة في مسار العقبات، إثيوبيا وجيبوتي والصومال واليمن والسعودية، يشرح أن “شبكات التهريب تقسم المسارات بأقسام”. يقول المهاجر الإثيوبي علي مغشى (28 عامًا)، الذي تحول إلى مسؤول نقطة ممر: “أنا مسؤول عن تنظيم الرحيل من إثيوبيا”.
متمايلًا وكرة القات (محصول منبّه) في خده الأيمن يضيف الدابسي: “هناك أكثر من 500 شخص مثل المغشي في شبوة”، ولا يتردد في وصف عمله بأنه “عمل إنساني”، ويدافع عن ذلك قائلًا: “سيأتي المهاجرون على أي حال، لكنني أتأكد من أنهم لن يدفعوا حتى يصلوا إلى الساحل أحياء، وبالتالي نمنع المهربين من رميهم في البحر لتجنب الدوريات”. يقول شاب بإعجاب أثناء عرضه الممرات داخل أحد تلك المنازل الكبيرة قيد الإنشاء في ضواحي عتق: “الدابسي كان مربي نحل فقير، والآن أصبح ثريًّا جدًا ويقوم ببناء كل هذه الفيلات”.
يعيش خمسة عشر مهاجرًا إثيوبيًّا من نفس العرق المسيحي وسط خردة بلاستيكية وطعام، في غرفة من الطوب الرمادي بلا نوافذ. تكرر نور مقولتها كأنها تعويذة: “سأحاول مرة أخرى حتى أحصل عليه”، وهي أرملة تبلغ من العمر 26 عامًا وأم لطفل صغير يبلغ عامين يعيش في رعاية جديه. اعتُرِضت المجموعة التي كانت تسافر معها من قِبل الحوثيين في صعدة، محطتهم الأخيرة على الأراضي اليمنية، قبل الاندفاع إلى المعبر الحدودي السعودي. تؤكد الشابة سجنها في مركز احتجاز مزدحم ولم يُطلق سراحها إلا بعد أن دفعت عائلاتها ألف ريال سعودي (220 يورو). من هناك جرى نقلهم، محشورين في شاحنات الماشية، إلى نقطة ما حول مدينة تعز الجنوبية. تتذكر الشابة: “اعتقدت أنني كنت أختنق لأن عددنا كان 150 شخصًا وكان العديد منهم بحاجة إلى علاج من مشاكل في الجهاز التنفسي”.
يعتمد المهاجرون جزئيًّا على التضامن الذي يقدمه شعب اليمن، أفقر دولة في المنطقة. لكن الضيافة تتضاءل مع اقتراب المجاعة. جنحت الحرب في عامها السادس والمساعدات الدولية في انخفاض كبير، ويحتاج ما لا يقل عن 24 مليون من أصل 30 مليون يمني إلى مساعدات إنسانية، وفقًا لبيانات الأمم المتحدة، كما حذر برنامج الغذاء العالمي أنه “للمرة الأولى منذ عامين، يسجل اليمن انعدام الأمن الغذائي الكارثي، من المرحلة الخامسة (الأعلى على نطاق واسع) ويمكن أن يؤثر ذلك على ما يقرب من خمسين ألف شخص بين كانون الثاني/يناير وتموز/يونيو 2021″.
نور هي المرأة الوحيدة في المجموعة التي تتحدث القليل من اللغة العربية المكسرة. السبعة الآخرون الذين يرافقونها يعرفون فقط كيف يقولون “نريد شغل”، ويؤكدون أن الاستسلام ليس خيارًا. البعض لديه أطفال يحتاجون للدعم، والبعض الآخر، مثل يوزان (15 عامًا)، هم الأبكار بين الأبناء، حيث يستثمر آباؤهم جميع المدخرات على أمل أن يعبروا ويصبحوا قادرين على دعم أسرهم بالتحويلات المستقبلية، وكذلك فعلت جارة يوازن.
تتراوح تكلفة الرحلة من إثيوبيا إلى السعودية بين 650 و165 يورو، حيث تدفع النساء أكثر وتكن الأكثر عرضة (إلى جانب القُصّر) للابتزاز أو الانتهاك الجنسي من قبل المتاجرين، وفقًا لتقرير صدر مؤخرًا عن منظمة ميراكي غير الحكومية. ورغم أن النساء يمثلن 20% فقط من تدفق المهاجرين، يؤكد المُتاجِر الدبسي أنه عندما ينقلب قارب، فإنهن أول من يغرق “لأنهن لا يستطعن السباحة”.
تدفعهم الضرورة إلى القناعة، أنه في السعودية سيكونون قادرين على كسب راتب يصل إلى سبعة أضعاف ما يمكن أن يحصلوا عليه في إثيوبيا. أجور تصل إلى 2000 ريال سعودي – 440 يورو- للعاملات المنزليات، وبين 700 و1000 ريال (150 إلى 220 يورو)، للعمل في الأرض أو رعاية الماشية. تتكرر نفس القصة في عدة نقاط خارج هذه المدينة قيد الإنشاء، حيث يلتقي القادمون الجدد في الطريق بأولئك الذين فشلوا. أنجبت مندفا وزوجها شامبال، طفلًا في إثيوبيا. أما الشابة “ترهاش” وشقيقها “دارجيه” يتحملان مسؤولية رعاية ثمانية أشقاء بعد وفاة والدهم.
يقول عبد الكريم توراك (21 عامًا) الذي يسير مع أربعة مواطنين آخرين بالقرب من مقبرة المهاجرين غير الرسمية: “لم يكن الأمر يستحق ذلك، لقد عدنا إلى الوطن، قبل ذلك، كان السعوديون يرحلوننا على متن رحلات جوية. الآن مع كوفيد-19، هناك آلاف الإثيوبيين في سجونهم. لا شيء يستحق كل هذا العناء”. توراك هو من أوروميا في جنوب إثيوبيا، واحدة من أفقر المقاطعات، بالإضافة شمال تيغراي، هما أصل 92% من المهاجرين الوافدين إلى اليمن. كذلك النسوة، تم اعتراضهن في الشمال وإعادتهن إلى الجنوب من قِبل الحوثيين. غادر توراك منزله قبل عشرة أشهر ومعه 25 ألف بير إثيوبي (العملة المحلية) في جيبه (540 يورو). عمل بضعة أيام مقابل تسعة يورو لتنظيف السيارات على الطريق. ينهض من على الأرض قائلًا: “لم يبقَ لي شيء، ولا حتى قارب يعود إلى جيبوتي”، ويواصل طريقه إلى ميناء عدن، خوفًا من إغلاق طريق العودة إلى الوطن أيضًا.
شركة من أوكسبريدج تجني أرباحًا من تعطش اليمنيين لبيرة الزنجبيل
ريتشارد سبنسر | جريدة ذا صنداي تايمز البريطانية | 30 نوفمبر 2020
كنا سنلتقي بالمحافظ، لذلك كانت أوراق القات المنبهة أمرًا متوقعًا، لكن الشراب فاجأني. كان مضيفي هو المسؤول عن محافظة شبوة جنوب اليمن. وكما يعلم أي شخص قرأ مذكرات سفر في الشرق الأوسط، فجميع المناقشات في هذا البلد الغامض والملون، تكون مصحوبة بمضغ القات، وهي أوراق نبات منبه.
أجد إشارات الصحفيين الزائرين إلى القات المنبّه مبتذلة، لذلك قررت مسبقًا تجنب ذكره على الإطلاق. ولكني أتحدث هنا عن بيرة الزنجبيل.
اكتظت غرفة المحافظ بالمسؤولين لإجراء مقابلتنا، وزُودنا بأكياس بلاستيكية من الأوراق الخضراء، إضافة إلى مشروب المشاهير الخمسة المفضل. خلال الساعات القليلة التالية، فرغت العلب ببطء. رغم أني زرت اليمن من قبل وشاركت في العديد من هذه الجلسات، إلا أن هذا كان جديدًا بالنسبة لي.
هل كان ذلك من المخلفات الغريبة للحقبة الاستعمارية؟ كان جنوب اليمن جزءًا من الإمبراطورية البريطانية في أيام المشاهير الخمسة. هل هناك حنين معين باقٍ، خاصةً منذ أن بدأت البلاد في الانهيار. قد يكون ذلك أفضل تفسير لشعبية بسكويت بوربون، الذي يُنتج الآن في عدن. ومع ذلك، أخبرني أحد اليمنيين الحاضرين، وهو زعيم قبلي كبير، أن ذلك لم يكن السبب.
بيرة الزنجبيل، أو الزنجبيل البريطاني، كما تُسمى باللغة العربية لأسباب حلال، كانت موضة جديدة حيث انطلقت كوسيلة مثالية لغسل طعم القات المر.
كان يجب أن أركز على شرح وكيل المحافظ للحرب الأهلية، إلا أن عقلي تحوّل إلى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. إذا لم نعد قادرين على بيع سيارات نيسان المعفاة من الرسوم الجمركية إلى أوروبا، فهل يمكن أن تكون بيرة الزنجبيل أو ما شابه ذلك سبيلنا للتصدير العالمي؟ كانت العلامة التجارية التي نشربها تُسمى رويالتي، لم أسمع بها من قبل. لذلك بحثت عنها على الإنترنت واكتشفت أنها تُباع من شركة في أوكسبريدج تدعى صن مارك، وكثيرًا في ليبيا، أمر يدعو للتفاؤل.
في ليبيا لا يمضغون القات، والمرة الأخيرة التي زرت فيها طرابلس كان معظم الشباب يشربون بيرة بنكهة الأناناس خالية من الكحول، لذلك لم يفاجئني بحثهم عن مشروب أفضل.
تساءلت عما تبيعه صن مارك أيضًا؟ تواصلت مع الشركة واقترحت أنهم إذا تمكنوا من إقناع الدول العربية التي مزقتها الحرب بتناول بيرة الزنجبيل، ألا يمكنهم تجربة بيع الفاصوليا المعلبة في فيجي أو المارميت في إفريقيا؟
لقد فكروا في ذلك بالطبع. كصحفي، أذهب مع المنحنى ولكن الأمر يتطلب رجل أعمال للمضي قُدمًا. رامي رانجر، المهاجر الهندي المقيم في أوكسبريدج والذي يدير شركة صن مارك، فعل ذلك بالتأكيد.
أخبرني صهر رينجر، هارميت أهوجا، أن المهاجرين الهنود مثلهم فهموا أن ما يحسبه البريطانيون الأصليون طعمًا غريبًا فريدًا وخاصًا بهم، قد يكون مقبولًا للآخرين أيضًا. قال أهوجا إن رئيسه ادعى في كثير من الأحيان: “البريطانيون لا يعرفون ما لديهم”.
أخبرني أن المارميت كان يُعد طعامًا شهيًّا في سيراليون، حيث يبيعه أصحاب المتاجر فقط بناءً على طلب خاص وبسرية للحفاظ على سحره. بالإضافة إلى بيع الفاصوليا المعلبة في فيجي، تشمل الأسواق الآسيوية التي وجدتها صن مارك مربحة، لاوس حيث ينتشر بسكويت دايجستيف، واليابان حيث تُباع الكعك ويحاولون الآن بيع خردل كولمان.
في هذه المرحلة، انتهى خيالي. لا يتعلق خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وبيع خردل كولمان في الشرق الأوسط ببعضهما. وبالتأكيد، إذا أعجب أي بلد آخر بالمارميت، سيعد ذلك حجة ضد الاستثنائية البريطانية وليس لصالحها.
ومع ذلك من الجيد معرفة أن أحدهم يحاول تسويق ريبينا في منطقة حرب، كما تفعل صن مارك في اليمن. أشعر أنه يجب علينا جميعًا دعم ذلك، حتى لو كان تأثيره على العجز التجاري صغيرًا.
قال لي أهوجا: “لقد أبرمنا للتو صفقة لبيع سلع مجمدة من أيسلندا في غامبيا. إنه أمر جنوني حين تفكر فيه”، تمامًا.
اليمن خالٍ من كورونا، ولكن إلى متى؟
دولة شلتها الحرب الأهلية والمجاعة والمرض، تبدو كأنها نجت بأعجوبة من فيروس كورونا
ريتشارد سبنسر | جريدة ذا صنداي تايمز البريطانية | 3 ديسمبر 2020
يُعد مركز فحص كورونا في بلدة عتق جنوب اليمن مصدر فخر، حيث يضم أحدث المعدات وسبعة أجهزة تنفس جديدة قدمتها منظمة الصحة العالمية وجمعية خيرية سعودية. تم تجهيزه أوائل الصيف مع انتشار فيروس كورونا في واحدة من أفقر دول العالم، حيث تتعرض خدماتها الصحية الهشة لضغوط الحرب والكوليرا والمجاعة. المركز الآن فارغ، في واحدة من أكثر الأحداث المحيّرة في الوباء المليء بالمفاجآت، اختفى الوباء على ما يبدو من اليمن بالسرعة التي أتى بها.
قال هشام سعيد، مدير المركز: “لم نسجل أي فحوصات إيجابية هنا منذ أغسطس (2020)، ولم تعد كورونا أخطر مرض لدينا هنا”.
قالت منظمة الصحة العالمية إنها تتوقع موجة ثانية من الوباء لليمن كما حدث في أوروبا (ضربت الجائحة اليمن خلال مارس/ آذار وأبريل/ نيسان 2021). متجاهلة الادعاءات بأن الكثير من الناس قد أصيبوا بالفيروس لدرجة مكنت اليمن من التحول لأول دولة كبيرة تكتسب مناعة جماعية. مع ذلك تستعد الآن لأخذ عينات دم من 2000 شخص للتحقق من عدد الأشخاص الذين يملكون الأجسام المضادة، كجزء من محاولاتها لفهم مسار الوباء.
يصر بعض الأطباء هنا على أن نظرية المناعة الجماعية ممكنة. قال ريكاردو فرنانديز، نائب رئيس بعثة منظمة أطباء بلا حدود في اليمن، إن عدد الإصابات في وقت سابق من العام كان مرتفعًا، ويتجلى ذلك في الزيادة الهائلة لعدد الجنائز في عدن ثاني أكبر مدينة في اليمن. وقال: “من الممكن أن يكون عدد كافٍ من الأشخاص قد أصيبوا بالمرض لتوفير مستوى معين من المناعة”. نحن نعلم أن الكثير من الناس كانوا مرضى، ومات الكثير منهم في مايو. ارتفع عدد الجنازات اليومية في عدن من عشرة قبل كورونا إلى أكثر من 90 يوميًّا في الذروة، ويمثل هذا ارتفاعًا هائلًا في الوفيات بمدينة صغيرة جدًا”.
يعيش في اليمن الذي مزقته حرب أهلية ثلاثية الأطراف، أكثر من 20 مليون شخص معرضين لخطر الجوع والمجاعة، وفقًا للأمم المتحدة ووكالات الإغاثة. لقد عانى من وباء الكوليرا، وبدأ انخفاض تمويل الأمم المتحدة لعياداته ومستشفياته. هناك حاجة ماسة إلى موارد منظمة الصحة العالمية لمكافحة فيروس كورونا، وأصبح المانحون الدوليون أقل سخاء لأن الوباء أضر بالاقتصاد العالمي.
حين بدأت المستشفيات في عدن وصنعاء تمتلئ بالمرضى الذين يعانون أعراض كورونا في أبريل، أُصيب عمال الإغاثة بالذعر. وبدأ الآلاف يموتون، وحذرت الوكالات من انهيار وشيك للنظام الصحي بأكمله، إذ تفتقر خُمس مديريات اليمن للأطباء.
صعّبت فوضى الحرب مراقبة ما يحدث، أو تقديم أي نوع من الاستجابة المنسقة لفيروس كورونا. قيّد الحوثيون -الذين سيطروا على شمال البلاد في سعيهم للإطاحة بالحكومة- وصول وكالات الإغاثة، بما فيها الأمم المتحدة. فيما تتقاسم الجنوب الذي تديره الحكومة فصائل مختلفة.
كان من الصعب إقناع اليمنيين العاديين، الذين يواجهون العديد من المشاكل الأخرى، بأخذ الاحتياطات. لم يكن هناك حظر تجول وكان التباعد الاجتماعي نادرًا والأقنعة أكثر ندرة. يقترح بعض المراقبين أن الفيروس ما يزال متفشيًّا، لكنه ببساطة أصبح أقل وضوحًا خلال انخفاض عدد الحالات بين الموجتين.
مرافق الفحص في معظم أنحاء البلاد فقيرة التجهيز، والوصمة المرتبطة بالمرض مستمرة. ويفشل العديد من المصابين في طلب المساعدة حتى فوات الأوان. قال الأطباء لصحيفة تايمز في يونيو إن بعض المصابين كانوا يشترون الأكسجين لمحاولة علاج أنفسهم في المنزل على انفراد كي لا يعلم جيرانهم أنهم مصابون.
يعيش ثلثا السكان تحت سيطرة الحوثيين، الذين ينتهجون سياسة تتمثل في عدم نشر البيانات “لمنع الذعر”. تعني التركيبة السكانية للبلاد التي يشكل الشباب معظمها، أن نسبة أكبر من المصابين قد تظهر عليهم أعراض خفيفة فقط، وقد يتجاهلون إجراء الفحوصات. يقول الأطباء المحليون العاملون بدعم من أطباء بلا حدود ومنظمة الصحة العالمية، إن الأمراض المعدية الأخرى المنتشرة أثناء الحرب الأهلية المستمرة منذ ست سنوات، مثل الملاريا وحمى الضنك والخناق والكوليرا، قد يكون لها أعراض تطغى على أعراض فيروس كورونا. لكن تجربة الصحفي عبدالله المنصوري الذي يبلغ 33 عامًا ويعيش في محافظة مأرب شمال عتق شائعة. حيث أصيب بالمرض في يونيو ونجا، لكن والده توفي.
حين عاد المنصوري إلى العمل أدرك أن قصته لم تكن فريدة من نوعها، قال: “حوالي 90٪ ممن أعرفهم ظهرت عليهم أعراض مشابهة لأعراضي، كل زملائي في المكتب فقدوا حاسة التذوق ومرضوا”.
يعتقد الدكتور سعيد أن مناعة واسعة النطاق حدثت في عتق أو على الأقل في منطقته. وافترض أن التعرض الطويل لمجموعة متنوعة من الأمراض المعدية قد يكون عزز المناعة الطبيعية لليمنيين.
يعارض ألطاف موساني، رئيس منظمة الصحة العالمية في اليمن، وجهة النظر تلك. ويعتقد أن الموجة الثانية في طريقها (حدثت بالفعل بين مارس/ آذار وأبريل/ نيسان 2021)، وستكون أسوأ بسبب انعدام تدابير وقائية. وقال إن الحالات بدأت بالفعل في الارتفاع مرة أخرى في مدن مثل عدن.
وقال: “المناعة الجماعية أمر يتحقق عبر التلقيح، والتحدي لا يزال في الحد من العدوى”.
أطفال اليمن يواجهون المرض والمجاعة بسبب الحرب
منذ اندلاع المعارك مجددًا في اليمن قبل ست سنوات، لقي أكثر من مئة ألف شخص حتفهم، ويهدد الجوع الآن الملايين من أطفاله. تقرير ريتشارد سبنسر من مستشفى في الجنوب
ريتشارد سبنسر | جريدة ذا صنداي تايمز البريطانية | 8 ديسمبر 2020
اختفت العيون والوجوه المحدقة في جدران المستشفى الرمادية، لبعض الوقت، والآن عادت. تتضاءل إمدادات المنظمات الخيرية والأمم المتحدة إلى البلدات والقرى المدمرة في اليمن مع ازدياد المتطلبات المالية للوباء الدولي، وتقول الأمم المتحدة الآن، إن الجوع الذي يهدد 20 مليون شخص قد عاد. قالت اليونيسف إن اثني عشر مليون طفل بحاجة إلى المساعدة، مع استمرار الحرب الأهلية، وعودة الأمراض، بالإضافة إلى الأمراض الجديدة، التي تلحق خسائر جديدة.
يرقد سعيد حمود حسين، الذي بلغ بالكاد الثانية من عمره، في سرير في مستشفى عتق جنوب اليمن، ويعاني من سوء التغذية والشلل الدماغي. وكان سبب الأخير هو صعوبة الولادة، إذ لم تعد خدمات حديثي الولادة تعمل في هذا الجزء من البلاد، جنوب خط المواجهة الرئيسي.
من المفترض أن يتحول المبنى الذي نحن فيه إلى قسم ولادة. لكن هذا يعتمد على افتتاح مستشفى جديد على الطريق، تم تدميره بغارة جوية سعودية مع اقتراب الانتهاء منه عام 2015.
ترقد منى بسام في سرير نقال مقابل سعيد، وهي طفلة هزيلة تبلغ من العمر ستة أشهر، تحدق عبر الأنابيب التي تبقيها على قيد الحياة. لقد أمضت معظم حياتها في المستشفى، هنا في عتق أو في المستشفى المجهز بشكل أفضل في عدن، ثاني أكبر مدينة في اليمن، على بعد عشر ساعات بالسيارة وعلى خط المواجهة الثاني.
تأوي الأجنحة المجاورة أطفالًا يعانون من حمى الضنك والتهاب الكبد. يقول الأطباء إن الخناق يعود أيضًا إلى جميع أنحاء اليمن، في حين فيروس كورونا رغم الانخفاض في عدد الحالات، لم يختف. وسجلت محافظة شبوة وعاصمتها عتق أول اختبار إيجابي لها منذ شهور الأسبوع الماضي.
كانت اليونيسف المنظمة الأخيرة في سلسلة من وكالات الأمم المتحدة ومنظمات الإغاثة الدولية التي أصدرت نداءً عاجلًا. إذ يمثل 12 مليون الذين يحتاجون المساعدة كل أطفال البلاد تقريبًا.
وقالت هنريتا فور، المديرة التنفيذية لليونسيف: “يعاني نحو 325 ألف طفل دون سن الخامسة من سوء التغذية الحاد ويكافحون للبقاء على قيد الحياة ويواجه أكثر من خمسة ملايين طفل تهديدًا متزايدًا للإصابة بالكوليرا والإسهال المائي الحاد”.
وجاء في نداء ثان، صادر عن صندوق الأمم المتحدة للسكان، أن 1.2 مليون امرأة حامل أو مرضع يعانين من سوء التغذية الحاد.
غالبًا ما يوصف الصراع في اليمن في الغرب بأنه “حرب السعودية” وهو وصف صحيح جزئيًّا. ولكن لو الأمر بهذه البساطة لكان قد انتهى الآن.
يقول دبلوماسيون إن ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، الذي زج بقواته في المعركة منذ نحو ست سنوات، حريص على التوصل إلى تسوية. ومع ذلك، عند استشعارهم الضعف، جدد المسلحون الحوثيون -المدعومون من إيران والذين اجتاحوا شمال البلاد عام 2014 قبل تدخل السعودية- الهجمات على الخطوط الأمامية التي بدت ذات يوم هادئة. وبدأوا الآن بالسيطرة على المناطق شمال عتق، متجاهلين تجويع الأطفال من الجانبين مرة أخرى. وإذا ما ضعفت خطوط قوات الحكومة قد يصل الحوثيون إلى البحر ويقسمون البلاد إلى ثلاثة أجزاء.
فقد اليمن أكثر من مئة ألف شخص منذ استيلاء الحوثيين على العاصمة صنعاء عام 2014، بما في ذلك أكثر من 12 ألف مدني، وفقاً لإحدى الإحصائيات. كثير منهم قُتلوا في غارات جوية سعودية. لم تكن الحرب بأي حال من الأحوال الأولى في اليمن، وتعكس قصة مستشفيات عتق والأطفال المرضى الصراعات المتكررة التي اندلعت بين الشمال والجنوب، والإسلاميين والعلمانيين، والجنرالات والمدنيين، منذ أيام سيطرة الإمبراطورية البريطانية على عدن.
انتهت فترة تدخل سوفييتي قصيرة عام 1990، وانتهت حرب أخرى عام 1994 نتج عنها إعادة توحيد البلاد تحت قيادة الشمال. عند ذلك بدأ تأسيس المستشفى الجديد.
بدأ البناء عام 2002 لكنه تأخر باستمرار، لا سيما بسبب الاضطرابات التي أعقبت ثورة الربيع العربي ضد الرئيس الراحل علي عبدالله صالح عام 2011. كما كانت شبوة أيضًا ساحة ساخنة لتمرد القاعدة منذ فترة طويلة. وبعد ذلك اندلعت الحرب مجددًا عام 2014، وحين اجتاح الحوثيون الجنوب، استولوا على عتق وحولوا المستشفى غير المكتمل إلى قاعدة عسكرية. ثم قصفته القوات الجوية السعودية، وحين أُجبر الحوثيون على الخروج بعد ستة أشهر، بدأ المشروع بأكمله من الصفر.
لم يكن المستشفى القديم يحوي تقنيات حديثة مطلقًا، رغم بذل حفنة من الأطباء قصارى جهدهم في الكتل الثلاثة المتداعية المؤلفة من طابق واحد، في أجنحة تحوي عددًا قليلًا من الأسّرة ولكن دون تجهيزات تقريبًا. حين حدث نقص في الغذاء من قبل كانت الكوليرا هي المشكلة الإضافية الرئيسية. وبحلول عيد الميلاد 2018 أُصيب أكثر من مليون شخص بالمرض وتوفي الآلاف.
وبقيت الكوليرا حيث تم الإبلاغ عن حوالي مائتي ألف حالة هذا العام. لكن أوبئة جديدة وصلت أيضًا. يقول الأطباء في البلدات النائية مثل عتق إنهم يواجهون مجموعة مستمرة من التحديات. إذ توقفت نصف الخدمات الصحية في اليمن عن العمل. وتفتقر خُمس المديريات في البلاد للأطباء.
قال الطبيب الشاب مصطفى ذيبان: “لا يوجد لدينا علاج أو لقاحات ضد الخناق هنا، وعلينا نقل المرضى إلى عدن، ولا يوجد جراح أعصاب في المحافظة بأكملها”.
ستمضي خمسة أشهر على الأقل قبل افتتاح المستشفى الجديد، ومع ذلك سيتحمل هو وزملاؤه مسؤولية علاج المرضى المحليين بالإضافة إلى المدنيين والعسكريين من ضحايا القتال. وقال الأطباء إن عشرات الأطفال الذين يعانون من سوء التغذية يُنقلون الآن إلى المستشفيات في مديرياتهم وحدها كل شهر.
يترأس مارتن غريفيث، المبعوث الخاص للأمم المتحدة، سلسلة متواصلة من مفاوضات وقف إطلاق النار و”عمليات السلام”. وتشمل الحرب الآن ثلاثة أطراف، وليس طرفين، حيث أقدمت حركة انفصالية جنوبية من مخلفات التقسيم القديم، على محاولة للاستيلاء على السلطة بدعم من قوة إقليمية أخرى، الإمارات العربية المتحدة. وتحث الدول الغربية مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة غريفيث لإنجاز اتفاق، حيث يسبب استخدام الأسلحة التي باعوها إلى السعودية والإمارات في عمليات مثل قصف مستشفى عتق لإحراجها.
ولكن الحوثيين يضعون شروطًا مكلفة لوقف إطلاق النار: إنهاء الحصار السعودي للموانئ والمطار، أمر يقول السعوديون إنه سيسمح للحوثيين بإعادة الإمداد ومواصلة هجومهم. على أي حال، ومع تعزيز الأطراف الرئيسية الثلاثة السيطرة على مناطق سلطتها، يعتقد قليلون أنه يمكن إعادة تجميع شظايا البلاد.
ويُعد محافظ شبوة محمد صالح بن عديو، واحدًا من كثيرين استغلوا الحرب لحكم محافظاتهم كسلطات شبه مستقلة. ويُعد محظوظًا لأنه واحد من ثلاثة لديهم بعض الثروة النفطية. وقد باشر فعلًا بإنفاق الأموال على طرق جديدة، والمستشفى الجديد، ويخطط لتحويل المستشفى القديم إلى قسم ولادة. لكن حتى لو حدث ذلك قد يكون الأوان قد فات بالنسبة لأسرتي سعيد حمود حسين ومنى بسام.
قال الدكتور ذيبان “لو ولدا في المستشفى ربما كانا سيتمتعان بصحة أفضل”. وأضاف أن “هذا يحدد من يعيشون أو يموتون ممن يعانون سوء التغذية”.
معاناة مهاجرين هربوا من حرب لتواجههم أخرى
إثيوبيون هربوا إلى السعودية بحثًا عن حياة أفضل، يجدون أنفسهم في الخطوط الأمامية لصراع لا يعرفون الكثير عنه ويستغلهم المهربون.
ريتشارد سبنسر | جريدة ذا صنداي تايمز البريطانية | 20 نوفمبر 2020
لا يمكن اعتبار موقع بناء مليء بالقمامة في الصحراء، يحرسه جنود يافعون ذوو شعر أشعث في شاحنات صغيرة مزوّدة بمدافع آلية مكانًا محتملًا للجوء. ولكن في الخطوط الأمامية لأزمة المهاجرين في جميع أنحاء العالم حتى منطقة حرب مثل اليمن تُعد ملاذًا.
كان حفنة شباب من شرق إفريقيا يتسكعون حول أعمدة عارية لمنزل غير مكتمل في الموقع. بينما جلس في الطابق العلوي، على أرضية خرسانية تتناثر عليها زجاجات المياه الفارغة والنفايات البشرية ودوامة من الأكياس البلاستيكية الوردية، 15 شابًا وشابة من إثيوبيا، من نفس العشيرة المسيحية. كان المشهد كئيبًا بشكل لا يوصف.
يخوض اليمن، الذي يعاني من الجوع، حربًا أهلية ثلاثية الأطراف، ويعاني عددًا كبيرًا من الأمراض فوقها، ولديه ما يكفيه من الأزمات الإنسانية. لكننا نجد هنا أزمة أخرى.
من ناحية أخرى، كانت إثيوبيا تعد ذات يوم منارة للتنمية في إفريقيا. والآن يفرّ مواطنوها من صراع جديد فيها، حيث تقصف القوات الحكومية المعارضين في منطقة تيغراي. ويجدون أملًا طفيفًا في اليمن بعد رحلة قصيرة عبر البحر الأحمر.
قال سيساي، 33 عامًا، مدرس في بلده: “نحن نهرب من حربنا”. مثل عشرات الآلاف من الإثيوبيين العالقين الآن في اليمن، كان يأمل في الوصول إلى السعودية وعيش حياة كريمة مع زوجته.
لم يكن يعرف الكثير عن الحياة في السعودية المجاورة، ولم يكن يعرف أي شخص هناك. ولم يكن يدرك قبل وصوله إلى اليمن أن فرص عبور الحدود ضئيلة، أو أنه بهروبه من حرب سيجد نفسه وسط حرب أخرى.
قال رجل آخر، جيمبر، 34 عامًا: “نود العودة إلى الوطن، لكن ظروف الحرب الآن قاسية جدًا لدرجة أنهم أغلقوا المعبر البحري. لقد كان القدوم إلى هنا خطأً”.
لقد انهار اليمن خلال ست سنوات من الصراع بين العديد من الفصائل وداعميها الإقليميين.
أودى الصراع بحياة مئة ألف شخص، ولكن من بعض النواحي كان الأثر الأشد هو تدمير مستقبل مستدام. وتنتشر المجاعة، ولا يقتصر المرض على فيروس كورونا فحسب، بل انتشرت الكوليرا والخناق وحمى الضنك في جميع أنحاء البلاد. كما انهارت الزراعة والصناعة والبنية التحتية. وتنتشر مواقع البناء غير المكتملة مثل هذا، في وسط مدينة عتق.
تخضع محافظة شبوة، وعاصمتها عتق، الآن لسيطرة الحكومة المدعومة من السعودية، والتي أخرجت أولًا قوة المتمردين الشمالية المدعومة من إيران والمعروفة باسم الحوثيين، ومؤخرًا ميليشيا حركة انفصالية جنوبية دربتها الإمارات. لكن من المفارقات أن هذا الأمن النسبي يجعلها أكثر جذبًا لمئات الآلاف من المهاجرين الإثيوبيين الذين يجوبون أنحاء البلاد.
لا تملك السلطات طاقة أو وقتًا لتنفقه على منعهم من القدوم. ويمكن رؤية العواقب على مسافة ساعتين بالسيارة جنوبًا من عتق نحو ساحل المحيط الهندي اليمني. تصطف طوابير من الشبان والشابات على الطرقات يسيرون باتجاه الشمال دون رادع.
يرتدي الكثير منهم قبعات بيضاء مميزة ويحملون أكياس تحوي طعام وماء ومنتجات صحية أساسية تقدمها وكالات الإغاثة بتمويل من المانحين بمن فيهم الحكومة البريطانية. يوزع هذه المساعدات العاملون في الجمعيات الخيرية المحلية، الذين يتعاونون بشكل مفاجئ ليس مع السلطات فقط ولكن حتى مع المهربين. يتقاضى المهربون الإثيوبيون واليمنيون الذين يعملون معًا مبلغ 300 دولار من المهاجرين مقابل الرحلة من قراهم الأصلية إلى جيبوتي أو ميناء بوصاصو الصومالي، ثم إلى القوارب المكتظة.
