أواخر فبراير من العام 2022 نظم مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية زيارة لوفد إعلامي دولي إلى مدينة عدن (جنوبي اليمن)، بهدف اطلاع الصحافة الدولية عن الأوضاع في المدينة التي تتخذها الحكومة اليمنية عاصمة مؤقتة.
شارك في الزيارة، مراسلون من عدة دول يمثلون وسائل إعلام رئيسية من بينها رويترز ووكالة الأنباء الفرنسية وصحيفة لوموند الفرنسية وذي أتلانتيك الأميركية وغيرها.
تعد الزيارة هي الرابعة التي ينظمها مركز صنعاء للصحافة الدولية إلى اليمن خلال الحرب، حيث سبق وأن نظم زيارة إلى محافظة شبوة في نوفمبر 2020، ومحافظة حضرموت في سبتمبر 2018، ومحافظة مأرب في عام 2017.
عدن: عالِم الطبيعة الذي يواجه بمفرده حربًا لا تنتهي
لويس إمبرت | صحيفة لوموند الفرنسية | 15 يونيو/حزيران 2022
سالم بسيس هو الحامي الوحيد لحوالي 12 محمية طبيعية، ولا يمتلك سوى موارد لا تكاد تُذكر لحماية الحيوانات والنباتات المتضررة من النشاط البشري والحرب المستعرة في اليمن منذ عام 2014.
طائر الطيطوي أحمر الساق هو طائر صغير خواض، ومرقط البطن باللونين الأسود والأبيض، ويملك أرجلًا حمراء زاهية، يعيش هذا الطائر على المسطحات الطينية خلال فصل الصيف في منطقتي كامارغ وفونديه في فرنسا، وعند أول لفحة من لفحات فصل الربيع، يتوقف الطائر في خليج عدن باليمن في رحلة العودة من قضاء فصل الشتاء في إفريقيا.
يمر مدير إدارة المحميات الطبيعية في اليمن بانتظام لتحية هذا الطائر في محمية الحسوة، ويتوقف صباحًا على الطريق المؤدي من قريته إلى جامعة عدن التي يُدرس فيها علم الحيوان، ولكنه لا يقضي وقتًا طويلًا هناك كون البعوض والرائحة يضايقانه، وأصبحت المحمية الطبيعية الصغيرة في حالة مزرية منذ عام 2014 عندما بدأت الحرب وبدأ معها اليمن بالانهيار.
تمر مياه الصرف الصحي التي تتدفق من محطة معالجة قريبة عبر 19 هكتارًا من البحيرات والمستنقعات والشواطئ التي تتخللها أشجار نخيل الدوم، وكانت محطة المعالجة قد أُغلقت بعد نهبها.
يعد مرور مياه الصرف الصحي من تلك المناطق نتيجة مهملة للصراع المسلح، وتعاني الطبيعة كما يعاني البشر في هذا البلد الفقير، الذي تغلب عليه المناطق الصحراوية وتتدنى فيه معدلات الصناعة، وتؤثر الصعوبات على طائر الطيطوي أحمر الساق وعلى 13 إلى 15 مليون يمني، كانوا قبل الحرب يعتمدون على مواردهم الريفية للتدفئة، والحصول على الطعام لهم ولماشيتهم، والرعاية الصحية، والسكن.
سالم بسيس، العملاق اللطيف صاحب الحس الفكاهي، هو الموظف الوحيد في إدارته منذ عام 2020، ويعمل وحيدًا على حماية 10 محميات طبيعية، ويعمل سالم دون ميزانية، وتخصص له الجامعة مكتبًا صغيرًا، وبالتالي فهو دون كيخوت/بطل المسطحات الملحية، ويفعل كل ما يمكنه في ظل انتشار الإهمال واللامبالاة، وكما يقول سالم، وهو اختصاصي في الزواحف: “غادر جميع الخبراء، لا أحد يقبل بالعمل هنا، ولم أكن لأقبل به لو لم أكن متفانيًا حقًا أو محبًا للطبيعة.”
“وظيفتي غير مجزية”
يتمثل النشاط الرئيسي لسالم في التوثيق بمساعدة شبكة من مقدمي المعلومات المحليين، توثيق تدهور المحميات التي تقع ضحية للمزارعين المحليين، ومقاولي البناء، وأحيانًا الميليشيات المسلحة، ومن ثم الذهاب إلى وزارة البيئة في عدن والتواصل مع السلطات المحلية، الذين يقول عنهم: “لا يفعلون أي شيء أغلب الوقت، فوظيفتي غير مجزية، وبالكاد أستطيع تسميتها وظيفة، لكن علينا أن نكون متواضعين وصبورين”. في يناير/كانون الثاني، حقق سالم بسيس نصرًا نادرًا، ولكنه قصير الأجل، حيث أرسلت الميليشيات التي تحكم عدن بضعة حراس لمراقبة سلاحف منقار الصقر (اللجأة صقرية المنقار) التي تعشش في ذلك الوقت من العام في محمية جزيرة العزيزي، ولكن الحراس لم يبقوا هناك سوى يوم واحد، وتركوا السلاحف فريسة للحيوانات المفترسة العابرة التي تتغذى عليها.
سالم بسيس ينحدر في الأصل من ساحل صحراء حضرموت، المحافظة التجارية المفتوحة على العالم منذ العصور الوسطى، وقد رأى الكثير في اليمن، فهو محب للسفر يبلغ من العمر 47 عامًا. ولد سالم في الكويت، ففي السبعينيات كان والده موظفًا في الجيش هناك، ودرس سالم في العاصمة اليمنية صنعاء، وحصل على الدكتوراه في برونزويك، في أعماق غابات ساكسونيا السفلى بألمانيا. في بداية الصراع، ذهب سالم للعمل في السعودية، وعمل في تعقب السحالي بحماس على الحدود السعودية اليمنية التي ظل المتمردون الحوثيون -الذين يحكمون شمال اليمن وحلفاء إيران -يعبرونها مرة تلو الأخرى الأمر الذي أثار حفيظة النظام الملكي السعودي الذي شن حربًا ضدهم بقيادة تحالف من القوات اليمنية.
لكن سالم لم يعد يستطيع السفر في جميع أنحاء بلاده، فالحوثيون يمنعونه من دخول الشمال، في حين يملأ الجنوب قطاع الطرق الذين يحتجزون المسافرين للحصول على فدية. كما أنه رفض فرصة عمل في تونس لأجل ابنتيه المراهقتين اللتين ترفضان مغادرة المدينة، وبالتالي ليس بوسعه إلا أن يعيش في عدن.
أكوام من الحطام والقمامة
سافر سالم نهاية شهر مايو/أيار إلى أرخبيل سقطرى، وشعر بالسعادة عند استكشاف المحمية الأسطورية للحيوانات والنباتات النادرة التي لا توجد في أي مكان آخر، وتقع الجزيرة في قلب بحر العرب. تعيش جزيرة سقطرى والجزر الصغيرة التابعة لها في سلام، ووصف سالم سكانها البالغين 40 ألف نسمة بإعجاب قائلًا: “لم يعد سكان الجزيرة جزءًا من اليمن لحسن حظهم، كما أنهم لا ينخرطون في القتال الدائر في البر الرئيسي لليمن.” لكن ذلك لا يمنعهم من دخول ماعزهم إلى المناطق المحمية ومضاعفة عدد مكبات القمامة غير القانونية.
قبل أن يغادر أخذنا سالم في جولة حول محمية الحسوة، معقله الرئيسي، يومها حامت مجموعات من طيور النحام في المستنقعات، وهذه المستنقعات هي إحدى المناطق الرطبة القليلة التي تتكاثر فيها طيور النحام في الشرق الأوسط وفقًا لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي. سالم راقب تلك الطيور من أحد الأبراج التي سرق اللصوص أسلاكه الكهربائية وقد نحتت على أحد جدرانه عبارة “أنا حزين.” من قبل أحد العابرين.
إلى الجنوب تلمع الشمس على سفن الوقود في هذا الميناء الضخم بخليج عدن، وإلى الخلف كانت هناك أكوام من الحطام والقمامة التي يرميها سكان البلدة الجديدة الصغيرة المجاورة المكونة من مباني على الطراز السوفيتي. كان سالم يبحث عن تمويل لبناء سياج حول المحمية لكيلا تستخدم كمنطقة لرمي النفايات، وكانت الحسوة ملاذًا لـ 137 نوعًا من الطيور المهاجرة قبل الحرب. كانت المنطقة موطنًا لطيور مالك الحزين المرقطة والمخططة، والبلشون، والكرسوع، والطيطاوات، والزقزاقوات، وطيور الجانج ذات البطن البني (نوع من الحمام الرملي). في الوقت الحاضر، تصطاد الغربان الضعفاء من تلك الطيور.
يرغب سالم في تصديق أن هذا الوضع لن يستمر، ذلك أن الحسوة ماتت من قبل وبُعثت فيها الحياة من جديد، فقد دمرها جفاف شديد في خمسينيات القرن الماضي، وأعيد بناؤها بفضل مصنع بناه اليابانيون لإعادة معالجة مياه الصرف الصحي القادمة من جبال لحج إلى الشمال. قال سالم متحدثًا عما حدث أواخر سبعينيات القرن الماضي: “أدى حادث في الأنابيب التي تصب المياه إلى البحر إلى إعادة توجيه جزء منها إلى المنطقة الساحلية، وبدأت الغابات بالنمو من جديد، وعادت الطيور المهاجرة، وحولها المزارعون بحفر القنوات وزراعة الأشجار مرة أخرى.”
المدينة الكبيرة تبتلع ريفها تدريجيًا
أوائل العقد الأول من هذا القرن، موّل برنامج الأمم المتحدة الإنمائي هذه الجهود، وساعد في بناء ممرات للزوار من عدن والمناطق المحيطة بها، واعترفت الدولة بالمنطقة كمحمية طبيعية، وحصلت المحمية على جائزة من مبادرة خط الاستواء لحماية التنوع البيولوجي وتعزيز السياحة المستدامة عام 2014، وأشار سالم إلى أن “هذه المحمية هي محمية أصلية طبيعية وجزئيًا من صنع البشر”. وفي ذلك العام بدأت الحرب.
فحص سالم مؤخرًا المياه التي تتدفق إلى منطقة الحسوة، وقال: “لاحظنا زيادة في مستويات المعادن الثقيلة في التربة وفي حليب الماعز التي يملكها المزارعون حول المنطقة. لكنها لم تصل إلى مستوى حرج، كما أن المياه تمنع التصحر حتى إن كانت ملوثة”. ما يقلق سالم هو البشر، فلا يوجد طريقة لمنع الفلاحين من قطع أشجار الحسوة للحصول على الأخشاب والحطب. تتنامى التجمعات السكانية خلف المصنع القريب، فقد ازداد عدد السكان في عدن إلى ثلاثة أضعاف خلال الحرب، ويبلغ الآن ثلاثة ملايين نسمة، وتتسع المدينة لتبتلع مناطقها الريفية تدريجيًا.
لكن من مصلحة المزارعين الدفاع عن هذه المحمية، فوفقًا للأمم المتحدة، كان المزارعون يحصلون على 90 ألف يورو سنويًا، وذلك ببيع تذاكر الدخول، والقطن والحناء الذي يزرعونه، والبخور، والعسل، والسلال، والخل، وبشكل سري نبيذ النخيل. يقول سالم: “ما يزالون ينتجون كل هذه المنتجات، لكن بإفراط يدمر المحمية، ومن الحماقة الاعتقاد بأن الأولوية هي لاحتياجات البشر على احتياجات الطبيعة في زمن الحرب، لابد أن تتماشى احتياجات البشر والطبيعية جنبًا إلى جنب، فنحن سنحتاج إلى الطبيعة بعد الصراع، لكن الحكومة أضعف من أن تمنعهم.”
ينتظر سالم أن تُبعث الدولة إلى الحياة من جديد، ويواسي نفسه من خلال أبحاثه، فقد اكتشف في الحسوة خمسة أنواع من الأبراص والسحالي الصغيرة، منها فصيلة Hemidactylus adensis ذات الأطراف القصيرة. هذه هي الفصيلة الأصلية الأولى في عدن غير المرتبطة بفصيلة Hemidactylus sinaitus المصرية أو Hemidactylus yerburii التي جمعها المقدم جون ويليام يربري من الجيش الاستعماري البريطاني (سميد وآخرون، 2015). خلال الأشهر الأخيرة، اكتشف سالم ثعبانين غريبين بالقرب من المحطة، ويحلم بتحليل جيناتها في أوروبا، حيث يعتقد أن هذه الزواحف قد تكون اكتشافًا لجنس جديد وليس فقط نوع جديد من الزواحف.
المعركة بين حيتان التجارة في خليج عدن اليمني
لويس إمبرت | صحيفة لوموند الفرنسية | 4 يونيو/حزيران 2022
سيطر رجال الأعمال الجشعون المرتبطون بالفصائل المتحاربة على الميناء والبنية التحتية النفطية لـلعاصمة المؤقتة عدن مجردين الدولة اليمنية مما تبقى لها.
ينتظر عشرات الأشخاص من طالبي المساعدة في منزل رجل الأعمال اليمني أحمد صالح العيسي بالقاهرة، ويتجاذبون أطراف الحديث مع حراسه الشخصيين، في الشقة التي تجمع حولها زملاؤهم اللاجئون في العاصمة المصرية، التي فر إليها زهاء مليون يمني منذ بدء الحرب عام 2014. استقبلهم العيسي في مكتب مزين بأوراق حائط لمناظر طبيعية ذات إطارات ذهبية من ريف فرنسا في القرن الثامن عشر، وموّل العيسي علاج أحدهم في المستشفى، وساعد آخر بدفع منحة جامعية له، ويقوم بذلك للناس بغض النظر عن الخلفية الاجتماعية أو الآراء السياسية لزواره، فهو رجل يغض الطرف عن تلك التفاصيل.
العيسي البالغ من العمر 54 عامًا والمعروف بـ”القرش” رجل مضطرب، فقبل عام واحد كان العيسي يعتقد أنه ملك النفط في اليمن، وكان يصارع للسيطرة على ميناء عدن الذي تصل إليه سفنه حاملة الذهب الأسود. رأى العيسي نفسه أكبر من الدولة التي كان يساعد على امتصاص دمها، مع الحرص على عدم القضاء عليها بالكامل، وكان يحلم بأن يكون رئيسًا لليمن، بدلًا عن حليفه الرئيس السابق عبدربه منصور هادي (2012-2022)، الذي ساهم في النجاح المالي للعيسي أكثر من أي شخص آخر. عمل العيسي كمصرفٍ خاص لحكومة هادي، وادعى أنه أنقذ الحكومة من الإفلاس عامي 2015 و2016 وسد عجز الميزانية حتى عام 2019.
الأسياد الجدد
لكن عدن التي عانت من احتكاره -ولسوء حظه -طردته من أراضيها، وأصبح عاجزًا عن زيارة أكبر ميناء في البلاد والمدينة التي ولد فيها عام 1967 التي أصبحت الآن “العاصمة المؤقتة” لليمن منذ 2014، عندما سيطر المتمردون الحوثيون والميليشيات الشيعية المتحالفة مع إيران على صنعاء. العيسي رجل قصير، ذو شارب خفيف شائب، بطيء الحركة، بارد، ذكي، ويظهر لباقةً مثيرةً للإعجاب، ويتحدث عن نفسه مستخدمًا ضمير الغائب قائلًا: “قلتم إن العيسي يتحكم في الجو والبر والبحر، لكن انظروا إليهم الآن”. منذ أن فرض الأسياد الجدد سيطرتهم على عدن وطردهم سفن العيسي في هذه العملية، لم تصبح المدينة أفضل حالًا على الإطلاق. العيسي ساخرًا ومتوعدًا، ويتحدى من انتصروا عليه أن يجدوا أسبابًا لمقاضاته بتهم الفساد.
هُزم العيسي في معركة تقرير المفترس والضحية ومساعي البحث عن ثروات عدن، حيث أعلنت الميليشيات المستقلة الحالمة بإحياء جمهورية جنوب اليمن الديمقراطية الشعبية السابقة -كانت الدولة الماركسية الوحيدة في تاريخ العالم العربي (1967-1990) -سيطرتها على ميناء عدن، وعرضت الميناء على رجال أعمال جنوبيين موالين لهم. أما السعودية فحمت الرئيس هادي وأبناءه وزمرة رجال الأعمال في دائرتهم ومنهم العيسي لمدة 10 سنوات، ولكنها سئمت منهم أخيرًا، وأُجبر الرئيس هادي على الاستقالة في 7 أبريل/نيسان المنصرم.
إن عدد الوفيات التي سقطت بسبب الوضع البائس في اليمن منذ عام 2015 أكبر من عدد الوفيات الناتجة عن المعارك التي قادتها الرياض ضد الحوثيين الذين يعملون على بناء نظام شمولي شمال البلاد، فالموت يقبع في براثن الفقر، وأركان المستشفيات المتهالكة، وفي نقص الخدمات الأساسية، وسيطرة أمراء الحرب على الموارد الضئيلة في واحدة من أفقر البلدان في العالم. يتصارع الجميع للسيطرة على كل شيء بدءًا من أكبر موانئ البلاد في عدن الذي يظهر لنا صورة مصغرة عن هذا الصراع الذي لا ينتهي.
يقع الميناء على سفح بركان خامد يسمى جبل شمسان في قلب خليج بديع، في صباح رائع من هذا الربيع، يعمل سكان عدن في الصيد دون قوارب، وقوفًا في المياه الضحلة، بأقدام غائر ة في الوحل، يجمعون ما اصطادوه من سمك في أكياس بلاستيكية. تملأ السماء أصداء أصوات الغربان الصاخبة، الطيور غير الأصيلة في البلاد التي جاءت إلى المنطقة غازية برفقة السفن القادمة من الهند في القرن التاسع عشر إبان الاستعمار البريطاني، حين سيطرت البحرية الملكية البريطانية على هذا الميناء الاستراتيجي عام 1839 الذي يقع في موقع مثالي على مصب البحر الأحمر وبالقرب من مضيق باب المندب بين أفريقيا والشرق الأدنى، وحولها التاج البريطاني إلى إحدى أكبر محطات الحركة التجارية على وجه المعمورة واستمرت كذلك حتى بعد الحرب العالمية الثانية.