من الناحية النظرية، سيوصلهم المشي لمدة أسبوعين من شواطئ الإنزال إلى حدود السعودية والحياة الكريمة. لكن الواقع، وكما هو الحال في العديد من مسارات المهاجرين حول العالم، مختلف تمامًا. وتتطلب المسيرة عبور خط جبهة واحد على الأقل في الحرب، وأحيانًا خطين. بحلول الوقت الذي يصل فيه المهاجرون إلى الحدود، يكونون في الأراضي التي يسيطر عليها الحوثيون، الذين لا يتوانون عن اعتقالهم. ثم يتقاضون 1000 ريال سعودي، أي حوالي 200 جنيه إسترليني، من المهاجرين ليتم الإفراج عنهم، ويتم حشرهم في شاحنات كالماشية وإعادتهم جنوبًا مرة أخرى. لقد أصبح مشروعًا لكسب المال في حد ذاته بالنسبة للحوثيين.
ينتهي الأمر بالآلاف من الإثيوبيين بالعودة إلى شوارع عتق، بعد رحلة ذهاب وإياب مكلفة ومرهقة لألف ميل، يجدون أنفسهم عالقين. وليس لديهم المال لدفع ثمن العبور إلى إثيوبيا، ولا يبدو أن هناك أمل من محاولة العودة إلى الحدود. ستوصلهم العودة إلى ديارهم في تيغراي إلى القتال الدائر حول منازلهم، والذي قال مهاجر، مولوغيتا، البالغ من العمر 28 عامًا، إنه قتل أعدادًا كبيرة في منطقته: “ليس لدي عمل، ويساعدني صديقي فقط في الحصول على الطعام”. لقد وجد سكنًا أفضل من موقع البناء، على الطريق مع زوجته زهرة. نظرًا لكونهما من ديانات مختلفة، يمتلك الزوجان أسبابًا إضافية لبدء حياة جديدة خارج أرضهم الأصلية المتنازع عليها، ولكن لا يبدو أن هذا الاحتمال مرجح. تم القبض عليهما بالقرب من الحدود السعودية ونُقلا جنوبًا.
كان مضيق باب المندب عبر البحر الأحمر نقطة عبور بين إفريقيا وشبه الجزيرة العربية منذ أن غادر الإنسان إفريقيا لأول مرة. في العصر الحديث، في التسعينيات، تدفق الصوماليون على مخيمات اللاجئين حول عدن، ثاني أكبر مدينة في اليمن، حين انهار بلدهم.
وسط اضطرابات الربيع العربي وما تلاه من حرب في اليمن، أبحرت القوارب في الاتجاه الآخر، وأخذت الصوماليين إلى الوطن وبعض اليمنيين أيضًا. لكن التدفق عاد في السنوات الأخيرة إلى الاتجاه الآخر.
تقول المنظمة الدولية للهجرة التابعة للأمم المتحدة (IOM) إن حوالي 150 ألف إثيوبي سافروا إلى اليمن في عامي 2018 و2019، رغم انخفاض الرقم هذا العام بفضل قيود فيروس كورونا على طول الطريق. كان الدافع اقتصاديًّا بشكل أساسي حتى وقت قريب، حيث نشر المهربون في القرى الإثيوبية حكايات عن الثروة المنتظرة في السعودية. ولم يذكروا تفاصيل حرب اليمن وصعوبات عبور الحدود السعودية أثناء عرض خدماتهم.
وقالت أوليفيا هيدون المتحدثة باسم المنظمة الدولية للهجرة في اليمن “معظم الناس لا يفهمون المخاطر الكاملة على الطريق. الأمر المحزن هو أنهم ينفقون أموالًا أكثر بكثير مما تستطيع أسرهم تحمله فقط للوصول إلى اليمن ولا يمكنهم متابعة الطريق”.
في اليمن المنكوبة بالفقر، يعتبر تهريب البشر تجارة مربحة. بدأ أحد المهربين، وهو شرطي سابق، تربية النحل بعد تقاعده لكنه أدرك أن بإمكانه تحقيق أرباح أكبر بكثير من “تربية” البشر، يسعد بإعطاء الصحفيين جولة إرشادية في مستعمرته قرب عتق المليئة بالإثيوبيين بمن فيهم سيساي وشامبال.
ولو كان موقع البناء كئيبًا، نجد المقابر غير الرسمية التي تنتشر الآن في أنحاء جنوب اليمن وتحتوي رفات الإثيوبيين الذين غرقوا أو ماتوا نتيجة مرض أو قتال أو تعذيب أكثر كآبة. يختطف المهربون العديد من الإثيوبيين، ويعذبونهم لابتزاز المزيد من الأموال من عائلاتهم.
كانت المقبرة التي حفرها الشرطي السابق، الذي طلب عدم ذكر اسمه، على منحدر صحراوي مائل إلى الحمرة خارج عتق، تحوي تسعة قبور. ودفن المزيد في قريته، يقول إن 70 من زبائنه قد ماتوا في العامين الماضيين، لكنه يدعي أنه عدد قليل مقارنة بالآلاف التي يحضرها إلى اليمن في أسبوع مزدحم.
ويقول إنه لا يشعر بالسوء حيال تجارته، لأنه يقدم خدمة خاصة عالية الجودة، ما يعني أنه يتحقق من المهاجرين أثناء تجوالهم ذهابًا وإيابًا في جميع أنحاء البلاد، ويساعدهم في العثور على مواقع بناء مهجورة للتخييم ويبلغ عائلاتهم عند وفاتهم ويتخلص من جثثهم بشرف.
قال: “أعتبر عملي إنسانيًّا”. بالنسبة لرجل يترأس كل هذا البؤس، هذه وجهة نظر غريبة.
هزيمة في الصحراء: كيف فقدت “أسبرطة الصغيرة” قوتها
كانت في يوم من الأيام تعد منارة مشعة في الشرق الأوسط، ولكن حظوظ الإمارات تتضاءل بعد سلسلة من الانتكاسات المهينة.
ريتشارد سبنسر | جريدة ذا صنداي تايمز البريطانية | 29 ديسمبر 2020
اعتقدوا أنهم يمثلون القوة الجديدة في الشرق الأوسط. كانت القوات المسلحة الإماراتية، التي أطلق عليها الجنرال جيمس ماتيس، وزير الدفاع الأمريكي الأسبق، “أسبرطة الصغيرة” تتمتع بسمعة قتالية طيبة تمتد من ليبيا إلى أفغانستان. ثم التقت بطل شبوة ذو السبعة أصابع والساق الواحدة، أصغر عميد في الجيش اليمني.
كان لدى العميد عبد ربه لعكب 300 رجل، وفق روايته، وحفنة من “الآليات”، شاحنات صغيرة محملة بمدافع مضادة للطائرات أصبحت عنصرًا أساسيًّا في الحرب في هذا الجزء من العالم.
درّب الإماراتيون الآلاف من القوات المحلية فيما أطلقوا عليها اسم “قوات النخبة الشبوانية”، ويعدون الحراس الأساسيين للاستراتيجية العسكرية والسياسية لدولة الإمارات في جنوب اليمن.
وقال العميد لعكب، 32 عامًا، عن المساء الذي وصلت فيه قوات النخبة عتق، البلدة الرئيسية في محافظة شبوة جنوب اليمن، “لقد جاؤوا من جميع الزوايا. كانوا يحاولون السيطرة، ومجهزين بشكل كبير ومستعدين للقتال”.
ثم حدث أمر استثنائي. مع حلول الليل، وقفت مجموعة من رجاله أمام العدو الذي يحاصر مقر المحافظ. مع حلول النهار، شرعت إحدى آلياته في مهمة شبه انتحارية، للاستيلاء على نقطة تفتيش عند مفترق طرق رئيسي، وفجأة وجدت قوات النخبة نفسها في موقف دفاعي.
بحلول نهاية ذلك اليوم، طُردت تلك القوات من المدينة، وعلى مدى اليومين التاليين دفع رجال العميد المعززين من الخطوط الأمامية إلى الشمال الإماراتيين وقواتهم الموالية إلى الخلف على بُعد 120 ميلًا، على طول الطريق الرئيسي إلى الساحل.
قال العميد لعكب: “كان رجالهم يتصلون بي ويسألونني أين نحن، كي يتمكنوا من الهرب قبل وصولنا”. متجنبًا تصنع أي تواضع زائف.
أصبحت الهزيمة الإماراتية على يد لعكب -وهو أصلًا حليف ضد الحوثيين المدعومين من إيران- ترمز إلى تضاؤل حظوظ المغامرات الخارجية للدولة الخليجية، من الخطط الكبرى للتأثير والسلطة إلى الإذلال والهزيمة في الصحراء.
تتواجد مدينة عتق العشوائية على كوكب مختلف عن عالم الفنادق ومراكز التسوق الفاخرة في دبي وأبو ظبي.
يمكن قول الشيء نفسه عن العميد. باختصار يتناقض تجعيد الشعر الأسود الصبياني وابتسامته الجريئة التي تنتقل بين المرح والتهديد بشكل صارخ مع القادة الأمراء في الإمارات، الذين يتجولون في ممرات قصورهم المكيفة بالأحذية البيضاء.
ومع ذلك فقد كانوا في السابق حلفاء. انضمت الإمارات إلى المملكة في الحرب الأهلية اليمنية عام 2015، ودعمت الحكومة ضد المتمردين الحوثيين الذين سيطروا على نصف البلاد، وفي هذه الحرب حصل العميد لعكب على رتبته.
اشتُهر حين كان ضابطًا صغيرًا بسبب هجماته على الحوثيين، حيث فقد ساقه وثلاثة أصابع في إحداها، وهو الآن يرأس القوات الموالية للحكومة في شبوة.
كيف أصبح يقاتل أصدقاءه السابقين، هو درس موضوعي في الحسابات الخاطئة التي قام بها الإماراتيون في تدخلاتهم باليمن، وكما يجادل البعض، في جميع أنحاء المنطقة. بعد أن كانوا القوة المقبلة في الشرق الأوسط، وكان سفراؤهم الغربيون مقربين من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة. أصبح سفيرهم في واشنطن على وجه الخصوص، يوسف العتيبة، لاعبًا رئيسيًّا في الدائرة حول جاريد كوشنر، صهر الرئيس ترامب. والآن هم في موقف ضعيف، يخسرون الحروب التي بدا أنهم يكسبونها سابقًا في اليمن وليبيا، وفي الوقت ذاته طُرد أكبر حليف لهم من البيت الأبيض.
تهدف المشاريع العسكرية لدولة الإمارات -وهي ابتعاد واضح عن نموذج النفط والسياحة والأعمال الذي اتبعته الدولة بعد الاستقلال عن بريطانيا عام 1971- إلى منحها نفوذًا في الشرق الأوسط الذي تنسحب منه الولايات المتحدة ببطء. وتريد على وجه الخصوص ضمان ألا يملأ فراغ الدور الأمريكي إيران أو جماعة الإخوان المسلمين أو الجهاديون أو أي شكل آخر من أشكال الإسلام السياسي.
بدأت بمساهمة متواضعة في مهمة الناتو في أفغانستان. ويقول مستشارون غربيون إن ذلك كان بمثابة اختبار لاستعداد رعايا الأمراء -الذين لديهم ثروة ولكن القليل من القول في الحكومة- لقبول المخاطر المصاحبة للعمل العسكري.
في عام 2011، انضمت القوات الجوية الإماراتية إلى الحلفاء الغربيين في قصف ليبيا والإطاحة بنظام القذافي. بحلول عام 2019، انتشرت المهام العسكرية، المرتبطة ارتباطًا وثيقًا بولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد الزعيم الفعلي لدولة الإمارات، في جميع أنحاء الشرق الأوسط.
وشاركت طائراته في قصف تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسوريا. وفي ليبيا، كانت أبو ظبي تقوم بمهام تسليح للمشير خليفة حفتر، جنرال القذافي السابق المناهض للإسلاميين والذي غزا ثلاثة أرباع البلاد.
ومع استمرار الصراع في اليمن، أنشأت الإمارات قاعدة عسكرية في إريتريا، على الجانب الآخر من البحر الأحمر، وأخرى في أرض الصومال وهي مقاطعة انفصالية عن الصومال. واستولت موانئ دبي العالمية، وهي شركة مقرها دبي، على الميناء الرئيسي لأرض الصومال، بينما جُلبت القوات الإماراتية لتدريب الجيش في الصومال نفسها.
لم تكن هزيمة الحلفاء المحليين للإماراتيين في عتق سوى واحدة من سلسلة الانتكاسات التي غيرت كل شيء في الأشهر الـ18 الماضية. حدث ذلك بعد أن قسّم الإماراتيون دون قصد القوات الحكومية إلى نصفين، ما أدى إلى اندلاع حرب أهلية داخل الحرب الأهلية. لم يثقوا أبدًا بالجيش الحكومي، الذي احتوى وحدات إسلامية وعددًا معتبرًا من الأفراد الذين قاتلوا أيضًا في صفوف القاعدة. وأصبحوا يفضلون مجموعة من زعماء المناطق ذوي العقلية العلمانية الذين كان ولاؤهم الأساسي لحركة انفصالية جنوبية عريقة.
وسرعان ما عادت الحياة لهذه الحركة بأموال وتدريب إماراتي. وبدأت العمل خارج سيطرة الحكومة المعترف بها، وفي النهاية ضدها ما أدى في النهاية إلى الاشتباك في عتق.
لا تزال الإمارات وحلفاؤها يسيطرون على معظم موانئ اليمن الرئيسية، بما في ذلك عدن وأهم منشأة صناعية فيها، مصنع الغاز الطبيعي المسال في بلحاف جنوب عتق. لكن بلحاف، التي بنتها شركة توتال الفرنسية بتكلفة 5 مليارات دولار، لا تعمل، وقد أدى تقدم العميد إلى قطع منطقة النفوذ الإماراتية إلى نصفين ضعيفين. كما سلط الضوء على كيف تتعرض القوى الإقليمية لنفس المخاطر التي تتعرض لها القوى الغربية حين تتورط في صراعات الآخرين. قال العميد لعكب عن الجيش المحلي للإماراتيين “كما ترون، لم يكن لديهم قضية مستعدين للتضحية بأرواحهم من أجلها”، مقارنًا إياه بجيشه.
في أجزاء أخرى من الشرق الأوسط، ارتكبت الإمارات حسابات خاطئة مماثلة. لقد دفعوا المشير حفتر إلى الاقتراب من النصر بهجوم على العاصمة الليبية العام الماضي لدرجة دفعت الداعم الرئيسي لحكومة طرابلس، تركيا، إلى انخراط أعمق. وهزمت الطائرات التركية المسيّرة المرتزقة السوريين الذين جندتهم قوات حفتر. وفي الوقت نفسه، حتى الصومال وجد الإمارات شديدة التعجرف وطرد مستشاريها.
وحدت الفترة بأكملها بين اليمنيين والليبيين والشرق إفريقيين ضد بلد كان يعتبره الكثيرون في يوم من الأيام نموذجًا اقتصاديًّا.
قال محسن عمير المحضار، 46 عامًا، وهو شخصية قبلية يمنية كان ابنه واحدًا من ستة رجال قُتلوا بغارة من الإماراتيين وقوات النخبة على قرية العائلة في منتصف الليل: “كان لدي حدس منذ البداية أن الإماراتيين لم يأتوا فعلًا لمساعدتنا”. زعموا أنهم كانوا يحاولون اعتقال مشتبه به من القاعدة لكن تبين أنه لم يكن هناك. “ماذا يفعلون، دعم هذه الميليشيا التي لم تكن حتى جزءًا من الدولة؟ لماذا يسيطرون على موانئنا؟”
إنه سؤال يسأله البعض في الإمارات سرًا. حيث قادت الإمارات مؤخرًا دولًا عربية أخرى في توقيع “صفقة تطبيع” مع إسرائيل، لكنها فازت في المقابل ببعض التنازلات، في إشارة إلى ضعف قوتها في المنطقة. وقد أقرت بفقدان أكثر من 100 من رجالها في اليمن، وبدأت بسحب قواتها فيما يُعد انسحابًا مهينًا بينما يواصل الحوثيون التقدم.
وكانت المكافأة الوحيدة التي حصلت عليها من الصفقة الإسرائيلية وعدًا ببيع طائرات أمريكية من طراز F-35. لكنها ستستخدم ضد منافستها الأولى إيران، ويعد ذلك عودة إلى المربع الأول في السياسة الخارجية لدولة الإمارات. وفي هذه الأثناء، تتزايد علامات الاستفهام المعلقة على مغامراتها في أماكن أبعد من أي وقت مضى.
الذهب السائل: النحّالون يتحدّون ظروف الحرب اليمنية وينتجون العسل الأفضل في العالم
بيثن مكيرنان | صحيفة الغارديان البريطانية | 23 مارس 2021
بحسب الآيات القرآنية، تُعد ثمرات شجرة السدر، أو العُنّاب، فاكهة الجنة. وعلى كرتنا الأرضية، ووسط قسوة الصحراء اليمنية، يمثّل عسل السدر حلو المذاق رمزًا للمقاومة والصمود.
اشتهرت اليمن منذ فترة طويلة بإنتاج العسل الأفضل عالميًّا، والذي غالبًا ما يُقارن بعسل المانوكا الذي تنتجه نيوزيلندا. ويخرج العسل الأجود والأنقى من النحل الذي يتغذى على زهرة شجرة السدر، الذي ينتج عسلًا شاحب اللون ذي مذاق حاد أقرب إلى المرارة.
وفي حين أغلقت الحرب العديد من الطرقات، الأمر الذي صعّب التنقل، غير أن حياة النحالين التقليدين بقيت على ما هي عليه: فهم الوحيدون في اليمن الذين يجتازون جبهات القتال بسهولة، يتنقلون كل فترة بحثًا عن الأزهار لنحلهم.
يقول سعيد العولقي، صاحب الأربعين عامًا، في استراحة بعد كشفه عن 80 خلية نحل قرب قرية الخامر بشبوة، “لا يهم من يكون المسؤول عن نقاط التفتيش. يلقي الحرس نظرة على خلايا النحل في مؤخرة الشاحنة فيسمحون لنا بالعبور سريعًا. حتى الحوثيون (المتمردون اليمنيون) يخافون من النحل.
ويُقدّر إنتاج 100 ألف من النحالين المستقلين في اليمن، كالعولقي، نحو 1580 طن من العسل سنويًّا، يُصدر 840 طنًا منها، وفقًا لتقرير الأمم المتحدة لعام 2020.
وقد يصل سعر كيلو غرام واحد من عسل السدر إلى 500 دولار أمريكي في دول الخليج المجاورة، كالسعودية والإمارات. وبينما يؤكد خبراء العسل أن المنتَج اليمني يستحق العرض في الأسواق العالمية، لكن الاختلال السياسي يؤدي إلى اضطراب في نموه ومحدودية وصوله إلى الأسواق الخارجية.
وحرصًا منها على تعزيز الاستقرار الغذائي وجلب الأموال إلى البلاد، اعتبرت الحكومة قطاع إنتاج العسل أساسيًّا للتوسع، حيث قال النحالون وتجار الجملة والمصدرون لصحيفة الغارديان التي التقتهم في مدينة عتق، عاصمة محافظة شبوة، ومحيطها، إنهم حريصون على بيع ذهبهم السائل إلى جميع أرجاء المعمورة.
يكشف العولقي وموظفوه الثلاثة بحماس عن خلايا النحل مستطيلة الشكل، ويفتح الغطاء لعرض صفوف الخلايا في الداخل. ويرش الدخان المنبعث من حرق شرائط من قماش القنب لتهدئة النحل ومنعه من اللسع، رغم أن الرجال الأربعة تحصّلوا على مناعة من سُمّها بعد التعرض للّسع مرات عديدة.
يربي ذو الأربعين عامًا النحل منذ 10 سنوات، بعد تعلّمه المهنة من عمه. إذ فقد مصادر رزقه بالكامل عام 2015، بعد انتقال الحوثيين إلى شبوة وإغلاق الطريق المؤدية إلى محافظة أبين المجاورة، حيث نفق نحله من العطش.
واستغرقت عملية إعادة بدء عمله عامين بعد شرائه لثلاثمئة صندوق بتكلفة وصلت إلى مليوني ريال يمني (1850 دولارًا). وينشر خلايا النحل الآن في جبال شبوة وصحرائها وسهولها الساحلية، حسب الموسم.
ولا يمكن حصاد عسل زهر السدر الثمين إلا مرة كل 12 شهرًا، لكن عسل زهور الأكاسيا والزهور الصحراوية الأقل جودة متوفر على مدار العام.
كان الجيل الماضي من النحل يُربّى في جذوع الشجر الفارغة ويُنقل على ظهور الجِمال، أما الآن، تجعل خلايا النحل والشاحنات الصغيرة المستوردة المهنة أكثر سهولة، حتى لو عانى النحّالون، مثل العديد من اليمنيين، من نقص في الوقود.
وفي حين تدرّ تجارة العسل أموالًا طائلة، لكن النحالين يواجهون الكثير من التحديات. فإنْ عرقلت الحواجز الطرقية والمعارك نقل خلايا النحل إلى المناطق الوفيرة بالغطاء النباتي، ينفق النحل، فضلًا عن تعرض النحل إلى مخاطر استخدام المزارعين غير المنظم للمبيدات الحشرية.
كما جعلت الحرب مهنة تربية النحل خطيرة على البشر أيضًا. فالألغام الأرضية مزروعة في جميع أرجاء البلاد. وفي حين يفضّل النحالون نقل النحل ليلًا، حين يكون في أقل نشاطه، غالبًا ما تعد أطراف الصراع اليمنية المتحاربة الحركة الليلية مشبوهة، وتراقبها الطائرات السعودية والأمريكية المسيّرة عن كثب.
يقول محمد بن لاشر، تاجر جملة في عتق، إن أحد مورديه استُهدف بغارة جوية في محافظة مأرب، “لقد كان محظوظًا أنه نجا منها. ربما اعتقدوا أنه كان من تنظيم القاعدة”.
ورغم المخاطر، ومع زيادة التضخم وجفاف منابع العمل المستقر، يبدو أن الكثير من سكان شبوة على الأقل يتوجهون نحو تربية النحل كوسيلة بديلة لكسب الدخل.
وفي حين يشعر النحالون ذوو الخبرة بالسعادة عند إطلاع النحالين الجدد بخبرتهم عن المهنة، بيد أنهم يخشون من تناقص موارد الطعام والمياه لكمية النحل المتزايدة في منطقة معينة، الأمر الذي سيؤدي إلى انخفاض في مستوى جودة العسل وأسعاره.
وفي ساحة مدينة عتق الرئيسية، يعرض العشرات من النحالين منتجاتهم للمتسوقين من الأفراد وتجار الجملة، لكن قلة من يشترون.
يقول صالح الهانسي، 25 عامًا، “هذا موسمي الأول في تربية النحل. أحب هذه المهنة وأستمتع بالعمل. لقد شجعني مربّو النحل الآخرون على البدء، لذلك سأرى كيف تسير الأمور”.
وقد تتوفر فرص عمل للجميع إذا ما تدخلت السلطات أو الجمعيات المحلية للمساعدة في زراعة المزيد من أشجار السدر، وهي خطوة يضغط النحالون المحليون لتنفيذها. وتشمل الخطوات الضرورية الأخرى لتوسيع هذا القطاع إنشاء وكالة للمعايير ونظام لشهادات السلامة الغذائية تسمحان للنحالين اليمنيين بتصدير منتجاتهم العضوية إلى كافة أنحاء العالم.
ولن يتخلى العولقي، الفخور بعمله، عن مهنة تربية النحل مقابل أي شيء، يقول: “قد تُشعرك هذه المهنة بالوحدة أحيانًا، إذ لا أرى عائلتي سوى مرة واحدة في الشهر. لكنني كنت أقوم بأعمال البناء في السعودية، وأرى أن مهنة تربية النحل أفضل من تلك بكثير”.
ويضيف، “النحل والعسل هبة من الله. ويجب أن نكون شاكرين له”.
مهاجرون أفارقة في اليمن، لا سبيل إلى الأمام أو العودة
“حلمت بجني المال، وعيش حياة مختلفة”
ليلى مولانا آلن | ذا نيو هيومانتيريان | 17 ديسمبر 2020
ينشر المهرب ذراعيه مشيرًا إلى تسعة أكوام من الصخور الرمادية، يمثل كل منها مهاجرًا ميتًا. حفرة عاشرة تنتظر. يقول أحمد العولقي بفخر: “دفنتهم هنا بنفسي”.
تحيط الأكوام الصخرية بمقابر بائسة، مرتبطة بسلاسل من القمامة الملونة. هذا هو المكان الذي يقول العولقي إنه دفن فيه 70 شخصًا من الآلاف الذين أحضرهم إلى محافظة شبوة جنوب اليمن.
يصر العولقي أن من دفنهم هنا غرقوا وهم في طريقهم إلى اليمن. يلقي آخرون باللائمة في الوفيات في الغالب على الشجارات، أو على الظروف السيئة في المباني حيث يؤويهم المهربون مثل العولقي. وفي كلتا الحالتين، ليس الوادي الصحراوي على بُعد 10 كيلومترات خارج عتق، عاصمة محافظة شبوة، المحطة النهائية التي كان سكان القبور يأملون الوصول إليها. بعد ما يقرب من ست سنوات من حرب اليمن، يستمر المهاجرون في الوصول إلى البلاد، على رغم انخفاض الأرقام بشكل كبير عام 2020 بفضل القيود الحدودية المتعلقة بكورونا. وفقًا لوكالة الهجرة التابعة للأمم المتحدة، وصل ما يزيد عن 35 ألف مهاجر إلى اليمن حتى الآن هذا العام، بانخفاض من 138 ألف عام 2019.
يأمل معظمهم متابعة الطريق شمالًا عبر اليمن، وفي نهاية المطاف عبور الحدود إلى السعودية حيث العمل الوفير لعمال المياومة.
رغم ذلك تنتهي الرحلة بالنسبة للكثيرين في عتق. يمر الطريق الشمالي بخطوط أمامية متعددة وغالبًا ما يكون مغلقًا بسبب الاشتباكات. هذا العام، جعل انتشار كورونا الاستمرار في التقدم صعبًا. أصبحت الحياة لعبة انتظار: لا يمكن للناس إكمال رحلاتهم، ولكن لا يستطيعون العودة إلى ديارهم، حتى لو كانوا يفكرون في ذلك.
طرق متغيرة
يُعد الطريق إلى عتق من إثيوبيا، حيث يأتي 85٪ من المهاجرين إلى اليمن (البقية من الصومال)، طريقًا طويلًا وشاقًا وخطيرًا في كثير من الأحيان.
يسافر معظم الناس برًا من إثيوبيا إلى ميناء بوصاصو شمال شرق الصومال. ومن هناك، يركبون القوارب (يمكن أن تستغرق الرحلات ما يصل إلى يوم) إلى بير علي، وهي قرية على الساحل الجنوبي لشبوة. ثم يواصلون سيرًا على الأقدام لمدة يومين (دون توقف) أو -لمن يستطيع تحمل تكاليف ذلك- خمس ساعات بالسيارة إلى عتق.
كل هذا عادة ما يكون ممكنًا فقط عبر شبكات التهريب، التي تضيف مخاطر الاختطاف والابتزاز إلى التضاريس الوعرة والمعابر البحرية المحفوفة بالمخاطر. أصبح الطريق الرئيسي الآخر -عبور خليج عدن من جيبوتي إلى محافظة لحج الغربية في اليمن ثم اتباع الساحل حتى السعودية- أقل شعبية هذه الأيام وفقًاً لصالح مهدي، الذي يعمل في ستيبس، وهي منظمة غير حكومية محلية تراقب تدفق المهاجرين. يتطلب هذا المسار المرور بمحافظة الحديدة التي شهدت تصاعدًا في القتال بين المتمردين الحوثيين الذين يسيطرون على شمال البلاد، وحكومة الرئيس عبدربه منصور هادي المعترف بها دوليًّا التي تدير الجنوب. الحكومة المنفية مدعومة من تحالف تقوده السعودية والإمارات.
بالنظر إلى المخاطر الإضافية على طريق الحديدة، يتجه المزيد من الناس الآن إلى شواطئ شبوة.
تسير مجموعات مؤلفة من ستة مهاجرين ببطء على طول الطريق البحري الداخلي. الأشياء الوحيدة التي يحملها معظمهم هي الحقائب التي وزعها موظفو المنظمة الدولية للهجرة وشركاؤها، الذين ينتظرون على الشواطئ خلال ساعات معينة لإحصاء الوافدين. تحتوي الأكياس ذات اللونين الأبيض والأسود على أساسيات البقاء على قيد الحياة: البسكويت والماء وفرشاة الأسنان وبودرة لمنع تقرحات العرق والصنادل والمنتجات الصحية للنساء ووسائل منع الحمل.
رغم الأزمة الإنسانية التي تعصف ببلدهم، غالبًا ما يترك اليمنيون، الذين اعتادوا منذ فترة طويلة على التجارة والسفر عبر القرن الأفريقي، الماء والوجبات الخفيفة على طرق الهجرة الشعبية، أو يوقفون سياراتهم لنقل الناس وتوفير عناء مسيرة لا نهاية لها عليهم.
على طول الطريق إلى عتق، تفتح المساجد أبوابها للترحيب بالمهاجرين المنهكين وتقديم الطعام والماء.
داخل المدينة، خارج مبنى مضاء بالنيون على الطريق الرئيسي بعد الفجر مباشرة، وجدت منظمة ذا نيو هيومانتيريان نحو 50 شابًا إثيوبيًّا وصوماليًّا متعبين وجائعين متجمعين في أحد المطاعم العديدة في المنطقة التي تقدم وجبات إفطار مجانية للمهاجرين.
بالنسبة لأولئك العالقين على الطريق، أصبحت عتق بمثابة ملاذ، حتى لو ذلك الملاذ نوم في الشارع، والحصول على وجبة ساخنة في الصباح وفرصة العمل اليومي. وساعد في ذلك بقاء شبوة محافظة آمنة نسبيًّا في خضم حرب فوضوية.
يقول محمد أمين بيان، الإثيوبي المقيم في اليمن منذ أربع سنوات: “من بين جميع مدن اليمن، عتق هي الأفضل، إنهم يطعمونك هنا مقابل القليل جدًا أو مجانًا”.
بعد تعلم القليل من العربية، وجد بيان عملًا في الترجمة مع منظمات محلية تساعد المهاجرين الإثيوبيين، الذين غالبًا ما يجدون صعوبة في الوصول إلى الخدمات والوظائف. على عكس العديد من الصوماليين، نادرًا ما يتحدث الإثيوبيون العربية.
حافظ أحمد، 20 عامًا، موجود في المدينة منذ ثلاثة أيام، بعد أن قطع مسافة 200 كيلومتر من الساحل، وبعد ركوب القارب عبر الصومال مع اثنين من أصدقائه في المدرسة سافرا معه من مسقط رأسه هرار في شرق إثيوبيا. استغرق المشي ستة أيام، مع بعض فترات الراحة على طول الطريق.
يصف أحمد الرحلة أثناء التهام يخنة الفاصولياء مع الفلفل الأخضر الطازج من مقلاة صدئة.
“على متن القارب، لم يكن هناك نوم، ولا طعام، ولا ماء” يقول، وهو يحدق في الخبز الذي يمزقه بين أصابعه، “استغرق الأمر 24 ساعة للعبور، كنا نجلس القرفصاء ملتصقين ببعضنا، ونجلس فوق بعضنا. كنت خائفًا من الموت، أن ينقلب القارب ويغرقنا”.
نفد المال من أحمد. يخطط للبقاء في عتق والعمل حتى يكسب ما يكفي لمواصلة الطريق. حتى لو لم يكن ذلك ممكنًا، لقد اقترض المال من العائلة والجيران للقيام بالرحلة. قبل أن يتمكن من العودة إلى المنزل، يجب أن يكسب ما يكفي لسدادها أو مواجهة عار الديون بالإضافة إلى عار الفشل. وينطبق هذا على كثيرين من زملائه المهاجرين.
التضليل وخيبة الأمل
لم يتوقع أحمد أيًّا من ذلك. أخبره صديق وصل اليمن قبله أن الحياة ستكون أفضل منها في إثيوبيا. الحقيقة هي أن الوضع أسوأ. يجد أحمد نفسه يتنافس على العمل مع يمنيين فروا من أجزاء أخرى من البلاد إلى شبوة. لا توجد وظائف كافية للجميع.
قال أحمد لذا نيو هيومانتيريان: “حلمت بكسب المال، وعيش حياة مختلفة، الآن، كل ما يمكنني التفكير فيه هو أن الطريق [شمالًا إلى السعودية] مغلق، ماذا سيحدث لي؟”
يستمر بعض المهاجرين في الوصول إلى اليمن وهم يعلمون المخاطر، لكن البعض الآخر ليس لديهم فكرة عما سيواجهونه.
توضح أوليفيا هيدون، المتحدثة باسم المنظمة الدولية للهجرة في صنعاء: “يأتي العديد من هؤلاء الأشخاص من مناطق ريفية، ولم يكملوا دراستهم، وليس لديهم إمكانية الوصول إلى الهواتف الذكية والإنترنت، ما يعني أنهم قد يصدقون الصورة الوردية التي رسمها المهربون المحليون، والتي تعد بفرص واعدة عبر البحر.
تدير العديد من وكالات الإغاثة والمنظمات غير الحكومية حملات توعية في ميناء بوصاصو حول المخاطر، ولكن بحلول تلك المرحلة على طريق الهجرة عادة ما يكون الوقت قد فات بالنسبة للذين وصلوا هناك.
يُدير الرحلات الطويلة أشخاص مثل علي مانغاشا، وهو إثيوبي يساعد في إدارة عمليات التهريب في الوطن من عتق. ويعمل مع العولقي منذ أن قام برحلته إلى اليمن قبل عامين.
يصر مانغاشا أنه لا يضلل الناس بشأن مخاطر الرحلة والمستقبل الذي يخبئه. ويقول: “أقول لهم إن هناك حربًا، ويجب ألا يأتوا، لكنهم يريدون القدوم على أي حال، إذا لم أساعدهم على القدوم، سيساعدهم آخرون”.
صعّب انتشار كورونا القيام بهذه الرحلات المحفوفة بالمخاطر، ولكن هناك قلق أن الصراع في منطقة تيغراي الإثيوبية قد يؤدي إلى محاولة المزيد من الناس المرور عبر اليمن، رغم أن حدوث ذلك على الفور أمر مُستبعد.
تقول هيدون: “عادة في الإطار الزمني المباشر للنزاع، نرى معظم الناس يحاولون الفرار إلى أقرب مكان آمن، وهو السودان، ولكن عدم الاستقرار يؤثر على الاقتصاد والمجتمع، ما يزيد بالتالي رغبة الهجرة لأسباب اقتصادية”.
“لا فائدة من البقاء هنا”
من الصعب معرفة عدد المهاجرين في اليمن ككل بالضبط، ناهيك عن مدن أو محافظات محددة. وقدّرت جمعيات خيرية محلية مثل ستيبس العدد في شبوة بحوالي ألفين، وخمسة آلاف في عدن وأربعة آلاف في مأرب القريبة. تقول المنظمة الدولية للهجرة إن نحو 14500 مهاجر عالقون في البلاد، لكن العدد الحقيقي قد يكون أكبر من ذلك بكثير.
قد يكون العدد المنخفض نسبيًّا في شبوة أحد الأسباب التي تجعل السكان المحليين في شبوة ككل، وفي عتق على وجه التحديد، يبدون أقل انزعاجًا من وجودهم. ولكن مع استمرار تدهور الاقتصاد اليمني الشامل وانهيار العملة الهائل، وبما أن المانحين أقل استعدادًا لتمويل البرامج الإنسانية في البلاد، قد يتغير هذا الموقف.
يكافح اليمنيون أكثر من أي وقت مضى لجني أموال كافية لتأمين قوت يومهم، وعلى المهاجرين كسب ما يكفي لمواصلة التنقل. سجل الريال اليمني أدنى مستوى له على الإطلاق في أوائل ديسمبر إذ وصل إلى 920 مقابل الدولار الأمريكي.
يوضح ساجال عباس، باحث في عدن يدرس مجتمعات المهاجرين: “أعمال المياومة المتوفرة ليست موثوقة [أو] طويلة الأمد، ولن تدعمهم في مواصلة رحلتهم. والآن مع سعر الدولار الوضع أسوأ. ولا تساوي الأموال التي يكسبونها شيئًا، حتى أنها لا تغطي كلفة مكان يمضون الليلة فيه”.
ورغم اللطف الذي يقولون إنهم لقوه في عتق، يقول العديد من المهاجرين، الذين يواجهون انتظارًا لا نهاية له لفتح الحدود الشمالية، إنهم يريدون الآن العودة إلى ديارهم.
يواجه عبد الله كمال، 27 عامًا، مصيرًا مجهولًا منذ وصوله إلى اليمن قبل عامين. لقد حاول الوصول إلى السعودية مرتين. في كلتا المرتين قُطع الطريق بسبب القتال واضطر إلى العودة.
رغم أنه وجد عملًا كعامل نظافة في مطعم، وكان يكسب 40 ألف ريال يمني (نحو 45 دولارًا) شهريًّا، إلا أنه يقول إنه يريد الآن العودة إلى إثيوبيا. يقول “كفى، لا فائدة من البقاء هنا وكسب القليل من المال، أريد أن العودة إلى بلدي، هذا كل ما أفكر فيه الآن”.
يواجه الذين يحاولون الذهاب إلى السعودية خطر القبض عليهم وترحيلهم من جهة حرس الحدود. تتطلب الرحلة أيضًا المرور عبر أراضي الحوثيين، حيث إذا تم القبض عليهم، قد يتم سجنهم، ووفقًا للعديد من المهاجرين الذين تحدثت معهم ذا نيو هيومانتيريان، يتم إجبارهم على دفع غرامة قدرها ألف ريال سعودي مقابل إطلاق سراحهم.
ولا تعد الغرامة السيناريو الأسوأ. ذكرت هيومن رايتس ووتش أن المتمردين الحوثيين طردوا في أبريل آلاف المهاجرين الإثيوبيين إلى السعودية، حيث قُتل بعضهم برصاص حرس الحدود، واحتُجز آخرون في منشآت “مسيئة وغير صحية”.
هناك طريقة أخرى محتملة للخروج عبر مدينة عدن الجنوبية، حيث تحاول المنظمة الدولية للهجرة تنظيم ممرات إلى الوطن للمهاجرين الإثيوبيين. لكن هيدون تقول إن آخر مرة سُمح فيها برحلة عودة إلى الوطن كانت في مارس. إذ لم توافق الحكومة الإثيوبية، التي تشعر بالقلق من قدرتها المحدودة في الحجر الصحي، على أي رحلات أخرى.
لا تزال المنظمة الدولية للهجرة تأمل في أن يُسمح قريبًا لمجموعة يبلغ حدها الأقصى 1200 مهاجر بالعودة، وقد تم تسجيل أكثر من 2600 مهاجر للعودة إلى إثيوبيا من عدن. يشك موظفو المنظمة الدولية للهجرة المحليون في وجود ما يصل إلى 10 آلاف آخرين في عدن ومأرب ممن يحتاجون إلى المساعدة في العودة إلى الوطن. يظل سؤال ما إذا كان سيتمكنون من المغادرة مفتوحًا لدرجة أن المنظمة الدولية للهجرة لم تعلن حتى الآن عن خيار السفر من عدن إلى المهاجرين في جميع أنحاء البلاد.
في غضون ذلك، يكسب أحمد وكمال والعديد من المهاجرين الآخرين في شبوة وأماكن أخرى في اليمن المال قدر ما استطاعوا، وينامون في ظروف قاسية، ويأملون في الحصول على فرصة للمضي قُدمًا.
تلقت ذا نيو هيومانتيريان دعم السفر والبحث لهذه القصة من مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية.
مع انعدام أمل سلام حقيقي في الأفق، وأرض غير آمنة بسبب الألغام، أهوال اليمن تطارد الناس المنهكين
مع إحجام السعودية عن إرسال قوة برية واسعة النطاق في الحرب الأهلية، أثبتت ميليشيات الحوثي المدعومة من إيران صعوبة طردها.
ليلى مولانا آلن | صحيفة ديلي تلغراف البريطانية | 30 نوفمبر 2020
اختبرت ست سنوات من الحرب الأهلية في اليمن إيمان طارق حواط بأن القلم قد يكون أقوى من السيف. كمدرس، كان يأمل أن يكرس حياته للفصول الدراسية، وهو هدف سام في أرض لا يتعلم فيها سوى نصف السكان. كان ذلك قبل يوم في أبريل 2015 غير مصيره، حين أوقف مسلحون سيارة تقل أربعة من أشقائه، بالإضافة إلى إحدى زوجاتهم مع طفلها الرضيع وابنتها البالغة من العمر ست سنوات، بالقرب من قريتهم في محافظة شبوة جنوب اليمن. أطلق المسلحون -وهم جزء من مليشيات الحوثي المدعومة من إيران والقادمة الشمال- النار مباشرة على السيارة دون النطق بأي حرف.
قُتل أحد أشقائه مع زوجته وطفله اللذين نزفا حتى الموت تحت أنظار ابنتهما. لم تنته إراقة الدماء عند هذا الحد. وكما تملي العادة في جنوب اليمن، ردت قبيلة الحواط بكمائن ضد الحوثيين، حتى قصف الحوثيون منزل العائلة وأجبروا طارق على الفرار مع زوجته وطفله البالغ من العمر خمسة أشهر. عند ذلك تطوّع لقتال الحوثيين على خط المواجهة.
قال: “لم أستطع الجلوس مكتوف الأيدي، أردت فعل أي شيء في وسعي للانتقام لما حدث”.
طُرد الحوثيون اليوم من شبوة وعاد طارق وعائلته إلى منازلهم، رغم أن جروح الحرب لم تلتئم. عليه الآن المساعدة في رعاية عائلة شقيقه المتوفي، وكذلك الشقيقين اللذين نجيا بأعجوبة من الهجوم: ياسر الذي أُصيب بالشلل بسبب رصاصة في الركبة وأحمد أُصيب بالعمى.
وقال: “نعيش في هذا الوضع المحزن، ونخشى عودة الحوثيين”.
يعد طارق واحد من بين ملايين اليمنيين الذين مزقت حياتهم حرب أودت بحياة 120 ألف شخص وقسّمت البلاد إلى ثلاثة أجزاء.
يوجد الحوثيون الذين سيطروا على العاصمة صنعاء عام 2014 في الشمال والغرب. وفي الجنوب والشرق توجد قوات موالية للرئيس عبدربه منصور هادي المدعوم من تحالف تقوده السعودية والإمارات، لكنه يعيش في المنفى في الرياض بالسعودية. وإلى الجنوب الغربي يوجد انفصاليون من المجلس الانتقالي الجنوبي، الذين طردوا قوات هادي من عدن العام الماضي.
لم يشكل الحوثيون تهديدًا في شبوة منذ ثلاث سنوات، بعد أن طردتهم القوات المحلية المدعومة من التحالف. ومع ذلك، ما يزال سكان شبوة يواجهون تهديدًا يوميًّا من أعداد هائلة من الألغام الأرضية التي زرعها الحوثيون وأودت بحياة 600 شخص وإعاقة أكثر من 400. دُفنت بعضها في مزارع شبوة، ما يجعل الكثير منها محظورة. البعض الآخر مدفون في شبكة الطرق المتداعية، ما يجعل إصلاحات الطرق التي تشتد الحاجة إليها مهمة محفوفة بالمخاطر.
خلال رحلة “التلغراف” التي استغرقت أسبوعًا إلى جنوب اليمن، تحدث الجميع من السياسيين إلى موظفي الفنادق عن الإرهاق من سنوات الحرب. لقد تجمدت الجبهات إلى حد ما، والعنف آخذ في الانحدار حاليًّا. ومع ذلك، تبدو تسوية السلام بعيدة كما كانت دائمًا، وبالنسبة لـ80٪ من سكان اليمن الذين يعيشون تحت سيطرة الحوثيين تتدهور الظروف من سيئ إلى أسوأ.
سيطر الحوثيون، وهم مجموعة مهمشة من شمال اليمن الوعر، على صنعاء بحجة أن الحكومة المركزية فاسدة وتفتقر الكفاءة. لكن حكمهم لم يثبت أنه أفضل قليلًا، حيث فرضوا ضرائب باهظة على المواطنين ولم يقدموا أي خدمات حكومية تقريبًا. قالت ميساء شجاع الدين، من مركز صنعاء، والتي تعيش عائلتها هناك: “الموظفون العموميون لا يتلقون رواتبهم، ولا توجد فرص عمل، والناس يكافحون لشراء الغذاء والدواء”.
كما يدير الحوثيون إقطاعياتهم كدولة بوليسية؛ أبلغت جماعات حقوق الإنسان عن مئات من حالات الاعتقال والتعذيب في السجون السرية. من بين المحتجزين توفيق المنصوري، 34 عامًا، اعتقله الحوثيون في صنعاء عام 2015 بتهمة “نشر أخبار كاذبة والعمل لصالح أعداء أجانب”. حين انتشر فيروس كورونا في سجون اليمن هذا العام، اعتقدت الأسرة أنه سيتم الإفراج عنه لأسباب إنسانية، لكن بدلًا من ذلك، حكمت عليه محكمة حوثية بالإعدام. قال شقيقه عبدالله الذي فر مع باقي أفراد الأسرة إلى جنوب اليمن: “إنهم يحتجزونه رهينة، هذه لعبة سياسية، يستخدمون أحكام الإعدام في المفاوضات السياسية”.
وفي حين لا يحظى الحوثيون بشعبية، الأمر الوحيد الذي سيزعج الكثير من اليمنيين هو عودة حكومة هادي، التي خرج معظمها من الحرب إلى منفى مريح في السعودية.
تقول شجاع الدين: “إنهم يرون أعضاء الحكومة خارج اليمن، يتلقون رواتبهم بالدولار ويعيشون ببذخ في الرياض. على الأقل يُنظر إلى الحوثيين على أنهم يعيشون مع الناس”.
ستكون إدارة الرئيس الأمريكي المنتخب جو بايدن أحدث الوافدين الأجانب إلى الشبكة المعقدة للنزاع. من المحتمل أن تكون أولى خطوته التركيز على الأزمة الإنسانية، كما تقول ياسمين الجمل، مستشارة وزارة الخارجية السابقة لشؤون الشرق الأوسط والتي عملت مع فريق بايدن خلال سنوات أوباما.
تتمثل إحدى طرق القيام بذلك في الاعتماد على السعودية لتقليل دورها في الصراع. خلّفت الضربات الجوية التي شنتها قوات التحالف دعمًا لقوات الحكومة اليمنية آلاف القتلى والجرحى من المدنيين وشردت الآلاف.
ومع ذلك تبدو كيفية التعامل مع الحوثيين أقل وضوحًا، وسيتم توجيهها جزئيًّا بالطريقة التي يختارها بايدن للتعامل مع العلاقة الأمريكية الإيرانية. تقول الجمل: “لن تمثل إيران بعد الآن الوحش الذي كانت ترسمه إدارة ترامب”.
“لا يعني هذا أن الولايات المتحدة ستتعامل بنعومة مع إيران حين يتعلق الأمر باليمن أو دعم الحوثيين، لكنهم لن يكونوا مستعدين مثل ترامب للتغاضي عما يفعله السعوديون لمجرد أنه ضد إيران”.
تدرس إدارة ترامب تصنيف الحوثيين منظمة إرهابية منذ الأسبوع الماضي، وهي خطوة من شأنها معاقبة كل من يمولهم أو يتعامل معهم.
ومع ذلك، يشير العديد من الدبلوماسيين إلى أن قلة من قادة الحوثيين لديهم تعاملات تجارية أجنبية على أي حال. ويخشون أن يكون التأثير الرئيسي على رواد الأعمال المدنيين وعلى منظمات الإغاثة الغربية، الذين قد يقللون من مشاركتهم في المناطق التي يديرها الحوثيون. كما أن الحوثيين ليس لديهم حافز كبير للدخول في مفاوضات سلام. حين بدأ السعوديون حربهم ضدهم لأول مرة عام 2015، كان من المفترض أن ينتصر جيش الرياض الممول جيدًا بسرعة.
ومع ذلك، مع إحجام السعوديين عن إرسال قوة برية واسعة النطاق، أثبت الحوثيون أنه من الصعب طردهم. وجعلتهم في تلك الأثناء أسلحة داعميهم الإيرانيين أقوى.
وأضافت “إنهم يسيطرون على الشمال وهم سعداء بذلك، ويرون أن الجانب الآخر يضعف ويضعف”.
“يعلم السعوديون أنهم يخسرون الحرب لكن لا يمكنهم الاعتراف بذلك، من الصعب الخروج من هذه الحرب بطريقة تحفظ ماء الوجه”.
وفي الوقت نفسه، بالنسبة لأشخاص مثل طارق، لا يعد احتمال سنوات أخرى من المفاوضات المتوقفة والعقوبات الاقتصادية أمرًا يمكن تحمله.
“لو لم يحدث هذا، لكنت أكملت دراستي، وكان بإمكاني تحقيق دخل لائق” يقول عابسًا، “لكننا الآن نكافح لكسب لقمة العيش. ولا يزال يتعيّن علينا التفكير في محاربة الحوثيين. لقد ضاعت كل أحلامي”.
ورقة منبهة صغيرة توفّر راحة كبيرة وتجارة أكبر لليمنيين الذين أنهكتهم الحرب
نبيه بولس | جريدة لوس أنجلوس تايمز الامريكية | 16 يناير 2021
لا يهم الوقت، في السابعة صباحًا أو العاشرة أو حتى في الثانية بعد الظهر، حين يفتح سوق القات يأتي الزبائن. يجذبهم السوق مثل المغناطيس إلى أطراف هذه المدينة الصحراوية. حيث تجد سوق العجر، وهو عبارة عن مستودع مبني من الطوب، يتجمع فيه العشرات من التجار لبيع النبات المورق الذي يُعد أكثر أنواع المنبهات شعبية في اليمن. لا نبالغ حين نقول إن القات واسع الشعبية والانتشار. إذ تذكر دراسة أن ما كان يعدّ في العقود الماضية رفاهية لأثرياء البلاد أصبح عادة شبه يومية لنحو 90٪ من السكان بمن فيهم الرجال والنساء والأطفال دون الـ12 من عمرهم. تعارض دراسات أخرى هذا الرقم، ولكن يكفي إلقاء نظرة سريعة لإدراك أن الرقم ليس بعيدًا عن الواقع. عند حلول الظهر يبدو أن الجميع تقريبًا يشاركون في جلسات ماراثونية لمضغ القات، تميزها العيون الزائغة الحمراء بسبب تأثير القات الأولي الذي يشبه تأثير الأمفيتامين، وتنتفخ خدودهم مع تزايد حجم كرة الأوراق المقطوفة من الشجيرة في أفواههم. في كل مكان حولك: قطف، مضغ، بلع. تكرار.
حوّل كل ذلك القات إلى عمل تجاري كبير، في بلد انخفض فيه إجمالي الناتج المحلي والعملة إلى النصف منذ اندلاع الحرب الأهلية المدمرة عام 2014، وحيث يحتاج 85٪ من السكان المساعدة، وفقًا لتقرير حكومي لعام 2020. ويعدّ القات، المعروف أيضًا باسم (Catha edulis)، أهم المحاصيل التجارية في اليمن، وزراعته مصدر الرزق الرئيسي لمعظم الـ37٪ من السكان العاملين في الزراعة، وفقًا لمنظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة.
يقول مشير صادق الشميري، تاجر قات في الـ35 من عمره، وهو جالس على منصته في سوق العجر، “مقاتل؟ لا. أفضل العمل كتاجر للقات على القتال”. ويضيف “أعمل في القات لأنه أفضل عمل يمكنني القيام به، فهو أسهل من أي عمل آخر. إنه الخيار الأفضل للفقراء”. قد يكون هذا صحيحًا، لكن النقاد يعتبرونه المحرك الأساسي للعديد من المشاكل التي تعاني منها البلاد بسبب استنزافه كل من الموارد البشرية والطبيعية، مثل المياه. بالنسبة لهم، يُعد استخدام القات على نطاق واسع عبئًا لا يستطيع اليمنيون تحمله. رغم ذلك يتناوله الكثيرون. يقول الشميري إنه يبيع ما بين 150 إلى 175 رطلًا من القات يوميًّا، موزعة في حزم من الأغصان الخضراء الطازجة الملفوفة في أكياس بلاستيكية حمراء. وحين تكون هناك مناسبة اجتماعية، مثل مهرجان أو حفل زفاف يتضاعف حجم المبيعات.
ما كمية القات التي يجب مضغها حتى يكون لها تأثير؟
يقول الشميري إنه كيس كامل لمعظم الناس. “البعض بحاجة إلى المزيد. عمي مثلًا” يقول الشميري بلهجة تشوبها الدهشة “يمكنه مضغ سبعة أكياس”. مثل معظم التجار هنا، يتعاطى الشميري من بضاعته بشكل روتيني. ما جعله خبيرًا في القات، قادرًا على اختيار النوع المناسب للمزاج الجيد. “إنه مثل العسل. أنا أعرف كل الأنواع المختلفة” كما يقول. يلوح بحزمتين مختلفتين من القات، ويقدم غصنًا مورقًا من كل منهما في تتابع سريع لمراسل زائر.
“هذا سيساعدك على التركيز، بينما سيفصلك هذا عن الواقع”.
لا يُعدّ الحصول على إمدادات من الأنواع المختلفة أمرًا صعبًا. رغم أن القات ينمو حصريًّ في المناطق الشمالية من اليمن، حيث يسيطر المتمردون الحوثيون، تعبر الشاحنات المحملة بالمحاصيل خطوط التماس يوميًّا، وتصل الشحنات دون مشاكل تذكر إلى المناطق التي تسيطر عليها الحكومة اليمنية أو إلى مناطق الانفصاليين في الجنوب.
يقول عمار العولقي، وكيل وزير المياه والبيئة، “ستجد أناس يقاتلون الحوثيين في الخنادق، لكن بعد ذلك سيذهبون لشراء القات المستورد من مناطق الحوثيين”، مضيفًا أن الخطوط الأمامية هادئة دائمًا أثناء أوقات المضغ. هناك هدنة غير معلنة في اليمن بين الظهيرة والساعة الرابعة مساءً. تستفيد الحكومة أيضًا من القات كمصدر رئيسي للضرائب. في عتق، عاصمة محافظة شبوة، يدفع تجار القات 5 ملايين ريال يمني (نحو 6300 دولار) يوميًّا للحكومة المحلية على شكل ضرائب مدفوعة على كل كيس يباع. وهذا مكسب كبير في بلد يعيش فيه العديد من السكان بأقل من 2200 دولار في السنة.
رغم أن القات يمثل كابوسًا لمن يحاولون تجنب فيروس كورونا، حيث يستمتع معظم الناس به في مجموعات، ويحشون أفواههم لساعات بأوراق الشجر من أكياس مشتركة، ويبصقون ويسيرون على مقربة شديدة، إلا أن الوباء لم يضعف الطلب. بل على العكس تمامًا؛ اضطرت مدينة عتق إلى إغلاق السوق القديم في وسط المدينة لأنه كان شديد الازدحام لدرجة جعلت التباعد الاجتماعي مستحيلًا.
يقول الشميري: “أُغلق السوق بسبب كورونا، لذلك بعنا القات من شاحناتنا في الصحراء لمدة ثلاثة أشهر”.
في وقت لاحق، افتتحت الحكومة المحلية سوقين للقات، بما في ذلك سوق العجر. لكنها أسواق مؤقتة، إذ تُرسم الآن خطط لبناء سوق مركزي جديد أكثر اتساعًا وسط مدينة عتق. نفهم من كل ما سبق أن استخدام القات لا يتم التسامح معه فحسب، بل يتم تشجيعه أيضًا. ومع ذلك، لدى الحكومة أسباب لبعض القلق.
تهيمن زراعة القات بشكل متزايد على 2.3٪ من الأراضي الصالحة للزراعة في اليمن، ما يؤدي إلى استبعاد المحاصيل الأخرى في بلد ينتشر فيه الجوع وسوء التغذية. يقول المنتقدون أيضًا إنها تغذي الحرب عبر إمداد خزائن المقاتلين بالأموال. كما تؤدي زراعته إلى تفاقم نقص المياه في البلاد، لأنه نبات يحتاج ريًّا عميقًا واستخدامًا هائلًا للمياه. ولأنه محظور في معظم البلدان، لا يمكن تصديره، أمر لا يعد ذي أهمية حين نعلم أن 97٪ من القات المنتج يُباع ويُستهلك محليًّا.
“تمت مناقشة استيراد القات من إثيوبيا”. قال العولقي: “بما أننا ندفع قد يُفضّل شراؤه من هناك حيث تتوافر المياه بكثرة”.
وفي الوقت نفسه، تشير المنظمات غير الحكومية ومجموعات الإغاثة الأخرى إلى أمر واضح: قد لا يكون الجلوس لساعات ومضغ أوراق الشجر الاستخدام الأكثر إنتاجية للوقت. كما أنه يستنزف الموارد المالية للأسرة، حيث ينفق الكثير من الناس أموالًا على تغذية عادة القات أكثر من إنفاقهم على إطعام أسرهم.
فشلت أغلب الجهود المبذولة للقضاء عليه. المجموعة الوحيدة التي أوشكت على النجاح كانت القاعدة في شبه الجزيرة العربية، الفرع اليمني للتنظيم الإرهابي، الذي فرض تفسيره المتشدد للإسلام على المناطق التي سيطر عليها عام 2016.
يصرّ أنصار القات على أنه لا يسبب الإدمان، على الأقل ليس أكثر من الشاي أو القهوة، وأنه في الواقع يحسن الإنتاجية عبر إبقاء المستخدمين يقظين ومركزين، ويعدونه نوعًا من البدائل العشبية للريتالين.
إلى جانب ذلك، هناك طقوس معينة للاستمتاع بالقات. إذ يجبرك على التمهل، ويولّد المضغ المستمر بصوت عال مزاجًا اجتراريًّا حرفيًّا. يبدأ كمنشط، ولكن الأثر يخف مع مرور الوقت ويلهم العديد من المستخدمين للانخراط في مناقشات أعمق من تلك التي قد تحدث في مقاهي العالم العربي.
لا يتفق الجميع على محاسنه. شخصية كبيرة مثل الراحل محمد محمود الزبيري، الشاعر والثوري اليمني الأبرز، كره القات، واصفًا إياه بالشيطان الذي “جعل الشعب اليمني يشتهيه، ويقاتل العناصر الغذائية القيمة لجسم الإنسان في بطونهم. ثم يجري في عروقهم مثل الشيطان، ويدخل جيوبهم لسرقة أموالهم”. كتب الزبيري ذلك عام 1958. لكنه اعترف أيضًا بحقيقة ما تزال ثابتة حتى يومنا هذا: “إنه الحاكم الأعلى لليمن”.
اليمن: في بلد يسوده المرض، بالكاد تُسجل أي حالات كورونا
بيث مكارنن | صحيفة الغارديان البريطانية | 27 نوفمبر 2020
في جناح بمستشفى عتق العام بمحافظة شبوة وسط اليمن، تستلقي منى بسام البالغة من العمر ستة أشهر على ظهرها وعيناها مغمضتان، تجاهد لتتنفس وبطنها المنتفخ يتحرك صعودًا وهبوطًا. في الممر خارج غرفتها، يُظهر ملصق صور عدة أطفال قبل وبعد إدخالهم إلى الجناح والتعافي من سوء التغذية الحاد، ما زالوا نحيفين بشكل مؤلم، لكنهم مبتسمون ويقظون.
عائلة منى نقلتها إلى المستشفى مرة من قبل. ولأنهم قلقون بشأن قدرتهم على دفع تكاليف العلاج والوقود للعودة إلى القرية، تزداد تضرعاتهم من أجل شفائها هذه المرة.
“أنا وزوجتي كان لدينا 20 طفلًا”. قال جد الطفلة، عبد الله، “مات 11 منهم، ولكن ذلك كان منذ فترة طويلة، ولا ينبغي أن يحدث هذا اليوم”.
في ركن آخر من المستشفى المكتظ، يعاني الأطفال من الكوليرا والخناق وحمى الضنك، وهي أمراض معدية غزت اليمن منذ اندلاع الحرب قبل ست سنوات. ولكن بين المرضى والأطباء هنا، وفي خضم ما تعدّه الأمم المتحدة أسوأ أزمة إنسانية في العالم، بالكاد تُسجل حالات فيروس كورونا.
“ليس لدينا جراح أعصاب، ولا عنبر ولادة. نعالج 20 طفلًا شهريًّا من سوء التغذية، والآن نستقبل المزيد من المصابين بأمراض خطيرة من مضاعفات حمى الضنك، أكثر من 3 آلاف حالة حتى الآن هذا العام، والمولّد لا يكفي لتشغيل المعدات دائمًا”. يقول الدكتور علي ناصر سعيد، مدير المستشفى: “فيروس كورونا ليس أكبر مشكلة نواجهها”.
تخضع شبوة -وهي محافظة غنية بالنفط تتنازع عليها الأطراف الثلاثة المتحاربة في اليمن- لسيطرة القوات الموالية للحكومة منذ الصيف الماضي. تعد المحافظة غنية ومستقرة نسبيًّا مقارنة بالمناطق الأخرى في البلاد، ما دفع اليمنيين النازحين بسبب القتال أو العمال المهاجرين الذين أرسلوا إلى بلادهم من السعودية إلى الاستقرار هنا.
ونتيجة لذلك، تضخم عدد سكان شبوة من 600 ألف إلى ما يقدر بنحو مليون نسمة، وبدأت مواقع البناء الخرسانية والكتل على مشارف عتق تتعدى على الرمال. كانت قوافل طريق الحرير تعبر الجبال المسطحة التي تعلو فوق سهول شبوة بحثًا عن اللبان. واليوم استُبدلت بأنابيب النفط وقوافل الناقلات.
استثمر محافظ شبوة المعيّن عام 2018، محمد صالح بن عديو، الملايين في تعزيز قوات الأمن المحلية ومشاريع البنية التحتية لمحاولة جذب شركات النفط الأجنبية للعودة إلى المنطقة. لكن القتال بين التحالف السعودي المدعوم من الغرب والمتمردين الحوثيين المدعومين من إيران والحركة الانفصالية التي تسعى إلى تجديد الاستقلال لجنوب اليمن لا يظهر أي علامة على نهاية قريبة. ولا يزال تنظيم القاعدة يتربص في الصحراء.
مجاعة تلوح في الأفق
بالنسبة لليمنيين العاديين، لا يمكن التخفيف من تأثير الحرب حتى الآن. فقدت العملة، الريال، ثلثي قيمتها منذ بدء الصراع ولا تزال تتراجع، ما يجعل تأمين الطعام أكثر صعوبة. يعني ارتفاع أسعار المواد الغذائية، إلى جانب التخفيضات المدمرة في المساعدات، أن احتمال انتشار المجاعة على نطاق واسع يلوح في الأفق مرة أخرى.
أظهرت دراسة أجرتها وكالات الأمم المتحدة ارتفاع حالات سوء التغذية الحاد في جنوب اليمن، بما في ذلك شبوة، بنسبة 10٪ هذا العام و15٪ بين الأطفال دون سن الخامسة.
في ساحة سوق عتق، الجميع يبيعون ولكن لا أحد يشتري. بحلول الساعة 11 صباحًا، يجلس تجار العسل والرعاة كئيبين في انتظار إجراء أول بيع في اليوم.
في محل قريب لبيع زيت السمسم، يشعر المالك خالد باليأس. يقول: “حتى لو عملت الكهرباء، فقد نفد مني المال لدفع ثمنها”.
دُمرت نصف مرافق الرعاية الصحية في البلاد، وتُوفي مئات الأطباء أو فروا من البلاد، وغالبًا لا تُدفع رواتب القطاع العام، ما يضع ضغوطًا مستدامة على المستشفيات والعيادات المتبقية.
في بداية عام 2020، حين بدأ فيروس كورونا في الانتشار من الصين وحول العالم، توقع العاملون في مجال الصحة ووكالات الإغاثة أن يكون تأثير الفيروس على السكان المعرضين للخطر في اليمن كارثيًّا، وتوقعوا معدل إصابة بنسبة 90٪. ومع ذلك، ورغم المصاعب الأخرى، يبدو أن الدولة التي مزقتها الحرب قد خرجت سالمة نسبيًّا من الوباء، حيث أُبلغ فقط عن 2124 إصابة و611 حالة وفاة حتى الآن.
تأثير كورونا “يصعب تحديده”
مرافق الفحص والبيانات الشاملة معدومة تقريبًا، لذا من غير المرجح أن تعكس الإحصاءات الرسمية التأثير الحقيقي لفيروس كورونا. لكن وفقًا للعديد من الأطباء ومسؤولي الرعاية الصحية، في شبوة على الأقل، لا يعد الفيروس مصدر قلق مُلح.
لم يستقبل المركز الجديد للاختبار والعلاج والحجر الصحي لحالات كورونا على حافة مدينة عتق، والذي يُعد أفضل منشأة في البلاد، مريضًا واحدًا منذ أغسطس. ويتجول موظفون يرتدون معدات واقية من الرأس إلى أخمص القدمين حول آلات الاختبار الحديثة، يقومون بتطهير الأسطح دون تركيز بسبب غياب أي عمل أفضل للقيام به، أثناء زيارة مجموعة من الصحفيين الأجانب.
وأجرى المركز قرابة 4 آلاف فحص حتى الآن، جاءت نتيجة 90 منها إيجابية فقط، وسجلت محافظة شبوة ككل 46 حالة وفاة.