الحرب الاقتصادية
يخضع مدخل الميناء لحراسة مركبتين مصفحتين على متنها رجال ميليشيات يترنحون تحت وطأة حرارة الجو، ويتلقون أوامرهم من المجلس الانتقالي الجنوبي حليف السعودية والإمارات. يدعي المجلس الانتقالي أنه حركة تحرير وطني تعِد بالتخلص من ظلم الشمال وإعادة استقلال دولة الجنوب التي قامت عام 1967 بعد رحيل الاستعمار البريطاني وأصبحت جزءًا من اليمن الموحد عام 1990 إلا أن أبناءها عانوا من القمع في ظل دولة الوحدة. كان هناك تنافس بين الانفصاليين وحكومة هادي منذ عام 2015، وطرد الانفصاليون وزراء هادي من المدينة ثلاث مرات، وقواتهم تسيطر على شوارع المدينة دون منازع تقريبًا، وكما قال مسؤول حكومي رفيع المستوى: “انتهى بهم الأمر بالإطاحة بالعيسي من خلال السيطرة على الأرض، فميليشياتهم تأمر وتنهى وتمنع في الميناء.”
لا تنتج اليمن أي شيء، أو تنتج القليل جدًا، حيث إنها تستورد 80 في المئة من غذائها، وتتوجه معظم البضائع من عدن إلى مناطق الحوثيين في الشمال التي تقطنها غالبية السكان. وجهت الحكومة ضربة قوية للميناء الوحيد الذي يسيطر عليه المتمردون الشيعة في الحديدة (شمال اليمن على البحر الأحمر) وذلك بحظر جميع واردات الوقود هناك تقريبًا عام 2016، ويتهم الحوثيون الحكومة بشن حرب اقتصادية، وأن السكان هم أول ضحايا تلك الحرب، ولتعويض خسائرهم الناتجة عن وقف الميناء، يفرض الحوثيون ضرائب على شاحنات المشتقات النفطية ومن ثم بيع الوقود بأسعار مرتفعة.
يُخزن النفط بميناء عدن في صهاريج تقف إلى جوار أنقاض المصفاة البريطانية السابقة التي أُغلقت منذ بداية الحرب. استمر العيسي في السيطرة على النقابات والإدارة حتى عام 2019، وفاز بشكل دائم تقريبًا بمعظم مناقصات استيراد النفط التي أعلنت عنها حكومة هادي، أما اليوم فيتولى الانفصاليون من المجلس الانتقالي الجنوبي زمام الأمور، ويقدمون أسعارًا تفضيلية للرجل الذي حل محل العيسي، عبدالله البُصيري.
بحسب مصادر حكومية، يتولى ملك النفط الجديد في الجنوب توريد ما يقرب من نصف النفط إلى عدن، أي صفقات تبلغ قيمتها 400 مليون يورو شهريًا، وقال المصدر “يعد البُصيري الذراع المالي القوي للإدارة العليا للمجلس الانتقالي الجنوبي”. وبحسب باشراحيل هشام باشراحيل مالك جريدة “الأيام” اليومية التي أسسها والده عام 1958 في عدن: “يشترك تسعة رجال في توريد المشتقات النفطية”، ويأتي البُصيري في الترتيب الأول والعيسي حاليًا هو الأضعف. البُصيري الثلاثيني الذي يزن أكثر من 100 كيلوغرام يدير شركة كانت بداياتها كمكتب صرافة صغير أسسه والده في التسعينيات من القرن الماضي في المكلا، الميناء الهادئ جنوب شرق البلاد. يمتلك المجلس الانتقالي نفوذًا في محافظة حضرموت التجارية منذ القدم، وينتشر المغتربون الحضارم من الخليج إلى جنوب شرق آسيا، لكن الحضارم قلقون من خطط استقلال الجنوب، حيث يقول المصدر الحكومي “يستخدم العيسي تجارته للحصول على السلطة، أما البُصيري فلا يهتم بذلك الأمر، فهو لا يتبع أيديولوجيا معينة ولا يهتم بالسياسة، وكل ما يهتم به هو المال.”
اشتهر رجل الأعمال البُصيري بعد عام 2016 عندما طردت الإمارات جهاديي القاعدة الذين سيطروا على المكلا من الميناء، وكون أعضاء القاعدة يجيدون الإدارة فقد خفضوا الرسوم الجمركية للميناء وطوروا أعمال الميناء، وهو ما عاد بالفائدة على العاملين في مجال الصرافة. دخل حينها مكتب الصرافة الصغير الخاص بالبُصيري، الذي كان يعمل في تجارة الذهب، في استيراد النفط، وقال باشراحيل: “استثمر البصيري في المجلس الانتقالي الجنوبي ومنحهم مشتقات نفطية مجانية خلال أزمة 2019 عندما طرد الانفصاليون الحكومة من عدن للمرة الثانية.”
يتساءل العديد من العدنيين عن مصدر الأموال التي مكنت البُصيري من دعم هذا الانقلاب، فهو لا يمتلك حتى ناقلة واحدة، ويستأجر السفن لنقل النفط، على عكس العيسي الذي بنى إمبراطوريته من أسطول مكون من 18 سفينة، وعلى الرغم من تقدم العيسي في السن إلى أنه يبقى الأكبر في اليمن. يقول مصدر حكومي: “البُصيري كان نكرة قبل أن تخرجه الإمارات من المكلا وتجعله مشهورًا، كونه أفادهم أثناء سيطرتهم على الميناء والمنطقة المحيطة [في أبريل/نيسان 2016]، ثم وسع أعماله بفضلهم”. وأضاف المصدر: “عندما حان الوقت عُرِض على البُصيري أن يحل محل العيسي.”
لا يوجد دليل ملموس على أي صلة بين البصيري والدولة الراعية للانفصاليين، لكن للبُصيري مكاتب في دبي، ويتفاخر بعلاقاته الجيدة مع الإمارات. وكمعظم مستوردي النفط اليمنيين، يشتري البصيري نفطه من أسواق تفتقر إلى الشفافية، ثم يشحنها من المنطقة الحرة في الحمرية على ساحل إمارة الشارقة الصغيرة. يشك العيسي في أن القوى الخليجية تفضله، لكنه ما يزال منتظرًا الدليل على ذلك، وقال ببساطة” البصيري رجل أعمال يسعى لضمان مصالحه”. ما يزال العيسي حذرًا جدًا بخصوص الإماراتيين، فبعد أن ادعى منذ فترة طويلة أنهم حاولوا اغتياله في أكثر من مناسبة، أصبح يعتمد عليهم الآن لإنعاش أعماله على الساحل الصحراوي اليمني بعيدًا عن عدن، فالإماراتيون نافذون في محافظة شبوة، ويساعد العيسي في تجهيز محطة نفط جديدة هناك.
في الأيام الأخيرة انتصر خصوم العيسي الانفصاليون عليه، وانضم قائدهم عيدروس الزبيدي إلى المجلس الرئاسي المكوّن من ثمانية أعضاء الذي خلف هادي في 7 أبريل/نيسان، ويمثل المجلس معظم القوات التي تحارب الحوثيين، ونصف أعضائه من الجنوب، ونحى جميعهم خلافاتهم جانبًا نهاية أبريل للدخول إلى عدن معًا، وانبهرت المدينة بوحدتهم في المجلس، وكان هذا أفضل خبر تلقته اليمن منذ بداية الحرب. قال فارع المسلمي، الشريك المؤسس لمركز صنعاء للدراسات الذي سهّل تقرير لوموند من اليمن: “تقوم مصلحة الزبيدي في الوقت الحالي على لعب لعبة الأخوة، فقد حذر رجاله بأنهم سيرون الكثير من الوجوه التي لا يحبونها في عدن وأن عليهم التعود عليها.”
يمكن لقوات الزُبيدي بالتأكيد أن تتسامح مع القادمين الجدد، لكن السؤال هو هل هم مستعدون للتخلي عن سيطرتهم على المدينة؟ فمنذ عام 2015، تتقاتل الفصائل المختلفة على الموارد في عدن مسببة حالة عامة من الاستياء أوساط العدنيين، فمدينتهم أصبحت مدينة يغيب عنها القانون وتخضع لرحمة أمراء الحرب. يزعم مسؤول رفيع المستوى أن خدمات القتل كانت تعرض مقابل حوالي 7 آلاف دولار (6,600 يورو) منها 700 للذي سينفذ والباقي للشبكة الإجرامية المرتبطة غالبًا بالجهاديين المحليين.
كشيخ قبيلة
الزُبيدي قيادي منعزل، فهو ينحدر من محافظة الضالع الجنوبية الفقيرة، التي تمد المجلس الانتقالي الجنوبي بمعظم مقاتليه، وقد تسلل إلى الهياكل الأمنية للدولة، وربط بعض وحداته بالشرطة والجيش. قبل دخوله إلى عدن كمنتصر في أبريل/ نيسان، كان يمضي معظم وقته في أبو ظبي، ويشترى ساعات الرولكس الخاصة به في الرياض، ووصفه أحد مستشاري المجلس الانتقالي الجنوبي بقوله: “الزُبيدي يمارس السلطة كشيخ قبيلة، كما فعل الرئيس السابق علي عبدالله صالح (1990-2012)، الذي اُغتيل على يد الحوثيين عام 2017]، فهو يسمح للفوضى بالانتشار، ثم يصالح بين الأطراف، ويتوقع أن يكونوا ممتنين له.”
القوة الرئيسية التي تقاوم سلطة الزُبيدي ضمن الحركة الانفصالية هي الحزام الأمني المكوّن من مجموعة من أمراء الحرب المندمجين جزئيًا في الجيش اليمني، ورجال الأعمال، ومستوردي النفط، وملاك شركات صرافة. مؤسس الحزام الأمني هو نائب رئيس المجلس هاني بن بريك، وهو شاب سلفي تلقى تعليمه في السعودية، وكان من أوائل داعمي الإمارات في عدن. يجنّد الحزام الأمني أشخاصًا من قبيلة يافع في أرياف لحج والضالع وعدن، وصنف مجلس الأمن الدولي الحزام الأمني كواحد من الأطراف المسلحة في الصراع اليمني الذي جند أكبر عدد من الأطفال عام 2021.
قال أحد قادتهم “قدوتنا اليوم هو الجيش المصري”، مشيرًا إلى أنهم يتغلغلون في كافة القطاعات الاقتصادية، ويفرضون ما يعادل 14 يورو على كل من 200 ألف طن من الوقود التي تمر عبر الميناء شهريًا، ويحتكرون حوالي 20 في المئة من تلك الواردات، بحسب مصدر حكومي. تسحب الشاحنات التابعة لإحدى الشركات التابعة لهم واسمها “إسناد” الوقود من صهاريج ميناء عدن دون دفع أي مبالغ أو ضرائب، ومن ثم تبيعه في السوق السوداء وتسدد الدولة. كما يستثمر أمراء الحرب في العقارات، مستفيدين من تدفق أكثر من مليوني نازح فروا من الخطوط الأمامية، فمنذ عام 2015، تضاعف عدد سكان عدن ثلاثة أضعاف. وبحسب وصف محافظ عدن والأمين العام للمجلس الانتقالي الجنوبي أحمد لملس: “القادة العسكريون هم من يديرون مناطق الإعمار العشوائية الجديدة في ضواحي المدينة، ويزدهرون بالحرب.”
دُربت قوات “الحزام الأمني” تدريبًا عاليًا من قِبل المخابرات الإماراتية، وقال مراقب مقرب من أبو ظبي: “هكذا وفرت الإمارات جزءًا من تمويل حلفائها في اليمن بفتح أبواب الاقتصاد المحلي لهم”. ومع ذلك، فإن الميليشيا تمر بمرحلة سيئة، فالمدفوعات المباشرة التي تتلقاها من الإمارات آخذة في التناقص، بعد أن سحبت أبو ظبي الجزء الأكبر من قواتها من البلاد عام 2020، وتزعم أنها لم تعد تشارك في الحرب، وتحافظ على نفوذها من خلال تسليح قوات أخرى. عندما يُترك الحزام الأمني دون دعم، يقوم بإغضاب سكان عدن بفرض رشاوي وإتاوات لا حصر لها عند نقاط التفتيش التي يسيطر عليها. وفي وقت سابق من العام الجاري، وضع المجلس الانتقالي الجنوبي حدًا للفوضى بطرد الحزام الأمني من عدن. وقال علي الهدياني، أحد مسؤولي المجلس الانتقالي الجنوبي: “كانت معظم وحدات الحزام الأمني متمركزة في معسكراتها خارج المدينة للتدريب من جديد، وكان بعض قادتها يتعامل مع المواقع التي تموضعوا فيها وكأنها ملك لهم، فهم يأتون من محافظات فقيرة وما زالت عقليتهم قروية.”
في مارس/ آذار 2021، احتج سكان عدن بقوة على الفوضى في مدينتهم، واجتاحوا القصر الرئاسي، مما اضطر القوات السعودية إلى إنقاذ رئيس الوزراء معين عبدالملك، الذي يشغل المنصب منذ أواخر 2018، ويقيم في الفيلا المحصنة الواقعة على منحدر صخري حاد. وبحسب أحد المقربين منه، يعتقد معين أن العيسي حاول إطلاق النار عليه في ظل هذه الاحتجاجات. الشي الوحيد المؤكد هو أن العيسي يكره معين، فقد انقلب عليه الأخير بإلغاء العقود الحكومية التي كان يستفيد منها العيسي، ولم يستوعب رجل الأعمال خيانة المسؤول الحكومي حتى الآن، كون العيسي لم يكن يعتبر معين شخصًا ذي أهمية.
وادعى معين عبدالملك أن الدولة ما تزال تدفع ديونها للعيسي، وأكد أن خلافهم “ليس له أي أبعاد شخصية، فقد استهدف أحد الشخصيات القريبة من السلطة، والآن يجب عليه التعامل مع عشرة حلو مكانه، لكن الأمر أسهل. في الأول من يناير/كانون الثاني، حاول رئيس الوزراء التعامل مع هذه الفئة القليلة من خلال منح شركة النفط اليمنية المملوكة للدولة الحق الحصري في بيع وشراء الوقود في الميناء، ورغم محدودية مواردها إلا أنها تأمل في منع المستوردين والموزعين من زيادة أسعار المشتقات النفطية.
لكن هذه العملية لم تجرِ بسلاسة، فبعد ثلاثة أيام، أخلت ميليشيا انفصالية بقيادة الزبيدي مكاتب الشركة، وما تزال سيارتان تابعتان للحركة الانفصالية تقفان أمام الباب لمنع مدير الشركة من دخولها. كما أن النشاط الرسمي يغضب الكثير من السماسرة الذين يقومون بأكثر من ثلثي تعاملات المشتقات النفطية بعيدًا عن رقابة أي تنظيم مصرفي.
تأمل الدولة في تعزيز البنوك لضمان قدر أكبر من الشفافية لمكافحة اقتصاد الحرب ومنع جشع رجال الأعمال، لكن هل تمتلك الدولة الأدوات للقيام بذلك. ففي صنعاء تسيطر أجهزة الحوثيين الاستخباراتية على البنك المركزي، وكما قال مسؤول مالي في عدن: “يمتلكون الوصول إلى جميع الخوادم والأرشيف حتى تلك الخاصة بالحكومة، ويمنعون البنوك من إعطائنا أية معلومات، أما المسؤولون فسيُزج بهم في السجن إذا ما تكلموا معنا عبر الهاتف.” زاد المتمردون الحوثيون الضرائب المفروضة على البنوك عشرة أضعاف عما كانت عليه قبل الحرب ويمارسون الضغوط على الصرافين.
ضغط البنك المركزي في عدن التابع للحكومة منذ نهاية عام 2021 نحو إعادة هيكلة داخلية لمواجهة الحوثيين. يتكون أمن مبنى البنك من مرتزقة سودانيين مدفوع لهم من السعودية. الحساب البنكي الرئيسي للبنك في البنك الأهلي السعودي بمدينة الرياض. في السابع من أبريل/نيسان، تعهد مجلس التعاون الخليجي بتقديم 3 مليارات دولار للبنك لمساعدته على خفض معدلات التضخم.
عملة عديمة القيمة
لكن البنك المركزي بعدن في حالة يرثى لها، فقد شغل خمسة محافظين منصب محافظ البنك خلال السنوات الست التي قضاها البنك في التنافس مع فرع البنك في صنعاء، وبدأ أول محافظ مهامه بتحديد راتبه بمبلغ 40 ألف دولار أمريكي شهريًا، أعلى من راتب رئيس البنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، ومن ثم صمم طبعة نقدية جديدة تحمل توقيعه.
طبعت حكومة هادي أكثر من 3 تريليونات ريال من الطبعة الجديدة في روسيا حتى أواخر عام 2021، ولكن انتهى بها الأمر بأن أصبحت عديمة القيمة حين حظر الحوثيون استخدامها في مناطق سيطرتهم، وقال المسؤول المالي في عدن: “الحوثيون محقون، فقد كنا غير مسؤولين، وأكملنا تقسيم البلاد من خلال فرض عملة جديدة، أضف إلى ذلك أن النقود الجديدة لا تذهب إلى البنوك، بل إلى الصرافين مباشرة. هذه ليست السوق السوداء، بل سوق واقتصاد اليمن الحقيقي.”
هكذا يجني السماسرة اليمنيون ثروتهم، فهم يجلسون على الخط الفاصل بين الشمال والجنوب، يصرفون الريال الجديد إلى دولارات، والدولار إلى الريال القديم، ويقول محمد عوض رئيس جمعية الصرافين بعدن: “الجميع بحاجة إلينا!”. يقضي وريث العائلة التجارية العريقة البالغ من العمر 35 عامًا معظم وقته في الأردن بعيدًا عن فوضى مدينته، ويشعر بالحرج من سمعة مؤسسته بأنها تتربح من الحرب. ولذا شرع هو وعشرات من زملائه في تأسيس “أكبر بنك في عدن” سعيًا للحصول على الاحترام، ويجرى مفاوضات بهذا الصدد مع الدولة التي تفحص حساباته المصرفية على مدار العقد الماضي، بحثًا عن أي معاملات مشبوهة.