عند سؤاله عن سبب كون عدد حالات كورونا في اليمن أقل بكثير من أي مكان آخر، رغم غياب التباعد الاجتماعي وإجراءات النظافة الإضافية، قال مدير المركز الدكتور هشام سعيد، إن “الروح المعنوية العالية” والنسبة العالية للشباب بين السكان حفظ اليمنيين في مأمن من فيروس كورونا. لكنه قلق أن وصمة العار المتزايدة المرتبطة بالمرض وصعوبة السفر تعني أن الذين يحتاجون إلى العلاج سيبقون في منازلهم فقط. يقول: “من الصعب جدًا تحديد التأثير”. “يعتقد الناس أنها حمى طبيعية. ويسألونني أحيانًا ما إذا كان فيروس كورونا مجرد كذبة كبيرة”.
يشير تحليل صور الأقمار الصناعية للمقابر في محافظة عدن الجنوبية، حيث يبدو أن تأثير كورونا كان الأكثر شدة، إلى خلاف ذلك. وجدت دراسة من كلية لندن للصحة والطب الاستوائي أن عدد المدافن الجديدة في المنطقة قد تضاعف تقريبًا منذ تأكيد أول حالة كورونا في أبريل، وكان هناك 2100 حالة وفاة زائدة، مقابل خط الأساس المتوقع بنحو 1300 بحلول نهاية سبتمبر.
وجد التحليل الذي أجرته مؤسسة ميدغلوبال الطبية الخيرية، والذي نُشر في يوليو، أن ما لا يقل عن 97 عامل رعاية صحية فقدوا حياتهم بسبب المرض، ما يشير إلى أن العدد الحقيقي لعدد الحالات وعدد الوفيات أعلى بكثير مما تم تسجيله. في الوقت الحالي، يبدو أن ذروة جائحة فيروس كورونا في اليمن، أو على الأقل الموجة الأولى، قد تراجعت، ما سمح للعاملين في مجال الرعاية الصحية بالتركيز على الأزمات الصحية الملحة الأخرى في البلاد.
أخذ المحافظ بن عديو توفير الرعاية الصحية لشبوة من أيدي الحكومة المركزية الضعيفة والمعزولة إلى حد كبير، حيث موّل معظم التكاليف التشغيلية في عتق وأنفق مليوني دولار على مستشفى جديد بالقرب من مركز كورونا.
بدأ العمل في الموقع عام 1994، لكن المرفق لم ينته أبدًا حيث جف التمويل أو اختلسه المسؤولون الفاسدون. استولى الحوثيون على المبنى الفارغ عام 2015 واستخدموه كقاعدة عسكرية، ما دفع التحالف الذي تقوده السعودية إلى قصفه.
بعد خمس سنوات تم إصلاحه بالكامل، ويقوم عمال البناء بتركيب أنظمة تكييف وإضاءة مركزية. ممرات فارغة تفوح منها رائحة الطلاء الجديد تنتظر المعدات الطبية التي وعدت جمعيات خيرية دولية مثل منظمة أطباء بلا حدود بالمساعدة في توفيرها.
من المفترض أن تحتوي المنشأة الجديدة 240 سريرًا، مقارنة بـ 140 سريرًا في عتق، وستضم أجنحة مخصصة للتوليد، وأمراض القلب والأمراض المعدية. ونظام المولّد الجديد القوي من شأنه تشغيل الكهرباء لمدة 24 ساعة في اليوم، ما يسمح للشاشات وأجهزة التهوية بالعمل دون انقطاع.
تأمل السلطات المحلية تشغيل المستشفى أوائل عام 2021، رغم أن العديد من العقبات لا تزال قائمة. لا ضمان لتأمين الموظفين المدربين تدريبًا جيدًا والمعدات العاملة وإمدادات الأدوية، حتى في أجزاء من البلاد مثل شبوة غير الخاضعة للحصار السعودي.
“فقدت طفلًا صغيرًا الأسبوع الماضي بسبب حمى الضنك لأنه لم يكن لدينا مضادات سموم. اتصلت بكل مستشفى في الجنوب لكنها لم تكن متوفرة”. يقول رئيس قسم الأطفال الدكتور صالح الخمسي “ربما كان يمكن أن يعيش، حتى لو انتهت الحرب، أشعر بالقلق لأننا فقدنا جيلًا كاملًا“.
أهلًا بكم في اليمن: ملاذ القاعدة السابق تبني منتجعًا شاطئيًّا على أمل جذب السياح رغم الحرب الأهلية
في خضم الصراع المستمر والأزمة الإنسانية، تشهد محافظة شبوة في جنوب اليمن طفرة صغيرة
ليلى مولانا آلن | صحيفة ديلي تلغراف البريطانية | 28 نوفمبر 2020
“لم أر سائحًا على هذا الشاطئ منذ أكثر من خمس سنوات!” يمد سعيد الخالدي يده بحماس وهو يهرع عبر الرمال البيضاء، وبدلته الرمادية تتلألأ تحت أشعة الشمس الحارقة. “حين سمعت، كان عليّ التأكد بنفسي”.
كان يتمنى الخالدي، 60 عامًا، رؤية السياح الأجانب على شواطئ بير علي، حيث يلتقي الطرف الشرقي لمحافظة شبوة اليمنية مع خليج عدن. تقوم شركته الهندسية ببناء منتجع يضم 65 فيلا على الشاطئ، وتهدف إلى إتمام المجمع بحلول نهاية العام المقبل، كل ما يحتاجه الآن هو السياح.
في خضم الصراع المستمر الذي تسبب فيما تسميه الأمم المتحدة أسوأ أزمة إنسانية في العالم، تشهد محافظة شبوة في جنوب اليمن طفرة صغيرة.
كانت معظم العقد الماضي ملاذًا للقاعدة، التي ازدهرت هنا في خضم فوضى الحرب الأهلية. اليوم، شوارع عاصمتها عتق مزدحمة والأسواق ممتلئة والمباني الجديدة ترتفع في كل زاوية. يقول نائب محافظ شبوة عبدربه هشله، الذي يشير بفخر إلى أن الزوار لا يواجهون سوى عدد قليل من نقاط التفتيش الأمنية هذه الأيام: “إن عتق التي تراها اليوم وعتق في الصيف الماضي هما مكانان مختلفان”. منذ 18 شهرًا، كما يقول، كان هناك العشرات من نقاط التفتيش التي تديرها مجموعات مختلفة.
تتناقض شبوة مع معظم اليمن، الذي لا يزال ممزقًا بسبب الحرب الأهلية التي اندلعت أواخر عام 2014، حين اقتحمت قوات الحوثي المتحالفة مع إيران من الشمال العاصمة صنعاء وطردت حكومة الرئيس عبدربه منصور هادي. ويقاتل تحالف تقوده السعودية، خصم إيران الإقليمي، لإعادة هادي إلى السلطة منذ ذلك الحين، ما أدى إلى نشوب صراع بالوكالة أودى بحياة أكثر من 100 ألف شخص وترك الملايين بلا مأوى ويتضورون جوعًا. في أثناء ذلك نقل الحوثيون الحرب إلى السعودية، وأطلقوا صواريخ على منشآت نفطية في المملكة، بما في ذلك هجوم على مصنع نفطي في مدينة جدة المطلة على البحر الأحمر.
مع عدم إظهار الجانبين أي علامة على الاستسلام، تتوقع وكالات الإغاثة أن اليمن سيكون أفقر دولة على هذا الكوكب بحلول عام 2022. انزلاق شبوة السابق إلى الفوضى كان حتى قبل الحرب الأهلية. في عام 2009، بدأت تصبح معقلًا للقاعدة في شبه الجزيرة العربية، والتي يعتبرها مسؤولو الأمن الغربيون واحدة من أخطر الفصائل الإرهابية. ومن بين قادة القاعدة في شبه الجزيرة العربية الذين لجأوا إلى وديان شبوة النائية الراحل أنور العولقي، والداعية الأمريكي اليمني الذي يُلقى باللوم عليه في إلهام المهاجمين المنفردين في الغرب، وإبراهيم العسيري محترف صنع القنابل الذي قام بتسليح عمر فاروق عبد المطلب، الطالب السابق في كلية لندن الجامعية الذي حاول تفجير نفسه في طائرة ركاب في الولايات المتحدة يوم عيد الميلاد عام 2009.
لدى الكثيرين هنا ذكريات قاتمة عن السنوات الأولى للحرب الأهلية، حين واجهت شبوة قتالًا عنيفًا مع كل من الحوثيين وتنظيم القاعدة في جزيرة العرب. تقول حنان، زوجة محافظ شبوة محمد صالح بن عديو، وهي تجلس مع أطفالها في مسكنها الخاص بمنزل الزوجين شديد الحراسة: “لم يبقَ في عتق سوى عدد قليل جدًا من العائلات خلال تلك الفترة، وغادر معظمهم حين استطاعوا”.
بدأ المد في التحول عام 2016، حين أشرفت حليفة السعودية في الحرب، الإمارات، على تشكيل قوة محلية جديدة، قوات النخبة الشبوانية.
كانوا أفضل تجهيزًا من الجيش اليمني، وكانوا يتلقون دعمًا جويًّا من الإماراتيين والولايات المتحدة، وتم تجنيدهم من سكان شبوة المحليين الذين يعرفون المنطقة جيدًا ولديهم روابط قبلية.
بعد فترة طويلة من الاشتباكات ورشاوى سرية، دُفع تنظيم القاعدة في جزيرة العرب مرة أخرى إلى محافظة أبين المجاورة، وفقًا لبعض التقارير.
يقول السكان المحليون إنها معركة لم يكن بإمكان الحكومة المركزية في اليمن، التي تقاتل قواتها على جبهات متعددة ويعيش رئيسها هادي في المنفى في الرياض، كسبها بمفردها.
في الواقع، وبينما يزال هادي مُعترفًا به دوليًّا كرئيس لليمن، إلا أن أمره بالكاد يسري. بعد طرده من صنعاء، أعادت إدارته تأسيس نفسها في العاصمة الجنوبية لليمن، عدن، ليتم طردها العام الماضي على يد فصيل مسلح آخر، المجلس الانتقالي الجنوبي، الذي يريد استقلال جنوب اليمن.
وقد سمح ذلك لمحافظ شبوة، بن عديو، الذي ما يزال مخلصًا لهادي، بالتفاوض على الشروط قليلًا. وقد أصر على ذهاب 20٪ من عائدات إنتاج النفط في شبوة مباشرة إلى المحافظة، ما يتيح له بعض الحكم الذاتي.
وقد استخدم مكتبه الأموال، كما يقول، لإعادة بناء الخدمات الحكومية، وتحسين الكهرباء في عتق، ومد أنابيب المياه إلى المناطق الريفية التي “لم تصلها قطرة منذ سنوات”، وفقًا لفريقه.
يقر بن عديو أن التهديد الإرهابي لم يتم القضاء عليه تمامًا، فقد انفجرت سيارة مفخخة في قافلة إماراتية خلال أسبوع زيارة “التلغراف”، لكنه يصر على أن سياسة عدم التسامح مع المسلحين تشكل رادعًا قويًّا. يقول: “حين تغيب الدولة، يمكن أن يحدث أي شيء، ولكن الآن بعد أن علموا أننا في حالة تأهب، لا يحاولون”.
يرى البعض أن شبوة خطوة نحو يمن موحّد وفيدرالي، حيث يمكن للمحافظات اتباع التقاليد المحلية والولاءات القبلية، والحفاظ على ولائها للحكومة المركزية والمساهمة في قوات جيش وطني.
لكن احتمالية حدوث اضطرابات ما تزال قائمة. العديد من السكان يشتبهون في أن أموال النفط إما تصب في جيوب المسؤولين المحليين أو تذهب بشكل غير متناسب إلى الحكومة المركزية، وهي مظالم طالما استخدمها كل من القاعدة والانفصاليين الجنوبيين.
من بين العديد من المشاريع الجارية، بناء طرق سريعة جديدة ومطار صغير، من المحتمل أن يمنح شبوة روابطها الخاصة بالعالم الأوسع، وجلب الزوار الأجانب الذين يأمل مجيئهم السيد الخالدي، باني المنتجع. اعتاد جنوب اليمن على وجود قطاع سياحي، يقدم خدماته جزئيًّا لعمال النفط الأجانب واليمنيين من الشمال والغربيين الحريصين على رؤية المدن القديمة مثل عدن. أضاف: “في الماضي كانوا يأتون إلى هنا من العديد من البلدان”، بصوت مليء بالحنين إلى الماضي “شبوة في سلام الآن، سوف يأتون مرة أخرى”. لكن تلك الأيام الخوالي كانت منذ ما يقرب من 20 عامًا. وطالما ظل الهدوء في شبوة هشًا، واستمرت الحرب في الاحتدام في أماكن أخرى، لن يتم حجز منتجعه الجديد في المستقبل القريب.
الرسو على شاطئ اليمن المشتعل
أكثر من مئة ألف إثيوبي يتم استدراجهم إلى السعودية في كل عام عبر وعود كاذبة مع انعدام لأفق عودتهم إلى الوطن. ما يجهله هؤلاء هو حقيقة أن طريقهم يمر عبر اليمن حيث تستعر الحرب.
أنطون كوشنيوس | صحيفة إن آر سي الهولندية | 24 فبراير 2021
من يعبر مركز محافظة شبوة التي تتوسط الجغرافيا اليمنية يراهم على جانب الطريق رتلًا متتاليًّا يحثون الخطى مرتدين نعالًا مكشوفة، إنهم مئات من الشباب الإثيوبيين بحقيبة على الظهر وقبعة وعبوة ماء في اليد. كانت قد رست بهم السفن على الشاطئ الجنوبي لليمن بعد قضائهم نصف يوم في عرض البحر قادمين من عقدة طرق الهجرة في ميناء بوصاصو في الصومال. وجهتهم القادمة هي مدينة عتق اليمنية على بعد 200 كيلومتر وتستغرق حوالي أسبوع. يخبرنا حسن محمد (18 عامًا): “تستغرق هذه الرحلة ستة أيام٬ ننام خلالها على جانب الطريق. ونتلقى أحيانًا بعض الطعام من يمنيين طيبين”.
يتحمل كثير من الإثيوبيين المشاق للوصول إلى السعودية بغرض الحصول على سبعة أضعاف أجرهم المعتاد. تقوم المنظمة الدولية للهجرة منذ العام 2006 بإحصاء أعداد المهاجرين الذين يحطون رحالهم على شواطئ اليمن. وبحسب الأرقام المقدمة من المنظمة فإن أعداد هؤلاء كانت قد بلغت ذروتها عام 2019 عندما وصل إلى اليمن 140 ألف شخص في حين قاربت في باقي السنوات 100 ألف شخص أو ما يزيد قليلًا. في العام 2020 تراجعت الأعداد كثيرًا بسبب جائحة كوفيد 19 لتصل إلى 37535 شخصًا، لكنها عادت مؤخرًا للارتفاع في ديسمبر ويناير المنصرمين.
تقول أوليفيا هيدون، الناطقة باسم المنظمة الدولية للهجرة في اليمن: “هؤلاء هم من اليافعين والشباب الذين يعملون في أنحاء مختلفة من إثيوبيا. يأتيهم أحد ما ليخبرهم أن بإمكانهم كسب المزيد من المال وبناء منزل جديد وتقديم المساعدة لأمهاتهم”.
لكن حتى يستطيع المرء الوصول من إثيوبيا إلى السعودية يتوجب عليه المرور عبر اليمن. وبحسب بحث أجرته المنظمة الدولية للهجرة فإن شخصين من كل ثلاثة من هؤلاء المهاجرين لا يعلم شيئًا عن الحرب الأهلية المستعرة في اليمن منذ ست سنوات. كما لا يدرك نصف هؤلاء أي شيء عن مخاطر السفر عبر البحر وانقلاب السفن أو إمكانية التعرض لهجوم مسلح من الجو.
الانطلاق:
التحدي الأول الذي يواجهه المهاجر في رحلة كهذه هو المبلغ الذي يطلبه المهربون ثم يتبيّن لاحقًا أنه فقط للوصول إلى الصومال، كما يؤكد لنا حسن محمد الذي التقيناه في شوارع مدينة عتق حيث يعيش مئات الإثيوبيين. يقول محمد: “لم أكن أعلم أن ثمة حرب في اليمن. دفعت في البداية 15 ألف بير إثيوبي (325 يورو) ولكن عند الحدود الصومالية توجب علي دفع 18 ألف إضافية. هذا يعني أنه يتوجب عليك العمل هناك لتحصيل هذا المبلغ. بعض اليافعين يتعرضون للتهديد والضرب من قِبل المهربين. هذا يعني أنه يتوجب على عائلتك التي تركتها خلفك أن ترسل لك المبلغ”.
بدت هذه الرحلة عصيّة منذ بداية جائحة كوفيد 19. كان ينجح سابقًا شخصٌ واحدٌ من كل ثلاثة أشخاص في العبور إلى السعودية. الآن تبدو فرصة العبور معدومة عمليًّا. لم يعد مرحّبًا بالأجانب منذ بدء انتشار الفيروس في السعودية واليمن.
بدأ حرس الحدود اليمني منذ أبريل الماضي بالتعامل مع أفواج المهاجرين بالرصاص ما أدى لمقتل العشرات منهم على الشريط الحدودي الفاصل بين السعودية وشمال اليمن عند سوق الرقو. تم طرد عشرين ألف مهاجر كانوا يعيشون على الحدود، حيث زج بهم مباشرة في السجون السعودية. بحسب تقرير حديث لمنظمة العفو الدولية فإن آلاف الإثيوبيين عالقون في “ظروف جهنمية” داخل مراكز ترحيل لا ترحّلهم.
الانتظار:
ينتظر كثيرون في مدينة عتق الواقعة وسط البلاد والتي تعتبر مركزًا لتجمع المهاجرين على أمل ضئيل بإكمال رحلتهم. بعضهم بدأ عملًا كما هو حال محمد أكرم (23 عامًا)، يقول محمد الذي يعمل في التنظيف داخل أحد المشافي: “أعمل الآن حتى أستطيع جمع بعض المال لأكمل رحلتي”.
من توفر لديه بعض المال لجأ للإقامة في نُزُل مؤقت، كما في بلدة مستوطنة الصغيرة من نواحي عتق. يتنقل بضعة شبان جيئةً وذهابًا باستسلام بين جدران فضية تحيط بفسحة تتوسط المساكن. داخل الغرف التسع الفضية المحيطة ينظر آخرون بملل إلى شاشات هواتفهم.
أحمد عمر (29 عامًا) من مدينة وولو الإثيوبية كان في طريق عودته إلى السعودية حيث عمل هناك لمدة أربعة أعوام في معمل للسيراميك. يقول أحمد: “في العام 2018 تم القبض علي في السعودية وترحيلي إلى إثيوبيا”. واجه 120 ألف إثيوبيًّا هذا المصير العام الماضي. ما زال أحمد ينتظر منذ عام في اليمن دون أن يستسلم. يقول مشيرًا إلى من حوله: “ننتظر ثغرة ما على الحدود بين اليمن والسعودية. لدي هناك وهناك بعض المال الذي يعيلني الآن ولكن آخرين كثر عادوا إلى إثيوبيا”.
في رحلة العودة يتوجب على المهاجرين أن يتجهوا أولًا إلى ميناء عدن. ثم سيكون أمامهم ست ساعات من الإبحار مقابل 350 ريالًا سعوديًّا. ميسجانا تاكبار (28 عامًا) يريد أيضًا العودة ولكنه مرغم الآن على الانتظار، يقول: “أعتقد أنني استسلمت الآن، لكني جئت من مكان يقع بين مدينتي أمهرة وتيجراي في إثيوبيا٬ حيث تستعر الآن حرب هناك. يجب علي الانتظار لنرى ما سيحصل”.
مولوغيتا ألفيرا (28 عامًا) قرر بشكل نهائي أن يصل إلى السعودية حيث عمل من قبل وما زال يحتفظ ببعض النقود من أجل محاولة أخرى للوصول إلى هناك. يقول مولوغيتا: “تم القبض عليّ مرتين في محافظة صعدة شمالي اليمن، آخرها كان الأسبوع الماضي عندما توجهنا نحو خيمة عليها إشارة اليونيسيف لكنها كانت فخًا في الحقيقة. قُبِضَ علينا ووضعنا مجددًا في سجن تحت الأرض تابع للحوثيين. يضعونك هناك مع ألف رجل آخر في الظلام ويقدمون لك الماء والخبز فقط في مكان قذر للغاية. هناك من يقبع في هذا المكان منذ عام حيث سيكون بالإمكان أن تشتري حريتك مجددًا مقابل ما يعادل قيمته 217 يورو. ثم تستأنف محاولاتك مجددًا للعبور إلى السعودية”.
يضيف مولوغيتا بإصرار: “في المرة الأولى استطعت الوصول إلى تخوم الحدود السعودية. في المرة الثانية وصلت حتى الحدود مباشرة. يجب أن تكون السعودية ممكنة في المحاولة الثالثة”.
مهربو البشر:
يرتهن مصير مولوغيتا ألفيرا باليمني أحمد الدابسي (30 عامًا) المؤجِّر صاحب السكن ذو اللون الفضي الذي يقيم فيه المنتظرون الإثيوبيون. أحدهم يراه وكيل سفريات والآخر يراه كمهرب بشر. دبسي الذي عمل سابقًا كسائق حافلة امتهن هذا العمل بعد رحيل أخيه جمال الذي فقد حياته في صراع مع مهرب منافس حول مجموعة من زبائنه المهاجرين.
لسنوات طويلة قام الدابسي بتأجير المساكن التسعة. الآن مع ركود السوق لديه مسكنين شاغرين. ينتظر اليوم أن يفتح له المتمردون الحوثيون الطريق. هؤلاء يسيطرون على الشمال اليوم ويعرقلون عمله. يقول الدابسي: “أرسلت مجموعة صغيرة لأرى إن كانت هناك ثغرة ما قد فُتحت”.
في الحزام العريض الذي يلف خصر الدابسي تجد إلى جانب محفظته الجلدية الأنيقة وخنجره اللامع خمس أجهزة آيفون يستخدمها لاتصالاته داخل اليمن وإثيوبيا وبلدان العبور، إثيوبيا وجيبوتي والصومال وقادة السفن. بحسب تقرير صدر عام 2019 عن مكتب بحوث الهجرة Meraki Labs فإن المهاجرين دفعوا ما يتراوح بين ألف يورو لرحلة سيرًا على الأقدام حتى 4 آلاف يورو لرحلة بوسائط نقل آلية إلى السعودية.
وكيل السفريات الدابسي يطلب أقل من 400 يورو لقاء الرحلة، لكنه لا يوضح تمامًا أي النقاط في الرحلة متضمنة هذا السعر. يقول: “في المعدل العام فإن شبكتي تتألف من 500 رجل. في كل أسبوع تبحر مزيد من القوارب التي تحمل ما بين 100-200 شخص. في أوقات الذروة عندما يكون البحر هادئًا يصل الرقم إلى ألف شخص في الأسبوع”.
لا يعتبر الدابسي نفسه مهرب بشر، بل يقول عن نفسه إنه يعمل في الشؤون الإنسانية قبل كل شيء: “أنا أعتني بشكل جيد بزبائني. يحصلون على الطعام والمأوى ولا يضطرون للمشي لأيام إلى جانب الطريق. يُعرَض عليّ الكثير من المال كي أبيع زبائني حتى يتم استغلالهم٬ لكنني لا أقبل مطلقًا. وأكون دائمًا مستعدًا للمساعدة عند حدوث طارئ ما معهم”.
المتحدثة باسم المنظمة الدولية للهجرة أوليفيا هيدون تضحك عندما تسمع هذا الكلام: “ما نسمعه هو شيء معاكس تمامًا. يعتاش المهربون على معاناة هؤلاء الشباب وبيعهم أوهامًا”. ولكن بحسب مولوغوتا ألفيرا قد يكون الوضع أسوأ بكثير. على وجه الخصوص ترتفع الخطورة بشدة في شمال اليمن لأولئك المنحدرين من أثنية الأورومو في إثيوبيا الذين يعبرون الطريق دون مرافقة لعدم قدرتهم على الدفع للمهربين: “هؤلاء لا يتوفر لديهم المال لتحرير أنفسهم في حال القبض عليهم. يُرسَلون للعمل في مزارع القات ويحصلون هناك على طعام شحيح وقليل من القات للمضغ. أو يتم إرسال الأقل حظًا منهم إلى جبهات القتال الأمامية ليكونوا لقمًا سائغة للنار والقذائف”.
الموتى:
على بعد كيلومترات قليلة من نُزل الدابسي تقع مقبرة نائية. ثمة تسعة شواهد قبور اثنان منها مطلية برسوم زرقاء. هنا يَدفِن الدابسي زبائنه الذين فشلوا في الوصول أحياءً. يقول إنه دفن سبعين زبونًا خلال السنوات الست المنصرمة.
على تخوم المقبرة يخاطب أحمد عيدروس (36 عامًا) الدابسي قائلًا: “انظر إلى نفسك اليوم، كنت قبل ست سنوات فقط سائق حافلة والآن أنت رجل غني”. يعمل عيدروس أيضًا مع المهاجرين الإثيوبيين ولكن مع فارق شاسع بين الحالتين. الدابسي ينقل الإثيوبيين بالسفن إلى اليمن ويوصلهم إلى السعودية. في حين يعمل عيدروس على إعادتهم إلى بلادهم عندما تفشل رحلتهم عبر منظمته المحلية غير الحكومية STEPS التي تهتم بالقاصرين على وجه التحديد والذين يشكلون ما نسبته 11٪ من أعداد المهاجرين. يحصل هؤلاء على قبعة بيضاء وعبوة ماء وشريحة هاتف مع رقم طوارئ. يضيف عيدروس: “نقوم بإرشاد هؤلاء وتوعيتهم لأن لا فكرة لديهم حول ما ينتظرهم في الطريق”. قامت STEPS حتى الآن بإعادة ثلاثة يافعين إلى وطنهم إثيوبيا.
بحسب الناطقة باسم المنظمة الدولية للهجرة فإن آلاف الإثيوبيين ينتظرون العودة إلى وطنهم. تقول هيدون: “جاء ممثلون عن الحكومة الإثيوبية إلى عدن في ديسمبر الماضي للتثبت من هوية آلاف المهاجرين وتسجيلها. ولكن أحدًا من هؤلاء لم يعد إلى وطنه حتى اللحظة”.
عسل الحرب في اليمن
لويس إمبرت | صحيفة لوموند الفرنسية | 10 ديسمبر 2020
على مدار المواسم، يتنقّل مربّو النحل اليمنيون من منطقةٍ إلى أخرى بحسب موسم الأزهار. لكنّ هذا الترحُّل، الذي لا بدّ منه كي يستطيع نحلُهم إنتاج ذلك الذهب السائل المشهور في جميع أنحاء الشرق الأوسط، تعرقله الحرب الأهلية التي تُغرق البلاد بالدم منذ عام 2015.
تصادفهم على الطرقات ليلًا، يقودون سيّارات بيك أب تحمل جبالًا من الصناديق الخشبية المربوطة إليها بإحكام. في اليمن الغارق بالحرب، لا أحد يسافر بقدر ما يفعل مربّو النحل. يهاجرون مع خلاياهم. يسعون وراء الزهور. يعبرون من مكان إلى آخر بينما يقتتل آخرون، وتمتلئ الطرق بنقاط التفتيش والقذائف التي تسقط بين حين وآخر. لا بد من القول إن اليمنيين لا يأخذون الأمور بخفّة عندما يتعلّق الأمر بالعسل. في هذا البلد الذي لا يعتمد إلا قليلًا على الصناعة، والمليء بالجبال المتعرّجة، يُعرَف هذا الذهب السائل بأنه أحد أفضل أنواع العسل في الشرق الأوسط، وحتى في العالم. لن نتورط، هنا، في تفاصيل الجدل اليمني حول المنطقة التي تُنتج أفضل الأنواع.
يعرف الجنود الموجودون على الحواجز الموزّعة على الطرقات أنّ بعض مربّي النحل يكسبون عيشًا مشرّفًا للغاية، لكنهم يدركون أنه لن يكون من المناسب إجبار هؤلاء الفلّاحين المتواضعين على دفع فدية.
يريد هذا الرجل، صغير القامة، المليء بالنشاط وروح الدعابة، لنحله أن يستطيع الخروج من هذه المنطقة وهذا الوادي الذي يخترق هضبة صخرية مهيبة، على بعد كيلومترات قليلة من عتق. وبما أنّ موسم الأزهار قد انتهى هنا، فإنّ عليه الانتقال بقفيره إلى مكان آخر. لكنّ “الأمور لا تجري كذلك”، كما يقول، متذمّرًا. القتال بين الجيش والمتمردين الحوثيين يحول دون اتّخاذ الطريق الذي يربط مأرب، المدينة القبلية الكبيرة في الشمال، بالجبال التي تحيط بالعاصمة صنعاء. وحتى تجّار القات، المعروفون بترحّلهم المستمرّ هم أيضًا، لم يستطيعوا المرور قبل ثلاثة أيام. وقد بات من المستحيل العثور على حزمة من هذه العشبة المنشّطة، ذات الخصائص المشابهة للكوكايين، التي تُزرع في مرتفعات الشمال، في مناطق المتمردين، والتي تُمضَغ طازجة، في كل مكّان في البلاد، يوم قطفها نفسِه.
ليس من الوارد، بالنسبة إلى سعيد العولقي، أن يركب سيّارته ويتّخذ الطريق دون أن يكون متأكّدًا تمامًا. لا يمكنه نقل نحله إلّا ليلًا، أثناء نومه. وإذا فوجئ بضوء النهار، ولم يكن قد أوثق النحل في مكانه، فقد يفرّ القفير هلِعًا. وإن أبقى النحل محبوسًا في صناديقه، فإن الحرارة قد تشكّل خطرًا كبيرًا على شهده. في فرنسا أيضًا، يخشى مربّو النحل، في إقليم بروفنس، من أن ينقطعوا من البنزين وهم ينقلون خلاياهم ليلًا من الجبال إلى حقول الخزامى، بحثًا عن أماكن تحوي أزهارًا. لذلك، يتابع سعيد العولقي حالة الجبهات عبر إحدى مجموعات “واتساب” العديدة. يعمل مربّو النحل بشكل فردي، ويتنقّلون في مجموعات من اثنين أو ثلاثة أشخاص، لكنهم يحتاجون إلى تبادل المعلومات مع الآخرين، لمعرفة مكان الأزهارٍ الجيد، وما إذا كان المطر قد تسبّب بفيضانات خطيرة في الوديان، ولمعرفة أفضل مكان للتجمّع، باعتبار أنّ النحل يتنقّل بين الخلايا. كما يخبر سعيد جيرانه عندما يقدّم السكّر أو الدواء إلى نحله: فهم إمّا أن يقرّوا التعامل معه والاستفادة من ذلك، أو أن يختاروا الابتعاد. في مجموعته الخاصة على “واتساب”، يثني سعيد العولقي زملاءه عن الانضمام إليه في منطقة يجتمع فيها الكثير منهم. ما يبحث عنه، في هذا اليوم، لنحله، هو العِنّاب، ذلك الشجر الشائك الذي يحمل ثمارًا تشبه التمر، لكن بلا نكهة وبملمس أكثر هشاشة.
“لو كنا ممّن يبقون ستة أشهر في المكان نفسه، لعرفنا طبيعة المكان وحالة النحل فيه. ولكن، بما أنّنا في حاجة دائمة إلى التنقّل، فإنّ الأمور تصبح أقلّ يقينية، إذ من الصعب تخمين ما يحتاج إليه”، يشرح فارع المسلمي، أحد مؤسّسي “مركز صنعاء”، وهو مركز أبحاث مستقل، كما أنّه يملك عددًا من خلايا النحل في وصاب (وسط). في الصيف، يستقرّ مربّو النحل في جبال إب وذمار والبيضاء. أمّا الشتاء، فيقضونه على الساحل الجنوبي بالقرب من موانئ عدن أو المكلّا أو بئر علي. وللعثور على مكان غير محصور بين منحدرين شديدين، وبعيد عن المواشي أو عن أراضٍ مرشوشة حديثًا بالمبيدات الحشرية، فإنّ على سعيد العولقي وعادل صالح صابر (28 عامًا) الذي يرافقه، أن يتحدثا لا مع السلطات، بل مع زعماء القبائل. “المسافرون مرحّب بهم، خصوصًا في الشمال، حيث لا تزال التقاليد القبلية قوية الحضور، والناس ليسوا عنصريين مع أهالي الجنوب”، يقول سعيد.
في جميع أنحاء اليمن، يغادر الرجال المدن، حيث تندر فرص العمل، ليجربّوا حظوظهم كمزارعين ومربّي نحل. “السوق مليء وليس لدى نحلنا ما يتغذّى عليه”.