عدن: عاصمة مؤقتة ليمن منكسر
انخيليس اسبينوسا | صحيفة إلبايس الأسبانية | 14 مايو / أيار 2022
تُعد عدن بوابة اليمن المهيبة الواقعة جنوبًا، التي ترتسم على محياها جراح حربٍ دخلت عامها الثامن، حرب يتناسها العالم أجمع. ألقت هذه الحرب بظلالها على البلاد وتسببت عواقبها في انكسار الدولة، وتمدد امبراطورية الفساد، وتسلط أمراء الحرب، وابتلاء ثلثي اليمنيين بالمجاعة، وما وراء كل هذا هو صراع بين قوتين إقليميتين هما إيران والسعودية. عدن تشهد اليوم حياة تتسم بفقدان الأمل، ويعيش سكانها في وضع بلغ حد خوف الشخص من المشي في شوارعها دون رفيق.
أصبحت اليمن دولة محطمة، ولطالما أضعفها التشظي السياسي والاقتصادي والاجتماعي منذ زمن، وضاعف من ذلك التشظي سيطرة المتمردين الحوثيين على السلطة في صنعاء (العاصمة التاريخية للبلاد) نهاية عام 2014، وما تلاها من تدخل عسكري للتحالف بقيادة السعودية بحرب أهلية أطلق شرارتها الأولى الحوثيون. أصبحت عدن المدينة الساحلية الواقعة جنوب اليمن عاصمة مؤقتة لليمن منذ ذلك الحين، أو عاصمة مؤقتة لفكرة الدولة التي تعاني من حقيقة مرة، حقيقة وجود انقسامات داخلية متزايدة في صفوفها. هذه المدينة التي تُعد معقلًا للحكومة المعترف بها دوليًا ليست سوى أحد ألواح السفينة التي حطمتها صعوبة التأريخ والجغرافيا وزادها تحطيمًا فساد قادتها.
كانت نجوم الاتحاد السوفيتي الحمراء وشعار المطرقة والمنجل تُرفع على مآذن عدن حين كانت عاصمةً لجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، لكن توحدها مع اليمن الشمالي عام 1990 حولت المشهدين الحضري والاجتماعي في المدينة، حيث فقدت عدن جزءًا من خصوصيتها التي حازت عليها خلال السيطرة البريطانية، وتحولت تلك الخصوصية في ظل التجربة الشيوعية عقب استقلالها عام 1967، ومن ثم جاءت الحرب الأخيرة حاملها معها قشة الغريق للميناء الأكبر في شبة الجزيرة العربية الذي كان يومًا ما سابقًا لميناء دبي، لكنه ظل الطريق.
كرست المؤرخة المولودة في عدن أسمهان العلس جهودها لتوثيق هذه التغييرات، وتحدثت عن ذلك بحزن قائلة: “جذب موقعها الاستراتيجي على طرق التجارة اهتمام البريطانيين وجعلها مدينة ذات تنوع سكاني كبير”.
تقف الألقاب الهندية لبعض العائلات العاملة في الصيد، وبقايا العديد من الكنائس، واثنتان من المقابر اليهودية شاهدًا على ماضٍ غير بعيد كانت فيه عدن مدينة عالمية. ما زال كبار السن هنا يتذكرون كيف كانت دار سينما ريجال التي لم تعد موجودة تطلب من الرجال ارتداء ربطات العنق، في حين سمحت للنساء بارتداء ما أردن، كما يتذكرون كيف أن بعض الأزواج كانوا يذهبون إلى ملهى شاليمار للرقص وتناول المشروبات.
عانت عدن من جروح جسدية وعاطفية ما زالت ندوبها باقية حتى الآن، عانى العدنيون من اقتحام الحوثيين لمدينتهم ربيع عام 2015 واعتبروه غزوًا خارجيًا كون جماعة الحوثيين المتمردة المكونة من مزيج من أحزاب سياسية وميليشيات متحالفة مع إيران تمثل الظلامية الدينية التي لطالما وُصف بها شمال اليمن، أضف إلى ذلك كون مقاتلو الحوثيين هم من الزيود الشيعة بعكس الغالبية السنية من سكان اليمن البالغ 30 مليون نسمة. نجح التدخل الإماراتي (الشريك الرئيسي للسعودية في التحالف) بالدفاع عن الحكومة الشرعية وطرد الحوثيين من المدينة، لكنه فتح الباب أمام مشاكل أخرى، حيث عادت الحركة الانفصالية في الجنوب إلى الظهور وتضاعفت أعداد الجماعات المسلحة.
استمرت المعارك في المدينة لأربعة أشهر طويلة، وصفتها الدكتورة أسمهان العلس قائلة: “فقدت المدينة الكثير من مبانيها التاريخية، ولكن الأسوأ من ذلك هو تدمير نسيجها الاجتماعي”، وأضافت: “اضطرت العديد من النساء إلى إعالة أسرهن بعد فقدهن لأزواجهن أو لذهابهم للحرب”. وتؤكد المؤرخة -التي تُعد من العدنيات القلائل اللاتي تجرأن على الظهور في الأماكن العامة دون حجاب -أن السلام لم يتحقق بانتهاء التفجيرات، وانتقدت الوضع قائلة: “لم تعد الحياة إلى طبيعتها نظرًا لوجود المليشيات وتحول الفساد إلى سلوك رسمي معتاد”.
بعد سبع سنوات من مضي تلك المعارك، ما زالت الهياكل المتهالكة لفندق جولد مور والفنادق الكبرى الأخرى تذكرنا بروعة المدينة المفقودة والركود الذي تسببت به الحرب. بمجرد هبوط الطائرات ونزول الركاب، أول ما يستقبلهم هو مشهد الحفرة التي خلفها صاروخ حوثي في صالة المطار في ديسمبر / كانون الأول 2019. عند مغادرتنا للمبنى، استعاد السائق والحارس الشخصي أسلحتهم التي تركوها عند المدخل والتي لن تفارقهم أثناء مرافقتهم للصحفيين، فقبل أسبوع فقط اختُطف خمسة من موظفي الأمم المتحدة بينهم أجنبي في محافظة أبين المجاورة.
خلال تنقلاتنا، تظهر لنا المدينة آثار الرعب الذي عانى منه سكانها، حيث علق أحد المرافقين ونحن نمر بثكنة عسكرية ما زالت بعض مرافقها مدمرة قائلًا: “هذا هو المكان الذي قتلت فيه داعش [الدولة الإسلامية] حوالي سبعين جنديًا”، وعند مرورنا على أنقاض لا ساغرادا فاميليا الكنيسة الكاثوليكية الأخيرة علق أحدهم قائلًا: “هذه الكنيسة التي أضرمت القاعدة النار فيها”. حدث كلا الهجومين المذكورين بعد طرد المتمردين الحوثيين من المدينة، وعلى الرغم من أن تلك الهجمات أصبحت أقل بكثير إلا أن التهديد ما يزال موجودًا، حيث يسيطر جنود يرتدون أزياء رسمية مختلفة ويعملون تحت ولاءات مختلفة على الأحياء المختلفة في المدينة، الأمر الذي يظهر النفوذ المتزايد لأمراء الحرب المتنافسين على السيطرة على عدن وباقي مناطق البلاد.
تخضع جميع المليشيات الموجودة داخل المنطقة الحضرية عمومًا لقيادة المجلس الانتقالي الجنوبي، والمجلس هو جماعة تدعم الانفصال دربتها وسلحتها الإمارات، وسيطر على عدن بعد اشتباكات مع القوات الحكومية المدعومة من السعودية عام 2018، وبعد ذلك بعامين، سمح اتفاق تم التوصل إليه بين السعودية والإمارات للانفصاليين بالانضمام إلى الحكومة دون تخليهم عن هدف إنشاء دولة مستقلة.
تركن الحكومة إلى الاعتراف الدولي، والدعم الاقتصادي والعسكري السعودي، وسيطرتها على مناطق إنتاج النفط في المثلث الواقع بين مأرب وشبوة وحضرموت، وتعد المحافظات الثلاث قليلة السكان، وغنية بحقول النفط والغاز، وموردًا استراتيجيًا وإن كان محدودًا، مورد لا يتوفر في مناطق سيطرة الحوثيين ومناطق المجلس الانتقالي الجنوبي التي تعيش فيها غالبية سكان اليمن.
“لقد اختفى اليمن الذي نعرفه إلى الأبد” هكذا وصف فارع المسلمي مركزية الدولة في اليمن. فارع المسلمي هو مدير مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية الذي رتب رحلة صحيفة إل بايس إلى اليمن.
ما زالت عدن تعاني من ندوب الصراع، بداية بتفجيرات 2015 ونهاية بالاشتباكات الأخيرة بين أمراء الحرب. سام تارلينج (مركز صنعاء للدراسات الإستراتيجية).
أدت الحرب إلى تطرف اليمنيين، وأضافت القوى الإقليمية أي السعودية وإيران طبقة أخرى على الحرب القائمة، حيث لخص مصطفى نعمان وكيل وزارة الخارجية سابقًا والمقيم في المنفى حاليًا الأمر قائلًا: “بدأ الأمر بمواجهة بين الحكومة والقوات المناوئة للحكومة [بقيادة الحوثيين]، ومن ثم توسع ليشمل عدة مجموعات ذات مصالح مختلفة يصعب التفاوض بينها كون كل منها يدعي أنه الممثل الحقيقي لليمن”.
في أوائل أبريل/ نيسان، بعد توصل الحكومة والحوثيين إلى اتفاق هدنة لمدة شهرين، شجعت الرياض على إقالة الرئيس عبدربه منصور هادي المقيم في العاصمة السعودية، واستبداله بمجلس رئاسي يتكون من ثمانية أعضاء (نصفهم من الجنوب)، وبعد تشكيل المجلس، وعدت السعودية والإمارات فورًا بتقديم مساعدات قدرها 3 مليارات دولار (حوالي 2,8 مليار يورو). لكن ما يزال من غير الواضح ما إذا كانت هذه الخطوة ستنجح في إقناع الحوثيين بالجلوس على طاولة المفاوضات.
وصف روبرت كابلان اليمن قائلًا: “لطالما جعلت الجغرافيا اليمن بلدًا صعب الحكم”، حيث يقول في كتابه المعنون “انتقام الجغرافيا”: “لقد أحبطت التضاريس الجبلية الصعبة محاولات تحقيق الوحدة، ونجحت تلك التضاريس في إضعاف الحكومة المركزية، وبالتالي زيادة أهمية الهياكل القبلية، وأجهزة الدولة، والجماعات الانفصالية، ومن هنا يستنتج أن اليمن “دولة على وشك الانهيار تحاصرها ميليشيات خارجة عن الدولة”.
لا تصور خرائط الصراع سوى قدر ضئيل من مدى تعقيد هذه الانقسامات، فبعد رسم التقسيم الرئيسي للبلد بلونين مختلفين، الأول يمثل مناطق سيطرة الحوثيين شمال غربي اليمن، والثاني المناطق التي تسيطر عليها الحكومة جنوب وشرق البلاد، تبرز العديد من مستويات الألوان المختلفة والمتشابكة التي تحاول تمثيل الأطراف الأخرى المختلفة المشاركة في الحروب العديدة الجارية في نفس الوقت. يعاني الجنوب من الانقسام أيضًا، فالقوات التي تعارض الحوثيين لا تخضع لنفس القيادة، فهناك الانفصاليون والسلفيون والإخوان المسلمون والقبائل ومختلف أنواع الانتهازيين، فحضرموت مثلًا وهي المحافظة الأكبر مساحة والأقل سكانًا تطمح للاستقلال. مضى الوقت وابتعدت اليمن بعيدًا جدًا عن وحدتها في احتجاجات الربيع العربي عام 2011 ضد نظام علي عبدالله صالح.
تُعد مدينة عدن انعكاسًا مصغرًا للتفكك الذي تعاني منه البلاد. فمن بين الثلاثة الحواجز التي يجب المرور خلالها للوصول إلى الميناء وهو أحد مصادر الدخل الرئيسية للمدينة، لا تسيطر مؤسسة الموانئ سوى على واحد منها فقط، في حين يتحكم قادة العصابات المسلحة بالبقية، وذلك للحصول على نسبة من الرسوم الجمركية، حيث وصف ضابط سابق في خفر السواحل الوضع قائلًا: “السلطة ليست موجودة سوى على الورق، فهم يتقاسمون الأرباح فيما بينهم ولا يستثمرونها في البنية التحتية أو الأمن”.
علم الانفصال موجود في كل مكان، فمؤيدو المجلس الانتقالي الجنوبي يرون أن حل مشاكل الجنوب هو الانفصال عن الشمال، حيث أجاب الجندي فاضل علي صالح الذي يحرس قلعة صيرة التي شُيدت في القرن الحادي عشر وتطل على الميناء القديم الذي نشأت منه المدينة دون تردد قائلًا: “الحل هو دولتين”. لكن البُعد بين وعود المجلس وإدارته بدأت تلقي بظلالها على المجلس، حيث يشعر الكثير من المواطنين بخيبة أمل، يقول زيد الموظف من محافظة مجاورة والمتزوج بامرأة من عدن: “كانت توقعاتنا من المجلس الانتقالي الجنوبي كبيرة، لكن المجلس فاسد كالحكومة أو أكثر فسادًا منها”.
يشتكي السكان من نقص الخدمات الأساسية، حيث تتساءل رقية معلمة اللغة الإنجليزية التي تقضي نهار الجمعة (عطلة الأسبوع) مع أسرتها على ساحل جولد مور قائلة: “لا توجد كهرباء ولا مياه ولا وظائف للشباب. يهاجر الكثيرون إلى مصر أو تركيا، لكننا نحب بلدنا، فماذا يمكننا أن نفعل؟”، وترغب ابنتها رأفت البالغة من العمر 16 عامًا في الدراسة بالخارج. إمدادات المياه غير منتظمة، وتأتي الكهرباء بشكل متقطع كل ثلاث إلى أربع ساعات وتنطفئ لفترات مماثلة، ويقول المسؤولون إنهم بحاجة إلى تقنين استخدام وقود الديزل الذي يغذي محطة الكهرباء نظرًا لأسعار النفط المرتفعة حاليًا، كما أن إمدادات الوقود تعتمد على رغبة السعودية في تقديم الوقود، وفي حالة عدم رغبتها، سينقطع التيار الكهربائي وستزيد الحرارة والرطوبة المرتفعين من معاناة السكان.
هل ستتكرر احتجاجات العام الماضي؟ يرى النشطاء المحليون الأمر مستبعدًا، حيث يقول الناشط وعضو الحزب الاشتراكي في اليمن وضاح اليمن الحريري: “لن يسمح المسؤولون بذلك”، فمن وجهة نظر وضاح، يمتلك المجلس الانتقالي الجنوبي أفكارًا رائعة للعلاقات مع دول المنطقة، لكنه يفتقر إلى خطة لتقديم الخدمات، واستنكر أن المجلس يقوم “بالإضافة إلى ذلك بتقييد النشاط السياسي ونشاط المجتمع المدني”، ويذكر الحريري تلك القيود قائلًا: “من المصادرة غير القانونية للممتلكات، إلى عمليات الخطف بسبب الخلافات السياسية، وكذلك خطر أن ينتهي المطاف بالمرء في السجن دون سبب”.
يعكس البسط على الأراضي سلطة السلاح، فالمليشيات تعتبر الأراضي غنائم لها، في حين يعتبرها سكان عدن ذلك شكل من أشكال النهب. سيطر مدير الأمن السابق التابع للمجلس الانتقالي الجنوبي على جزيرة العمال (التي كانت تسمى جزيرة العبيد أثناء الحكم البريطاني)، وهي في الحقيقة شبه جزيرة يبلغ طولها كيلومتر واحد ولها مستقبل عقاري واعد. شخص يستولي على مساحة كبيرة في حين لا يجد النازحون من الحرب مكانًا يأويهم، فهناك أربعة ملايين نازح في البلاد بالكامل، ولجأ نصفهم تقريبًا إلى عدن، مما أدى إلى تضاعف عدد سكانها ثلاثة أضعاف، الأمر الذي ضاعف الضغط على الخدمات. تقول المؤرخة العلس إن هذا يُعد للأسف مثالًا على “غياب الدولة”.
دمرت سبع سنوات من الصراع الاقتصاد اليمني، وانخفضت الأجور وتضاعفت تكلفة الغذاء في نفس الوقت، مما جعل ثلثي اليمنيين يعانون من الجوع وفقًا لبيانات الأمم المتحدة. تظهر عواقب ذلك جلية في سوق السمك الواقع في حي كريتر بعدن، الحي الذي سُمي باسم البركان الذي شُيدت حوله المدينة، حيث فقد السوق قدرًا كبيرًا من نشاطه نظرًا لارتفاع أسعار الوقود.
فمن بين 500 صياد مسجل لا يخرج سوى القليل للصيد، حيث يقول راجيش البالغ من العمر 42 عامًا، قضى 22 منها في صيد السمك، وهو يقطع سمكة هامور ولا يستطيع شراء الديزل: “أنا أقبل أي وظيفة، فاليوم مثلًا أقوم بتقطيع السمك”. يكسب راجيش من هذا العمل بالكاد 5,000 ريال يمني (أي 4 يوروهات) في اليوم، وهو مبلغ غير كافٍ لإعالة زوجته وطفليه، بل يجب عليه أن يقتصد ليكفي ذلك المبلغ والدته وعشر من شقيقاته أيضًا.
كان السمك طعامًا ميسور التكلفة، ولكن لم تعد أغلب العائلات تستطيع تحمل ثمنه بعد أن انخفض نشاط الصيد وارتفعت أسعاره. في اليمن لا توجد العديد من البدائل كون اليمن يستورد 90 في المئة من الغذاء من الخارج. يتكون النظام الغذائي لأغلب السكان من البقوليات والخبز، وزادت الحرب في أوكرانيا من تلك الصعوبات كون القمح القادم من أوكرانيا يشكل 27 في المئة من واردات اليمن من القمح (في حين يشكل القمح الروسي 8 في المئة منها).
المجاعة هي الخطر الآخر الذي يؤثر على حياة 22 مليون نسمة يقبعون تحت حكم الحوثيين، الحكم البوليسي الذي وصفة المجيبين بأنه أكثر أمانًا من الجنوب، حيث يقول خالد، أب ومهندس عاطل عن العمل، عبر الهاتف من صنعاء: “وضعنا يزداد سوءًا نتيجة ارتفاع الأسعار”. عزا خالد ذلك إلى حصار الحكومة للمتمردين الحوثيين، لكن مصادر تجارية تنفي وجود هذا الحصار، حيث يقول أحد رجال الأعمال: “نواصل شحن البضائع، ولكن تكلفتها تزيد نتيجة الضرائب والعمولات التي يفرضها الحوثيون”.