لكنّ الحرب عقّدت هذه العلاقات. منذ بداية الصراع عام 2015، قاتل سعيد العولقي ضد المتمردين الحوثيين، الذين ينتمون إلى الشمال في الأصل، والذين فرضوا سيطرتهم على صنعاء. كانوا يتقدّمون باتجاه الجنوب ومسقط رأسه، الصعيد. ترك مربّي النحل كل شيء وراءه، عائلته وخلايا نحله، ليذهب إلى الجبهة. كان عبدالعزيز الجفري، وهو من الأشخاص الذين يلقون احترامًا في المنطقة، يقود مقاتلين من العشائر هناك، بمساعدة عناصر جهنّميّة: لواء من “تنظيم القاعدة في جزيرة العرب”، الفرع المحلي للتنظيم الجهادي الدولي الذي كان مسؤولًا عن هجوم شارلي إيبدو في باريس كانون الثاني/ يناير 2015. هناك، كان سعيد العولقي في أرض يعرفها جيّدًا. يدّعي أنه ظل طوال حياته مربّيَ نحل مسالمًا، باستثناء بضع سنوات قضاها في وظائف لا قيمة لها تُذكَر بالسعودية. لكنّ الذراع اليمنى لمحافظ شبوة، الذي يرافقنا في تجوالنا هذا في الريف، يروي قصة أخرى. قبل عشر سنوات من بدء الحرب، كان من الممكن أن يتم تجنيد سعيد العولقي من قِبَل “تنظيم القاعدة في جزيرة العرب”: بعد عام داخل التنظيم، كان سينتهي به المطاف لبضعة أشهر في السجن “بتهمة التطرّف”. الرجلان من القبيلة نفسها، وقد تعرّفا إلى بعضهما على الفور. صمتٌ قلقٌ من الجانبين… سعيد العولقي أصيب في القتال ضد الحوثيين، وبقي طريح الفراش لأسابيع طويلة.
“فقدت 300 نحلة ماتت بسبب غياب الرعاية. لقد استغرق الأمر عامين للنهوض من جديد”، يقول مستنكرًا “هذه الحروب التي لا معنى لها”. منذ ذلك الحين وهو يحاول تحديث عمله. هذا الرجل، الذي تعلّم المهنة عبر ممارستها مع عمّه، يبدي إعجابًا بخلايا النحل الأوروبية، ذات الإنتاجية الأكبر. يريد النهوض بجودة ما يُنتجه للوصول إلى مكانةٍ أفضل في سوق عتق الكبير، أحد أكبر الأسواق جنوب البلاد، وهي منطقة تنعم بسلام نسبي. مجال إنتاج العسل رخيص الثمن، الذي يعمل فيه سعيد العولقي، يشهد ازدحامًا. ففي جميع أنحاء اليمن، يغادر الرجال المدن، حيث تندر العمالة، ليعملوا كمزارعين ومربّي نحل. “السوق مليء وليس لدى نحلنا ما يتغذّى عليه”، يقول سعيد العولقي متذمّرًا.
وبحسب تجّار عتق، تراجعت الأسعار بمقدار الثلث منذ بدء الصراع. سعيد العولقي يبيع إنتاجه بسعر 200 ريال سعودي للكيلو (44 يورو). لكنْ يمكن للعسل ذي الجودة الأفضل أن يُصَدَّر إلى السعودية بسعر يصل إلى 130 يورو للكيلو: يا للذهب! في هذا اليوم من شهر تشرين الثاني/ نوفمبر، يقوم سعيد العولقي وعادل صالح صابر بحصادهما الثاني لهذا العام، بعد محصولي شباط/ فبراير وآذار/ مارس. واحدًا تلو الآخر، يفتحان صناديقهما الخشبية الصغيرة المكدّسة على حاملات، والتي يحفظانها بعيدًا عن الشمس تحت غطاء وبساط وحصيرة. يباعدان النحل بأغصان صغيرة يحملانها، ويدخّنان القفير بواسطة بساط ملتهب، وملفوف كعصا، مثل سيجار كبير.
يعمل الرجلان بلا وقاية تُذكَر. “لم تعد اللّسعات تسبّب انتفاخات على جِلدي. صار عندي مناعة”، يقول سعيد العولقي وهو يمدّ ذراعه المكشوفة. من جهته، يعوّل عادل صالح صابر على هذا الحصاد لتمويل زواجه. في غضون أشهر قليلة، سيتزوج امرأة من محافظة أبين المجاورة. سعيد العولقي لا يرى زوجته وأطفاله الخمسة سوى مرة واحدة في الشهر تقريبًا. يقول: “ذلك أفضل من العمل في السعودية”. في الليل، عندما يكونان وحيدَيْن تحت سماء أخّاذة، لا يتحدّث الصديقان إلّا عن السياسة. في بداية تشرين الثاني/ نوفمبر، تابعا عن كثب المعركة الانتخابية الأميركية. كان عادل صالح صابر يراهن على ترامب، أما سعيد العولقي، فقد كان سعيدًا لرؤية بايدن ينتصر.
رحلة إلى عمق الجحيم
لويس إمبرت | صحيفة لوموند الفرنسية| 15 يناير 2021
شظايا بلاستيكية تتثبّث بالقبور، ثمانية أكوام من الحجارة المليئة بأغصانٍ شائكة، وبعض كتل صخر الشست التي تحمل نقشًا هو عبارةٌ عن رشٍّ بخطوط من الطلاء الأزرق. هذه هي المقبرة التي حفرها أحمد الدابسي لـ«زبائنه» التعساء، أسفل هضبةٍ هائلة من الحجر الجيري، بعيدًا من الطريق الرئيسي الممتد طويلًا نحو ميناء عدن.
يُعدُّ الدابسي، البالغ من العمر 29 عامًا، مهربًا مهمًّا في محافظته الصحراوية شبوة، جنوب اليمن. ينقل أحمد كل عام آلاف المهاجرين القادمين من القرن الأفريقي إلى ميناء بوصاصو الصومالي. يعبرون من قارةٍ إلى أخرى عبر خليج عدن، ويحاولون عبور اليمن، الذي يشهد حربًا، من أجل الوصول إلى عدن المجاورة للسعودية.
سحب الدابسي من المشرحة والشرطة اليمنية ثماني جثث ليدفنها في مكان بعيد عن الأنظار. هم إثيوبيون مسيحيون من منطقة تيغراي وفقًا للمهرّب، الذي يزعم أنه حاول التعرف إليهم بواسطة زبائن آخرين. «لم أفعل ذلك من أجل المال، كما يصر على القول، ولكن حتى لا يفقدوا ثقتهم». في قريته “رَفَض”، يُعنى الدابسي بمقبرة أخرى أكبر بكثير.
وفقًا لإحصاءٍ جزئي أجرته منظمة الهجرة الدولية، سلك 139 ألف شخص هذا الطريق عام 2019، يأتي قرابة 90٪ من إثيوبيا، الدولة التي تعيش نزاعات إقليمية متعددة والمهددة بالتفكك. ولكن عام 2020 جف هذا التدفق تقريبًا، وانخفض عدد المسافرين إلى 37 ألف، كما أُغلقت الحدود ونقاط التفتيش بسبب جائحة كوفيد 19. السلطات المختلفة في اليمن، والمنخرطة في حربٍ أهلية منذ العام 2015، تتهم المهاجرين بجلب المرض معهم، ما يجعلهم مشتبهًا بهم ومستهدفين، مخدوعين، ومرتبكين، ينتظرون في ضواحي المدن الكبرى كعدن ومأرب وشبوة.
اللاجئون في المنافسة
ما يزال الكثيرون يأملون في المرور، بينما يتطلع البعض منهم للعودة إلى ديارهم. «إذا بقي بحوزتك قدرٌ كافٍ من المال، فاذهب إلى بلدك في إثيوبيا»، يقول متنهدًا أحمد عمر ذي التسعة والعشرين عامًا، والقادم من منطقة وولو في شمال شرق إثيوبيا. عاش أحمد على مدى الأشهر الثمانية الماضية في العديد من المخابئ في محافظة شبوة، وهو يحلم بدفع 75 يورو قيمة تذكرة من أجل العودة إلى جيبوتي، ثاني بلاد العبور على الساحل الأفريقي. هذا المعبر خطير، إذ غرق حوالي عشرين شخصًا نتيجة تحطم سفينتين كانت تقلهم نهاية عام 2020.
المساعدات الدولية في شبوة شبه غائبة، باستثناء تلك التي قدمها كلٌّ من المجلس الدنماركي للاجئين والمجلس النرويجي للاجئين، النَّشِطين في اليمن. «المنظمات الدولية تفتقر إلى الأموال اللازمة لمساعدة اليمنيين، وهناك مخصصات أقل للمهاجرين». تأسف أوليفيا هيدون، المتحدثة باسم منظمة الهجرة الدولية في صنعاء، والتي لم تقدم سوى فريق طبي واحد للطوارئ على الساحل.
رست إيمان، 22 عامًا، قبل شهرٍ على متن مركب صيد بعد 18 ساعة من العبور. كان على متن المركب 120 رجلًا وخمس نساء. كانت الليلة هادئة، دون وجود أي جندي في المشهد، فأقلّهم المهربون نحو اليابسة. أوائل 2020، غادرت إيمان منطقة هرر، المدينة الكبيرة شرقي إثيوبيا، مع مجموعةٍ من شباب الأورومو، الفلاحين الذين ليس أمامهم أيُّ مستقبل، والقلقين من العنف المحلي. كان أحد الموظِّفين قد وعدهم بأنهم سيكونون عمالًا منزليين أو مزارعين أو رعاةً في مملكة آل سعود.
على الجادة التي نلتقيهم فيها، في مدينة عتق، عاصمة المحافظة الضائعة في صحراء شبوة، هناك حوالي عشرة مهاجرين، ملتحمين بعد قرابة عامٍ من المعاناة. يقول هؤلاء إنهم وقعوا بأيدي مهربٍ «محتال» في الصومال بالقرب من لاس أنود. كان عليهم دفع ضعف المبالغ الأصلية التي دفعوها: 18 ألف بير إثيوبي (380 يورو) لاستعادة حريتهم. «ظل بعضنا سجناء لمدة ثلاثة أشهر قبل أن تدفع عائلاتنا المال»، يوضح إيمان، الشاب الذي عمل خمسة أشهر في ميناء بوصاصو لدفع ثمن عبوره إلى اليمن، البالغ أقل بقليل من 100 يورو. وأكد له مهربٌ آخر أنه بمجرد الوصول فإنّ المسير نحو السعودية (900 كيلو متر على الأقل) سيكون أمرًا هينًا… «معظمهم لا يعرفون حتى أنّ هنالك حرب مندلعة هنا، إنهم يعتقدون أنهم يرسون في السعودية»، يقول محمد برق، العامل في منظمة يمنية غير حكومية صغيرة تدعى خطوات، تساعد الأطفال النازلين من القوارب دون عائلاتهم.
قد يموتون، أنا أعرف ذلك، وهم يعرفونه، لكنهم لا يأبهون. هم يذهبون
سار إيمان وأصدقاؤه على الأقدام لمدة خمسة أيام، متجنبين رجال الشرطة الذين يختطفون المهاجرين ويسرقون الهواتف المحمولة. وتوسلوا إلى سائقي السيارات «الكرماء» للحصول على الماء والطعام، على حد قوله. منذ وصوله إلى بلدة عتق، يجول إيمان بالقرب من المطاعم التي تتصدّق عليه بتقديم وجبة طعام. ويُغامر بدخول «القرية الصومالية»، الواقعة في فوضى من الرمال والبيتون خلف المستشفى الذي يُعالج المهاجرين. الأفارقة كثيرون هناك: إنها خطوة على طريق الهجرة القديم هذا. هناك صوماليات يبعن الملابس لربات البيوت اليمنيات، منتقلاتٍ من باب بيتٍ إلى آخر. الرجال الصوماليون القدامى منهم هنا يعملون بالرعي وفي المزارع، في إطارٍ من المنافسة الشرسة مع اليمنيين الذين طردتهم الحرب من منازلهم، إذ يوجد 3.6 مليون نازحٍ داخل البلاد.
قام إيمان ورفاقه بإيواء النسوة الخمس اللواتي سافرن معهم في غرفةٍ معزولة، فمحالٌ أن ينمن في الشارع أو في المساجد. في الصباح، يتريثون قبل الذهاب لكسب ثلاثة قطع نقدية من غسل السيارات على الجادة. الأفارقة يحتشدون حول حديثنا بفضول. ويشكّ إيمان في أحدهم فيوشوش خائفًا: «هذا يتعامل مع مهربٍ من أولئك الذين يأخذون النساء إلى منازلهم ويطالبون بفدية. يجب ألا يعلم بأمرنا من أجل نسائنا».
السلطات اليمنية لا تهتم كثيرًا بهؤلاء الشباب، ففي وقتٍ مبكر من عام 2015 قام المتمردون الحوثيون بعد سيطرتهم على العاصمة صنعاء بغزو باقي المحافظات، ثم سيطرت ميليشيا قبلية ممولة من الإمارات على المنطقة. الدولة اليمنية لم تفرض نفسها هنا حتى صيف 2019، وظلت ضعيفةً تنشد الهدوء. لم ينسَ أحدٌ أنه في عام 2016 أوقف ضابط جيش شديد الحماس أكثر من ألفي مهاجر في سجن عتق المركزي دون رعايةٍ أو طعامٍ كافيَيْن، وكانوا يتمردون على ذلك. «ثمة الكثير من المهاجرين، ولا يوجد شيء يمكن القيام به»، كما يلخص الوضع سالم العولقي، الذراع اليمنى للمحافظ والمسؤول عن أمنه.
نظرًا إلى عدم وجود أشياء أفضل من ذلك، توصلت السلطات إلى اتفاق مع بعض المهربين لاحتواء المهاجرين خارج المدينة. أحمد الدابسي، الرجل الذي يملك مقبرتين، هو أحدهم، وهو يقدم لعملائه خدمةً «فاخرة» ويحلم أن يرى نفسه شخصيةً مرموقة. مقابل حوالي 500 يورو عن كل شخص، وعد الدابسي ورفاقه بأخذ زبائنهم من قريتهم في إثيوبيا إلى الحدود السعودية. قال لهم إنهم «قد يموتون». يتابع: «أنا أعرف ذلك، وهم يعرفونه. لكنهم لا يبالون، يذهبون. أنا أعاملهم أفضل من المهربين الآخرين. إذا تقطّعت بهم السبل على الطريق في اليمن فإن التكلفة على عاتقي. إنهم لا يدفعون لي إلا عند الوصول». ولكن في الواقع فإنّ الزبائن يدفعون العمولة للوسطاء.
هذا الرجل الصغير يحمل خمسة هواتف في جيوب جلدية معلقة على حزامه، أما مركز عمله فهو في “رَفَض”، في الجبال الساحرة. يتمتع قرويو هذه المنطقة بسمعة الخارجين عن القانون: في العام 2006 تورطت مجموعة قبلية محلية في اختطاف أربعة سياح فرنسيين، ووجد جهاديو القاعدة في المنطقة ملاذًا آمنًا حتى العام 2010.
بعد أن كان ضابطًا سابقًا في الجيش، ثم سائق حافلة، خلف أحمد الدابسي شقيقه الأكبر جمال الذي قُتل عام 2015 في معركةٍ من أجل مجموعة من المهاجرين. ومنذ إغلاق الطرق قبل عام بات عمله سيئًا، وبات مهربو المخدرات يتطلعون إلى عمله: «يعرضون نقل عملائي، لكني لا أريد أن أفقد وظيفتي».
مؤخرًا، اعتقل المتمردون الحوثيون في صنعاء سبعةً من المتعاونين مع الدابسي، وهم يواجهون مخاطر غرامة قدرها 7 آلاف يورو. يقول الدابسي: «منافسيّ الرئيسيون في صعدة (معقل المتمردين على الحدود مع السعودية)، وربما يكون الحوثيون قد قطعوا الطريق للاستيلاء على هذه التجارة».
المهاجرون المَفديّون
إنها حقيقة: المتمردون يستغلون الوباء لتقاضي فدية على المهاجرين المُحتجزين. منذ ربيع 2020، قاموا بحبسهم بشكلٍ ممنهج في صعدة، ثم نقلهم إلى مركز احتجاز في العاصمة. مولوجيتا أفيرا، أمهري من إقليم تيغراي الإثيوبي، يبلغ من العمر 28 عامًا، وأُطلق سراحه قبل أسبوع. هذه هي المرة الثانية في غضون أشهر قليلة التي يتم فيها احتجازه، وكان أبناء عمومته الذين وصلوا إلى السعودية يدفعون للحوثيين في كل مرة «كفالةً» بقيمة 220 يورو لإخراجه. يقول: «هناك البعض ينتظرون منذ عام الإفراج عنهم، ولا يملكون المال». سجن صنعاء، المُصمم لاستيعاب حوالي مائتي شخص، كان يؤوي ما لا يقل عن 640 محتجزًا في نهاية العام 2020، وفقًا لمراقب مستقل. ويؤكد الأخير أن «الحوثيين ينقلون المهاجرين إلى هناك على نحوٍ خطير، مستغلين الضرائب التي يفرضونها عليهم».
عندما أطلقوا سراحه، وضع المتمردون مولوجيتا أفيرا في مكانٍ مقفر بالقرب من تعز وسط البلاد، ثم عاد إلى مخبأ يديره أحمد الدابسي بالقرب من عتق. وتترتب على مولوجيتا أفيرا الديون، فمنذ مغادرته لبلاده كلفت هذه الأوديسة التي يعيشها عائلتَه المقيمة في السعودية 2200 يورو. أيضًا، فقد مولوجيتا حبَّه، وهي امرأةٌ شابة من الأورومو، كان التقى بها في عدن، غير أنّ أقاربها الذين رافقوها أخذوها معهم، مفسدين عليها بذلك أملها في الزواج.
تندر النساء في هذا الطريق المُكلف: إنهن بحاجة إلى حماة وسيارات ومخابئ. في منزل أحمد الدابسي، تيجيست البالغة من العمر 20 عامًا صغيرةُ الحجم وقوية ومليئة بالحيوية، تتقاسم الغرفة مع نساء أخريات منذ شهر، حيث يوجد بضعة أحواض مكدسة في زاوية المطبخ ومرآة فضية مثبتة على الحائط. لدى تيجيست في شرق إثيوبيا ابنةٌ عمرها 4 سنوات، وهذه المرة الثانية التي تتركها فيها. المرة الأولى كانت في سن السابعة عشرة، عندما كان الصغيرة سامرود ما تزال رضيعةً، حين سلكت تيجيست الطريق إلى الرياض مُحاوِلَةً الهروب من الفقر. لم تكن تعرف شيئًا حينها، وكانت خائفة. في السعودية، عملت خادمةً لعددٍ من “المدامات” السعوديات. قالت هذه الكلمة بالفرنسية قبل أن تضيف أنّ «البعض منهن دفع جيدًا، والبعض الآخر لم يدفع».
في ربيع عام 2019 توفيت أختُها الكبرى، فعادت تيجيست لدفنها وللزواج في البلاد «أمام أسرتها». زوجها إثيوبيٌّ التقته في المنفى، وبسرعةٍ كبيرةٍ أراد الزوجان المغادرة من جديد. كانت تيجيست واثقةً، فقد سبق لها أن عرفت الطريق، لكنهم علقوا ونفد المال الذي كان بحوزتهم. يبحث زوجها اليوم عن عمل في المدينة، «لكن لا يوجد الآن عملٌ على الإطلاق، ولا أعرف ماذا أفعل». لا تخرج تيجيست إلى الشارع، فهي تخشى من أن يجري بيعها، كما أنها قلقةٌ على شقيقها المقيم في السعودية، إذ لم تسمع عن أخباره منذ سبعة أشهر. لديها هاتف، ولكن نادرًا ما تملك المال لشراء رصيد لاستخدامه، وليس لديها فكرة عما يخبئه لها المستقبل. أفقها هو الساعتان القادمتان.
وعود حلوة المذاق للاقتصاد اليمني
نتحدث هنا عن تربية النحل٬ حيث يأتي أفضل وأغلى العسل في العالم من اليمن.
يتم جني العسل من قبل مربي النحل الذين يتحدّون جبهات القتال ويدفعون عجلة الاقتصاد اليمني إلى الأمام.
يقول أحدهم: “هذا العسل يشفي من كل مرض. حتى من الكورونا”.
أنتون كوتشينيوس |صحيفة إن أر سي الهولندية | 29 مارس 2021
أسواقٌ مزدحمة في مدينة عتق عاصمة محافظة شبوة جنوب اليمن. يتدافع الزبائن في الشوارع داخل المشهد المذهل للبيوت الطينية المتراصة التي تشتهر بها اليمن. يبدو الأمر وكأن لا وجود لفيروس كورونا هنا. على حافة الطريق يقف الباعة مع عسل صافٍ وأقراص عسل في عبوات مسطحة وعسل ذهبي في زجاجات ليتر واحد وعبوات ثقيلة من العسل الأصفر الفاتح.
يقف علي سلمان محمد (45 عامًا) في المكان، مرتديًّا سترة خضراء مموهة وقد غاب وجهه تحت غطاء رأس أزرق. يسمح محمد للزبائن بتذوق عسله ويدخل صحفي منا إصبعه في فوهة زجاجة ماء معاد استخدامها حتى يطفح العسل من حوافها، في حين يشرح محمد: “هذا عسل شجرة السدر. إذا تناولته بانتظام سوف تشفى من كل مرض”. يضيف المارّة أيضًا بمرح: “كل شيء يعني أن هذا يشمل الكورونا أيضًا”.
تدخل الحرب الأهلية اليمنية سنتها السابعة مع نهاية هذا الأسبوع. إذا أُتيح للمدافع أن تصمت، سوف يتمكن هذا البلد من العمل على مستقبله. المنظمات التنموية التي أُجليت عام 2015 تصدر من الخارج طوال ست سنوات تقارير عن قدرات اليمن الجديد. إلى جانب النفط والغاز والثروات السمكية وزراعة البن الفريد وفرص غير منتهية لجذب السياح، هناك أيضًا تربية النحل التي يحسب لها دور ثابت في المستقبل الاقتصادي لليمن.
يحصي برنامج الأمم المتحدة الإنمائي UNDP مئة ألف مربي نحل في اليمن وهذا العدد في نمو مستمر رغم الحرب والمحن. لدى علي سالم محمد ثمانون خلية، تنتج في المتوسط كل خلية منها من آب/أغسطس حتى كانون الأول/ ديسمبر، كيلوجرامًا من عسل شجر السدر. يشير محمد إلى صندوق التحميل في سيارته البيك-آب قائلًا: “هذا الصندوق يمتلئ بعبوات العسل التي تزن الواحدة منها سبعة كيلوغرامات. يمثّل هذا إنتاج عامين”. يبلغ ثمن كل عبوة من عسل شجرة السدر 180 ألف ريال، أي ما يعادل 225 يورو.
السدر الأفضل
تنتج كل من إيران والهند كميات أكبر من عسل السدر ولكن العسل اليمني يبقى الأكثر نقاءً. يقول مربو النحل إن أفضل شجر السدر هو ذاك الذي ينمو جنوب شبه الجزيرة العربية.
عندما تزهر أشجار السدر تأتي نحلات سالم يوسف (45 عامًا) من أجل الرحيق. تموز/يوليو هو شهر مهم، يفرغ يوسف خلاياه في هذا الشهر. يشرح ذلك لنا: “يزهر شجر السدر في هذه الفترة، ويجب أن نبقي عسل السدر نقيًّا قدر الإمكان. تتجه الخلايا التي أملكها في شهر آب/أغسطس إلى مكان لا يوجد فيه سوى شجر السدر في منطقة تسمى وادي جردان. الأشجار هناك متفرقة ولكن تتوفر فيها أفضل الخصائص”.
يسافر النحّالون اليمنيون ساعين وراء الأزهار مع حمولة كاملة من خلايا النحل في صناديق سياراتهم. يؤدي هذا في بعض الأحيان إلى تنقلات كبرى تبعًا لتعدد مناخات اليمن المحلية الجبلية أو المخضرّة. يسافر هؤلاء باتجاه المحافظات الجنوبية في الخريف من أجل عسل السدر المربح، أما في الربيع فيتجهون إلى تهامة التي تقع على الجهة المقابلة تمامًا من البلاد على البحر الأحمر ساعين وراء عسل السلم الذي تبلغ قيمة الكيلوجرام الواحد منه 40 يورو، أو أنهم يتجهون إلى المرتفعات الغربية من أجل العسل الجبلي وعسل المجرى. وفي كل محافظات اليمن وبعد هطول أمطار مفاجئة تنمو أزهار الأكاسيا التي يأتيها النحل ليصنع عسل السُمر ذو السعر الرخيص نسبيًّا والذي يبلغ 15 يورو للكيلو غرام الواحد.
ينتقل النحّال علي سالم محمد في كانون الثاني/ديسمبر باتجاه جنوب محافظة شبوة، ويشرح سبب ذلك بقوله: “تتفتح الأزهار إلى جوار الشريط الساحلي في هذه الفترة. نتجه نحو الشرق إذا هطلت الأمطار، وإلا سوف نبقى هنا أو نذهب إلى شُقرة في محافظة أبيَن المجاورة”. لا يبدو أنه يريد السفر أبعد من ذلك، يقول لنا: “لا يهاجمنا أحد، لكنك لن تضمن ألّا يراك أحد في وقت الحرب على أنك جندي ويطلق النار عليك”. سالم يوسف أيضًا لا يريد أن يبتعد أكثر عن منطقته شارحًا الموقف بقوله: “أنا لا أثق بهؤلاء الحوثيين” مشيرًا إلى المجموعة التي يتبع لها أحد أطراف الحرب. ثم يضيف: “لا أقترب حتى من محيط مدينة عزان في محافظتنا شبوة. هناك يتواجد الكثير من أتباع القاعدة”.
تخدير النحل
تنتصب سبعون خلية نحل يملكها النحّالان صالح صابر (28 عامًا) وسعيد العولقي (40) بين التلال خارج مدينة عتق. ينشغل صابر والعولقي باستخدام سكاكين مطبخ كبيرة لتقطيع أكياس الخيش التي سوف يحرقونها ليبعث الدخان المنبعث من لفائفها المشتعلة حالةً من الخدر بين النحلات. يسافر صابر والعولقي معًا إلى كل أرجاء البلاد ويتجهان صيفًا أيضًا إلى مدن إب وذمار وصنعاء الواقعة تحت سيطرة الحوثيين. يقول صابر الذي لم يتزوج بعد: “لا يرتبط أحد بوجودي أو يفتقدني. أنام بجانب الطريق عند السيارة”.
صاحبه العولقي الذي يفتقد زوجته وأولاده الخمسة يقول لنا: “أذهب شهريًّا إلى منزلي. هذا على كل حال أفضل من العمل في السعودية”. بحسب العولقي فإن الحرب تعقد مهنة تربية النحل. كان قد توجب عليه في العام 2015 المشاركة في طرد الحوثيين الذي هبطوا من المرتفعات لاحتلال شبوة. يخبرنا عن تجربته قائلًا: “لم أستطع العناية بنحلاتي في حينه؛ ما تسبب بموت الكثير منهم”.
استطاع بحث حديث أن يحصي 33 ميليشيا وجيشًا مختلفًا موجودًا في اليمن حاليًّا، ولكل منهم مناطقه ونقاط التفتيش الخاصة به. يقول العولقي: “نحن مرحّب بنا في كل مكان لأننا ننتج العسل اليمني. وبعض من حرس نقاط التفتيش يخافون النحل٬ لذلك دائمًا ما يتركونا نمضي قُدمًا في طريقنا. ولكن المشكلة أننا نسافر ليلًا عندما يكون النحل نائمًا، وإذا لم نبلغ وجهتنا قبل الفجر فإن النحل سوف يموت”.
هناك تضامن واسع بين النحّالين، فهم يتواصلون عبر مجموعة واتساب؛ ويبقون بعضهم على اطلاع بآخر الأخبار. يقول سالم يوسف: “أتواجد في مجموعتين في كل منها حوالي 200 عضو. نرسل لبعضنا الرسائل حول هطول الأمطار وحال الطرق ونقاط التفتيش المستحدثة وجبهات القتال الجديدة”.
بحسب برنامج الأمم المتحدة الإنمائي فإن قطاع تربية النحل يعدّ من الأهم والأكثر قيمة بين القطاعات الاقتصادية في اليمن، لكن الأمر لا يخلو من العقبات. يعيق هذا القطاع على سبيل المثال نقصٌ في استثمار المساحات بالإضافة إلى إمدادات الوقود غير المنتظمة في اليمن. هذا ما يؤكده لنا سالم محمد: “بسبب الحرب يتوفر لدينا القليل من المال من أجل شراء معدات جديدة. أحيانًا لا يتوفر وقود الديزل أو أن السعر يكون مرتفعًا جدًا بحيث لا يمكننا التنقل”.
أحد المشاكل الإضافية أيضًا هو انتشار استخدام المبيدات الحشرية في القطاع الزراعي؛ ما يجبر النحّالين على اللجوء إلى عمق المناطق غير المأهولة. وبسبب النقص الحاد في الغاز اللازم للطبخ فإن اليمنيين يلجأون لقطع الأشجار، الشيء الذي يدفع ثمنه النحالون. يتوجب بحسب منظمة الأمم المتحدة زراعة مليون شجرة في اليمن على المدى القصير من ضمنها الأكاسيا والسدر؛ لضمان مستقبل قطاع تربية النحل. يتحمس العولقي لهذا الطرح بشدة: “ليس لدي أي مشكلة في دفع الضرائب. هكذا سوف تتمكن الحكومة من زراعة الأشجار التي بالإمكان أن تطير إليها نحلاتنا”.
اختبار الجودة
المشكلة الأبرز هي غياب اختبارات الجودة والمصادقة التي لا يوجد لها نظام ما في اليمن. بعض من الغشاشين أو أولئك الذين أفقرتهم وجوعتهم الحرب، يعمدون إلى خلط عسلهم بآخر مستورد من كشمير أو أحيانًا بمادة السكّر. لهذا الفعل أثر كارثي على سمعة العسل اليمني. يقول علي فرج خميس (26 عامًا) الذي يعمل في دكان عسل بمدينة عتق: “يقرر النحّال نفسه إذا ما كان العسل جيدًا أم لا. باستخدام أعواد تنظيف الأسنان يتذوق النحّالون خلية تلو الأخرى كي يستطيعوا تقرير نقاء ومصدر منتوج العسل. يستطيع النحّالون أن يشتموا بأنفسهم نسبة السدر ونسبة السُمر في الخلية”.
ولكن لا يستطيع كل النحّالون ذلك. هناك كثير من حديثي العهد في قطاع تربية النحل والذين لا يفقهون شيئًا. ثمة طلب واسع على العسل، إلى جانب الندرة في فرص العمل ما خلا الخدمة في الجيوش. لهذا بدأ صلاح الحمصي (25 عامًا) أيضًا بتربية النحل: “لدي باص صغير لنقل الركاب ولكن هذا العمل لا يجني ما يكفي من المال. لدي أصدقاء نحّالون نصحوني بهذا العمل قائلين إنني أستطيع أن أكسب المزيد من المال من خلاله”.
بدأ الحمصي هذا العمل في آب الماضي ويتحرك فقط في محيط قريته. يقول لنا: “يجب أن أتعلم الكثير في البداية. لا أعلم على سبيل المثال كم من المسافة تستطيع نحلاتي أن تطير. لقد استثمرت ما يقرب من 600 يورو في الخلايا ومجمعات النحل وباقي المعدات. لدي خمسة عشر مجمّعًا الآن وأجني الآن أول محصول من عسل السدر. لدي شيء من خيبة الأمل في الحقيقة لأن الأمطار كان قليلة هذا العام ولم تزهر الأشجار بما يكفي. لحسن الحظ لا زلت أمتلك باص النقل في حال استمر عدم توفيقي في العمل الجديد”.
اليمن: من الصفحة 19 إلى الصفحة الرئيسية
قام المسيطرون على السلطة في اليمن بطرد كل الصحفيين الأجانب من البلاد. هناك رحلات صحفية إلى اليمن يتم تنظيمها سرًا بغرض إعادة البلد إلى نشرات الأخبار.
أنتون كوتشينيوس |صحيفة إن أر سي الهولندية | 4 يناير 2021
كانت والدة عبدالله المنصوري (33 عامًا) وشقيقه توفيق (35 عامًا) فخورةً عندما بدأ ولداها أولى خطواتهما في عالم الصحافة. جاء عبدالله من مدينة مأرب التي تبعد مسافة تسع ساعات في السيارة؛ ليخبرنا عن قصة شقيقه. كان يجلس في قاعة لمضغ القات في مدينة عتق، عاصمة محافظة شبوة، يتنهّد ويقول: “لقد أضحت أمي اليوم أقل فخرًا”.
هرب عبدالله وعائلته إلى مدينة مأرب عام 2016 في حين لا يزال شقيقه توفيق في العاصمة صنعاء على مسافة بضع جبهات قتال باتجاه الغرب، مرميًّا في أحد زنزانات الحوثيين الذين يحكمون الجزء الأهم من اليمن ولا يتسامحون مع أي خطاب مختلف. هؤلاء الحوثيون هم فئة من الشيعة الذين قام جيشهم بالسيطرة على اليمن عام 2014.
حدثت القصة بعد ثلاث سنوات من اندلاع الربيع العربي، الوقت الذهبي للصحفيين. تكفّل أصحاب السلطة الجدد بإنهاء هذا الوضع سريعًا كما يشرح عبدالله وهو يلوك قطعته من القات. يشكل القات منبهًا خفيفًا يمضغه اليمنيون مساءً عندما يجلسون للتحدث عن الأوضاع في القرية أو اليمن أو العالم. يقول عبدالله: “كان الخناق قد بدأ يضيق علينا، بدأنا بالاتفاق على اللقاء في الفنادق حيث تتوفر شبكات إنترنت لاسلكية جيدة. ما يتيح أيضًا أن تغادر المكان دون أن يقتفي أثرك أحد”.
في أحد الأيام السيئة وقع توفيق مع مجموعة أخرى من الصحفيين في قبضة الحوثيين. تم اتهامهم بنشر معلومات كاذبة والتآمر مع العدو، الذي هو في هذه الحال المملكة العربية السعودية. يقول عبدالله إنه لم يتمكن من رؤية أخيه منذ ذلك الوقت. ويضيف “نحن في حال بحث مستمرة لأنهم يغيرون مكانه باستمرار. لقد تمكن من الاتصال بنا مرة واحدة فقط، وكان وقع صوته يوحي بضعف. هو مصاب بعدة أمراض مزمنة تطورت في سجنه”.
ينتظر توفيق طوال خمس سنوات في زنزانة حوثية موعد تنفيذ حكم الإعدام الذي حصل عليه في وقت سابق. يقول عبدالله: “يفترض أن هذا حصل بعد ثلاث جلسات للمحكمة. لكن لا يعلم أحد شيئًا عن ذلك”. لا زال عبدالله يعمل كصحفي على الرغم من أنه ينفق الكثير من الوقت في محاولات إنقاذ أخيه. ثمة ثلاثة صحفيين آخرين يقبعون في زنزانات الإعدام كانوا قد قدموا تقارير لجهات إعلامية مختلفة حول انتهاكات لحقوق الإنسان يقوم بها الحوثيون.
في غضون ذلك، أُطلق سراح سبعة صحفيين قُبض عليهم مع هؤلاء في صفقة تبادل أسرى جرت بين الحوثيين والحكومة التي تحاربهم بعد مفاوضات برعاية الأمم المتحدة امتدت لعامين. يقول عبدالله: “لم يكن الصحفيون جزءًا من الصفقة في الأصل. ولكن الأمم المتحدة أجبرت الحوثيين على إطلاق سراح بعضهم. كان يحذونا الأمل بأن توفيق سيكون معه، ولكن أعيننا لم تُسعَد برؤيته يهبط سلم الطائرة حين ذاك”.
ميت أو مفقود أو هارب
بحسب الاتحاد الدولي للصحفيين فإن 44 صحفيًّا قُتلوا في اليمن وهناك عشرون آخرون لا زالوا مفقودين. كما هرب عدد غير محدد من الصحفيين أو أنهم توقفوا عن العمل.
تحتل اليمن المركز 167 من أصل 179 دولة على مؤشر حرية الصحافة في العالم. ضمن التقرير الأخير لمنظمة صحفيين بلا حدود، ورد أن صحفيًّا واحدًا قد قتل في اليمن العام الماضي، ربما لندرة عدد الصحفيين المتبقين في اليمن أصلًا. التضييق على الصحفيين موجود أيضًا في شرق وجنوب البلاد حيث لا زالت حكومة الرئيس هادي تسيطر وتدير البلاد هناك لكنها تحارب الانفصاليين الذين يطالبون باستقلال جنوب اليمن. المصور الصحفي عبدالله بكير يقبع في سجن محافظة حضرموت بعد أن غرد مستخدمًا صورة لعلبة مناديل عليها صورة للمحافظ الموالي للحكومة هناك.
يضطر الصحفي صالح مبارك حقروص (49 عامًا) من محافظة شبوة المجاورة، أن يكون شديد الحذر أثناء عمله. وذلك منذ رحل المحافظ المدعوم إماراتيًّا وحلّ مكانه بن عديو، العضو في حزب الإصلاح وهو الفرع اليمني من تنظيم الإخوان المسلمين. يقبع حقروص منذ أسابيع تحت الإقامة الجبرية، ويشرح لنا بشيء من الغضب: “تم استبدال جميع العاملين في وسائل الإعلام بآخرين ينتمون للتجمّع (إصلاح). يدير عمل هؤلاء شخص ليس لديه أي خبرة عمل صحفية سابقة، ولكن قُدمت له ثمانية أضعاف الميزانية السابقة. كل هذا بغرض مدح المحافظ”. ثم يضيف: “بحسب أصحاب السلطة الجدد فإن أجري المالي يأتي من الإمارات. ولكن هذا غير صحيح، أنا لا أناصر أحدًا ولا أقول رأيًّا، وأعمل في المجال الصحفي منذ عشرين عامًا”.
أخبار كاذبة ودعائية
يعتمد اليمنيون في غياب الصحافة المستقلة على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث تنتشر الأخبار الكاذبة والدعائية ويتعزز الاستقطاب ما يغذي بالتالي مناخًا سائدًا من عدم الثقة.
يقول فارع المسلمي (30 عامًا)، رئيس مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية: “تم ضخ الكثير من المال الخارجي في البلاد بغرض نقل صورة مختلفة. قبل الحرب كان ثمة كثير من اليمنيين يشاهدون الأخبار المحلية بينما لا يشاهد أحدٌ اليوم البرامج الإخبارية المختلفة. يدرك الناس ما يحدث وما يمثله الدمية هادي ومقدار سوء الحوثيين. لكنهم فقدوا الأمل. أنا أيضًا لا أعلم من يستطيع انتشال اليمن من هذا المستنقع”.
عند البحث عن مصادر إخبارية بديلة في بلدان أخرى أكثر حرية من اليمن يظهر جليًّا الضرر الذي ألحقه انقطاع اليمن عن الشبكة الدولية. كان هذا الانقطاع نتيجةً مباشرة لوضع الحوثيين يدهم على كل ربح تجنيه شركات الإنترنت حتى اضطرت هذه لوقف عملها. الصحفيون الأجانب غير مرحّب بهم في اليمن، يسمح لهم بدخول البلاد لفترة قصيرة مع اشتراطات وضمانات عالية. ثمة مصادر محلية لا تعلن عن هويتها تقدم قطعًا متفرقة من القصص لصحفيين مختصين بالشأن اليمني ويعملون من خارج البلاد، هكذا يستطيع هؤلاء بدورهم صياغة خبر أو قصة صحفية. هذا هو على سبيل المثال حال الصحفية ماغي ميشيل التي تعمل من مصر لصالح وكالة أسوشيتد برس، والتي حازت العام الماضي على جائزة بوليتزر عن عملها هذا.
هناك تقارير أخرى تأتي غالبًا من المنظمات الإنسانية، لكن هذه تبقى منحصرة في نطاق عمل هذه المنظمات المتمثل في أكبر كارثة إنسانية في العالم. يعلّق المسلمي على هذا بقوله “هذا يفسر وضع الخبر اليمني ضمن إطار المجاعة والمأساة، وكأن هذا هبط على البلاد من السماء أو أن زلزالًا أو فيضانًا قد تسبب بذلك. هذه الكارثة هي من صنع بشر. كثير من هؤلاء البشر هم من غير اليمنيين، أولئك الذين يرسلون الأسلحة ويشاركون في الحرب”.
أنشأ المسلمي مركز صنعاء بغرض توسعة وتعميق التقارير حول اليمن. يدير المركز خمسة عشر برنامجاً من داخل وخارج اليمن بدعم مالي سخي من السفارة الهولندية في اليمن. يقول المسلمي “يصنف الدعم الهولندي حلالًا في اليمن؛ تبدو كدولة حيادية على الرغم من تزويدها السعوديين بالأسلحة”.
العودة إلى الصفحات الرئيسية
عمل المسلمي في وقت سابق كمساعد للصحفيين. وهو اليوم ينظم رحلات صحفية لاثني عشر صحفيًّا غربيًّا إلى اليمن بغرض توفير تغطية صحفية لبلده. يقول عن ذلك: “من المريع هذا الحضور الضئيل لليمن في الصحافة، وفوق ذلك يتم هذا عبر من لم يزوروا اليمن يومًا. نحن نوفر لهم فرصة الزيارة ونضعهم على اتصال مع الجهات الصحيحة. عمليًّا هم يساعدوننا على تقديم السردية اليمنية إلى بقية العالم”.
آخر هذه الرحلات كانت إلى محافظة شبوة في تشرين الأول/نوفمبر الماضي. عمليًّا كان الصحفيون تحت حماية محافظ شبوة، وكانوا يغادرون مكان إقامتهم داخل سيارات تويوتا مصفحة رباعية الدفع، رفقة حرس مسلّح من أمام الموكب وخلفه. يقيّم المسلمي ذلك بقوله: “بالتأكيد هذا وضع غير مثالي، ولكن هذا ما هو متاح أمامنا”. ثم يضيف من القاهرة وأمارات التعب ما تزال بادية عليه “كانت الرحلة عبارة عن كابوس طويل يخص التنظيم وقلق كبير على سلامة الصحفيين الذين تواجدوا في منطقة قريبة من جبهات الحرب”، ولكن ذلك كله تكلل بالنجاح بحسب المسلمي “وصلنا إلى الصفحة الأولى في صحف لوموند الفرنسية والباييس الإسبانية ولوس أنجلس تايمز الأميركية. كانت هناك مقالات جميلة في دير شبيغل وتسايد الألمانيتين. عملي هو نقل اليمن من مربع صغير في آخر الصحيفة ووضعها على الصفحة الرئيسي، والأفضل أن يكون هذا عبر قصص المواطنين اليمنيين العاديين”.
مدينة عدن سوف تكون وجهة الرحلة الصحفية القادمة التي ينظمها المسلمي. يأتي تاليًّا بعد طول انتظار دور العاصمة صنعاء. يقول عن ذلك: “حصلنا على إذنٍ من الحوثيين. ولكن أيًّا من الحكومة اليمنية أو السعوديين لا يريد صحفيين أجانب في صنعاء. هم يعتقدون أن هؤلاء الصحفيين سوف ينقلون فقط الأضرار والدمار الذي تسبب به القصف السعودي. هذا خطأ، يجب السماح لهؤلاء الصحفيين وتركهم يقومون بجولات ويكتبون عن الحياة تحت سلطة الحوثيين”.
بالعودة إلى قاعة القات، لا يزال عبدالله المنصوري يجلس في المكان ينشر بإصرار رسائلًا ومناشدات حول أخيه الذي تستمر حالته الصحية بالتدهور. يقول لنا بأمل ضعيف: “حاله سيئة، يجب أن يذهب إلى المشفى وإلا فسيموت. هناك ضغط كبير من المؤسسات غير الحكومية من أجل الإفراج عنه، لكن يبدو أن الحوثيين يرون فيه هدفًا مناسبًا لطلب فدية مالية مقابل حريته”.
أصبح لدى الإخوان المسلمين دويلتهم
لدى محافظة شبوة ما ليس لدى غيرها، لديها ما يتوق إليه الجميع في البلد التي مزقتها الحرب، شيء من الهدوء والسلام.
أنتون كوتشينيوس |صحيفة إن أر سي الهولندية | 4 يناير 2021
سعيد العولقي، نحّال يبلغ من العمر 40 عامًا يقف إلى جانب سبعين خلية نحل يمتلكها على الطرف الجنوبي من مدينة عتق عاصمة محافظة شبوة. هذه المحافظة معروفة بعسلها الذي يعالج كل الأمراض. يضرب بيد عارية زنبورًا يحوم في المكان، وهو يخبرنا أن الحرب قاسية. كان قد ساهم عام 2015 في طرد المسلحين الحوثيين عندما هبطوا من الشمال يقصدون احتلال شبوة. يخبرنا “مات الكثير من نحلاتي في حينه لأنني لم أستطع الاهتمام بهم”.
يسافر الآن العولقي في أرجاء اليمن مصطحبًا نحلاته المتبقية قاصدًا مناطق تهطل الأمطار فيها وتنبت الزهور، ومن ضمن هذه مناطق تقع تحت سيطرة الحوثيين شمالي اليمن. لا يعاني العولقي من الحرب نفسها بقدر معاناته من التحقيقات الطويلة على نقاط التفتيش. يخبرنا قائلًا: “نحن مرحب بنا في كل مكان لأننا منتجون للعسل. ولكن المشكلة تكمن في أننا نسافر ليلًا عندما يكون النحل نائمًا. وإذا لم نصل وجهتنا قبل الصباح يموت النحل”.
تبلغ مساحة محافظة شبوة ما يساوي مساحة هولندا، يقطن فيها حوالي مليون نسمة وتقع تقريبًا وسط اليمن. لدى شبوة شيء من كل شيء في اليمن: شاطئ شبه استوائي في الجنوب، ومسطحات خضراء، وجبال خصبة في الداخل، ومنطقة شبه صحراوية قاحلة وواسعة في الشمال، ولكنها مليئة بالثروات المعدنية والنفط والغاز. فوق هذا وذاك فإن لدى شبوة شيء من الهدوء والأمان، مما لا تجده في باقي أرجاء اليمن.
شكلت شبوة في القرن الماضي جزءًا غير ذي أهمية من اليمن الجنوبي. ولكن المعايير تغيرت اليوم، فالاقتتال الذي يبدو بلا نهاية يمتد على كامل الجغرافيا اليمنية، ناهيك عن تسبب المملكة السعودية الجارة بنزوح قسري لليمنيين. والحال هذه فإن كثيرًا من اليمنيين يأتون إلى شبوة اليوم طلبًا لفرص العمل وبحثًا عن شيء من الأمان. يبدو النحّال العولقي سعيدًا بوضع مدينته وهو الداعم لمزيد من سيطرة الحكومة بطبيعة الحال، يقول لنا “ليس لدي أدنى مشكلة في أن أدفع المزيد من الضرائب للحكومة، سوف تستطيع الحكومة عندها مثلًا أن تزرع مزيدًا من الأشجار التي توسّع البيئة الطبيعية لنحلاتنا”.
يقول أنصار المحافظ محمد صالح بن عديو البالغ من العمر 45 عامًا أنّ الفضل يرجع إليه في إحياء محافظة شبوة. بن عديو بشاربه وبدلته خفيفة الزرقة يتحدث في مكتبه شديد الحراسة بصوت هادئ عن شق مزيد من الطرقات واستخراج مزيد من النفط وهزيمة الأعداء، ويقول “شبوة هي المحافظة الوحيدة في اليمن الخالية تمامًا من الميليشيات وشذاذ الآفاق، هنا تستطيع أن ترى اليمن المعافى”.
يتناوب موظفو بن عديو على سرد إنجازات إدارته خلال عامين بفضل النمو في عائدات النفط: ارتفاع في استطاعة الطاقة الكهربائية وزيادة في مسافات الطرقات المعبّدة وشبكة مياه الشرب الجديدة وعديد المستشفيات التي تم إصلاحها وتأهيلها. ثم عند الثانية عشرة ظهرًا يحين موعد الغداء وتمتد موائد طعام على الطريقة اليمنية حيث يأكلون على الأرض بسرعة باستخدام أيديهم اليمنى. ثم تبدأ فقرة يومية رئيسية هي مضغ القات لساعات والحديث عن الأوضاع الحالية.
ارتبط اسم اليمن في السنوات الماضية بالحرب والويلات والجوع والكوارث. شكّل هذا البلد لسنوات الأزمة الإنسانية الأكبر في العالم. ولكن بحسب بن عديو فإن هذا لا يشكّل صورة مكتملة الأركان. كان قد استبدل بدلته خفيفة الزرقة بالمعوز اليمني التقليدي واتكأ إلى جانب جيش مساعديه على الوسائد المنبسطة في قاعة مضغ القات. يقول إن الوضع في محافظته يشكّل مدعاةً للسرور فعلًا: “بالإمكان تعميم تجربتنا هنا على كامل الأراضي اليمنية”.
مخطط العمران والازدحام المروري
ملاحظاتنا الأولى عن المكان جاءت مطابقة لما قدمه بن عديو. مدينة عتق في طور التشكل كنقطة تقاطع على نحو لا تخطئه العين. تختنق الحركة المرورية يوميًّا في الشوارع الضيّقة المحاذية لأبنية المكاتب الجديدة والفنادق والمجمعات السكنية. نلاحظ نفس المخططات العمرانية على مسافة ثلاث ساعات من رحلة في السيارة باتجاه الجنوب، مرورًا عبر قرى صغيرة ترتفع فيها مساكن طينية عاليًّا إلى حيث تحوم حولها النسور.
ينشغل عمال الآجر الطيني ببناء منتجع شاطئ قنا، حيث تخوض طيور الكركي في مياه المد البحري. “لكل منزل حوض سباحة” يقول مدير المشروع هشام الحكيمي البالغ من العمر 49 عامًا، يضيف بفخر: “مع إطلالة على قلعة حِمْيَر” مشيرًا بيده باتجاه جبل أسود مهيب في مجال الرؤية. من هنا انطلقت منذ قرون طويلة قوافل السفن التجارية الرابحة باتجاه الشمال.
يستند سور المكان بثقله على معبد أثري تحت الجسر يبلغ من العمر ألفي عام، ويشكل وجهة محتملة جاذبة للسياح كجزء من التاريخ الغني لليمن الثري. يعترف الحكيمي “كان بالإمكان حمايته بشكل أفضل”. ثم يضيف “ولكن لا بأس، الأولوية الآن هي للأمن” ملمّحًا إلى تلك الأشهر الثلاثة من عام 2015 عندما أعلنت القاعدة دولة الخلافة في هذه المنطقة، في الوقت الذي انتشرت فيه سمعة شبوة على أنها وكر لصوص شديد التطرف على مسافة بعيدة من العاصمة صنعاء.
يبدو المشهد اليوم مختلفًا بعد مرور خمس سنوات. تُعرف شبوة اليوم كواحة هدوء نسبي في بلد مزقته الحرب. يسيطر الحوثيون على غرب اليمن، وهم طبقة من تلامذة الدين الهاشميين تم ربطها بإيران. يعمل مسلحوهم على استعادة الحكم الديني الذي سيطر على اليمن الشمالي لقرون عدة قبل العام 1962. الحوثيون الشيعة يريدون السيطرة على منابع النفط في اليمن، ولكن هذه تقع في القسم الجنوبي حيث السكان من أتباع المذهب السنّي الذين لا يؤيدون الحوثيين، وحيث تسيطر الحكومة التي طردت الحوثيين سابقًا من هذه المناطق.
يشل الانقسام الداخلي الحكومة التي تطارد الحوثيين والتي تتكون عمليًّا من سلطة متعددة الرؤوس، ويتبادل فيها حكام المقاطعات المراكز باستمرار. يظهر أيضًا بشكل جلي تأثير الرعاة الخارجيين على هذه الحكومة التي تتمتع باعتراف دولي. حمل تنصيب أحدث نسخ الحكومة الكثير من الرمزية منذ ثلاثة أسابيع في مدينة الرياض عاصمة السعودية، وبعده مباشرة وبأعجوبة نجا الوزراء الأربعة والعشرون من هجوم بالمتفجرات لحظة عودتهم إلى اليمن. لم يعلن أحد مسؤوليته عن الهجوم لكن أيّ من الفصائل قد تكون هي المسؤولة.
وقعت شبوة عام 2018 في يد فصيل (إصلاح) كجزء من لعبة المنافسة وتبادل الأدوار. هذا الفصيل هو الفرع اليمني لتنظيم الإخوان المسلمين، وهو الذي ينتمي إليه بن عديو محافظ شبوة. يسلك هذا الفصيل باضطراد منحى أكثر استقلالًا عن السعوديين. أوكل بن عديو إلى صديق قديم مهمة إعادة تأهيل المشفى الجديد. تقع عيادة محافظة شبوة الخاصة بمرض كوفيد 19 في القسم الذي تم الانتهاء من صيانته وتجهيزه. كل الأسرّة في العيادة فارغة تمامًا. سوف يجيبك أي من سكان شبوة عندما تسأله عن المرض أن كورونا قد مات.
الطبيب محمد عوض، البالغ من العمر 43 عامًا، لديه مزيد من التفاصيل عن ذلك. ولكنه منشغل تمامًا بفيروس أكثر انتشارًا ينقله البعوض وهو فيروس حمى الضنك. اصطحبنا الدكتور عوض في جولة بمستشفى عتق القديم. الممرات المكتظة لا تبشر بحالٍ جيد، لكن الدكتور يقول إن الوضع في تحسّن: “في الربيع الماضي بدأت جائحة حمى الضنك. لقد أرسلنا خطة احتواء إلى الحكومة المركزية لكن لم يصلنا أي رد”. يشرح الدكتور عوض أن المشفى توجه بعد ذلك إلى سلطات المحافظة، ويضيف: “لقد نجحنا في ذلك. جاءنا دعم مالي لمكافحة البعوض وبدأ متطوعون بزيارة المنازل وتنظيف خزانات المياه من اليرقات والبيوض. هكذا نسيطر على انتشار حمى الضنك”.
علم الانفصاليين يرفرف
تبدو الأمور وكأنها تسير على نحو جيد مع المحافظ بن عديو في شبوة. لكن حتى في محافظته التي تنعم باستقرار نسبي ثمة فقدان للثقة.
كلما اتجهت جنوبًا سوف ترى مزيدًا من أعلام الانفصاليين. تستمر هناك المطالبة باستعادة دولة اليمن الجنوبي منذ ما قبل التدخل الحوثيين أو الإخوان المسلمين. جلب لنا الوفد الذي التقيناه من المجلس الانتقالي الجنوبي ملفًا كبيرًا لانتهاكات يومية لحقوق الإنسان ينسبونها لابن عديو.
تتنوع الشكاوى: من التسريحات التعسفية حتى التعذيب في سجون سرية وإعدامات في وضح النهار دون محاكمات عادلة. حمل الملف أيضًا شكوى إخلاء مكتب المجلس الانتقالي الجنوبي وإخفاء قائد الانفصاليين علي محسن السليماني، الذي يقول بديله عبدالله ناصر المرقدة: “على الرغم من أننا لا نشعر بالأمان لكننا رأينا أنه يتوجب علينا القدوم هنا وقول هذا كله”. ثم يستطرد زميله مهدي سليمان الخليفي قائلًا: “يتم منح العقود للأصدقاء والمعارف دون مناقصات مفتوحة. هذا طريق يقود إلى الفساد”.
شبوة هي محافظة بعيدة عن متناول الحوثيين مباشرة كما هو حال كل محافظات الجنوب اليمني. لكنها عالقة بين الحكومة (الشرعية) التي يهيمن عليها الإخوان المسلمين من جهة والانفصاليون الجنوبيون من جهة أخرى. هؤلاء الانفصاليون لديهم جيش شبه عسكري يُسمى قوات النخبة الشبوانية، تقوم دولة الإمارات بتمويله وتوجيهه وهو الخصم الأبرز للإخوان المسلمين (تجمع الإصلاح).
قاتل كلٌّ من الإخوان المسلمين والانفصاليين كتفًا إلى كتف عام 2015 ضد خصم أكبر هو جماعة الحوثيين. ثم انقلبوا على بعضهم وانتصر الانفصاليون بفضل الدعم الإماراتي واستعادت قواتهم شبه العسكرية الاستقرار بفظاظة ابتداءً من نهاية 2015. استمر الوضع هكذا حتى إعلان بن عديو عام 2018 محافظًا لشبوة وترسيخ سلطته بفضل الدعم القبلي له.
تتعثر الحكومة الجديدة مرة أخرى كما هو الحال غالبًا في دولة اليمن الفاشلة حيث تكون التحالفات المحلية هي معيار ملء الفراغ الإداري. تساهم التجاذبات الداخلية في إضعاف التأييد والمساندة. ويشتبك ضباط بن عديو بشكل أسبوعي مع الانفصاليين الذين يحكمون المحافظات المجاورة جنوبًا. كما يزحف الحوثيون مجددًا من الغرب البعيد. فيما تتراكم الكثير من الشؤون والقضايا دون حل.
يعاين المواطنون كل هذا بشكل مباشر. يأتي عبدالله الشريمي البالغ من العمر 41 عامًا من عسيلان شمال شبوة ليشكو أن دخان حقول النفط التي تعمل ليل نهار لا يفارق سماء قريته. ثمة سحابة سوداء شمال شبوة تخفي الأفق أغلب الوقت. يقول الشريمي: “أُصيب كثير من الناس بالسرطان وماتت كل أشجار البرتقال ولم تعد الطماطم تنمو هناك. لقد قمنا بشرح كل شيء لكننا لا نلقى دعمًا أو أذنًا صاغية ولا يتحرك أحد للتحقيق في ذلك”.
لا جدوى من هذه الشكوى بحسب أحمد صالح، مدرس الاقتصاد في جامعة النفط في مدينة عتق، البالغ من العمر 43 عامًا. ويرجع السبب في ذلك إلى أن أموال النفط هي من يغذي الصراع بين الإخوان المسلمين والانفصاليين في شبوة. يشرح صالح لنا قائلًا: “مضخات وأنابيب النفط وكل معدات صناعة استخراج النفط قديمة ورديئة. تلوث البيئة هنا هو مشكلة كبرى. لا يوجد أي عمليات صيانة لأن التوقف عن التصدير غير ممكن، هذا يعني توقف المداخيل الحكومية تمامًا”. ثم يختم بقوله: “لو سألتني سأجيبك أن انهيار الحكومة هنا يعني خراب كل شيء مجددًا”.
واحة سلام في اليمن يديرها الإخوان المسلمين
تنعم محافظة شبوة اليمنية بهدوء وسلام نسبيين يميزانها عن باقي مناطق البلاد. يدير حزب الإصلاح شؤون المحافظة. يمثل هذا الحزب الفرع اليمني لحركة الإخوان المسلمين.
يقول أحدهم: “هنا تستطيع أن ترى اليمن المعافى”. لمعاينة هذا عن قرب، يذهب الصحفي أنطون كوشنيوس في زيارة إلى اليمن.
أنتون كوتشينيوس |مجلة منديال الهولندية | 6 يناير 2021
سعيد العولقي، نحّال يبلغ من العمر 40 عامًا يقف إلى جانب سبعين خلية نحل يمتلكها على الطرف الجنوبي من مدينة عتق عاصمة محافظة شبوة. هذه المحافظة معروفة بعسلها الذي يعالج كل الأمراض. يضرب بيد عارية زنبورًا يحوم في المكان، وهو يخبرنا أن الحرب قاسية. كان قد ساهم عام 2015 في طرد المسلحين الحوثيين عندما هبطوا من الشمال يقصدون احتلال شبوة. يخبرنا “مات الكثير من نحلاتي في حينه لأنني لم أستطع الاهتمام بهم”.
يسافر الآن العولقي في أرجاء اليمن مصطحبًا نحلاته المتبقية قاصدًا مناطق تهطل الأمطار فيها وتنبت الزهور، ومن ضمن هذه مناطق تقع تحت سيطرة الحوثيين شمالي اليمن. لا يعاني العولقي من الحرب نفسها بقدر معاناته من التحقيقات الطويلة على نقاط التفتيش. يخبرنا قائلًا: “نحن مرحب بنا في كل مكان لأننا منتجون للعسل. ولكن المشكلة تكمن في أننا نسافر ليلًا عندما يكون النحل نائمًا. وإذا لم نصل وجهتنا قبل الصباح يموت النحل”.
تبلغ مساحة محافظة شبوة ما يساوي مساحة هولندا، يقطن فيها حوالي مليون نسمة وتقع تقريبًا وسط اليمن. لدى شبوة شيء من كل شيء في اليمن: شاطئ شبه استوائي في الجنوب، ومسطحات خضراء، وجبال خصبة في الداخل، ومنطقة شبه صحراوية قاحلة وواسعة في الشمال، ولكنها مليئة بالثروات المعدنية والنفط والغاز. فوق هذا وذاك فإن لدى شبوة شيء من الهدوء والأمان، مما لا تجده في باقي أرجاء اليمن: هدوء وسلام نسبيين.
ملاذ في أرض الويلات
شكلت شبوة في القرن الماضي جزءًا غير ذي أهمية من اليمن الجنوبي. ولكن المعايير تغيرت اليوم، فالاقتتال الذي يبدو بلا نهاية يمتد على كامل الجغرافيا اليمنية، ناهيك عن تسبب المملكة السعودية الجارة بنزوح قسري لليمنيين. والحال هذه فإن كثيرًا من اليمنيين يأتون إلى شبوة اليوم طلبًا لفرص العمل وبحثًا عن شيء من الأمان.
يبدو النحّال العولقي سعيدًا بوضع مدينته وهو الداعم لمزيد من سيطرة الحكومة بطبيعة الحال، يقول لنا “ليس لدي أدنى مشكلة في أن أدفع المزيد من الضرائب للحكومة، سوف تستطيع الحكومة عندها مثلًا أن تزرع مزيدًا من الأشجار التي توسّع البيئة الطبيعية لنحلاتنا”.
بضمانة من محافظ شبوة
شكل الذهاب إلى اليمن طوال سنوات خمس معضلةً صعبةً للصحفيين الغربيين. زار الصحفي أنطون كوشنيوس محافظة شبوة بدعوة من المحافظ برفقة بضع عشرات من الصحفيين الأوربيين والأميركيين الذين تم اختيارهم من قِبل مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية.
قام محافظ شبوة بحماية مجموعة الصحفيين هذه بطريقة قد تعيق الحصول على المعلومات ولكنها لا تمنعها. كانت المحادثات والوصول إلى المعلومة ممكنًا خلال رحلاتنا اليومية داخل عربات دفع رباعي مصفّحة يحيط بها مسلحون ينتشر مثلهم أيضًا في الشوارع التي تقطعها العربات. كما قام مركز صنعاء بجلب وتقديم شخصيات من قطاعات وتوجهات سياسية متنوعة إلى مبنى حيادي في مدينة عتق عاصمة المحافظة.
يقول أنصار المحافظ محمد صالح بن عديو البالغ من العمر 45 عامًا أنّ الفضل يرجع إليه في إحياء محافظة شبوة. بن عديو بشاربه وبدلته خفيفة الزرقة يتحدث في مكتبه شديد الحراسة بصوت هادئ عن شق مزيد من الطرقات واستخراج مزيد من النفط وهزيمة الأعداء، ويقول “شبوة هي المحافظة الوحيدة في اليمن الخالية تمامًا من الميليشيات وشذاذ الآفاق، هنا تستطيع أن ترى اليمن المعافى”.
يتناوب موظفو بن عديو على سرد إنجازات إدارته خلال عامين بفضل النمو في عائدات النفط: ارتفاع في استطاعة الطاقة الكهربائية وزيادة في مسافات الطرقات المعبّدة وشبكة مياه الشرب الجديدة وعديد المستشفيات التي تم إصلاحها وتأهيلها. ثم عند الثانية عشرة ظهرًا يحين موعد الغداء وتمتد موائد طعام على الطريقة اليمنية حيث يأكلون على الأرض بسرعة باستخدام أيديهم اليمنى. ثم تبدأ فقرة يومية رئيسية هي مضغ القات لساعات والحديث عن الأوضاع الحالية.
ارتبط اسم اليمن في السنوات الماضية بالحرب والويلات والجوع والكوارث. شكّل هذا البلد لسنوات الأزمة الإنسانية الأكبر في العالم. ولكن بحسب بن عديو فإن هذا لا يشكّل صورة مكتملة الأركان. كان قد استبدل بدلته خفيفة الزرقة بالمعوز اليمني التقليدي واتكأ إلى جانب جيش مساعديه على الوسائد المنبسطة في قاعة مضغ القات. يقول إن الوضع في محافظته يشكّل مدعاةً للسرور فعلًا: “بالإمكان تعميم تجربتنا هنا على كامل الأراضي اليمنية”.
مخطط العمران والازدحام المروري
ملاحظاتنا الأولى عن المكان جاءت مطابقة لما قدمه بن عديو. مدينة عتق في طور التشكل كنقطة تقاطع على نحو لا تخطئه العين. تختنق الحركة المرورية يوميًّا في الشوارع الضيّقة المحاذية لأبنية المكاتب الجديدة والفنادق والمجمعات السكنية. نلاحظ نفس المخططات العمرانية على مسافة ثلاث ساعات من رحلة في السيارة باتجاه الجنوب، مرورًا عبر قرى صغيرة ترتفع فيها مساكن طينية عاليًّا إلى حيث تحوم حولها النسور.