صحيح أن الشمال والجنوب يتشاركان المصاعب ذاتها، إلا أن الحرب تعمق الخلافات بينهما. تطيل نقاط التفتيش الداخلية الرحلة من صنعاء إلى عدن والتي تستغرق عادة 7 ساعات إلى عدد ساعات تطول وتقصر بحسب مزاج رجال الميليشيات. منذ أن نقل البنك المركزي مقره إلى عدن عام 2016، طبعت الحكومة المعترف بها أوراق نقدية جديدة مما أدى إلى تفاقم معدلات التضخم. أما المتمردون الحوثيون فاستمروا باستخدام الأوراق النقدية القديمة (إضافة إلى اعتمادهم على تحويلات أعلى من المغتربين). كانت النتيجة ارتفاع سعر صرف الدولار في الجنوب أكثر من ضعف سعره في الشمال (1,100 ريال في الجنوب مقابل 600 ريال في الجنوب)، على الرغم من أن المساعدات السعودية المقدمة مؤخرًا قد وازنت قيمة الريال. أصبحت الصرافة هي التجارة الوحيدة المزدهرة شمالًا وجنوبًا.
فجوة التعليم آخذة في الاتساع، حيث يقول خالد: “غير الحوثيون المناهج الدراسية في المدارس”، واتهمهم بـ”إعادة اختراع تاريخ اليمن”. وفي رد على هذا الموقف، ينصح بعض أولياء الأمور أطفالهم بتعلم تلك الدروس من أجل اجتياز الامتحانات فقط ومن ثم نسيانها. أما الجنوب فيعاني من مشكلة تعليمية مختلفة وهي أن المعلمين لم يتقاضوا رواتبهم لمدة عامين، والحصص الدراسية التي تُقدم للطلاب هي بفضل المعلمين المتطوعين.
أصبح الذهاب إلى المدرسة حلمًا مستحيلًا لمن شردتهم الحرب، كفاطمة سيف البالغة 11 عامًا من العمر والقادمة من الحديدة، حيث تسببت المعارك في مدينتها الواقعة على ساحل البحر الأحمر قبل خمس سنوات باندلاع حريق في منزلها أجبر عائلتها على الفرار، وأجابت علينا بحزن قائلة: “بالطبع أريد الذهاب إلى المدرسة، لكن لم يتمكن سوى أحد أخوتي من التسجيل لأنه حصل على الشهادة، ولم يتم قبول بقيتنا كوننا لا نمتلك الأوراق المطلوبة.”
تعيش عائلة فاطمة في تجمع غير رسمي يطل على الشاطئ لا يبعد سوى 200 متر من منتجع كراون، المنتجع الذي يسترخي فيه الأثرياء الجدد في بيئة مقبولة دينيًا (بيئة خالية من الكحول وتتغطى فيه النساء بالكامل). تحتمي الأسرة كاملة والمكونة من الأب والأم وتسعة أطفال ببعض الأقمشة المعلقة على عصا، ويعمل الأب الأصم في جمع القوارير البلاستيكية، في حين تساعد فاطمة والدتها في التسول للحصول على الطعام من المطاعم.
كان للكثير ممن وصلوا إلى العاصمة المؤقتة أقارب رحبوا بهم في منازلهم، لكن عائلة سيف لم يكن لديها شبكة دعم، كما أن لون بشرتهم الأسمر يظهر أنهم من الأخدام، أي أفقر الفقراء. رغم أن الأخدام هم كاليمنيين الآخرين ويتحدثون نفس اللغة العربية، إلا أنهم لا ينتمون إلى أي من القبائل الرئيسية وغالبًا ما يتعرضون للتمييز، وحولهم البؤس إلى وقود للمدافع، وتجندهم الميليشيات في صفوفها.
كانت خيبة الأمل والإرهاق السمة البارزة في عشرات المحادثات التي أجريناها مع المهنيين والنساء والناشطين والشباب لمدة أسبوع في هذه المدينة، وجيرانهم أيضًا يرغبون بالعيش في أمن، والحصول على عمل، والعيش تحت نظام حكم لائق، فأغلبهم لا يشعرون بأن الحكومة أو المجلس الانتقالي الجنوبي أو مجموعات أخرى تمثلهم. يعزو الكثيرون الوضع في بلادهم إلى التدخل الأجنبي.
“نحن نحارب من أجل لا شيء، تلعب إيران والسعودية لعبتهما في بلدنا”، هذا ما قاله نجم سالم، الذي يبلغ من العمر 67 عامًا ولا يزال يعمل مشرفًا للشحن في الميناء مقابل راتب ضئيل قدره 80 ألف ريال (65.50 يورو) شهريًا. أحد أبناء صالح يقاتل في صفوف الانتقالي في مأرب مقابل 100 ألف ريال شهريًا، ويعيل الاثنان معًا أسرة كبيرة مكونة من 17 شخصًا. يعتقد هذا الرجل النحيل أن المشكلة ليست في شكل الدولة وكونها دولة واحدة أو دولتين، بل أن المشكلة في قادتها، ولخص الأمر قائلاً “المهم هو اختيار أشخاص مؤهلين لا يكرسون جهودهم لتعبئة جيوبهم”.
ما يزال هناك التزام بوحدة اليمن في دوائر التجارة والأعمال، حيث يقول حافظ باكيس الذي يمتلك مع شقيقه محلات للآلات الزراعية، الأول في صنعاء والآخر في عدن: “نحن شعب واحد، ولكن البعض مصمم على تقسيمنا”، في حين يقول مازن أمان مستشار مجموعة هائل سعيد أنعم، التي تتحكم في كل شيء من مطاحن الدقيق إلى مصانع الأسمنت، مرورًا بمصانع التعبئة والتغليف، وتستمر في العمل بجميع أنحاء البلاد، وتوظف ما يقرب من 20,000 موظف “تتعلق المسألة باقتصاد الحجم، فسوق يتكون من 30 مليون نسمة أكثر كفاءة من سوقين أصغر”.
ومع ذلك، تنتشر الرغبة في الانفصال بالجنوب، حيث تقول المؤرخة العلس: “الحل العملي والمقبول للجنوبيين هو أن يتمكنوا من ممارسة حقهم في الاستفتاء، بشرط أن يكون ذلك تحت إشراف المجتمع الدولي”، لكن المجلس الانتقالي الجنوبي لا يريد حتى أن يسمع كلمة استفتاء.
يوضح مشعل العثماني، أستاذ علوم المعلومات بجامعة عدن، أن “الجنوب لطالما أراد الانفصال تاريخيًا، إلا أن تجربة حكومة المجلس الانتقالي جعلت الكثير من الناس يتراجعون عن ذلك ويدعمون النظام الفيدرالي”. ويرى هذا المحلل أن “الوحدة غير مجدية الآن كما كانت غير مجدية في الماضي، فالسكان منقسمون بين مؤيدي الوحدة والانفصال وحل ما بين الاثنين”. في حين لخصت غيداء الرشيدي العدنية حتى النخاع والباحثة في مركز صنعاء الأمر على هذا النحو: “قلوبنا ترغب في الاستقلال، ولكن عقولنا تطلب الوحدة”.
دخلت الحرب عامها الثامن في 26 مارس/ آذار دون ظهور بوادر حل وفي ظل تراجع الاهتمام الدولي. على الرغم من أن الصراع في اليمن لم يتسبب في موجات من اللاجئين خارج البلاد كما حدث في سوريا وأوكرانيا، ولكن من يستطيع الخروج من اليمن يقوم بذلك، ويأمل الشباب في حرم جامعة عدن أن تكون دراستهم بمثابة نقطة انطلاق للخروج من دائرة العنف والبؤس، حيث تقول هدى، طالبة كلية الصيدلة البالغة من العمر 27 عامًا: “أحلم بمغادرة اليمن إلى دولة غير عربية، فأنا أرغب في عيش حياتي”، كلمات تعبر عنها وعن مشاعر العديد من زملائها.
بعد حصول محمد البالغ من العمر 25 عامًا على شهادة جامعية في الهندسة وإدارة الأعمال وتغلبه على الاكتئاب، بدأ هو وزوجته الطبيبة عملية الهجرة إلى ألمانيا، وقال مشيرًا إلى طفلة البالغ من العمر 15 شهرًا: “نريد مستقبلًا أفضل لابننا، فقد فقدنا الأمل هنا.”
نقص التمويل وشلل النظام الصحي في اليمن
انخيليس اسبينوسا | صحيفة إلبايس الأسبانية | 19 مايو / أيار 2022
تعاني المستشفيات من أجل تقديم الرعاية لمرضاها في ظل نقص حاد في الكهرباء ومياه الشرب.
تستلقي نعمة بكر على النقالة دون أي حراك، نعمة الأم اليمنية التي تتردد باستمرار على مركز غسيل الكلى بمستشفى الجمهورية في عدن، وتسافر من قريتها ردفان في محافظة الضالع المجاورة إلى المستشفى مرتين أسبوعيًا منذ عدة سنوات حتى اليوم، وتقول: “لم أتغيب عن جلسات العلاج إلا عند حدوث اشتباكات”. تبدو المدينة هادئة الآن، لكن آثار الحرب التي دخلت عامها الثامن كانت القشة التي قصمت ظهر النظام الصحي في اليمن، النظام الذي كان ضعيفًا في الأساس، حيث تكافح المستشفى لتقدم الرعاية للمرضى والجرحى في ظل انعدام الكهرباء والمياه النظيفة والتمويل، وما تزال المساعدات الدولية هي الأمل الوحيد لها.
توضح نعمة البالغة من العمر 50 عامًا أن غسيل الكلى يتطلب أدوية إضافية مثل الكالسيوم والفيتامينات وتقول: “كان المستشفى يقدم تلك الأدوية لنا مجانًا من قبل، أما الآن فعلينا أن ندفع ثمنها، وارتفعت أسعارها من 30 إلى 50 ألف ريال شهريًا [من 30 إلى 50 يورو] نتيجة التضخم”، ويُعد هذا المبلغ ثروة في بلد يعيش فيه 80 في المئة من السكان على أقل من ثلاثة يورو في اليوم. ومع ذلك فإن نعمة والمرضى الآخرين في الحي الذي تسكن فيه الذين يشغلون أي سرير من الثمانية والعشرين المتوفرة في المستشفى محظوظون لوجود متبرع يدفع أجرة الحافلة الصغيرة لنقلهم إلى المستشفى، وهي رحلة شاقة تستغرق ثلاث ساعات ذهابًا وأخرى إيابًا.
تحذر نبيهة بامجيد رئيس قسم غسيل الكلى من خطورة الوضع، حيث قالت لمجموعة صغيرة من الصحفيين خلال زيارة أخيرة مع مركز صنعاء إلى عدن: “نرى مرضى أصغر وأصغر حتى أطفال دون سن الخامسة يموتون لعدم قدرتهم على دفع ثمن الأدوية التكميلية لغسيل الكلى”. سعة الوحدة وأسرتها لم تعد كافية (بسبب افتقار المحافظات المجاورة لهذه الخدمة)، وما يزيد من سوء الأمر هو نقص الإمدادات منذ اندلاع الحرب بين المتمردين الحوثيين والحكومة المعترف بها دوليًا.
“كان وضعنا معقدًا بسبب فيروس كورونا، فقد أثر على المصابين بأمراض الكلى وفاقم حالتهم، واضطُررنا حينها إلى ارتجال منطقة عزل، لكننا لا نستطيع التعامل مع الوضع”، وأضافت نبيهة وهي في منتصف نوبتها التي بدأت الساعة الخامسة صباحًا قائلة: “لولا دعم اللجنة الدولية للصليب الأحمر، لن نكون قادرين على مواصلة العمل”، ومن ثم أضافت أن مؤسسة الملك سلمان (من السعودية) تزودهم بالوقود اللازم لمولّد المركز.
يقول أحمد سالم الشبحي الرئيس التنفيذي للمستشفى إن هذه المشاكل ليست جديدة، ويضيف: “تفاقمت الحرب قبل سبع سنوات، لكنها في الحقيقة بدأت قبل 30 عامًا” مشيرًا إلى المواجهة بين جنوب اليمن وشماله عام 1994، والتي اندلعت بعد أربع سنوات فقط من توحيد البلاد، ويشتكي الجنوبيون التهميش في الاستثمارات العامة وإهمال العاصمة صنعاء لهم منذ ذلك الوقت، صنعاء التي وقعت في أيدي المتمردين الحوثيين أواخر عام 2014.
قطاع الصحة العامة اليوم متداعٍ في جميع أنحاء البلاد، فوفقًا للبنك الدولي نهاية العام الماضي لم يكن يعمل سوى نصف المراكز الصحية، وواجه 80 في المئة من السكان صعوبات في الوصول إلى تلك المراكز. أدى نقص الموارد البشرية والمعدات والإمدادات إلى تدهور الخدمات، وبالتالي زيادة الوفيات عند الولادة والأطفال حديثي الولادة، وزيادة حالات سوء تغذية الأطفال، وتطعيم عدد أقل من الأطفال، وظهور الأمراض المعدية مثل الحصبة من جديد في بعض المناطق، وكل ذلك في وسط الجائحة وفي سياق تراجع التمويل الأجنبي.
هذا العام حصلت الأمم المتحدة بالكاد على ثلث التمويل الذي كانت تسعى للحصول إليه لخدمة السكان الأكثر ضعفًا والبالغ 4.3 مليارات دولار (4.079 مليارات يورو)، حيث يخشى المانحون من أن تقع المساعدات في أيدي المجموعات المتناحرة المختلفة، ففي عام 2019 وحده، استولى الحوثيون على حوالي 1.8 مليار دولار من المساعدات الإنسانية المخصصة للمدنيين. جاء اتفاق وقف إطلاق النار لمدة شهرين بين الحكومة والمتمردين والذي أعلنته الأمم المتحدة أوائل أبريل حاملًا معه بصيص أمل.
من الصعب التحدث بطريقة عامة كون الوضع متفاوت تفاوتًا كبيرًا، حيث أوضح عامل إغاثة دولي من القطاع عن الوضع قبل الهدنة قائلًا: يختلف الوضع من جبهة إلى أخرى، فحجة التي ينتشر فيها القصف وسوء التغذية تختلف عن عمران التي تعاني قليلًا من العنف والأمراض فيها ترتبط أكثر بالفقر”.
تواجه المنظمات الإنسانية في شمال وجنوب البلاد مشاكل مختلفة، ففي مناطق سيطرة الحوثيين، تشتكي المنظمات من صعوبات في الوصول وقيود في الحركة، وفي الجنوب، هناك مخاوف من انعدام الأمن نتيجة انتشار المليشيات وعمليات الخطف. لا تدفع الحكومة المعترف بها في عدن رواتب العاملين الصحيين في الشمال، وبالتالي يعتمدون كليًا على المساعدات الإنسانية، وفي الجنوب رواتبهم لا تُدفع بشكل منتظم.
يستلم الأطباء العاملون في مستشفى الجمهورية، وهو المستشفى الذي تُحال إليه الحالات من المراكز الصحية في عدن ويوفر 450 سريرًا بالكاد، ما يعادل 100 يورو شهريًا، وتستلم الممرضات أقل من نصف ذلك المبلغ، وهي مبالغ تتناقص قيمتها الفعلية نتيجة التضخم. عند رؤية وضع المرافق الصحية السيء يدرك المرء أن مشكلة الرواتب ليست الأسوأ، فممرات المشفى وغرفها قذرة، ولا يوجد فيها تكييف ولا مراوح بالرغم من الرطوبة الشديدة، وطُرح الأسرة لم تُغير لأيام، والمصابيح في مداخل منطقة الجراحة معطلة.
يشكو مدير المشفى من قلة المساعدات، ويقول: “مارس المجتمع الدولي التمييز ضدنا خلال جائحة كورونا”، قبل أن يُقر بأن المرافق التي افتتحها المجلس الانتقالي الجنوبي (الجماعة الانفصالية التي تسيطر على عدن) حظيت بدعم منظمة الصحة العالمية واللجنة الدولية للصليب الأحمر، ويُقر بأن وضع المستشفى ما يزال صعب للغاية حتى بعد الاتفاق الأخير بين سلطة الأمر الواقع والحكومة.
يرغب الأصبحي وهو انفصالي ومناهض للاستعمار في أن يستعيد المركز الروعة التي كان عليها أيام الانتداب البريطاني وعبر عن ذلك بقوله: “ما زالت لدينا نفس المرافق التي كانت متوفرة عند افتتاح المركز عام 1954” ويشير إلى صورة قديمة على جدار مكتبه تظهر فيها زيارة الأميرة ألكسندرا (ابنة عم الملكة إليزابيث الثانية) وهي تزور المستشفى قائلًا: “نحن بحاجة إلى مساعدة من المجتمع الدولي ليتحرك المانحون”، وأنهم عاجزون عن مواجهة الشلل السياسي في بلاده.
ثقل المال السعودي
على بُعد 10 دقائق فقط من مستشفى الجمهورية في عدن، تضع السعودية اللمسات الأخيرة على مركز طبي جديد مجهز بأحدث الأجهزة سيكون أول وحدة قلب في المنطقة، وجُهز المركز بما يقرب من 300 سرير، وعيادات خارجية للتخصصات الرئيسية، ومختبرات، وغرفة علاج طبيعي، ومطابخ، وكافيتريا للموظفين، وغرفة غسيل، وحتى عدة شقق للأطباء الزائرين.
قال محمد أحد الحاضرين أثناء الزيارة: “لم أعرف شيئًا كهذا في اليمن، فهكذا مستشفى يجعلك ترغب في المرض لتذهب هناك”.
بدلًا من أن تحسّن المرافق والخدمات الصحية القائمة فضلت السعودية إعادة بناء مستشفى عدن من الصفر، وهوى المستشفى الذي منحته المملكة لليمن عام 1990، ونُهِب عام 2015 أثناء الاشتباكات بين الحوثيين والقوات الموالية للحكومة. بلغت تكلفة المشروع 56 مليون دولار (حوالي 51 مليون يورو) بحسب أرقام قدمها أحمد مدخلي رئيس البرنامج السعودي للتنمية في اليمن. يُذكر أن الرياض تقود تحالفًا عسكريًا لدعم الحكومة اليمنية ضد المتمردين منذ عام 2015.
يوضح المدخلي أنهم لا يثقون بقدرات وزارة الصحة اليمنية وسيسلمون إدارة المستشفى إلى شركة خاصة، على الرغم من أنهم سيدفعون تكاليف تقديم المستشفى للعلاج مجانًا لمدة 15 عامًا كأي مركز صحي حكومي. ويقر المدخلي أنه يتعيّن عليهم وضع طريقة لاختيار المرضى، لأن الفرق في جودة الخدمات الطبية سيجعل الجميع يرغب في الذهاب إلى المركز الجديد، ويخشى محمد أن يصبح “مستشفى للرؤساء”.
اليمن: بلد يعاني من الحرب تحت الوصاية السعودية
يدخل الصراع في اليمن عامه الثامن، وتضغط الرياض من أجل تحقيق تنسيق سياسي بين جميع الفصائل المعارضة للحوثيين.
انخيليس اسبينوسا | صحيفة إلبايس الأسبانية | 12 مايو / أيار 2022
يرى الصاعد إلى قصر معاشيق مناظر أخاذة، لكنها خادعة، فلون خليج عدن الأزرق يحجب عن العين الدمار والبؤس في الطريق إليه، وتسميته بالقصر الرئاسي تضليل، فلا هو قصر ولا فيه رئيس. هو مجرد مجمع متواضع يستخدم كمقر للحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا ورئيس وزرائها معين عبدالملك سعيد. لكن القرارات المهمة في البلد لا تُتخذ في هذا القصر، بل في الرياض، عاصمة السعودية.
بمجرد وصول المرء إلى عدن، العاصمة اليمنية المؤقتة، يعرف فورًا ظلال تلك الوصاية السعودية بوصول رسالة هاتفية إلى هاتفه من شركة الاتصالات السعودية تتمنى للواصلين “إقامة سعيدة” في البلاد. أضف إلى أن الرياض تمتلك حق السماح والرفض لمن يريد دخول اليمن كونها تسيطر على المجال الجوي اليمني. في أوائل أبريل/ نيسان، أجبرت السعودية الرئيس عبدربه منصور هادي على الاستقالة واستبدلته بمجلس رئاسي من ثمانية أعضاء برئاسة رشاد العليمي، ومنذ ذلك الحين يتشارك رئيس الوزراء ورشاد العليمي قصر معاشيق.
معين عبدالملك هو من مواليد تعز، ويبلغ من العمر 46 عامًا، تخرج معين كمهندس من القاهرة، وشكل جزءًا من مؤتمر الحوار الوطني الذي حاول ضمان انتقال سلمي للسلطة بعد احتجاجات الربيع العربي. عُيِّن في 2018 بدعم سعودي على الرغم من عدم وجود إجماع عليه، وقال معين لمجموعة من الصحفيين الذين زاروا عدن مع مركز صنعاء قبل تشكيل مجلس القيادة الرئاسي: “هناك يمنيون يرون الأشياء بشكل مختلف عنا”، وتبدو كلمة “مختلف” ككناية ألطف للوضع في بلد يعاني من الحرب منذ سبع سنوات.
بدأ كل شيء عند سيطرة المتمردين الحوثيين على صنعاء وإطاحتهم بالرئيس هادي أوائل عام 2015، الحوثيون هم جماعة سياسية عسكرية قريبة من إيران نصبت نفسها مدافعًا عن الأقلية الزيدية الشيعية في اليمن، ولجأ هادي حينها إلى عدن معلنًا إياها عاصمة مؤقتة لليمن، لكن محاولات الحفاظ على الدولة تبخرت عندما قرر المتمردون في الشمال مدعومين بقسم الجيش الموالي لعلي عبدالله صالح التقدم نحو الجنوب، وعجزت القوات الموالية للحكومة وقتها عن صد هذا التقدم. هرب هادي إلى السعودية، ومن ثم تدخلت المملكة عسكريًا مع تحالف عسكري ترأسه، وتمكنت من دحر الحوثيين من الجنوب، ولكن الثمن كان ندبات ما زالت تشوه وجه عدن حتى اليوم.
توقفت الحرب مع الشمال منذ ذلك الحين، لكن دحر المتمردين من الجنوب فتح الباب على مصراعيه للعديد من المشاكل، فقد أحيا الهجوم على الجنوب الروح الانفصالية فيه كونه كان مستقلًا خلال الفترة بين نهاية الانتداب البريطاني عام 1967 وحتى الوحدة عام 1990. تبلورت خيبة الأمل القوية والخارجة عن السيطرة نتيجة تلك التجربة في خروج احتجاجات شعبية إلى الشارع تحت مسمى الحراك الجنوبي، واستغل المجلس الانتقالي الجنوبي وهو إحدى المجموعات المؤيدة للانفصال تلك الاضطرابات للسيطرة على السلطة، ويرجع الفضل في ذلك إلى حد كبير إلى دعم الإمارات العربية المتحدة، إحدى دول التحالف الذي تقوده السعودية.
مضت سبع سنوات، ودُفع ثلثا الشعب اليمني البالغ 30 مليون نسمة إلى حافة المجاعة، وعزز المتمردون الحوثيون سيطرتهم على شمال غرب البلاد، المنطقة التي يقطن فيها 70 في المئة من السكان. أما باقي المناطق فتشارك مجموعات مختلفة في السيطرة عليها، ويأتي دعم تلك المجموعات للحكومة نتيجة عداوتها للحوثيين أكثر من قربها من بعضها. ترغب السعودية في إنهاء الحرب التي خرجت عن السيطرة (فقد سحبت الإمارات قواتها عام 2019 لكنها ما تزال بنفوذها من خلال الميليشيات المتحالفة معها)، ولذلك جاءت الرياض الآن بالمجلس الرئاسي الذي سيمثل جبهة مشتركة ضد الحوثيين، سواء في التفاوض على اتفاق سلام أو في قتالهم بفعالية أكبر.
جاء هذا الإعلان بعد أيام فقط من توصل الحوثيين والتحالف إلى اتفاق وقف إطلاق النار لشهرين أوائل أبريل/ نيسان، وكان هذا الاتفاق أول وقف إطلاق نار على المستوى الوطني منذ عام 2016. جاء هذا الاتفاق ليمنح المدنيين فرصة للراحة، لكن الآمال ما زالت ضئيلة، وما زلنا لا نعرف ما إذا كان المتمردون سيمددون الهدنة إلى ما بعد 2 يونيو / حزيران المقبل.
أضف إلى ذلك أنه وعلى الرغم من أن السعودية والإمارات تعهدتا بتقديم مساعدات بقيمة 3 مليارات دولار (حوالي 2.8 مليار يورو) عند تشكيل المجلس، إلا أنه لا يخفى أن العديد من الخلافات تختبئ وراء ابتسامات أعضاء المجلس الثمانية (أربعة منهم من الشمال وأربعة من الجنوب)، والخلاف الرئيسي هو بين المجلس الانتقالي الجنوبي وحزب الإصلاح الإسلامي. حتى وإن أجبرهم الضغط الخارجي على تنحية عداواتهم الأيديولوجية والشخصية جانبًا، إلا أنه لا يبدوا أنهم على استعداد لإرسال رجالهم شمالًا لاستعادة السيطرة على صنعاء، فخلال السنوات الأخيرة لم تتركز المعارك سوى على الشرق في مأرب مكان وجود الهيدروكربونات.
هناك تنوع كبير في الجنوب، ففي حين تكون سيطرة المجلس الانتقالي في عدن واضحة في جميع مناطقها، إلا أن نفوذه في بعض المحافظات المجاورة ما زال مشكوكًا فيه، ففي عدن يسيطر المجلس على الحواجز والنقاط العسكرية على مداخل مقر الحكومة في معاشيق بعد أن تسلمها من القوات الإماراتية، أما الحرس الرئاسي السابق فلا يسيطر سوى على النقطتين الأخيرتين. تُرفع أعلام الانفصال في كل تلك النقاط، ويقول أحد مستشاري معين عبدالملك حزينًا: “لا يمكننا حتى رفع العلم الوطني”.
يرى المواطنون على مستوى الشارع أن الحكام معزولون في برج عاجي، ويطالبون بالخدمات الأساسية كالكهرباء، ومياه الشرب، والتعليم، والصحة. يعترف رئيس الحكومة، وهو الرابع منذ انقلاب الحوثيين، بالقيود الموجودة ويقول: “نحاول الحفاظ على نواة مؤسسات الدولة ليكون من الممكن إعادة بنائها”. حتى سكن رئيس الوزراء معين كان يعاني من انقطاع الكهرباء خلال زيارة الصحفيين، ويقول رئيس الوزراء أنه يحاول حل المشاكل بدون ميزانية منذ 2014: “نحن نفعل ما في وسعنا”.
تعتمد عبارة “ما بوسعنا” على ما يقرره رعاتهم الأجانب، ففي الحقيقة أتى معين إلى عدن نتيجة اتفاق بين السعودية والإمارات في الرياض نهاية عام 2019 والذي نص على مشاركة المجلس الانتقالي الجنوبي في الحكومة، وتتجلى أهمية هذا القرار في الحفرة التي خلفها هجوم الحوثيين على مطار عدن لحظة وصول رئيس الوزراء ورفاقه بعد عام من القرار. وبمنظوره الضيق لم يتقدم المجلس الانتقالي الجنوبي شبرًا واحدًا نحو هدفه المتمثل في تحقيق الاستقلال.
وأوضح ذلك فضل الجعدي مساعد الأمين العام للمجلس الانتقالي الجنوبي في الطرف الآخر من شبه الجزيرة التي تشكل قلب عدن قائلًا: “نحن جزء من التحالف الذي تقوده السعودية، وندعمه لدحر من يسيطرون على صنعاء”. وأوضح أن رؤيته بعد تحقيق هذا الهدف هي “دولة مستقلة” في الجنوب.
تحسن الوضع الأمني في عدن نتيجة اتفاق الرياض، لكن التنافس بين الشركاء الحاليين في الحكومة لم ينته بعد. يقول مؤيدو معين إنه “من رؤساء الوزراء القلائل الذين يمنحون الأمل في المستقبل”، وذلك كونه قادر على الحفاظ على علاقات جيدة مع جميع السلطات، أما منتقدوه فيقولون إنه رجل السعودية وإنه من الرجال الذين “لا يقولون لا على الإطلاق”.
يصعب انعدام الثقة على الدولة فرض سلطتها على شبكات المصالح التي تتشكل وتكبر تدريجيًا وتحول البلاد إلى مملكة طوائف. إن لم يتحد الجميع لتكوين جبهة مشتركة، سيكون من المستحيل التوصل إلى تسوية مع الحوثيين الذين يسيطرون على صنعاء وشمال اليمن، لكن حتى إن نجح المجلس الرئاسي، فإن تخندق المتمردين الحوثيين يجعل التوصل إلى اتفاق أمر بعيد المنال، ويخشى الكثير من اليمنيين أن الأمور تؤول إلى تثبيت انقسام البلاد.
في الماضي لم يكن هناك فرق بين الرجل والمرأة
الأيديولوجية الإسلامية الصارمة تضع عبئًا ثقيلًا على المرأة
طوكيو ويب | 9 مايو 2022
أدت الحرب الأهلية التي استمرت منذ عام 2015 في اليمن إلى تغيير كبير في البيئة المحيطة بالمرأة في البلاد. في خضم حالة الفوضى، انتشرت أيديولوجية إسلامية صارمة في بعض أجزاء البلاد، وأُهمل تعليم المرأة وتوظيفها، وزواج الأطفال منتشر في المناطق الريفية. تكسب النساء اللواتي ليس لديهن خبرة عمل وفقدن أزواجهن في المعركة في الحرب قدرًا ضئيلًا من المال كل يوم لإعالة أسرهن. وتقول المنظمات النسائية: “هذه الحرب تضع عبئًا ثقيلًا على المرأة”.
الدولة الاشتراكية الوحيدة في الشرق الأوسط
عطلة نهاية الأسبوع في أواخر فبراير. كان شاطئ خليج عدن مزدحمًا بالعائلات والنساء اللاتي يرتدين ملابس سوداء بالكامل. في الماضي لم يكن هناك فرق بين الرجل والمرأة. “من قبل لا يوجد أحد يرتدي هذا”، قالت زهراء محمد علي (48 عامًا) مدرسة في مدرسة ابتدائية، جاءت لزيارة مع ابنتها، “هذا” يشير إلى النقاب، وهو قطعة قماش تغطي كل شيء ما عدا العيون. أنا في الواقع، “أريد خلعه لأن الجو حار جدًا”، قالت ضاحكة.
كانت عدن العاصمة السابقة لجنوب اليمن حتى إعادة توحيد شمال وجنوب اليمن عام 1990، كما في الاتحاد السوفيتي السابق، عُرفت عدن بأنها الدولة الاشتراكية الوحيدة في الشرق الأوسط ذلك الوقت. كان حضور الدين خفيفًا، والحركة النسائية نشطة، والتعليم والعمل متساويين للرجال والنساء.
بعد إعادة توحيد اليمن الجنوبي والشمالي، زاد التشدد الإسلامي في المجتمع، حتى في عدن، بدأت النساء في ارتداء قماش “الحجاب” لتغطية شعرهن “العباءة” لتغطية أجسادهن بالكامل ومنع السفر بمفردهن. شيماء الوحش، طالبة في السنة الثالثة في الثانوية البالغة 18 عامًا من العمر كانت تدخن الشيشة على الشاطئ مع أختها الكبرى البالغة 30 سنة من العمر. كانت ترتدي ملابس سوداء بالكامل. اعترفت “أريد أن أرتدي ملابس ملونة، لكن لا يمكنني ذلك لأن الناس سيعتقدون أنني “فتاة سيئة”.
تفشي زواج الأطفال
وسط الاضطرابات/ الفوضى التي خلفتها الحرب الأهلية، اكتسب الإسلاميون المتشددون والمساجد (أماكن العبادة الإسلامية) دورًا أكبر في البلاد. بسبب الفكرة الأصولية أن “المرأة لا تحتاج إلى العمل خارج المنزل” انتشرت المواقف السلبية تجاه توظيف المرأة وتعليمها في المناطق الريفية. بسبب الحرب الأهلية، تراجعت فرص العمل نفسها، وانتشر زواج الأطفال في منتصف فترة المراهقة، قائلين: “حتى لو كانت النساء متعلمات، فلا توجد وظائف”. وفقًا للأمم المتحدة، تزوجت 52٪ من النساء قبل بلوغ سن 18 عامًا عام 2017
من ناحية أخرى، فإن النساء اللواتي ليس لديهن خبرة عمل وفقدن أزواجهن أو أبنائهن الذين كانوا يعولون الأسرة بسبب الحرب الأهلية يضطرون الآن للذهاب إلى العمل.
ليس لدي أي مهارات للعمل خارج المنزل، كل ما يمكنني فعله هو عمل بسيط مثل بيع سلع متنوعة في الشارع.
غريبة عبده حسام، 15 عامًا، الذي تعيش مع والدتها في مخيم للاجئين في عدن، تكسب حوالي 4000 ريال يمني، حوالي 470 ينًا يوميًا عن طريق بيع المناديل. قالت “حلمي هو أن أصبح طبيبة، لكن ليس لدي المال للذهاب إلى المدرسة”. لتغيير وضع النساء مثلها، تقوم منظمات حقوق الإنسان في عدن بتعليم النساء كيفية صيد الأسماك وبيعها لمساعدتهن على أن يصبحن مستقلات ماليًا). حتى الآن، تم تدريب 15 صيّادة، وهن يكسبن عيشهن من الصيد مع أطفالهن باستخدام القوارب والشباك التي توفرها المنظمة. قالت ليلى الشبيبي، 39 عامًا، مديرة المنظمة: “لقد زادت الحرب الأهلية من أدوار وأعباء النساء، لكن بالمعرفة والأدوات التي حصلن عليها، هن قادرات على العمل”.
هيمنة الذكور المتجذرة بعمق
في اليمن، وهو مجتمع قبلي، فإن هيمنة الذكور متجذرة بعمق، ولا توجد أي قوانين تقريبًا لحماية حقوق المرأة. تشجع هذه المعايير الاجتماعية الثقافية على العنف المنزلي من قِبل الأزواج وزواج الأطفال المتفشي، وهناك العديد من الحالات التي لا تستطيع فيها المرأة الطلاق وتُترك شاعرة بالإهمال.
يركز مركز الأبحاث والتدريب للمرأة بجامعة عدن على تعليم النوع الاجتماعي، بهدف تحسين وضع المرأة في المجتمع اليمني وتعزيز قيم المساواة بين الجنسين.
ابتُعث الطلاب للدراسة في الخارج، وتخرج حتى الآن حوالي 300 رجل وامرأة، وقالت المخرجة هدى علوي: “أريد من الطلاب أن يغيروا المجتمع اليمني بأن يصبحوا سياسيين ومعلمين في المستقبل، دون التقيد بالصور النمطية المتجذرة في اليمن”.
“لقد اعتدت على وجود الموت حولي” …
المواطنون الذين يعانون من الحرب الأهلية في اليمن لا يمكنهم رؤية النهاية، ولا يمكنهم تصور المستقبل، ولا يمكنهم تلقي المساعدات
طوكيو ويب | 2 مايو 2022
يخوض اليمن في الشرق الأوسط حربًا أهلية منذ عام 2015 بين الحكومة الانتقالية والمتمردين الحوثيين. أكثر من 370 ألف شخص لقوا مصرعهم في الحرب الأهلية، 70٪ منهم دون سن الخامسة. على الرغم من وصفها بأنها “أسوأ أزمة إنسانية في العالم”، لم يولها المجتمع الدولي سوى القليل من الاهتمام، ودفع الجوع والأمراض الناس إلى الزاوية. يتجول النازحون داخليًا من مدينة إلى أخرى، وسئم الشباب من القتال الذي لا نهاية له ويحاولون إيجاد مستقبل في الخارج. أواخر فبراير، زرت عدن في جنوب اليمن، العاصمة المؤقتة للحكومة المؤقتة. (في عدن، كودي ميزورو)
قناص يختبئ في المدينة
من الحصن على تل صغير بجانب البحر يمكنك رؤية مدينة عدن. تقف المنازل والمباني جنبًا إلى جنب محاطة بالجبال شديدة الانحدار، وحتى من مسافة يمكنك رؤية العديد من المباني المدمرة بسبب القصف. “المدينة ما تزال في حالة خراب. منذ أن بدأت الحرب الأهلية، اعتدت على وجود الموت حولي”، يقول المسؤول بالمدينة عثمان ناصر (42 عامًا) الذي قاد الصحفيين إلى الحصن وهو عابس.