ينشغل عمال الآجر الطيني ببناء منتجع شاطئ قنا، حيث تخوض طيور الكركي في مياه المد البحري. “لكل منزل حوض سباحة” يقول مدير المشروع هشام الحكيمي البالغ من العمر 49 عامًا، يضيف بفخر: “مع إطلالة على قلعة حِمْيَر” مشيرًا بيده باتجاه جبل أسود مهيب في مجال الرؤية. من هنا انطلقت منذ قرون طويلة قوافل السفن التجارية الرابحة باتجاه الشمال، قبل أن يُخضِعَ البحّارة البرتغاليون والهولنديون البحار ويسيطرون على التجارة الدولية.
يستند سور المكان بثقله على معبد أثري تحت الجسر يبلغ من العمر ألفي عام، ويشكل وجهة محتملة جاذبة للسياح كجزء من التاريخ الغني لليمن الثري. يعترف الحكيمي “كان بالإمكان حمايته بشكل أفضل”. ثم يضيف “ولكن لا بأس، الأولوية الآن هي للأمن” ملمّحًا إلى تلك الأشهر الثلاثة من عام 2015 عندما أعلنت القاعدة دولة الخلافة في هذه المنطقة، في الوقت الذي انتشرت فيه سمعة شبوة على أنها وكر لصوص شديد التطرف على مسافة بعيدة من العاصمة صنعاء.
يبدو المشهد اليوم مختلفًا بعد مرور خمس سنوات. تُعرف شبوة اليوم كواحة هدوء نسبي في بلد مزقته الحرب. يسيطر الحوثيون على غرب اليمن، وهم طبقة من تلامذة الدين الهاشميين تم ربطها بإيران. يعمل مسلحوهم على استعادة الحكم الديني الذي سيطر على اليمن الشمالي لقرون عدة قبل العام 1962. الحوثيون الشيعة يريدون السيطرة على منابع النفط في اليمن، ولكن هذه تقع في القسم الجنوبي حيث السكان من أتباع المذهب السنّي الذين لا يؤيدون الحوثيين، وحيث تسيطر الحكومة التي طردت الحوثيين سابقًا من هذه المناطق.
حكومة منقسمة
يشل الانقسام الداخلي الحكومة التي تطارد الحوثيين والتي تتكون عمليًّا من سلطة متعددة الرؤوس، ويتبادل فيها حكام المقاطعات المراكز باستمرار. يظهر أيضًا بشكل جلي تأثير الرعاة الخارجيين على هذه الحكومة التي تتمتع باعتراف دولي. حمل تنصيب أحدث نسخ الحكومة الكثير من الرمزية منذ ثلاثة أسابيع في مدينة الرياض عاصمة السعودية، وبعده مباشرة وبأعجوبة نجا الوزراء الأربعة والعشرون من هجوم بالمتفجرات لحظة عودتهم إلى اليمن. لم يعلن أحد مسؤوليته عن الهجوم لكن أيّ من الفصائل قد تكون هي المسؤولة.
وقعت شبوة عام 2018 في يد فصيل (إصلاح) كجزء من لعبة المنافسة وتبادل الأدوار. هذا الفصيل هو الفرع اليمني لتنظيم الإخوان المسلمين، وهو الذي ينتمي إليه بن عديو محافظ شبوة. يسلك هذا الفصيل باضطراد منحى أكثر استقلالًا عن السعوديين. أوكل بن عديو إلى صديق قديم مهمة إعادة تأهيل المشفى الجديد. تقع عيادة محافظة شبوة الخاصة بمرض كوفيد 19 في القسم الذي تم الانتهاء من صيانته وتجهيزه. كل الأسرّة في العيادة فارغة تمامًا. سوف يجيبك أي من سكان شبوة عندما تسأله عن المرض أن كورونا قد مات
الطبيب محمد عوض، البالغ من العمر 43 عامًا، لديه مزيد من التفاصيل عن ذلك. ولكنه منشغل تمامًا بفيروس أكثر انتشارًا ينقله البعوض وهو فيروس حمى الضنك. اصطحبنا الدكتور عوض في جولة بمستشفى عتق القديم. الممرات المكتظة لا تبشر بحالٍ جيد، لكن الدكتور يقول إن الوضع في تحسّن: “في الربيع الماضي بدأت جائحة حمى الضنك. لقد أرسلنا خطة احتواء إلى الحكومة المركزية لكن لم يصلنا أي رد”. يشرح الدكتور عوض أن المشفى توجه بعد ذلك إلى سلطات المحافظة، ويضيف: “لقد نجحنا في ذلك. جاءنا دعم مالي لمكافحة البعوض وبدأ متطوعون بزيارة المنازل وتنظيف خزانات المياه من اليرقات والبيوض. هكذا نسيطر على انتشار حمى الضنك”.
علم الانفصاليين
تبدو الأمور وكأنها تسير على نحو جيد مع المحافظ بن عديو في شبوة. لكن حتى في محافظته التي تنعم باستقرار نسبي ثمة فقدان للثقة.
كلما اتجهت جنوبًا سوف ترى مزيدًا من أعلام الانفصاليين. تستمر هناك المطالبة باستعادة دولة اليمن الجنوبي منذ ما قبل التدخل الحوثيين أو الإخوان المسلمين. جلب لنا الوفد الذي التقيناه من المجلس الانتقالي الجنوبي ملفًا كبيرًا لانتهاكات يومية لحقوق الإنسان ينسبونها لابن عديو.
تتنوع الشكاوى: من التسريحات التعسفية حتى التعذيب في سجون سرية وإعدامات في وضح النهار دون محاكمات عادلة. حمل الملف أيضًا شكوى إخلاء مكتب المجلس الانتقالي الجنوبي وإخفاء قائد الانفصاليين علي محسن السليماني، الذي يقول بديله عبدالله ناصر المرقدة: “على الرغم من أننا لا نشعر بالأمان لكننا رأينا أنه يتوجب علينا القدوم هنا وقول هذا كله”. ثم يستطرد زميله مهدي سليمان الخليفي قائلًا: “يتم منح العقود للأصدقاء والمعارف دون مناقصات مفتوحة. هذا طريق يقود إلى الفساد”.
شبوة هي محافظة بعيدة عن متناول الحوثيين مباشرة كما هو حال كل محافظات الجنوب اليمني. لكنها عالقة بين الحكومة (الشرعية) التي يهيمن عليها الإخوان المسلمين من جهة والانفصاليون الجنوبيون من جهة أخرى. هؤلاء الانفصاليون لديهم جيش شبه عسكري يُسمى قوات النخبة الشبوانية، تقوم دولة الإمارات بتمويله وتوجيهه وهو الخصم الأبرز للإخوان المسلمين (تجمع الإصلاح).
قاتل كلٌّ من الإخوان المسلمين والانفصاليين كتفًا إلى كتف عام 2015 ضد خصم أكبر هو جماعة الحوثيين. ثم انقلبوا على بعضهم وانتصر الانفصاليون بفضل الدعم الإماراتي واستعادت قواتهم شبه العسكرية الاستقرار بفظاظة ابتداءً من نهاية 2015.
استمر الوضع هكذا حتى إعلان بن عديو عام 2018 محافظًا لشبوة وترسيخ سلطته بفضل مؤيديه من القبائل[1]. اختار كثير من مقاتلي القبائل -مع غصّة في الحلق- العودة لانتمائهم القبلي والتخلي عن المال الإماراتي. يشرح بن عديو لنا بارتياح: “لا تبني الميليشيات بلادًا. لقد تغيرت أشياء منذ إمساكنا دفة القيادة هنا. ثمة أمان لأن الدولة قد عادت”.
قطاع صناعة النفط
تتعثر الحكومة الجديدة مرة أخرى كما هو الحال غالبًا في دولة اليمن الفاشلة حيث تكون التحالفات المحلية هي معيار ملء الفراغ الإداري. تساهم التجاذبات الداخلية في إضعاف التأييد والمساندة. ويشتبك ضباط بن عديو بشكل أسبوعي مع الانفصاليين الذين يحكمون المحافظات المجاورة جنوبًا. كما يزحف الحوثيون مجددًا من الغرب البعيد. فيما تتراكم الكثير من الشؤون والقضايا دون حل.
يواجه المواطنون عواقب كل هذا مباشرة. جاء حسين الهبيدي البالغ من العمر 40 عامًا من غرب شبوة لنقل شكواه. لقد طالب طوال خمس سنوات بتعويض عن مقتل أبيه وأخيه عن طريق الخطأ في قصف لطائرات حربية سعودية على شاحنتهما التي كانت تنقل البصل إلى سوق بيحان.
يعرض الهبيدي صورًا للحطام المعدني الذي خلفه القصف، ويقول: “لقد دفعت دون طائل رشوةً للعسكريين حتى أعطي أولوية لملفي، في الوقت الذي يتوجب عليّ فيه الآن إطعام عشرة أطفال وأنا بدون مصدر رزق”.
يأتي عبدالله الشريمي البالغ من العمر 41 عامًا من عسيلان شمال شبوة ليشكو أن دخان حقول النفط التي تعمل ليل نهار لا يفارق سماء قريته. ثمة سحابة سوداء شمال شبوة تخفي الأفق أغلب الوقت. يقول الشريمي: “أُصيب كثير من الناس بالسرطان وماتت كل أشجار البرتقال ولم تعد الطماطم تنمو هناك. لقد قمنا بشرح كل شيء لكننا لا نلقى دعمًا أو أذنًا صاغية ولا يتحرك أحد للتحقيق في ذلك”.
لا جدوى من هذه الشكوى بحسب أحمد صالح، مدرس الاقتصاد في جامعة النفط في مدينة عتق، البالغ من العمر 43 عامًا. ويرجع السبب في ذلك إلى أن أموال النفط هي من يغذي الصراع بين الإخوان المسلمين والانفصاليين في شبوة. يشرح صالح لنا قائلًا: “مضخات وأنابيب النفط وكل معدات صناعة استخراج النفط قديمة ورديئة. تلوث البيئة هنا هو مشكلة كبرى. لا يوجد أي عمليات صيانة لأن التوقف عن التصدير غير ممكن، هذا يعني توقف المداخيل الحكومية تمامًا”. ثم يختم بقوله: “لو سألتني سأجيبك أن انهيار الحكومة هنا يعني خراب كل شيء مجددًا”.
[1] اقرأ هنا لمعرفة المزيد عن القبائل في اليمن.
من ملف: محاولة اغتيال اليمن.
يستطيع قطاع تربية النحل دفع عجلة الاقتصاد قُدمًا أكثر من أي وقت مضى.
اليمن بين مرارة الحرب وحلاوة العسل
أنتون كوتشينيوس | مجلة منديال الهولندية | 28 آذار/مارس 2021
لا تزال الأخبار السيئة تنهمر من اليمن بعد انقضاء ست سنوات على الحرب والمجاعة. يتطلع اليمنيون اليوم إلى اللحظة التي تسكت فيها المدافع ويتمكن عندها منتجو العسل٬ الأغلى سعراً والأفضل جودةً في العالم كما يقال عنه٬ المساهمة في إنعاش الاقتصاد.
نحن الآن في تشرين الثاني/نوفمبر من العام 2020 أسواقٌ مزدحمة في مدينة عتق عاصمة محافظة شبوة جنوب اليمن. يتدافع الزبائن في الشوارع داخل المشهد المذهل للبيوت الطينية المتراصة التي تشتهر بها اليمن. يبدو الأمر وكأن لا وجود لفيروس كورونا هنا. على حافة الطريق يقف الباعة مع عسل صافٍ وأقراص عسل في عبوات مسطحة وعسل ذهبي في زجاجات ليتر واحد وعبوات ثقيلة من العسل الأصفر الفاتح.
يقف علي سلمان محمد (45 عامًا) في المكان، مرتديًّا سترة خضراء مموهة وقد غاب وجهه تحت غطاء رأس أزرق. يسمح محمد للزبائن بتذوق عسله ويدخل صحفي منا إصبعه في فوهة زجاجة ماء معاد استخدامها حتى يطفح العسل من حوافها، في حين يشرح محمد: “هذا عسل شجرة السدر. إذا تناولته بانتظام سوف تشفى من كل مرض”. يضيف المارّة أيضًا بمرح: “كل شيء يعني أن هذا يشمل الكورونا أيضًا”.
تدخل الحرب الأهلية اليمنية سنتها السابعة مع نهاية هذا الأسبوع. إذا أُتيح للمدافع أن تصمت، سوف يتمكن هذا البلد من العمل على مستقبله. المنظمات التنموية التي أُجليت عام 2015 تصدر من الخارج طوال ست سنوات تقارير عن قدرات اليمن الجديد. إلى جانب النفط والغاز والثروات السمكية وزراعة البن الفريد وفرص غير منتهية لجذب السياح، هناك أيضًا تربية النحل التي يحسب لها دور ثابت في المستقبل الاقتصادي لليمن.
مائة ألف نحّال
يحصي برنامج الأمم المتحدة الإنمائي UNDP مئة ألف مربي نحل في اليمن وهذا العدد في نمو مستمر رغم الحرب والمحن. لدى علي سالم محمد ثمانون خلية، تنتج في المتوسط كل خلية منها من آب/أغسطس حتى كانون الأول/ديسمبر، كيلوجرامًا من عسل شجر السدر. يشير محمد إلى صندوق التحميل في سيارته البيك-آب قائلًا: “هذا الصندوق يمتلئ بعبوات العسل التي تزن الواحدة منها سبعة كيلوغرامات. يمثّل هذا إنتاج عامين”. يبلغ ثمن كل عبوة من عسل شجرة السدر 180 ألف ريال، أي ما يعادل 225 يورو.
تنتج كل من إيران والهند كميات أكبر من عسل السدر ولكن العسل اليمني يبقى الأكثر نقاءً. يقول مربو النحل إن أفضل شجر السدر هو ذاك الذي ينمو جنوب شبه الجزيرة العربية.
عبر مناطق الحرب
يسافر النحّالون اليمنيون ساعين وراء الأزهار مع حمولة كاملة من خلايا النحل في صناديق سياراتهم. يؤدي هذا في بعض الأحيان إلى تنقلات كبرى تبعًا لتعدد مناخات اليمن المحلية الجبلية أو المخضرّة. يسافر هؤلاء باتجاه المحافظات الجنوبية في الخريف من أجل عسل السدر المربح، أما في الربيع فيتجهون إلى تهامة التي تقع على الجهة المقابلة تمامًا من البلاد على البحر الأحمر ساعين وراء عسل السلم الذي تبلغ قيمة الكيلوجرام الواحد منه 40 يورو، أو أنهم يتجهون إلى المرتفعات الغربية من أجل العسل الجبلي وعسل المجرى. وفي كل محافظات اليمن وبعد هطول أمطار مفاجئة تنمو أزهار الأكاسيا التي يأتيها النحل ليصنع عسل السُمر ذو السعر الرخيص نسبيًّا والذي يبلغ 15 يورو للكيلو غرام الواحد.
عندما تزهر أشجار السدر تأتي نحلات سالم يوسف (45 عامًا) من أجل الرحيق. تموز/يوليو هو شهر مهم، يفرغ يوسف خلاياه في هذا الشهر. يشرح ذلك لنا: “يزهر شجر السدر في هذه الفترة، ويجب أن نبقي عسل السدر نقيًّا قدر الإمكان. تتجه الخلايا التي أملكها في شهر آب/أغسطس إلى مكان لا يوجد فيه سوى شجر السدر في منطقة تسمى وادي جردان. الأشجار هناك متفرقة ولكن تتوفر فيها أفضل الخصائص”.
ينتقل النحّال علي سالم محمد في كانون الثاني/ديسمبر باتجاه جنوب محافظة شبوة، ويشرح سبب ذلك بقوله: “تتفتح الأزهار إلى جوار الشريط الساحلي في هذه الفترة. نتجه نحو الشرق إذا هطلت الأمطار، وإلا سوف نبقى هنا أو نذهب إلى شُقرة في محافظة أبيَن المجاورة”. لا يبدو أنه يريد السفر أبعد من ذلك، يقول لنا: “لا يهاجمنا أحد، لكنك لن تضمن ألّا يراك أحد في وقت الحرب على أنك جندي ويطلق النار عليك”. سالم يوسف أيضًا لا يريد أن يبتعد أكثر عن منطقته شارحًا الموقف بقوله: “أنا لا أثق بهؤلاء الحوثيين” مشيرًا إلى المجموعة التي يتبع لها أحد أطراف الحرب. ثم يضيف: “لا أقترب حتى من محيط مدينة عزان في محافظتنا شبوة. هناك يتواجد الكثير من أتباع القاعدة”.
مرحب بهم في كل مكان
تنتصب سبعون خلية نحل يملكها النحّالان صالح صابر (28 عامًا) وسعيد العولقي (40) بين التلال خارج مدينة عتق. ينشغل صابر والعولقي باستخدام سكاكين مطبخ كبيرة لتقطيع أكياس الخيش التي سوف يحرقونها ليبعث الدخان المنبعث من لفائفها المشتعلة حالةً من الخدر بين النحلات. يسافر صابر والعولقي معًا إلى كل أرجاء البلاد ويتجهان صيفًا أيضًا إلى مدن إب وذمار وصنعاء الواقعة تحت سيطرة الحوثيين. يقول صابر الذي لم يتزوج بعد: “لا يرتبط أحد بوجودي أو يفتقدني. أنام بجانب الطريق عند السيارة”.
صاحبه العولقي الذي يفتقد زوجته وأولاده الخمسة يقول لنا: “أذهب شهريًّا إلى منزلي. هذا على كل حال أفضل من العمل في السعودية”. بحسب العولقي فإن الحرب تعقد مهنة تربية النحل. كان قد توجب عليه في العام 2015 المشاركة في طرد الحوثيين الذي هبطوا من المرتفعات لاحتلال شبوة. يخبرنا عن تجربته قائلًا: “لم أستطع العناية بنحلاتي في حينه؛ ما تسبب بموت الكثير منهم”.
استطاع بحث حديث أن يحصي 33 ميليشيا وجيشًا مختلفًا موجودًا في اليمن حاليًّا، ولكل منهم مناطقه ونقاط التفتيش الخاصة به. يقول العولقي: “نحن مرحّب بنا في كل مكان لأننا ننتج العسل اليمني. وبعض من حرس نقاط التفتيش يخافون النحل٬ لذلك دائمًا ما يتركونا نمضي قُدمًا في طريقنا. ولكن المشكلة أننا نسافر ليلًا عندما يكون النحل نائمًا، وإذا لم نبلغ وجهتنا قبل الفجر فإن النحل سوف يموت”.
هناك تضامن واسع بين النحّالين، فهم يتواصلون عبر مجموعة واتساب؛ ويبقون بعضهم على اطلاع بآخر الأخبار. يقول سالم يوسف: “أتواجد في مجموعتين في كل منها حوالي 200 عضو. نرسل لبعضنا الرسائل حول هطول الأمطار وحال الطرق ونقاط التفتيش المستحدثة وجبهات القتال الجديدة”.
ارتفاع أسعار الوقود واستخدام المبيدات الحشرية وقلّة عدد الأشجار
بحسب برنامج الأمم المتحدة الإنمائي فإن قطاع تربية النحل يعدّ من الأهم والأكثر قيمة بين القطاعات الاقتصادية في اليمن، لكن الأمر لا يخلو من العقبات. يعيق هذا القطاع على سبيل المثال نقصٌ في استثمار المساحات بالإضافة إلى إمدادات الوقود غير المنتظمة في اليمن. هذا ما يؤكده لنا سالم محمد: “بسبب الحرب يتوفر لدينا القليل من المال من أجل شراء معدات جديدة. أحيانًا لا يتوفر وقود الديزل أو أن السعر يكون مرتفعًا جدًا بحيث لا يمكننا التنقل”.
أحد المشاكل الإضافية أيضًا هو انتشار استخدام المبيدات الحشرية في القطاع الزراعي؛ ما يجبر النحّالين على اللجوء إلى عمق المناطق غير المأهولة. وبسبب النقص الحاد في الغاز اللازم للطبخ فإن اليمنيين يلجأون لقطع الأشجار، الشيء الذي يدفع ثمنه النحالون. يتوجب بحسب منظمة الأمم المتحدة زراعة مليون شجرة في اليمن على المدى القصير من ضمنها الأكاسيا والسدر؛ لضمان مستقبل قطاع تربية النحل. يتحمس العولقي لهذا الطرح بشدة: “ليس لدي أي مشكلة في دفع الضرائب. هكذا سوف تتمكن الحكومة من زراعة الأشجار التي بالإمكان أن تطير إليها نحلاتنا”.
المشكلة الأبرز هي غياب اختبارات الجودة والمصادقة التي لا يوجد لها نظام ما في اليمن. بعض من الغشاشين أو أولئك الذين أفقرتهم وجوعتهم الحرب، يعمدون إلى خلط عسلهم بآخر مستورد من كشمير أو أحيانًا بمادة السكّر. لهذا الفعل أثر كارثي على سمعة العسل اليمني. يقول علي فرج خميس (26 عامًا) الذي يعمل في دكان عسل بمدينة عتق: “يقرر النحّال نفسه إذا ما كان العسل جيدًا أم لا. باستخدام أعواد تنظيف الأسنان يتذوق النحّالون خلية تلو الأخرى كي يستطيعوا تقرير نقاء ومصدر منتوج العسل. يستطيع النحّالون أن يشتموا بأنفسهم نسبة السدر ونسبة السُمر في الخلية”.
ولكن لا يستطيع كل النحّالون ذلك. هناك كثير من حديثي العهد في قطاع تربية النحل والذين لا يفقهون شيئًا. ثمة طلب واسع على العسل، إلى جانب الندرة في فرص العمل ما خلا الخدمة في الجيوش.
لهذا بدأ صلاح الحمصي (25 عامًا) أيضًا بتربية النحل: “لدي باص صغير لنقل الركاب ولكن هذا العمل لا يجني ما يكفي من المال. لدي أصدقاء نحّالون نصحوني بهذا العمل قائلين إنني أستطيع أن أكسب المزيد من المال من خلاله”.
بدأ الحمصي هذا العمل في آب الماضي ويتحرك فقط في محيط قريته. يقول لنا: “يجب أن أتعلم الكثير في البداية. لا أعلم على سبيل المثال كم من المسافة تستطيع نحلاتي أن تطير. لقد استثمرت ما يقرب من 600 يورو في الخلايا ومجمعات النحل وباقي المعدات. لدي خمسة عشر مجمّعًا الآن وأجني الآن أول محصول من عسل السدر. لدي شيء من خيبة الأمل في الحقيقة لأن الأمطار كان قليلة هذا العام ولم تزهر الأشجار بما يكفي. لحسن الحظ لا زلت أمتلك باص النقل في حال استمر عدم توفيقي في العمل الجديد”.
اليمن الجنوبي: التهافت على كنوز الغاز
لويس إمبرت | صحيفة لوموند الفرنسية | | 4 ديسمبر 2021
يخوض محمد صالح بن عديو، محافظ شبوة في جنوب اليمن، حربًا شخصية ضد دولة الإمارات العربية المتحدة. يقول إنها تتصرف كقوة استعمارية في بلاده. لا بد أن هذا الرجل يبحث عن حتفه. يقول معلم المدرسة السابق ذي الـ44 عامًا، وهو رجل قصير القامة وضعيف الصحة: “لقد توقفت عن إحصاء عدد المرات التي حاول فيها الإماراتيون اغتيالي”.
في صيف عام 2019، أرسلوا لي قناصين، ثم طائرات مسيّرة. وفي الأسبوع الماضي (أوائل نوفمبر 2020) زرعوا قنبلة جوار منزلي”.
لم يعد المحافظ بن عديو يغادر قصره في عتق عاصمة المحافظة. يعتني بنصف دزينة من صغار الغزلان التي تُرعى في مروجه، ويحضر مدرسًا لأطفاله الخمسة؛ لدرء أي خطر في طريقهم إلى المدرسة. حين فرضت الإمارات نفسها في الحرب التي دارت جنوب اليمن عام 2016، نفذت حملة اغتيالات استهدفت شخصيات من حزب بن عديو، حزب الإصلاح، الفرع اليمني لتنظيم الإخوان المسلمين، والذي تخوض الإمارات ضده حربًا لا هوادة فيها بالشرق الأوسط.
في شبوة، الأرض القبلية البائسة والغنية بالنفط والغاز، وجد بن عديو نفسه في معركة ضخمة، اختلطت مصالح التحالف السعودي الإماراتي الغارق منذ عام 2015 في مستنقع تدخله العسكري ضد تمرد جماعة الحوثيين المسلحة في اليمن. مصالح شركة توتال الفرنسية متعددة الجنسيات العاملة في مجال الطاقة، التي تدير منشأة للغاز الطبيعي المسال على الساحل في بلحاف منذ عام 2009؛ اختلطت مع المصالح الخاصة بالدولة اليمنية التي تريد أن تعتمد على غاز توتال بعد ما استُهلك في خمس سنوات من الحرب الأهلية.
يقول بن عديو: “لقد أرسلت الإمارات لي وسيطًا في أكتوبر. قدموا لي كل ما أريد: المال والدعم لمنطقتي… شرط أن أتوقف عن الحديث عن توتال”.
ليس للمحافظ إلا كلمة واحدة يكررها: أحلم بطرد الجيش الإماراتي من القاعدة التي أنشأها عام 2017 داخل المنشأة، الأمر الذي يثير استياء المالك الفرنسي. كان موقع الغاز هذا يوفر ما يصل إلى 45٪ من الإيرادات المالية لليمن قبل الحرب. وقد توقف منذ عام 2015. يلح بن عديو “أريد إعادة فتح بلحاف، أريد تصدير غازي ويكفي أن تترك الإمارات قاعدتها لمعاودة التصدير”.
لفك هذا اللغز، أذهب على طول الساحل الجنوبي الشرقي لليمن لرؤية منشأة بلحاف التي تقع نهاية طريق تكسوها الرمال والشجيرات الشائكة. تتربع منشأة توتال تحت الصخور البركانية السوداء المرتفعة وتختفي عن أعين الصيادين في ميناء بير علي الصغير المجاور. بناء هرمي من الألمنيوم والحديد الصلب، هو نقطة وصول الغاز المنتج في حقل مأرب (شمالًا) الذي تنتجه الشركة الوطنية للغاز. تولّت شركة توتال قيادة تحالف كوري أمريكي يمني، يمتلك الفرنسيون 39.6٪ من الأسهم لمدة عشرين عامًا. كّلف بناء المصنع 4.8 مليار دولار (4 مليارات يورو) عام 2009، لكنه الآن ليس أكثر من مولِّد كهرباء فاخر ينتج القليل من الكهرباء للقرى المجاورة، كوسيلة لشراء حماية قبائل المحلية.
نلتقي في طريقنا بالمهاجرين الإثيوبيين بتدفق منتظم يسيرون باتجاه السعودية، على بعد 900 كيلومتر إلى الشمال، حيث يحلمون بالعمل. ينزل بهم المهربون الصوماليون على الشواطئ مقابل حوالي مائة دولار، وغالبًا ما يحدث ذلك في الليل لتجنب دوريات الجيش. كثير منهم مندهش فلم يكلف أحد نفسه عناء إخبارهم أنه سيتعيّن عليهم عبور بلد في حالة حرب قبل الوصول إلى وجهتهم.
المرتزقة السودانيون
يتمركز الجيش الإماراتي عند المدخل الرئيسي لمنشأة بلحاف. استولى على هذا الجزء من الموقع منتصف 2017 بشكل قانوني عبر طلب رسمي من الحكومة اليمنية التي تعرضت لضغوط شديدة. حصّن الجيش الإماراتي الموقع بكتل صلبة من البيتون ملفوفة بشبكة من اللباد والأسلاك. يقف عناصر الميليشيات القبلية اليمنية والمرتزقة السودانيون في أبراج الحراسة يشاهدون الصقور تحوم في الآفاق. بينما نصب الجيش اليمني حواجز على الطريق الساحلي في أكشاك تحولت فيها صور الرئيس عبدربه منصور هادي إلى اللون الأبيض في الشمس.
بين هاتين القوتين المتعاديتين، الإماراتية واليمنية، السلام معلق بخيط رفيع. في ديسمبر/ كانون الأول انفجرت سيارة مفخخة في منطقة بلحاف أثناء مرور موكب إماراتي دون وقوع إصابات. لم يتبنّ تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية، الذي يتربص في المنطقة، أو أي تنظيم آخر المسؤولية عن الهجوم. جاء ذلك في اليوم التالي لوصول مجموعة من الصحفيين الأجانب كان يرافقها الجيش، بمن فيهم مبعوث صحيفة لوموند، في زيارة نظمها مركز صنعاء، وهو مركز أبحاث يمني مستقل. رفضت القوات الإماراتية فتح باب منشأة بلحاف، ما أثار حفيظة القنوات التلفزيونية التي تسيطر عليها جماعة الإخوان في اليمن. قالت الإمارات إن محافظ شبوة لم يخطرها بهذه الزيارة.
حين كانت المنشأة تعمل، أنزل الرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح -أُزيح من السلطة عام 2012 بعد ثلاثين عامًا من الحكم، ثم اُغتيل عام 2017- لواء من قوات النخبة، الحرس الجمهوري، في نفس المباني التي يحتلها الإماراتيون اليوم، عاد هؤلاء الجنود ليؤكدوا حق الرئيس صالح في استغلال تلك الثروة فيما مضى. صراعات البيكروكولين التي تحدث حول السياج هنا ليس لها أي دافع آخر فالحكومة اليمنية مقتنعة بأنها ما إن تسيطر على هذه القاعدة حتى تضع يدها على كنز توتال.
يؤكد بن عديو “حين تستأنف المنشأة عملها، أنتم الفرنسيون في شركة توتال ستدفعون لمن يملك الأرض. سواء أكان من المتمردين الحوثيين أم داعش أم الحكومة”.
يتابع المحافظ الأخبار الدولية، إنه على علم بمشاكل شركة الإسمنت الفرنسية لافارج في سوريا، التي سعت لإبقاء مصنع يعمل رغم الحرب. يشتبه القاضي الفرنسي في أن المصنع اشترى أمنه بين عامي 2011 و2015؛ من خلال دفع أموال للجماعات الإرهابية، بما في ذلك تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). لا يزال ثمانية أشخاص قيد التحقيق، بمن فيهم الرئيس التنفيذي السابق للمجموعة.
يود المحافظ بن عديو أن يجنّب توتال التعرض لمثل هذا المأزق في بلاده.
لديه حجة قوية على ذلك، منذ صيف 2019 اتخذت حكومته موطئ قدم في شرق اليمن، حيث تضمن الأمن نسبيًا. ليس لدى بن عديو أمل في استعادة العاصمة صنعاء، التي استولى عليها الحوثيون عام 2014. ومن المسلّم به أنه لم يأخذ الكثير من ميناء عدن الكبير، حيث سلحت الإمارات حركة استقلال قوية تقاتل لإحياء فكرة اليمن الجنوبي الذي اختفى مع سقوط الاتحاد السوفيتي عام 1990. مدفوعًا من “الدولة المفيدة”، الحكومة الآن محصورة في منطقة صحراوية شاسعة تمتد من مدينتي مأرب وسيئون في الشمال إلى شبوة. صحراء تحتوي على جميع موارد النفط والغاز اليمنية تقريبًا. هذا المعقل، بنته الحكومة بضربة حظ، في الوقت الذي كانت تخشى فيه أن تقوم الإمارات بالقضاء عليه.
دعونا نعود إلى موضوعنا: ففي صيف 2019، سيطر الجيش في عتق على قصر المحافظ والشارع الرئيسي في المدينة. خطان طويلان من مصابيح الشوارع يظهران في منتصف منطقة غارقة في الظلام.
إنه “زمن المستعمرة البريطانية”
يعيش مليون من سكان المحافظة تحت حماية ميليشيات “قوات النخبة الشبوانية” التي يبلغ عدد أفرادها 7 آلاف عنصر، تجهزها وتموّلها الإمارات منذ عام 2016. وبينما فشل التحالف بقيادة السعودية في صد الحوثيين شمالي البلاد، شكّل الإماراتيون من جانبهم إمبراطورية صغيرة على الساحل بعد أن طردوا الجهاديين من القاعدة. إنهم يتجاهلون الحكومة اليمنية التي تعتبرها وجماعة الإخوان المسلمين عديمة الفائدة وفاسدة. لقد أعادتنا الإمارات إلى زمن المستعمرة البريطانية 1937-1967. لقد تصرفوا تمامًا مثل الإنجليز، من خلال تأمين ولاء القبائل، وتجاهل الهياكل السياسية المحلية و الوطنية” يلخص العميد عزيز العتيقي، أحد القادة العسكريين في شبوة.
في المقابل: يقف عناصر من المليشيات القبلية اليمنية حراسًا عند مدخل موقع غاز بلحاف في 13 تشرين الثاني / نوفمبر.
يبدو أن جزءًا كبيرًا من السكان متصالحون مع الوضع. تقول هيام اللقموش، رئيسة جمعية نساء شبوة اليوم “كنّا نعيش في أمان، و قوات النخبة هم أبناء المنطقة، في صيف 2019، شعرت بالخوف حين سمعت أصوات القوارب قادمة من عدن. الخطر دائما يأتي من الغرب هنا”. منذ أواخر القرن التاسع عشر أصبح ميناء عدن الكبير أكثر قلقًا فبينما كانت العاصمة الشمالية، صنعاء، معزولة في الجبال. كانت عدن مقر المستعمرة البريطانية والحكومة الشيوعية (1967-1990)، التي قضت على الهياكل القبلية القديمة في جميع أنحاء الجنوب، ولكن ليس في شبوة. والمحافظ بن عديو خير مثال على ذلك: إنه زعيم قبلي، لا يتخذ سوى القرارات الكبرى في المجلس، محاطًا بمسؤولين أمنيين يختارهم من كل العائلات الكبرى في المحافظة، العولقي، الشريف، اللقموش…يذكر هؤلاء الرجال النضالات التي مزقت الجنوب في الثمانينيات، والتي خرج منها آباؤهم. خلال الحرب الأهلية اليمنية في التسعينيات، ذهبوا إلى حد التحالف مع صنعاء جميعهم اتحدوا ضد عدن.
عندما شنت الإمارات حملة في عدن عام 2015 لطرد الحوثيين، اعتمدت على المنافسين القدامى من قبائل شبوة المقاتلين الهاربين منذ عشرين عامًا في جبال الضالع (جنوب)، الذين سيطروا على الميناء الكبير، ثم على الحركة الانفصالية الجنوبية، والمجلس الانتقالي الجنوبي (CTS)، خشية جيرانهم.
ضربة الإمارات الأخيرة
قد تدعي العائلة المالكة في أبو ظبي أن لديها أسلاف يمنيون، وقد التزمت التزامًا أعمى تجاه هذا البلد، الذي لا تتقاسم معه أي حدود. لقد بحثت الإمارات عن منافذ النفوذ هناك، وأنشأت الميليشيات، ونحّت الرجال ذوي النفوذ جانبًا وراهنت على آخرين لم يكونوا شيئًا أو لم يكن لهم شأن قبل الحرب. واعتمدت هنا على الشاب هاني بن بريك الذي جاء من مدرسة دينية في السعودية لجعله القناة الرئيسية لتسليم السلاح. وهناك عملت مع رجل أعمال قوي مكروه في الجنوب، وهو أحمد العيسي. بعيدًا عن كسب القلوب والعقول، أثارت الاستياء ضدها، مثل عملاق يهز لعبة البولينج.
في صيف عام 2019، سئمت الإمارات من هذا التدخل المكلف، وحاولت القيام بضربتها الأخيرة. في 7 أغسطس/ آب، سمحت لحلفائها من الانفصاليين في جهاز مكافحة الإرهاب بطرد الحكومة من عدن والسيطرة الكاملة على الميناء. كان لهم هدف غزو حقول النفط والغاز في الشرق الكبير، لتحقيق حلمهم وإعلان الاستقلال.
في 22 أغسطس/ آب، تجمّع رجال الميليشيات الموالية للإمارات من قوات النخبة في شبوة حول عتق ودخلوا المدينة، التي كانت تعتبر في السابق منطقة محايدة. و حاصروا 300 جندي من الجيش في شارعين كانا لا يزالان تحت سيطرتهم. يقول العقيد عبد ربه لعكب الشريف وهو يكاد يختنق: “لقد تفاوضنا. أرادوا فرض استسلام مذل علينا: كان علينا التراجع إلى الجبهة الأخيرة حيث واجهنا الحوثيين في شمال المحافظة، تاركين وراءنا أسلحتنا. طالبونا بالتخلي حتى عن المسدسات التي نحملها”.
يبلغ لكعب حوالي الثلاثين من عمره، وهو أحد الضباط الذين لم يفروا من مواجهة تقدم الحوثيين عام 2015. فقد اثنين من إخوته في القتال ضد الحوثيين، كما فقد ساقه اليسرى ويده اليمنى. في مساء يوم 22 أغسطس/ آب، نظم المقاومة مساعده المعروف بـ”طعموس” (أي “الضفدع”). بطوله البالغ 1.60 مترًا وبشرة صفراء وعيون مبطنة، كان “طعموس” هو أول من قفز إلى إحدى شاحنتي بيك آب للجيش لم تدمرهما قوات النخبة واندفعتا به إلى المدينة.
كان موقع بلحاف أحد المعالم الرئيسية لشبكة السجون الإماراتية، وفقًا لمنظمات الدفاع عن حقوق الإنسان التي أبلغت عن حالات إخفاء قسري وحالات تعذيب
معارك الشوارع مستمرة، بينما يصرخ المحافظ بن عديو في قصره على رجال الرئيس هادي عبر الهاتف. لقد رأى الجميع الأزمة مقبلة، لكنهم لم يروا أموالًا ولا تعزيزات. في اليوم الثالث، يقترض المحافظ أموالًا من رجل أعمال محلي لشراء أسلحة. من جهته، أرسل الجيش أخيرًا تعزيزات لمواجهة الانفصاليين الذين انطلقوا من عدن.
لن تتاح فرصة القتال لهؤلاء الجنود. يقول لكعب “لقد انتصرنا بالفعل في معركة عتق. كنا نقاتل من منطلق حب الوطن، بينما قاتل جنود النخبة من أجل المال. حين أدركوا أننا مصممون على القتال، غادروا؛ المال لا يدوم بعد الموت”. ويضيف ذو الساق وهو يضحك “واحد تلو الآخر، ترك جنود النخبة مواقعهم في عتق، ثم على الطريق الجنوبي، تاركين المعدات الثقيلة والأسلحة. تلقيت مكالمات من بعض ضباطهم من قبيلتي الذين عرضوا الاستسلام أو حتى القتال إلى جانبنا”.
عند وصوله إلى بوابات موقع بلحاف للغاز، دخل الجيش لفترة وجيزة، قبل أن ينسحب بأمر. يصرخ العقيد لكعب “مستحيل أن يفتح الجنود النار على الإماراتيين الذين لم يشاركوا في المعركة. ولا يوجد أي سؤال يتعلق بإلغاء أمر الاستيلاء على الموقع في الوقت الحالي لصالح أبو ظبي، وهو الأمر الذي ضمنته الحكومة حتى الآن. لكن هذا الباب، سنأخذه متى شئنا. نحن ننتظر الأوامر فقط. لا يمكنك تخيل كم أريد أن أدخل بلحاف!”.
من جهته، يفتخر المحافظ بن عديو بتسع عربات إماراتية، مدرعات كايمان الأمريكية الصنع، استولى عليها رجاله. يرفض المحافظ إعادتها رغم طلبات أبو ظبي والسفير الأمريكي. يقول “ذات يوم، سأضعها في متحف!”.
قال عمار العولقي، وكيل وزير البيئة اليمني، الذي ينحدر من عائلة سلطانية محلية إنه قُتل في معركة شبوة عدد قليل؛ قدّر ضباط الجيش الخسائر بأقل من 10 رجال، ومع ذلك، فإن للمعركة أهمية لا يمكن إهمالها. ويضيف “لمعركة تمثل نقطة تحول حادة للمغامرة الإماراتية في جنوب اليمن. لقد كان خطأ الإمارات. لقد صدقوا رجالهم في شبوة على أسس قبلية. وحين أصبحت الأمور على المحك، رفضت القبائل ببساطة القتال فيما بينها”.
سلام مسلح
منذ ذلك الحين ساد المنطقة سلام مسلح. في مايو، أدى اتفاق الرياض، بقيادة السعودية، إلى وقف إطلاق النار بين الانفصاليين والحكومة. وتدخلت مجموعة صغيرة من المراقبين السعوديين شرقي شبوة حيث تتكرر نيران قذائف الهاون.
توقف زعيم الانفصاليين عيدروس الزُبيدي عن التصريح في عدن بأن “من واجبه تحرير حقول النفط” في شبوة. بدون هذا الربح المفاجئ، يترسخ حلمه في التبعية لأن الرجل لا يزال قويًّا على الساحل، فهو يمثل نفوذ الإمارات، التي نصبت نفسها كحارس لحركة مرور النفط في المحيط الهندي والبحر الأحمر. وجعلت للانفصاليين دورًا في مفاوضات السلام باليمن… عندما تريد الأطراف الجلوس حول طاولة. ومع ذلك، فإن إعادة احتلال الجنوب بالكامل من الانفصاليين لا تبدو ممكنة دون الدعم العسكري من أبو ظبي، التي أعادت قواتها، واحتفظت بقاعدتين في شبوة، وأخرى في مطار المكلا، عاصمة المنطقة الشرقية البعيدة، حضرموت.
منذ صيف 2019، هرب القادة الرئيسيون لـ”النخبة” والمجلس الانتقالي الجنوبي من محافظة شبوة. تُرك التنفيذيون الصغار بعيدًا عن عتق، وقد هربوا من الانتقام. لا أحد غافل عن حقيقة أن الإمارات ما زالت تدفع رواتبها لقوات “النخبة” السابقين، العاطلين عن العمل الآن. بشكل عام، تمكنت القبائل الريفية من تنظيم انتقال السلطة بسلاسة، لكن الحكم الإماراتي ترك بصماته.
بالقرب من مدخل قاعدتهم العسكرية في العَلَم، يخيّم حوالي 100 متظاهر منذ منتصف أكتوبر؛ يطالبون بالعدالة بعد اقتحام المليشيات الموالية للإمارات قريتهم، الحجر، في 4 كانون الثاني/ يناير 2019، اندفعت قافلة دباباتهم بين المنازل في منتصف الليل. قال الريفيون الذين قاوموا إن المليشيات فتحت النار دون تفسير. بعد صلاة الفجر، قصفت طائرة دون طيار إماراتية المكان بقنبلة محملة بشظايا، ما أسفر عن مقتل تسعة رجال تحت شجرة، بينهم طفل صغير كان يقدم الشاي للمقاتلين على الإفطار.
حملة عقابية
يعتقد السكان أنهم كانوا ضحايا حملة عقابية، لأنهم رفضوا الانخراط في الميليشيات مفضلين البقاء على الحياد. استُقبل بعد ذلك وفد من القرية في قاعدة بلحاف. قال محسن محمد المحضار (49 عامًا) والد الطفل الذي قُتل “لقد أدرك الإماراتيون خطأهم وقدموا لنا تعويضات، ثم لم يعد لدينا المزيد من الأخبار. الآن بعد انتهاء سيطرة النخبة على المحافظة، لم نعد نخشَ التظاهر، نريد أن يمثل منفذو المداهمة أمام محكمة يمنية أو دولية. بدون ذلك لن نغادر”.
زعم المحضار ورفاقه أن طائرات إماراتية حلّقت فوق موقعهم وأنها كانت ستطلق النار دون استهداف الخيام. حذرهم مبعوثون من القاعدة: المنطقة ليست آمنة.. لكن الأهالي ثابروا على البقاء بمباركة المحافظ بن عديو.
لم يفقد قادة المحافظة القدامى كل نفوذهم. ولا يزال مقر الانفصاليين في بلحاف يثير الخوف. في نوفمبر 2019، اعترف مسؤول في التحالف السعودي، في مقابلة مع صحيفة لوموند، أن هذه القاعدة تضم “زنزانة احتجاز مؤقت”، يمر من خلالها المشتبه بهم، قبل إرسالهم إلى القاعدة الإماراتية في المكلا، على الساحل. كانت بلحاف أحد معالم شبكة السجون الإماراتية، التي ظلت سريّة وبعيدة عن متناول الحكومة اليمنية، وثقتها منظمات حقوقية، ونددت بحالات الإخفاء القسري المتعددة وحالات التعذيب.
أثار وجود هذه السجون داخل حدود الموقع الصناعي دهشة توتال التي لا تنفيها ولا تؤكدها. هناك فصل دقيق بين القاعدة العسكرية والمنشآت الغازية ولا تتسرب أي معلومات. سجناء بلحاف السابقون ما زالوا يرفضون الحديث عن اعتقالهم. لقد رفضت ثلاث عائلات ذلك حيث زعمت إحداها أن أحد أفرادها احتُجز بشكل تعسفي، لقد رفضوا مقابلتنا في عتق؛ إنهم خائفون. ومع ذلك، وافقت عائلة أخرى لأحد المحتجزين والضحية على الإدلاء بشهادتهم.
الأسرة هي أسرة سالم الربيسي (24 عامًا)، وهو ناشط في جماعة قومية جنوبية صغيرة، “اختفى” في 10 حزيران / يونيو 2019. علمت عائلته بعد أشهر أن عناصر من “النخبة” اعتقلوه في شبوة، واحتُجز في بلحاف. قب ذلك نشر الشاب رسائل على فيسبوك تندد بـ”استعمار” الإمارات لبلاده، وزار زعيم حركته حسن باعوم المدعوم من إيران والمنفي في عمان. نُقل سالم صيف 2019 إلى أحد سجون الدولة اليمنية، حيث ينتظر المحاكمة.
وزُعم أن سالم تعرض لصدمات كهربائية على يد سجانيه. بحسب والده أحمد حسين الربيسي، ضابط شرطة في عتق، أنه بعد الإفراج عنه ظهرت عليه علامات التعذيب: الضرب، والخنق، والنزيف الداخلي، وكسر الضلوع. شخص آخر احتجزته ميليشيا “النخبة” في موقع مجهول، أصيب بجروح بعد نقله إلى مستشفى المكلا، بحسب الدكتور سعيد.
أموال لصالح القاعدة
إنها قصة مماثلة رواها عدي (اسم مستعار)، وهو في العشرينيات من عمره، اعتقلته مليشيات “النخبة” في سوق عتق عام 2016، الخامس عشر من شهر رمضان. قال عدي إنه استُجوب لثمانية وعشرين يومًا وعُذب على يد الجيش الإماراتي، دون أن يتم إبلاغه. وزعم أنه تعرض للضرب والتعليق من جدار زنزانة، وتعرض طويلًا للشمس أثناء صيامه في شهر رمضان، ووضعه تحت مكيف هواء بارد، وحُرم من الوصول إلى المرحاض، وتعرض لليالٍ بلا نوم، تحت الضوء المفرط والموسيقى. يشتبه في أن الشاب قام بتحويل أموال إلى القاعدة.
ينفي عدي أي ارتباط له بجماعة جهادية، لكنه يعترف أنه مرر بسرية مبلغ 2.2 مليون يورو، دفعها “أمير سعودي”، لمقاتلي جبهة رئيسية مناهضة للحوثيين في شمال المحافظة. هناك، قاتلت القاعدة بشكل جيد ضد الحوثيين، وهي حركة سياسية شيعية مكروهة من السنة. لكن الجهاديين كانوا يدعمون سرًا قوات الثلاثي، التي تشكل غالبيتها، بقيادة شخصية محلية معروفة، عبد العزيز الجفري. “لقد مررت هذه الأموال لمساعدة بلدي” يقول عدي: لكنني آسف لكوني قاتلت ضد الحوثيين. كان يجب أن أحارب هؤلاء الأجانب [الإماراتيين] الذين غزوا اليمن”.
اليوم يتردد صدى هذه النغمة الصغيرة ضد “الاحتلال” في كل مكان بشبوة. والمواطنون ممتنون لهذا الجار القوي لأنه ساعدهم في محاربة الحوثيين لكنهم يحلمون بشيء واحد فقط “دولة”! هذا الشيء الوطني والوظيفي الذي يفرض القانون ويبني الطرق ويدير المستشفيات ويشجع الاستثمار. ومع ذلك، منذ صيف عام 2019، استعادت الدولة موطئ قدم لها في المحافظة. تغيرت أولوية علي ناصر سعيد، مدير مستشفى عتق: لم تعد الحرب هي التي تقلقه اليوم، بل حوادث الطرق.
في هذا المبنى القديم الذي يعود تاريخه إلى السبعينيات، يتم علاج حوالي 40٪ من المرضى مجانًا، ليس لديهم أموال يدفعونها. الأدوية غير متوفرة و لم تقدم منظمة الصحة العالمية (WHO) مساعدات لمكافحة الكوليرا لمدة ستة أشهر، ولا أحد يعرف السبب. يسعد سعيد أن يكون لديه ماسح ضوئي ألماني حديث وفني بفضله يمكن للمستشفى تشخيص إصابة في الرأس، لكن المستشفى لا تمتلك الوسائل لتوظيف جراح أعصاب.
في أماكن أخرى من شبوة ترى رجال الأعمال على أجمل شاطئ في المحافظة منشغلين بمراقبة طائرة هاون من معسكر بلحاف العسكري، يأمل سعيد الكلادي هنا أن يستفيد من الهدوء الغريب الذي ساد منذ عام 2019. لقد عزم على بناء منتجع عطلات! كان المشروع من خمسة عشر عامًا مجرد فكرة نابتة. و اليوم اشترت عائلة الهادي من مجموعة “شبوة ريتش” الامتياز في النهاية، وأطلقوا عليه اسم “فخر شبوة”. تستثمر العائلة 3.3 مليون يورو وتستهدف زبائن يمنيين أكثر من الأجانب حتى الآن، و قد جهز سعيد الكلادي حوالي عشرة أكواخ، ليس كلها مسقوفة. ويخيم الجنود هناك من حين لآخر ولكن في يوم من الأيام، إن كان لنا أن نصدق خططه، فإن الكل سيأخذ شكل دولفين قافز في الهواء ببطنه الطري المنحني كانحناء الشاطئ.
أشغال سيئة السمعة
ليس عليك سوى السير في الطريق لتتحقق من ذلك فالمحافظة بجلها تُستثمر. الحفارون مشغولون في كل مكان. منذ صيف عام 2019، ادعت السلطات المحلية أنها أنشأت أو أصلحت طريقًا بطول 350 كيلومترًا، وأثناء انتظار عودة غاز توتال، فإن مكاسب النفط غير المتوقعة هي التي تضمن هذا العمل. أعادت شركة نمساوية بعاصمة إماراتية جزئية، OMV، إطلاق مجمعها التشغيلي في عام 2018. تنقل الصهاريج الذهب الأسود إلى محطة صدئة، وهو إرث من الصداقة السوفيتية القديمة، حيث تتدفق محتوياتها عبر 200 كيلومتر من الأنابيب إلى ميناء بير علي. وقد ضمنت هذه الصادرات 35 مليار دولار من الإيرادات الضريبية لشبوة في غضون عامين، أي ما يعادل 20٪ من إجمالي الواردات الذي حصلته الدولة المركزية اليمنية.
يسأل المحافظ بن عديو “إذا أعاد النمساويون إطلاق نشاطهم، فهذا دليل على أن المحافظة آمنة. فماذا تنتظر توتال أكثر من ذلك؟”. لقد وضع الجيش قائمة سوداء بأسماء “المجرمين” الذين يطاردهم. يؤكد له الضباط: هذه القائمة تصنع العجائب. المواطنون يتمسكون بها بصرامة. ضحك زعماء القبائل المؤثرون الذين قابلناهم قليلًا: في هذه المنطقة، فضلت السلطات منذ فترة طويلة التفاوض مع قاطعي الطرق وتغض الطرف عن الثأر… بينما شيوخ القبائل يناصرون القاعدة ومتفقون معها. بناءً على هذه على هذه الأسس الموضوعية يؤكد المحافظ: “توتال يمكن أن تعود”.
حلم الأهالي شيء واحد: دولة! “آلة” وطنية وعملية تضمن القانون
تبني الطرق وتدير المستشفيات أيجب علينا أن نصدق ذلك؟ في أوائل أكتوبر أثار حادث في ميناء بير علي القلق فسفينة الشحن المالطية “سيرا” أصيبت على ما يبدو بلغم بحري عائم.
يرى معظم المراقبين أنه نتيجة للصراع بين الحكومة والانفصاليين الموالين للإمارات فإنه بالنسبة لتوتال، يظل الأمر مقلقًا، بينما يأتي الخطر الحقيقي من صنعاء.
يطالب المتمردون الحوثيون بإعادة جزء من دخل بلحاف إليهم عند إعادة تشغيل المنشأة. لديهم الوسائل لفرض أنفسهم: إذا كانت صواريخهم قادرة على ضرب الرياض، فإن مصنع توتال في متناولهم. يلخص خبير في الملف الوضع بأن “بلحاف ملاذ آمن لجميع الممثلين في اليمن. في الوقت الحالي، يوافقون على عدم ضربه، طالما لم يقم أحد بانتقادهم رسميًّا”. قالت شركة توتال في لاديفانس”قبل رؤية الناس في الموقع لإعادة التشغيل، سيكون من الضروري التأكد من أن بلحاف لن تكون هدفًا، وأن الصواريخ لن تُطلق في اتجاه المصنع. علمًا أن إعادة التشغيل هي استثمار بتكلفة أكثر من 200 مليون دولار”.
المساهمون في المصنع، بما في ذلك المجموعة الفرنسية، ليسوا في عجلة من أمرهم: في عام 2019 أرجأوا سداد قروضهم في بلحاف حتى عام 2022. وهذا سمح للبنوك بعدم مطالبة فرنسا وكوريا واليابان بإلغاء ضمانات التصدير التي قدموها. يمكن لشركة توتال أن تأذن لنفسها بعدم تعليق مستقبل المحطة من خلال وقف إطلاق نار وطني افتراضي، أو من خلال اتفاق سياسي يتعلق على الأقل بالحفاظ على الثروة الهيدروكربونية. اتفاق الرياض المتواضع الذي أُبرم في مايو لا يعبر عن هذا الطموح.
يتساءل خبير بالملف “في غضون ذلك هل يجب على توتال أن تدفع الضرائب؟ أيجب أن تدفع ملايين الدولارات في مخاطرة بأن يسرقها أحد؟ أو أن شخصًا ما يشتري بها أسلحة؟”.
عمل الحكومة اليمنية سيئ السمعة، وقد بدأ ذلك يظهر في شبوة منذ حين. في منتصف نوفمبر، منحت المحافظة امتيازًا لبناء محطة لتوصيل الوقود المكرر، وهو أمر ضروري للمولدات التي تضيء المحافظة. وسيديره أحمد العيسي، وهو رجل أعمال ثري مقرب من حكومة هادي وأحد المستفيدين الرئيسيين من الحرب.
اليمن في حالة انهيار: قد يكون هذا طوق نجاته
نبيه بولس | صحيفة لوس انجلوس تايمز الأمريكية | 15 ديسمبر 2020
بير علي في اليمن. في مناسبة نادرة، يظهر اليمن في الأخبار. أرض المجاعة والحرب، موطن الأزمة الإنسانية الأسوأ في العالم.
فوجئت أثناء زيارتي الأخيرة إلى محافظة شبوة الساحلية. إذ لم أرَ الشاطئ ذي الرمال البيضاء التي يسيل لعاب مستخدمي الإنستغرام عند رؤيتها فحسب، بل صفًا من الأكواخ التي تُنشأ لاستقبالهم أيضًا. هذه الأكواخ جزء من منتجع باسم عروس شبوة، ويخضع لإشراف المحافظ محمد بن عديو شخصيًّا. ويُعد واحدًا من المشاريع التي تثبت أن شبوة استثناء في ظل سلسلة من الكوارث المحزنة التي تحل باليمن.
يقول بن عديو في مقابلة: “حاولنا أن نجعل من شبوة بصيص أمل، ونموذجًا تحتذي به المحافظات الأخرى”.
لأن الأمل اندثر في المناطق الأخرى من اليمن. إذ أودت خمس سنوات من الحرب الأهلية في البلاد -التي جذبت جهات خارجية مثل إيران والسعودية والإمارات وتنظيم القاعدة- بحياة 100 ألف يمني على الأقل، منهم 12 ألف مدني، وفقًا لتقرير صدر عام 2019. شلّ الحصار طويل الأمد وانهيار العملة المحلية التجارة ومشاريع التنمية. ويُعد حكم الدولة مفهومًا نظريًّا إلى حد كبير.
لكن ذلك ليس في شبوة؛ إذ تبدو الأسواق مزدحمة في ثالث أكبر محافظات اليمن، حتى لو كانت أعداد المتسوقين قليلة. تتدفق الاستثمارات إليها وترى العمال يعبّدون الطرق السريعة، وقوات حفظ الأمن الوحيدة الموجودة هي تلك الموالية للحكومة.
يقول بن عديو “بوسعنا القول إنها المحافظة الأولى في اليمن التي حُررت بالكامل من المليشيات المسلحة، فهي تخضع للدولة وتتلقى التوجيهات من رئيس الجمهورية”.
مع ذلك، يعود الفضل بنهضة شبوة إلى غياب الحكومة اليمنية أكثر من تواجدها فيها.
تقول ندوى الدوسري، الباحثة في الصراع اليمني بمعهد الشرق الأوسط، “دون التهام الحكومة المركزية لجميع الأرباح النفطية والإيرادات الضريبية لمحافظة شبوة، أصبح لدى القادة المحليين الدافع والوسائل للنهضة بالمحافظة على النحو الذي يرونه مناسبًا”.
تقول الدوسري: “لا يرجع تطور الحكم الرشيد نسبيًّا في مناطق مثل شبوة إلى الرؤى المستقبلية للحكومة المركزية أو إلى الرئيس عبدربه منصور هادي، بل هو نتيجة ثانوية لغيابها”.
إذ لا رأي لهادي في إدارة شؤون بلاده اليومية نظرًا لإقامته في السعودية منذ عام 2015 حرصًا على سلامته الشخصية. يمكن القول إن أثره الكبير على اليمن كان مرسومه الرئاسي لعام 2018 بتخصيص 20% من عائدات الغاز والنفط في شبوة إلى الحكومة المحلية. ورغم أن الحرب المستمرة خفّضت إنتاج شبوة إلى 7 آلاف برميل يوميًّا، ورغم الهبوط في أسعار النفط هذه السنة، نجح بن عديو في جمع عائدات بقيمة 35 مليون دولار منذ توليه منصب المحافظ في تشرين الثاني/نوفمبر 2018، واستغل الأموال في تحسين أحوال المحافظة بالمقارنة مع المحافظات الأخرى.
هذا ما جعل المحافظة ملاذًا لليمنيين الفارين من الحرب وكذلك المهاجرين إلى السعودية الذين اتخذوها محطة لهم، ما أدى إلى تضخم سكاني من نحو 600 ألف نسمة إلى أكثر من مليون نسمة، وفقًا لبعض التقديرات.
فرّت ندى باراتي، ذات الستة عشر ربيعًا، إلى المحافظة من العاصمة اليمنية صنعاء بعد مقتل أبويها في معارك بين الحكومة والمتمردين الحوثيين.
تقول ندى: “اضطُررنا إلى المغادرة، وأخبرَنا الأصدقاء بالذهاب إلى شبوة. انتقلت مع أخي إلى عاصمة المحافظة، مدينة عتق، وتمكّنا من البدء بعمل تجاري لبيع المخبوزات في المناسبات لدعم دخل الأسرة”.
جذبت المحافظة رجال الأعمال أيضًا. يقول صالح خليفة، المقاول البالغ من العمر 35 عامًا الذي دخل في شراكة مع الحكومة المحلية مؤخرًا في مشاريع الكهرباء والبنية التحتية الأخرى، “في السابق، أوقفت الانقسامات السياسية والعسكرية الاستثمارات هنا. لكننا ننعم الآن ببيئة آمنة”.
لم يتحقق الاستقرار في شبوة بسهولة. إذ تمتد المحافظة، والتي تبلغ مساحتها مساحة ولاية مسيسيبي تقريبًا، من وسط اليمن إلى ساحله الجنوبي، فهي منطقة استراتيجية لمن يرغب في السيطرة على المناطق الجنوبية من البلاد. وهذا ما جعلها صيدًا ثمينًا لجميع الأطراف المتحاربة.
بعد استيلاء الحوثيين المدعومين من إيران على العاصمة صنعاء أواخر 2014، اتجهوا نحو شبوة وأجزاء أخرى من الجنوب، الأمر الذي حفّز التحالف بقيادة السعودية والإمارات على ردعهم. ولكن التحالف انهار بعد أكثر من عامين عقب إيقاف تقدم الحوثيين. شن الانفصاليون في مدينة عدن الساحلية، العاصمة المؤقتة للبلاد، هجومهم الخاص على محافظة شبوة في صيف عام 2019، سعيًّا لضمها إلى دولة مستقبلية بمباركة من الإمارات.
تقدمت القوات بالقدر الكافي لمحاصرة منزل بن عديو في مدينة عتق. ولكن بحلول الأسبوع الثالث، انتهى الهجوم بسيطرة الحكومة اليمنية، وتُركت للقوات الإماراتية بعض القواعد في المحافظة، بما في ذلك مرفأ بلحاف لتصدير الغاز، أكبر استثمار أجنبي على الأراضي اليمنية. (رفضت السلطات الإماراتية السماح لمجموعة من الصحفيين، من بينهم صحفيون من جريدة تايمز، زيارة بلحاف).
أصبح بن عديو في أعقاب ذلك هدفًا اعتياديًّا لوسائل الإعلام الموالية للإمارات، التي تتهمه بالانتماء إلى جماعة الإخوان المسلمين، عدو الإمارات اللدود، فضلًا عن السماح لتنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية بالعمل بحرية في شبوة. نجا المحافظ من محاولة اغتيال ذلك العام ويُتهم الإمارات بالقيام بها.
يقول بن عديو “شنت الإمارات هجمات برصاص القناصة والسيارات المفخخة وسبل أخرى للنيل مني، بسبب مخططاتهم للاستيلاء على المحافظة وعلى اليمن في العموم”.
رغم التوترات المتتالية والاتهامات التي وُجهت لابن عديو باستخدام تكتيكات قاسية، لكن الأمن ظل صامدًا حتى الآن.
يقول أحمد حقل، المحامي في مجال حقوق الإنسان في المجلس الانتقالي الجنوبي، الجماعة الانفصالية المدعومة من الإمارات، “إننا نواجه حكمًا ديكتاتوريًّا من الحكومة الحالية”.
وفي مقابلة معه، اتهم حقل السلطات المحلية باعتقال العديد من السكان، ومنهم قاصرون، بتهم ملفقة. كما يدّعي زملاء حقل أن بن عديو وزّع العقود على أصدقائه واختلس الأموال العامة.
يصر بن عديو على أن الاتهامات الموجهة إليه لا أساس لصحتها، وأن مكتبه تعاقد مع المئات من المقاولين. ويقول: “نختار المقاول الجدير بالثقة وذا المؤهلات المناسبة. وأتابعهم كل أسبوع”. حصل المحافظ على دعم محلي كبير، بما في ذلك دعم قبائل شبوة الشَمُوس. وفي اجتماع قبلي أقيم أثناء إقامة الصحفيين الزائرين، أعرب القادة عن موافقتهم، وحتى سادتهم، بتوليه للمنصب.
يقول الشيخ جبر ناصر، إن بن عديو خفّض من الجريمة ووزّع المشاريع التنموية بصورة عادلة، “يقوم المحافظ بأعمال تفهمنا ماهية الدولة. لقد وحّد القبائل تحت قيادته”. وافق الشيخ محمد الحمامي -الذي كان يجلس بجوار ناصر- على كلامه وأشاد بالحكم الذاتي المتزايد لمحافظة شبوة في الآونة الأخيرة.
ويقول: “السطلة المركزية بيد من؟ السلطة في عدن أم في صنعاء، بيد من السلطة في هذه المرحلة؟ ما نراه هو أن المساواة تتحقق في الفيدرالية، وأن الدولة المركزية لن تكون فعّالة”.
ويتفق براء الشيباني، الباحث والناشط اليمني المقيم في لندن، على إمكانية أن تشكّل شبوة شعلة لإنارة الطريق لليمن ككل.
ويقول: “لم تعد حال البلاد التي كانت عليه قبل عام 2015 فعّالة. الفرصة الوحيدة أمام اليمنيين هي إعادة التحول إلى دولة فيدرالية. وتشكّل شبوة نموذجًا يمكن اعتباره حلًا لليمن”.
ويرى المستثمرون والعمال فرصًا اقتصادية في المشاريع السياحية، مثل منتجع عروس شبوة، الذي انطلقت أعمال إنشائه قبل ثلاثة شهور على شريط نظيف من شاطئ في قرية بير علي، الواقعة في الطرف الجنوبي لمحافظة شبوة. ويقول رائد صبري، مهندس الموقع، “تم بناء أكثر من 20 شاليهًا حتى الآن، بالإضافة إلى مطعم ومسجد”. وبعد اكتمال المرحلة الأولى من البناء في غضون ثلاثة شهور، سيتم افتتاح ثُلث المرافق لاستقبال عامة الناس.
ويضيف صبري: “ثمة استقرار وأمن هنا، وهذا موقع خاص يعرض الصورة الجميلة لشبوة واليمن”.
كما تم البدء بمشاريع تنموية أخرى، بما في ذلك تعبيد مئات الأميال من الطرق السريعة، وهو إنجاز في محافظة لم يُعبّد فيها سوى 140 ميلًا من الطرق السريعة قبل عام 2015.
يقول عزيز بحري، مستثمر في الفنادق والمشاريع الأخرى يبلغ من العمر 38 عامًا، “يقول الناس إن اليمن انتهى. وأقول إن شبوة هي الجوهرة الضائعة التي ستنقذ اليمن. نحن في وضع يمكن للمشكلة، أو انهيار الدولة، أن تكون هي الحل”.