أواخر مارس/ آذار 2015، اجتاح الحوثيون عدن، واضطرت الحكومة المؤقتة إلى طلب المساعدة من السعودية المجاورة. شن التحالف العربي بقيادة السعودية ضربات جوية أدخلت اليمن في حرب أهلية طويلة. مرت الدبابات عبر المدينة، والتقط الطلاب البنادق لحماية المدينة من الحوثيين. وكان القناصون الحوثيون يتربصون في المدينة، مما أدى لمقتل ما لا يقل عن 2000 شخص، وفقًا لجماعات حقوق الإنسان الدولية.
أُصيب ناصر برصاص الحوثيين أمام منزله، وتوفي شقيقه الأصغر صالح، الذي كان يبلغ من العمر 34 عامًا وقتها، أمام عينيه. “كان هناك قناصان يراقبوننا من نافذة فندق مجاور. معظم السكان فقدوا أقاربهم أو أصدقائهم”. بسبب نقص الميزانية، ما تزال عملية إعادة الإعمار لا تتقدم، وتوقف الوقت وتُركت المباني المكسورة دون تدخل.
زيادة عدد اللاجئين بمقدار 2 مليون
عدن، أكبر مدينة في الجنوب، يغمرها النازحون من المناطق المحيطة. ارتفع عدد السكان، الذي كان حوالي مليون قبل الحرب الأهلية، إلى 3 ملايين. تنتشر في المدينة مخيمات اللاجئين، حيث يعيش النازحون في أكواخ متواضعة مغطاة بألواح وأقمشة.
تعيش حوالي 40 عائلة في قطعة أرض شاغرة بجانب البحر. “لقد سئمت من هذه الحياة. قد يكون من الأفضل أن أموت.” علي عبدالسلام (40 عامًا) فر من تعز في الجنوب الغربي. قبل خمس سنوات، بينما كان في الخارج مع أطفاله الخمسة، قُصف منزله وتوفيت زوجته وشقيقه على الفور. وجد “قطعة” من زوجته وسط الأنقاض وأُغمي عليه على الفور.
يقول عبدالسلام “أتيت إلى عدن مع أطفالي، لكن الحياة الصعبة لم تتغير. تصل إمدادات الإغاثة من الأمم المتحدة مرة واحدة فقط كل ثلاثة أو أربعة أشهر، وبعد ذلك يتبرع السكان المحليون بالوجبات الخفيفة والملابس القديمة”. يجمع عبدالسلام الزجاجات البلاستيكية مرة كل يومين ويكسب حوالي 5000 ريال يمني (حوالي 590 ينًا يابانيًا). يضيف: “أسهل طريقة لكسب المال هي أن تصبح جنديًا”، لكنه لا يستطيع ترك أطفاله وراءه. إنهم غير قادرين على إرسال أطفالهم إلى المدرسة والبقاء في مخيمات مليئة بالعشب الجاف.
حلم الشباب هو الهروب من الوطن
الحرب الأهلية، التي استمرت أكثر من سبع سنوات، تسببت أيضًا في تدفق جيل الشباب. خاض جميع الطلاب تقريبًا في جامعة عدن، ثاني أكبر جامعة في اليمن، الحرب الأهلية منذ أوائل سن المراهقة.
“أريد أن أغادر اليمن”، تهدف أروى محمد، 19 عامًا، طالبة في السنة الأولى في طب الأسنان، إلى أن تصبح طبيبة أسنان، حيث تدفع حوالي 2000 دولار (حوالي 250 ألف ين) كرسوم دراسية، وهو ما يزيد عن الدخل السنوي لوالديها. تقول: “أريد أن أمنح الجميع ابتسامة جميلة، ولكن الحقيقة هي أنني أدرس لمغادرة اليمن والعمل في الخارج”. يحدث انقطاع التيار الكهربائي بشكل متكرر في المدينة، والاتصال بالإنترنت غير مستقر. على الرغم من عدم وجود معارك واسعة النطاق، تستمر الاشتباكات الصغيرة والتفجيرات الإرهابية التي تستهدف المسؤولين الحكوميين، وما يزال الوضع غير مستقر. أحيانًا تُعلق الفصول الدراسية لعدة أشهر بسبب تدهور الوضع الأمني، ويستغرق التخرج وقتًا طويلًا. سارعت دعاء جمال، 21 عامًا، طالبة طب الأسنان في السنة الأولى، إلى الصراخ. “لا يوجد عمل ولا أمن ولا مستقبل هنا. أريد فقط الخروج من هذا البلد”.
عاصمة اليمن المؤقتة عالقة في صراع بين أمراء الحرب المتنافسين
منذ أن شنت السعودية حربها عام 2015، وطُرد الحوثيين من عدن، المدينة الجنوبية الرئيسية التي أصبحت بعد ذلك عاصمة مؤقتة لليمن، ما تزال عدن ساحة للصراعات المسلحة بين عدد كبير من الميليشيات المتناحرة.
لويس إمبرت | صحيفة لوموند الفرنسية | 24 أبريل/نيسان 2022
في مطار القاهرة، وأشعة الشمس تبهت شيئًا فشيئًا على مدرج المطار، كانت طائرة اليمنية، شركة الطيران الوطنية في اليمن، قابعة في مدرج الطائرات لم تقلع بعد. كان على متنها نساء مسنات في طريقهن إلى عدن وقد وضعن الوسائد خلف ظهورهن المتعبة، والعديد منهن كنّ يعانين من الأمراض، وقد باعت أسرهن إما سياراتهم أو مجوهراتهم لدفع ثمن تذاكر السفر والعلاج، كغسيل الكلى أو العلاج الكيميائي الذي يصعب الحصول عليه في اليمن، التي تعاني من الحرب منذ عام 2015. وبين الممرات على الطائرة وقف الرجال يتذمرون قائلين: “لم تعد سماء اليمن ملكًا لليمنيين.”
خضوع الطائرة لأعمال صيانة غير مخطط لها أدى إلى فقدانها إذن الإقلاع التي حصلت عليه من الجيش السعودي، وتوقفها الطائرة لسبع ساعات أخرى في انتظار الموافقة؛ فالسعودية تسيطر على المجال الجوي للبلاد طوال سنوات الحرب السبع ضد المتمردين الحوثيين، وتتحكم في دخول أو خروج أي طائرة كونها تفرض وصايتها وتشكل مصدر إذلال دائم لليمنيين.
وعند هبوط الطائرة في عدن قرابة منتصف الليل، تلقى الركاب على هواتفهم رسالة تقول “شركة الاتصالات السعودية تتمنى لكم إقامة سعيدة في السعودية”. عام 2015، دفعت المدينة الساحلية اليمنية عدن ثمنًا باهضًا في المعارك التي قادها التحالف لطرد الحوثيين، فما تزال المباني التي تعرضت للقصف مدمرة في كل مكان. لكن عدن اعتقدت أنها ستتمكن من استعادة مجدها الماضي، فعاصمة اليمن الجنوبي سابقًا وثاني أكبر ميناء في العالم من حيث حركة السفن في العالم في خمسينيات القرن الماضي حلمت بوضع حد للتدهور البطيء الذي تشهده. المجلس الانتقالي الجنوبي وهي حركة سياسية وعسكرية كانت أحد الأطراف التي حررت ميناء المدينة، وقد وعد المجلس المموّل من السعودية وحليفتها الإمارات بإحياء دولة جنوب اليمن المستقلة، إحدى حلفاء الاتحاد السوفيتي السابق، التي قامت عام 1967 بعد رحيل المستعمر البريطاني ومن ثم توحدت مع اليمن الشمالي في اليمن الموحد عام 1990.
كان الإقليم حريصًا على التخلص من نير شمال اليمن، حيث فرض الحوثيون حكمهم على شمال اليمن بالكامل واحتلوا عاصمة اليمن صنعاء، وأصبح المتمردون الشيعة المتحالفون مع إيران الرابح الأكبر من ثورة 2011 والربيع اليمني الذي أطاح بالرئيس الأسبق علي عبدالله صالح من كرسي السلطة بعد أن جلس عليه من عام 1990 إلى عام 2012، وبنى الحوثيون في مناطقهم نظامًا شموليًا شغله الشاغل على الدوام هو الحرب، وسحق كل المعارضين، والاحتفال بالشهداء.
“نحن نعيش في السعودية”
كان يجب أن تصبح عدن مثالًا لليمن الحر بمساعدة السعوديين، لكن المدينة عالقة وتتعفن في منطقة رمادية، فهي عاصمة مؤقتة لليمن، لكن ذلك اسمي فقط، فالحكومة اليمنية المركزية التي استقرت في عدن مثيرة جدًا للاهتمام، فلا هي التي حيت ولا التي ماتت، بل بين هذا وذاك، فالسلطات في عدن غير قادرة على توفير الخدمات العامة الأساسية والسيطرة على أمراء الحرب، أما بالنسبة لآمال العدنيين بالاستقلال فإنها آخذة بالتلاشي بسرعة.
وصف فتحي بن لزرق مدير تحرير صحيفة عدن الغد اليومية الوضع قائلًا: “بدأت هذه الحرب بين طرفين: الحوثيين والحكومة، أما اليوم فهناك خمسة أطراف على الأقل، وسيكون هناك المزيد من الأطراف العام المقبل”. وفي قلب عدن تنشط ديناميكيات الحرب الأهلية في كل حي، بل وفي كل قبيلة.
من أجل فهم هذا التدهور في المدينة، يجب علينا البدء في الجامعة، تحت أشجار الفلفل التي يهز النسيم أوراقها برقة، المكان الذي تقضي فيه الطالبات أوقاتهن بعد انتهاء دروسهن لشعورهن بالأمان فيه، ويجتمعن ليشكلن تجمعات صغيرة سوداء، حيث ترتدي الغالبية العظمى منهن النقاب، الذي لا تظهر منه سوى أعينهن. الفتيات محافظات، ودائمًا ما يذهل هذا مدرساتهن اللاتي تدرب أغلبهن في ظل الحكم السوفيتي السابق. تقتصر آفاق هؤلاء الطلاب على الحي والمدينة التي يقيمون فيها، لكنهم يبذلون جهودًا رائعة لتثقيف أنفسهم، حيث يحصلون على الكتب في أقراص ذاكرة (فلاشات) من القاهرة كون أسعارها باهظة في عدن، ويسجلون دروسهم على هواتفهم النقالة للمذاكرة عند انقطاع التيار الكهربائي الذي يستمر حتى 18 ساعة في اليوم خلال فصل الصيف. يرسل المعلمون دروسهم مقسمة على تسجيلات صوتية لإرسالها عبر تطبيقات التراسل ليحصل عليها الطلاب الذين لا يتوفر لديهم اتصال جيد بالإنترنت.
بعد “تحرير” المدينة عام 2015، تناقش الطلاب والأساتذة حول الفيدرالية، والاستقلال، ومستقبل الجنوب، وملأت نفوسهم مشاعر الحماس وضرورة الأمر. هل سينفصل الجنوب عن الشمال؟ وإذا كان الأمر كذلك كيف؟ لكنهم وضعوا أحلامهم على الرف منذ ذلك الحين.
تقول رجاء سالم عميد كلية التمريض التي تلقت تعليمها في فرنسا: “تلاشت مشاعر الحماس، فوضعنا بائس، وكل منطقة لها سلطاتها وأمراء حربها. هل الأمر مقصود؟ ما أعرفه جيدًا هو أننا نعيش في السعودية، وأن حكومتنا ليست هنا.” تقول إنها تكاد لا تصدق الأمر عندما تسمع بعض من حولها يقولون أنهم يفتقدون الرئيس الأسبق صالح، الذي عذب عدن قبل أن يُقتل على أيدي الحوثيين عام 2017. أما قاسم حسام، الرئيس الشاب لقسم اللغة الفرنسية في الجامعة، فيود مغادرة البلاد، ويتحدث عن قلة ما يستطيع شراؤه براتبه (الذي يعادل 275 يورو شهريًا) وعن سعر الأرز في سوق كريتر الحي الذي يسكن فيه، ويقول إنه لم يعد يستطيع التعرف على “آداب ولغة مدينته، لوجود الكثير من النازحين من باقي مناطق البلاد”، فمنذ عام 2015، تضاعف عدد سكان المدينة إلى ثلاثة أضعاف، حيث يتكدس فيها مليوني لاجئ من جميع أنحاء اليمن.
فقر وأسلحة في كل مكان
يمثل حي كريتر متحفًا حيًا لتاريخ عدن، حيث تنتشر فيه القصور الاستعمارية القديمة والمباني الحديثة الموروثة من العصر الاشتراكي، وهذا التراث المهدد بالانقراض هو مصدر فخر لسكان عدن. تقع كريتر في قلب بركان خامد، وتقبع هناك شديدة الانقسام ومرغوبة من الجميع، والفقر والأسلحة في كل ركن من أركانها. ففي القطعة الضيقة من الأرض التي تؤدي إلى شبه جزيرة صيرة يحتمي عبده الهادم ورفاقه من شمس الظهيرة في ظل جدار مكتب رئيس الميناء، وهم مجموعة من الأشخاص في الثلاثين من عمرهم قادمون في الأصل من منطقة يسيطر عليها الحوثيون وهي الحديدة، ويعملون في الصيد لمدة ستة أشهر كل عام على متن قارب خشبي أزرق يتأرجح ببطء في المياه الضحلة بالميناء، لكنهم لم يتمكنوا من اصطياد أي شيء تقريبًا لمدة شهرين، ويرسل لهم رئيسهم من الحديدة من المال ما يكفي بالكاد للحصول على الطعام، ويستخدمون نصف هذا المال لشراء القات، النبتة التي تحسّن المزاج وتقلل الجوع ويمضغونها بعد الظهيرة.
ينظر العدنيون للشماليين بريبة وكضعفاء، ويصف ذلك عبده الهادم قائلًا: “نشعر بالخوف من هذه المدينة”، وينام هو ورفاقه في الميناء، ولا يخاطرون أبدًا بالذهاب أبعد من سوق السمك على الجانب الآخر من الشارع، حيث يعمل ياسر محمد إبراهيم البالغ من العمر 52 عامًا. أفقر التضخم السكان، ولم يعد سوى قليل من الناس قادرين على شراء سمك التونة أزرق الزعانف الذي يبيعه ياسر في بسطته، حيث يجب على الشخص إخراج رزمة ريال يمني سميكة بحجم طوبة لشراء إحدى أسماك الحبار أو حفنة من الروبيان الضخم. نظرًا لنقص الإيرادات، ومنذ عام 2016 تطبع الحكومة اليمنية عملات ورقية، وأصبحت قيمة العملة الآن تساوي أقل من ورق السجائر، ولا يقبل الحوثيون هذه العملات في المناطق الخاضعة لسيطرتهم.
في السابع من أبريل/نيسان، بعد إقناع الحوثيين بتوقيع هدنة لمدة شهرين، أجبرت الرياض الرجل المسؤول بشكل أساسي عن الأزمة المالية على الاستقالة، حيث تنحى الرئيس المنفي عبدربه منصور هادي المجرّد من المصداقية جانبًا، ليحل محله مجلس رئاسي غريب له ثمانية رؤساء نصفهم من الجنوب، وهو الأمر الذي يبعث على الأمل. بعد ذلك، وعدت السعودية والإمارات بتقديم 3 مليارات دولار (2.7 مليار يورو) كمساعدات لليمن، وإيداع ملياري دولار منها في البنك المركزي اليمني لتحقيق استقرار العملة.
ينتظر ياسر محمد إبراهيم مثل هذه المعجزة، لكنه لم يعد يخرج ليلًا ويقول: “هناك مسلحون في كل مكان، ومن المستحيل معرفة أي جهة يتبعون”، فهناك عدد كبير من الأزياء العسكرية المختلفة التي تتجول في كريتر، وبالتالي أصبح الحي لقمة سائغة. في أكتوبر/تشرين الأول 2021، أُخرج أمير الحرب الرئيسي في الحي أحمد محمد عبده الصلوي المعروف باسم “إمام النوبي” بالقوة من قِبل قوات الأمن التابعة للمجلس الانتقالي الجنوبي، وما تزال المنطقة تكافح للتعافي من هذه الحرب المحلية الأخيرة.
النوبي قاطع طريق، وابن أحد الحرفيين، وخطيب مسجد سابق، ووصفته شخصية محلية شهدت نشأته في شارع الطويلة وفضلت عدم الكشف عن هويتها بالقول: “يأكل كالحصان، شديد الضعف ظاهر العظام، ويبدو كطائر ريشة مبلل، حزين، ومرهق”، يتعاطى النوبي القات بكميات كبيرة، ويتصف بتقلب المزاج. في زمن السلم، كان النوبي من أتباع حزب الإصلاح المحسوب على جماعة الإخوان المسلمين، فقد كان الإسلاميون أقوياء في كريتر على مدى عقدين من الزمن، لكنهم ما زالوا مرتبطين في أذهان الناس بانتهاكات نظام صالح السابق ونهب عدن من قِبل الجيش الشمالي وميليشياته الإسلامية خلال الحرب الأهلية عام 1994.
عودة القتال عام 2015 جعلت من النوبي بطلًا محليًا، فقد ساعد في طرد الحوثيين من حيه، وسيطر على معسكر عشرين الذي كلفته الحكومة بقيادته، وانضم النوبي عام 2017 إلى صفوف الانفصالين التابعين للمجلس الانتقالي الجنوبي كون شقيقه مختار ضابطًا مؤثرًا في المجلس الانتقالي. لكن ثبت أن النوبي لا يمكن السيطرة عليه، في العام التالي أطلق أفراد ميلشياته النار أمام مبنى البنك المركزي اليمني، مطالبين بنصيبهم من شحنة الأوراق النقدية الجديدة القادمة من روسيا، لكن السلطات فتحت صفحة جديدة معه، ويصفه حسام ردمان أحد أعضاء مركز صنعاء، المركز اليمني الذي نسق زيارة جريدة لوموند إلى عدن قائلًا: “باع الانتهازي النوبي خدماته لطرفي المعارك التي مكنت المجلس الانتقالي الجنوبي من طرد الحكومة من عدن عامي 2018 و2019”.
أثنى الإماراتيون والسعوديون الانفصاليين عن إعلان الاستقلال، فبدون المؤسسات أو المقدرات لم تكن أي دولة لتعترف بهم، ولم يكن لدى رعاتهم الرغبة لتمويل تلك المخاطرة، وبالتالي أصبحت عدن عالقة بين المطرقة والسندان. الفوضى تفيد رجالًا مثل النوبي، الذي وصفه حسام، الرجل الذي اعتُقل وعُذب بالكهرباء عام 2017 قبل أن يخضع لعملية إعدام صورية وكل ذلك لأنه انتقد النوبي علنًا، بأن الأخير “غير مستقر وعنيف وهو المسؤول عن الاختفاء القسري للناشطين في منطقة سيطرته”. هل كان هجومًا على مركز للشرطة؟ أم كانت صفقة مالية تلك التي أسقطت أمير الحرب في النهاية؟ أم أن السبب علاقاته المزعومة بالرياض؟ لا أحد يعرف ما الذي دفع المجلس الانتقالي الجنوبي للإطاحة به في أكتوبر/تشرين الأول 2021، لكن النوبي غادر إلى القاهرة بعد يومين من المعارك، آخذًا معه جزءًا من الكنز الذي حصل عليه من الحرب، بحثًا عن أيام أفضل هناك.
تاريخ عالمي يتلاشى
لم يمنع إبعاد النوبي تدهور كريتر، وتقول بهية السقاف، المدير التنفيذي لمؤسسة ألف باء، التي تعمل على نزع سلاح شباب المدينة، إن “مصاعب الحياة اليومية تولد شعورًا بعدم التسامح، فالرجل العدني التقليدي لا يصلي ولا يصوم، ويلعن الله باستمرار، لكن منذ 2015 تغير كل شيء”. بهية هي أحد متبعي المذهب الصوفي، وتنحدر من عائلة عاشت في كريتر منذ القرن الثامن عشر، وتشعر بالفخر بأماكن بات تاريخها العالمي يتلاشى تدريجيًا: “لم يعد هناك المزيد من المساجد الصوفية في كريتر، فقد غادرها الصيدلي الهندوسي الخير والمحترم في شارع غيداء ظفارة (Ghaida-Zafara Street) عام 2017، وطُرد جيرانهم من العائلات الشيعية أوائل عام 2015 لأنهم اعتبروا مناصرين للحوثيين، وبُني مسجد مكان أحد الحسينيات [الشيعية] التي دُمرت في تفجيرات عام 2015، وأطلقوا عليه اسم مسجد السنة، حيث تشكل الطائفة السنية غالبية في عدن.
بهية السقاف لا تتذكر اللحظة التي فقدت فيها الأمل في ميلاد جديد لمدينتها، فلطالما لوّحت بعلم دولة الجنوب منذ الحرب الأهلية عام 1994، لكنها الآن تقول: “لم أعد أؤمن بالاستقلال اليوم”، وأضافت بهية إن قيادة المجلس الانتقالي الجنوبي فشلت في عدن، وأشارت إلى مباراة كرة القدم المجيدة ذات ليلة في ديسمبر/كانون الأول 2021، عندما فاز المنتخب الوطني للناشئين بنهائي كأس شرق آسيا ضد السعودية بركلات الترجيح (4-3)، ليلة أهدى فيها اللاعبون المراهقون الذين قضوا معظم حياتهم في هذه الحرب ليلة من الفرح لبلدهم، ووصفت ذلك اليوم قائلة: “عدن كلها خرجت بشكل عفوي إلى الشوارع ورفع الجميع علم اليمن الموحد هاتفين “تعيش اليمن”، وجاء هذا الحدث في أقرب وقت من قيام استفتاء جنوبي، لكن المجلس الجنوبي لم يستطع إيقاف ذلك: “لقد أصيب المجلس بالجنون”.
يقول باشراحيل هشام باشراحيل مالك صحيفة الأيام اليومية التي أسسها والده عام 1958 في عدن إن المجلس الانتقالي الجنوبي لا يريد إجراء استفتاء: “قادة المجلس الانتقالي ضد أي انتخابات، فقد وعدوا بالكثير، ولكن لم يفعلوا شيئًا سوى استبدال سلطة فاسدة بسلطة فاسدة أخرى.” ما زال سكان المدينة يرغبون بالاستقلال، لكنهم لم يعودوا يعتمدون على المجلس الانتقالي في ذلك.” باشراحيل المتذوق للجمال، والمؤرخ اللاذع للانهيار الذي تشهده مدينته، كان يدافع عن القيادي الانفصالي عيدروس الزُبيدي الذي اعتبره فاضلًا وصادقًا، لكنه غير رأيه في مقاله الافتتاحي الأخير الذي طالب فيه المجلس الانتقالي الجنوبي بترك منصبه.
أما المسؤولون فيعتقدون أن الناس قد عبروا عن رأيهم ورغبتهم في الاستقلال، حيث يقول فضل الجعدي أحد قادة المجلس الانتقالي الجنوبي: “خرج أكثر من مليون شخص في عشرات من الاحتجاجات مطالبين بالاستقلال منذ عام 2007″، وفي رأيه تعتبر هذه المسيرات بنفس أهمية الاستفتاء الشعبي، ويُذكر أن الجعدي هو المسؤول حاليًا عن شؤون المجلس في غياب عيدروس الزُبيدي الذي يقضي معظم العام في دولة الإمارات.
يستقبل الجعدي الناس في مديرية التواهي التي كانت في الماضي منطقة استعمارية ومستودعات، ويستقبلهم في مكاتب تطل على جدول مياه، وهناك لوحة جدارية للشيخ زايد بن سلطان آل نهيان (1918-2004) مؤسس دولة الإمارات مطلة على الخليج. أما نقاط التفتيش على المداخل فتُدار من قِبل مليشيات متنافسة داخل المجلس الانتقالي الجنوبي نفسه، أحدها يمولها الإماراتيون والأخرى يمولها السعوديون.
سيطر الانفصاليون على الشاطئ الخاص المعروف باسم شاطئ الفيل، والذي كان مكانًا لاجتماع مجتمع البيض في عدن إبان الاستعمار البريطاني، وأصبح فيما بعد ملكية للجيش الوطني اليمني. يجتمع ضباط المجلس الانتقالي لمضغ القات في أكواخ خشبية صغيرة على سفح التل أيام العطلات، وتأتي عائلات الجنود من مناطقها في محافظتي الضالع ولحج المجاورتين للاستجمام.
قطع أسياد المدينة الجدد شوطًا طويلًا منذ عام 2015، باركت الرياض وولي العهد السعودي محمد بن سلمان رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي عيدروس الزُبيدي الذي عُيِّن عضوًا في مجلس القيادة الرئاسي الذي خلف الرئيس هادي في 7 أبريل/نيسان، ويجلس في المجلس إلى جوار قائد مليشيا جنوبية أخرى سلفي مموّل من الإمارات.
لكن يبدو أن الفرق التي يعتمد عليها الزُبيدي غير قادرة على إدارة دولة أو حتى مدينة، فمساعده الخاص السيد الجعدي نموذج للاشتراكيين التقليدين، فقد كان سكرتيرًا أول للحزب الاشتراكي في الضالع، ثم محافظًا للمحافظة التي يخرج منها العديد من مسؤولي المجلس الانتقالي الجنوبي، فهو يمشي حاملًا مسدسًا طوال الوقت، ويغرِق من يتحاور معه بخطابات لا تنتهي تعيدهم إلى زمن الثمانينيات من القرن الماضي، زمن جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية.
دولة ماتت منذ زمن
يتحدث الجعدي عن “عودة الدولة” كأمر طبيعي، لكنه غير قادر على شرح الكيفية التي سيعيد بها هذه الجثة إلى الحياة، فمحافظتا شبوة وحضرموت غير مقتنعتين بمشروعه، فهما يتذكران الصراعات القبلية التي مزقت الجنوب في ثمانينيات القرن الماضي، والتي خرجت منها شبوة مهزومة. لكن الجعدي يهمل هذه التفاصيل، فهو يريد طمأنة المحافظات بأن الدولة لن تولد من جديد إلا مع انتهاء الحرب وأنها ستضمن العدل وحل جميع الحساسيات، والدليل الذي يستخدمه هو أن الأمين العام للمجلس الانتقالي ومحافظ عدن من شبوة.
أحمد لملس رجل لطيف، وتقدر عدن جهوده كمدير لشؤونها، لكنها ترى أنها جهود غير مجدية، فهو لا يمتلك علاقات قبلية قوية ولا يمتلك ميليشيا تحت إمرته يستدعيها متى شاء، أي أنه لا يمتلك الوسائل التي تمكنه من معارضة قيادات المجلس الانتقالي الجنوبي، الذين داهموا الميناء وقوافل الشحن المتجهة من عدن إلى مناطق الحوثيين.
لكنه على الرغم من ذلك تمكن من طرد العقيد الانفصالي صامد سناح من المدينة منتصف فبراير/ شباط، الذي كان في السابق صيادًا للجهاديين، والذي أنشأ معقلًا له على جزيرة العمال، النتوء الصخري في خليج عدن، بعيدًا عن ميناء عدن. منذ عام 2016، يستولي أسياد المدينة الجدد على الأراضي هناك ويبنون الفيلات على سفح التل بمباركة من صامد سناح.
يأخذ أمراء الحرب نصيبهم من الغنائم، ويرجع ذلك جزئيًا لبُخل التحالف العربي بقيادة الرياض، أما الإمارات فقد سحبت معظم قواتها منذ عام 2020، وتحرص في منح الأموال لحلفائها اليمنيين. أما بالنسبة للسعوديين، فبحسب قول الجعدي: “فإن اهتمامهم بقضايا التنمية ضعيف كون اليمن قضية عسكرية بالنسبة لهم.” مع ذلك، تحاول الرياض مساعدة القوى المختلفة على التعايش، وتجعل المجلس الانتقالي الجنوبي يسمح للوزراء وكبار الإداريين بالتنقل بحرية نوعًا ما.
أولهم معين عبدالملك سعيد رئيس الحكومة منذ عام 2018 الذي يعيش تحت سرب من الغربان الناعقة على قمة تل شرقي عدن، في المقر الرئاسي الذي كان ملكية سابقة للتجار الاستعماريين من قرقشونة، أما أسرته فباقية في مصر بأمان. الصلاحيات التي يملكها معين عبدالملك محدودة، وذلك أولًا بسبب عجز نقص الميزانية، حيث يستنكر معين عدم رغبة الرياض في تمويل الدولة، ويتوقع منها المليارات التي تعهدت بها، ووصف الوضع قائلًا: “نظريًا يجب أن ينهار كل شيء، فالسعودية لم تقدم شيئًا للميزانية على مدى العامين الماضيين، أما المساعدات التي تقدمها فتذهب بسرعة نحو دفع تكاليف الكهرباء في عدن، الأمر يشبه العيش في الرمال المتحركة.”
لم تعد السعودية تشعر بعدم الارتياح من هذه المظالم، فقد جربت كل شيء في حربها على الحوثيين، كالقصف، والتفاوض على السلام، والرشوة، ولم ينجح أي منها، وبالتالي أصبحت الرياض مقتنعة بتأمين حدودها وتقديم الصراع للعالم على أنه مسألة محلية غير قابلة للحل، وأنها لا يمكن إلا أن تكون وسيط نوايا حسنة. من أجل المظاهر فقط تعبد السعودية طرقًا في عدن، وبنت أربع مدارس، ورممت مشفى ومركز علاج القلب الذي يبدو مبناه كمركبة فضائية حديثة هبطت للتو في أرض غير مضيافة، وذلك في تناقض صارخ مع مستشفى الجمهورية الحكومي المتهالك، الذي لا يذهب إليه العدنيون إلا كملاذ أخير. رويدة قاسم، ممرضة في مستشفى الجمهورية، تعيل أسرتها ووالديها براتبها الوحيد البالغ 28 يورو شهريًا، تلخص وظيفتها كالتالي: “كل ما أفعله هو أن أشرح للمرضى أننا لا نمتلك النقود لإعطائهم الدواء”.
المنفى والأمل
إغراء الذهاب إلى المنفى كبير للذين بمقدورهم تحمل كلفته، ومن بادر بالمغادرة منهم موجود إما في مصر، وغالبيتهم في القاهرة، التي يقطن فيها ما يقرب من مليون يمني يمكنهم تشكيل محافظة جديدة هناك، والأردن ولبنان والسعودية. يُقدر الصحفي هشام باشراحيل أن عدن فقدت 600 أسرة منذ تحريرها. على الرغم من كل ذلك، ما زال الشباب المتعلم والمسيّس يأمل في بناء حياة كريمة في عدن تحت ظل حماية السعودية، وهذا دليل مهما كان ضئيلًا يدل على أن هناك مستقبل لهذه المدينة. يأتي الشباب من صنعاء فارين من قصف الرياض للعاصمة ومختارين فوضى عدن بدلًا عن تنمر الحوثيين الذين يسجنون نشطاء حقوق الإنسان، ويحتجزون أعضاء المنظمات غير الحكومية للحصول على فدية، ويدفعون ثوار 2011 إلى حافة اليأس.
في فبراير/ شباط، أحضرت فريال النسيم موظفة مركز صنعاء التي تسكن في عدن زوجها المستقبلي أحمد محمد مصور من العاصمة، والاثنان في أوائل العشرينيات من عمرهما، وتعرفوا على بعضهما لفترة طويلة عبر الفيسبوك قبل اللقاء في عدن والوقوع في الحب. تقول فريال التي ما تزال تشعر بالخوف: “كان والداي خائفين من أن يكون من الحوثيين، حتى أنهم كادوا يرفضونه”. وعندما وجدت شقة ستعيش فيها مع خطيبها، شعرت بضرورة إخبار مالك الشقة عن أصول أحمد، وفي البداية رفض مالك الشقة المؤيد للمجلس الانتقالي الجنوبي قبول مستأجر شمالي، كما أنه قام بالتفاوض للسماح بإدخال أسرة الرجل إلى المبنى لحضور حفل الزفاف، وأصرت فريال ونجحت في ذلك. عُقد قرانهما أوائل الربيع، وما زالوا يسكنون هناك.
حرب أهلية في اليمن لمدة سبع سنوات بلا نهاية تلوح في الأفق،نفس المعاناة من الحرب كما في أوكرانيا
“اتفاقية وقف إطلاق النار بوساطة الأمم المتحدة … واستمرار الهجمات”
بدأت اليمن، التي تخوض حربًا أهلية منذ عام 2015 بين الحكومة المؤقتة والمتمردين الحوثيين، وقف إطلاق نار مؤقت على مستوى البلاد بوساطة الأمم المتحدة في الثاني من الشهر. ومع ذلك، أُبلغ بالفعل، وفق تقارير محلية، عن انتهاكات اتفاق وقف إطلاق النار واحدة تلو الأخرى. اضطر أكثر من 4 ملايين شخص إلى الفرار من ديارهم، ولا تلوح في الأفق نهاية للحرب الأهلية التي تسببت في أسوأ أزمة إنسانية في العالم (الأمم المتحدة).
طوكيو ويب | 10 أبريل 2022
اتفق التحالف الذي تقوده السعودية ويدعم الحكومة المؤقتة والمتمردون الحوثيون المدعومون من إيران على وقف إطلاق النار لمدة شهرين تزامنًا مع شهر رمضان. وأعلن الرئيس هادي في السابع من أبريل عن خطة إصلاح، بما في ذلك إنشاء مجلس توجيهي رئاسي، نحو وقف دائم لإطلاق النار.
لكن وفقًا للحكومة المؤقتة، حدثت العشرات من انتهاكات وقف إطلاق النار شملت ضربات بطائرات دون طيار وقذائف، بما في ذلك في جنوب غرب تعز. في اليمن، لم يُلتزم باتفاقيات وقف إطلاق النار في الماضي، والوضع لا يمكن التنبؤ به.
وتقول الأمم المتحدة إن نحو 370 ألف شخص لقوا حتفهم في الصراع في اليمن حتى الآن. 40٪ من الوفيات كانت بسبب المعارك مثل الضربات الجوية، و60٪ كانت بسبب الجوع والأمراض المعدية مثل الكوليرا.
تقدم عملية الانتعاش بطيئة ومع ذلك؛ تضاءل اهتمام المجتمع الدولي بالحرب الأهلية اليمنية، ولم يلقَ دعم النازحين استقبالًا جيدًا. قال عبدالله معملي، 37 عامًا، الذي يدير عملًا تجاريًا في العاصمة صنعاء ، في مقابلة عبر الهاتف: “العالم لا يهتم باليمن. وتعاني أوكرانيا واليمن بالمثل من الحرب”.
بإذن من الحكومة المؤقتة، دخلت الصحيفة جنوب عدن، حيث اتخذتها الحكومة المؤقتة عاصمة مؤقتة لها. تقرير عن الوضع الحالي “لمناطق الصراع المنسية”
“لقد تعبت من هذه الحياة. لا توجد مساعدة”.
أواخر فبراير، على طول ساحل عدن في جنوب اليمن، حيث يمتد أمامي الساحل المؤدي إلى البحر العربي. بعد عبور السياج المصنوع من أغصان الشجر الميتة، كانت الأرض الخالية مزدحمة بالثكنات المصنوعة من الألواح والقصدير. وهو أحد مخيمات النازحين حيث تقيم حوالي 40 عائلة.” لقد تعبت من هذه الحياة. لا توجد مساعدة”
غمغمت خلود خالد (26 عامًا)، التي فرت من شبوة إلى عدن، حيث كان القتال محتدمًا. كان ابنها ميتا، البالغ من العمر 7 أشهر، محتضنًا بين ذراعيها، و متعلق بوالدته بلا حول ولا قوة، وهو يحدق في الفراغ.
تصل إمدادات الإغاثة التابعة للأمم المتحدة مرة كل ثلاثة إلى أربعة أشهر، ويحضر عاملو الخير المحليون الوجبات الخفيفة ويوزعون الملابس القديمة. نحن نعيش على بقايا الطعام من المطاعم. “ليس لدي حليب لأولادي. ماذا علي أن أفعل؟”
دمر القتال في اليمن العديد من المستشفيات. هناك نقص مزمن في الأدوية حتى في المستشفيات ذات العمليات الجراحية القليلة. وبحسب تقديرات الأمم المتحدة، فإن 70٪ من جميع الوفيات هم دون سن الخامسة، و”يموت شخص كل تسع دقائق”. يعاني حوالي 4.9 مليون شخص من سوء التغذية ويعيش حوالي 15.6 مليون شخص في فقر مدقع. هذا هو السبب في أن الحرب في اليمن تسمى “أسوأ أزمة إنسانية في العالم”.
الطبيب: “الأطفال يموتون بسبب الإسهال”
حتى في مستشفى الجمهوري، وهو أكبر مستشفى في عدن، هناك العديد من الأطفال الذين لا يمكن إنقاذهم. وعبرت الدكتورة نبيهة باماجد، 50 عامًا، عن أسفها قائلة: “ليس لدينا ما يكفي من الأدوية. يموت الأطفال دون سن الخامسة من الإسهال”. يقولون إنهم لا يملكون المال لاستبدال المعدات القديمة.
دمرت الحرب الأهلية الاقتصاد وأجبرت بعض المواطنين على ترك العمل للقتال.
جندي: لا توجد وظائف أخرى، لا يوجد شيء نخاف منه.
نُقل ربيع محمد، وهو جندي حكومي مؤقت يبلغ من العمر 23 عامًا، إلى المستشفى بعد أن أطلق قناصة الحوثيين النار عليه في ساقيه منتصف يناير/ كانون الثاني.
انضم إلى القتال عام 2017 بعد أن وُعد براتب شهري قدره 1000 ريال سعودي (300 دولار). وعلى الرغم من عدم حصوله على أجر منذ مايو من العام الماضي، إلا أنه قال: “ليس لدي عمل آخر، لم يعد هناك ما أخشاه”. بعد العلاج، يخطط لالتقاط سلاحه مرة أخرى.
عام 2015، تعرضت عدن لهجوم من قِبل المتمردين الحوثيين وتعرضت لأضرار بالغة. حتى الآن، بعد سبع سنوات، لم تتقدم عملية إعادة التعمير.
التمييز في اليمن يضع السود على هامش الحياة
مايا جبيلي | مؤسسة تومسون رويترز | 28 مارس/آذار 2022
لا يرى ملايين اليمنيين السود والمهاجرين الأفارقة سوى بصيص أمل ضئيل في الهروب من الفقر والنجاة من التهميش الناتج عن قرون من التمييز
- يعاني المهاجرون واليمنيون السود من الحرمان من الوظائف الرسمية.
- يترك الأطفال المدرسة للذهاب إلى العمل مما يزيد من تهميشهم.
- يصف المدافعون عن حقوق الإنسان التمييز قائلين: “التمييز وجه آخر للعبودية”
وُلد وضاح العدني في عدن ونشأ فيها، ويحفظ شوارع مدينته الساحلية عن ظهر قلب، لكنه لا يمتلك سوى القليل من الأمل في أن يتمكن من العيش بعيدًا عن الأحياء الفقيرة؛ لأنه ينتمي إلى أقلية السود في اليمن.
“يولد المرء هنا، ولا يغادر أبدًا”، حد قول وضاح العدني، وهو واحد من أفراد مجتمع المهمشين البالغ عددهم في اليمن زهاء 3 ملايين نسمة. وبحسب المدافعين عن حقوق الإنسان، تأتي اليمن في أدنى مرتبة من بين الدول التي يحكمها نظام طبقي يضع اليمنيين السود على هامش الحياة. “كل ما يفعلونه هو النظر في وجهي، وينتهي كل شيء”، يضيف وضاح البالغ من العمر 39 عامًا الذي يعيش في حي فقير يعاني من انقطاعات الكهرباء المتواصلة، ونقص المياه النظيفة، وعدم وجود عقود إيجار رسمية.
هناك خلاف بشأن أصول المهمشين في اليمن، فبعض الروايات تفيد بأنهم من نسل الجنود الأحباش الذين احتلوا اليمن قبل مئات السنين، في حين تعزو بعض الروايات الأخرى أصولهم إلى السهل الساحلي على البحر الأحمر في اليمن.
يقول وضاح العدني: “أتمنى أن أرتدي ملابس أنيقة يومًا ما، وأحلق لحيتي، وامتلك سيارة، وأضع عطرًا جميلًا، وأقيم في فندق وأشعر بالسعادة، وأن أكون جزءًا من هذا المجتمع.”
ويصف الناشطون الوضع في اليمن بقولهم “لا يميز القانون اليمني بين الناس على أساس لون بشرتهم، إلا أن المجتمع اليمني مقسم إلى طبقات بحسب العرف القبلي، ما يعني أن ذوي البشرة الداكنة أو الأشخاص مجهولي النسب عانوا من التمييز لعدة قرون وما زالوا يعانون منه حتى اليوم.”
ويقول الناشطون إن ذلك أدى إلى استبعاد جماعة السود في اليمن، بما في ذلك حوالي 35 ألف مهاجر أفريقي، من المدارس، والوظائف الرسمية، والسكن اللائق.
بل إن الكثير من أفراد هذه الفئة يعانون من أجل تسجيل أطفالهم حديثي الولادة، فوفقًا لمسح أجراه صندوق الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف)، 9 في المائة فقط من المهمشين يحملون شهادات ميلاد، ونتيجة لذلك غالبًا ما يواجهون العديد من العوائق في الحصول على الوثائق الحكومية الأخرى، والوظائف، والخدمات.
“الأمر أشبه بحلقة مفرغة”، حد وصف صلاح دبوان الذي يعمل كمحام وناشط في مجال حقوق المهمشين منذ فترة طويلة.
في أعقاب الاحتجاجات الشعبية واسعة النطاق في عام 2011، اقترحت الهيئة المكلفة بصياغة الدستور اليمني الجديد تخصيص نسبة 10 في المائة من وظائف القطاع العام والمناصب القيادية للمهمشين.
لكن مسودة الدستور لم تتضمن هذه النسبة في نهاية الأمر، وقد أدى اندلاع الحرب عام 2015 وما ترتب عليها من تدهور اقتصادي في اليمن إلى جعل المهمشين أكثر عرضة للخطر من أي وقت مضى.
نعيش على الشحاتة
ولدت رحيل سامي قبل وضاح العدني بعام واحد في هرامايا، إثيوبيا على بعد آلاف الأميال من اليمن، لكن مصيريهما ارتبطا منذ وصولها إلى اليمن قبل 15 عامًا، فرحيل تعيش في أطراف عدن في ظروف محفوفة بالمخاطر كتلك التي يعيشها وضاح العدني.
كل عام، ينطلق آلاف الإثيوبيين والصوماليين في رحلة خطرة هربًا من الاضطهاد والعنف أو بحثًا عن عمل في السعودية ودول الخليج الأخرى، لكنهم في الغالب يعلقون في اليمن، وأدت الحرب في اليمن إلى تدهور أوضاعهم وفقًا لمنظمة هيومن رايتس ووتش.
وأضافت رحيل سامي التي تقطن في خيمة مصنوعة من الطربال وأكياس القمامة في مخيم ساحلي مؤقت قائلة: “نتسول من المطاعم، ويجلب لنا بعض اليمنيين الطعام أحيانًا.”
“السبب هو لون بشرتنا.”
أمضت رحيل سامي معظم سنواتها في اليمن كلاجئة مسجلة لدى الأمم المتحدة في مدينة صنعاء شمال اليمن التي سيطرت عليها جماعة الحوثيين المسلحة عام 2015.
وبحسب منظمة هيومن رايتس ووتش، “قبل عام، انضمت رحيل سامي إلى الاحتجاجات التي نظمها زملاؤها من المهاجرين واللاجئين بعد مقتل العشرات منهم بحريق في مخيم اعتقال يديره الحوثيون في صنعاء، وأبلغ ساكنو المخيم عن تعرضهم للشتائم العنصرية هناك”.
اعتقلت قوات الأمن التابعة للحوثيين العديد من المتظاهرين، وألقت بهم في شاحنات، ورحلتهم إلى مناطق جنوب البلاد التي تخضع لسيطرة الحكومة المعترف بها دوليًا.
وخلال عملية الترحيل، افترقت رحيل سامي عن ابنتها البالغة من العمر 13 عامًا وطفليها التوأم، وما زال أطفالها عالقون لوحدهم في صنعاء.
يشعر زملاؤها في المخيم بالتشاؤم بشأن المستقبل، حيث ألقى الكثير منهم باللوم على التمييز الذي يعاني منه المهمشون، وقال رجل إثيوبي رُحل من صنعاء وطلب عدم ذكر اسمه: “لا فائدة لشخص أسود أن يعيش هنا على الإطلاق، فلا يُسمح لنا بالعمل سوى في جمع القمامة أو التنظيف”.
العبودية الحديثة
يقول المهاجرون الإثيوبيون القلائل الذين تمكنوا من الحصول على وظائف في عدن إنهم يكسبون 50 دولارًا على الأكثر شهريًا من العمل كعمال نظافة وجامعي قمامة، في حين يقضي أطفالهم يومهم في التسول.
الآباء والأمهات اليائسون الذين يكافحون لتوفير الطعام لأسرهم هم أكثر عرضة لإخراج أبنائهم من المدارس من أجل العمل، مما يحرم الأبناء فرصة الحصول على التعليم، وبالتالي فرصة الحصول على حياة أفضل.
ووفقًا لليونيسف، لم يلتحق بصفوف الدراسة سوى نصف العدد الإجمالي للأطفال الذين بلغوا سن الذهاب إلى المدرسة من فئة المهمشين، ولا يستطيع القراءة أو الكتابة سوى شخص واحد من بين كل خمسة أشخاص من المهمشين فوق سن الخامسة عشر.
ووصف دبوان ذلك قائلًا: “هذه ليست عبودية حديثة، بل عبودية فحسب.”
ترك وضاح العدني المدرسة وهو في الثامنة من عمره لبدء العمل، لكنه كغيره من المهمشين لم يحصل سوى على عمل غير رسمي منخفض الأجر، ولم يكن لديه أي خيار عند امتناع صاحب العمل دفع راتبه أو طرده من العمل فجأة.
ووصف وضاح تعرضه للاعتداء المتكرر في الشوارع من قِبل قوات الأمن أو الطرد من الحدائق العامة: “في كل مرة تشعر فيها أنك بخير وتبدأ في الاندماج والشعور بأنك جزء من هذه المدينة، يأتي ما يذكرك بأنك لست كذلك.”
مشاكل الإنترنت تحطم أحلام الشباب اليمني في الشركات الناشئة والدراسة
مايا جبيلي | مؤسسة تومسون رويتر | 21 مارس/آذار 2022
سنوات من الحرب والأزمات الاقتصادية أضرت بالإنترنت في اليمن وجعلت خدماته بطيئة ومكلفة ونتج عن ذلك فقدان الشباب اليمني فرص الدراسة والعمل.
- تُعد خدمات الإنترنت في اليمن من بين الأبطأ والأغلى في العالم
- تُشكل صعوبة الوصول إلى الإنترنت عائقًا لرواد الأعمال والطلاب
- يعتقد المناصرون أن إصلاح قطاع الإنترنت وصيانته قد تؤدي إلى تعزيز الاقتصاد
أطلق رجل الأعمال اليمني عبيد البكري تطبيقًا لتوفير وسائل نقل مشتركة وآمنة في مدينة عدن جنوبي اليمن، ولكن سرعان ما واجهت خططه مشكلة كبيرة كالبطء الشديد في سرعة الإنترنت، وعدم تمكن أحد من الاتصال بالإنترنت لحجز رحلة على وسائل النقل عبر التطبيق.
تحدث مؤسس شركة تيك مي البالغ من العمر 34 عامًا عن الأمر قائلًا: “كانت عدن أرضًا مهيئة وخصبة جدًا لتطبيق وسائل النقل المشتركة، فقد “واجهنا الكثير من المشاكل الأمنية مع سيارات الأجرة العادية، كسرقة الركاب للسائقين والسائقين للركاب، إلا أن سرعة الإنترنت شديدة البطء.”
سنوات الحرب والأزمات الاقتصادية أدت إلى بطء الانترنت وارتفاع كلفته، وهو ما يحد من الوصول إلى الخدمات اليومية من الخدمات المصرفية إلى الفصول الدراسية ووسائل النقل، وما يعنيه ذلك للشباب هو فقدانهم للفرص الاقتصادية والتعليمية.
يقول البكري مؤسس الشركة إن مستثمري شركة تيك مي الخمسة أنفقوا آلاف الدولارات منذ عام 2020 على محاولات لجعل التطبيق أقل استخدامًا لبيانات الإنترنت ليعمل عبر الهاتف المحمول، لكن دون جدوى.
الإنترنت في اليمن هو الأبطأ سرعة في العالم وفقًا لخدمة تحليل سرعات الانترنت SpeedTest، وذلك بمتوسط سرعة تنزيل/تحميل 0.53 ميجابايت في الثانية، ويُعد الإنترنت في اليمن أبطأ بست مرات عن تركمانستان التي تأتي في المرتبة التالية على قائمة أبطأ إنترنت في العالم.
كما أن معدلات انتشار الإنترنت في اليمن منخفضة، فلا يمتلك إمكانية الوصول إلى الإنترنت من اليمنيين سوى أكثر من ربع عددهم بقليل، مقارنة بثلاثة أرباع السكان في منطقة الشرق الأوسط وفقًا لتقرير عام 2022 عن اليمن صادر عن المكتبة المرجعية الإلكترونية DataReportal.
ويدفع مستخدمو الإنترنت في اليمن أعلى تعرفة في المنطقة بواقع 16 دولارًا أمريكيًا لكل جيجابايت، مقارنة بحوالي دولار واحد فقط في البلدان المجاورة، وفقًا لتقرير منتظر عن اليمن من مركز عربيا برين ترست، وهو مؤسسة فكرية مستقلة تعمل على تعزيز التنمية الاجتماعية والاقتصادية المستدامة.
يعود ذلك إلى البنية التحتية المتقادمة للإنترنت، التي لم تتلقَ أي صيانة وتضررت بقدر كبير نتيجة أكثر من سبع سنوات من الصراع، والسبب الآخر هو الانخفاض الحاد في قيمة العملة المحلية مما حد من القدرة الشرائية للناس خلال الأشهر القليلة الماضية.
الوصول إلى الإنترنت أصعب في المناطق الريفية
تحدث بلال سلال البالغ من العمر 25 عامًا الذي يدرس في قسم الأمراض الجلدية بجامعة عدن عن الإنترنت قائلًا: “أعيش في الريف، والإنترنت شديد البطء هناك.” ينفق بلال مصروفه على وسائل النقل العام للوصول إلى الجامعة، مما يجعل الاشتراك بخدمة الإنترنت أحد أشكال الرفاهية بالنسبة له.
وأضاف بلال: “يجب أن أدفع 10 دولارات لأحصل على حوالي 800 ميجابايت من الإنترنت، وهذا لا يكفي حتى لمشاهدة محاضرة واحدة، ولا يمكنني الحصول على المزيد من الإنترنت كونه مكلف للغاية بالنسبة لي.”
التعلم عبر الإنترنت؟ انس الأمر!
عندما أغلقت جامعة عدن أبوابها خلال فترات المعارك وحضرت جائحة كورونا، جاء الطلاب وأعضاء هيئة التدريس بحلول منخفضة التقنية، بسبب تأثر النطاق الترددي للإنترنت في اليمن الذي حدث بسبب الدروس عبر الإنترنت.
يقول عبدالرزاق حكم، طالب الطب البالغ من العمر 26 عامًا: “إن كنت ترغب في مشاهدة محاضرة أو دورة تدريبية إضافية على اليوتيوب فانس الأمر كونه غير ممكن.” وبالتالي طلب عبدالرزاق من أصدقائه في الخارج تنزيل المحاضرات على أقراص صلبة خارجية وإحضارها معهم ليوزع المواد التي حصل عليها منهم في عدة ذواكر خارجية محمولة.
أما ناصر عقيل طالب آخر في نفس الجامعة يبلغ من العمر 25 عامًا فيقول إن أساتذته استخدموا تطبيق الواتساب كونه يتطلب نطاقًا تردديًا وسرعة أقل.
وأضاف ناصر عقيل: “كان أساتذة الجامعة يرسلون لنا 10 إلى 15 رسالة صوتية على الواتساب، مدة كل رسالة منها خمس دقائق، واستخدمنا هذه الطريقة للاستماع للمحاضرات”.
واتفق ناصر عقيل وعبد الرزاق حكم وبلال سلال على أنهم يعتزمون البحث عن عمل خارج اليمن بعد تخرجهم، أي زيادة معدلات هجرة العقول من الوطن. وأضاف ناصر عقيل قائلًا: “الأمر ببساطة هو أن العالم متصل بالإنترنت، ونحن لسنا كذلك.”
أما الأشخاص المستعدون لدفع قسط اشتراك مرتفع فيمكنهم الاشتراك في شركة عدن نت المدعومة من الدولة التي استمرت في تقديم خدمات الإنترنت أحيانًا حتى عند قطع الخدمة عن مقدمي خدمات الإنترنت الآخرين.
لكن شركة عدن نت قامت بعرض عدد محدود فقط من الاشتراكات، مما تسبب في نشأة سوق سوداء لبيع أجهزة المودم الخاصة بها بمئات من الدولارات، مما أدى إلى انخفاض متوسط الدخل الشهري.
فرص ضائعة
ما زاد من المشاكل التي يعاني منها قطاع الإنترنت في اليمن هو تزايد عدد انقطاعات الكهرباء. خلال جائحة كورونا واشتعال المعارك في المدينة، إذ أغلقت مقاهي الإنترنت والمكاتب أبوابها وتوجب على الناس العمل من منازلهم التي تنقطع عنها الكهرباء لأكثر من 20 ساعة في اليوم الواحد.
بحسب عائشة الوراق، مديرة برامج في مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية “يحاول البعض الذهاب إلى الفنادق للحصول على الإنترنت والكهرباء، لكن جلوسهم في ردهات تلك الفنادق يكلفهم الكثير”.
وأضافت “يستخدم آخرون مولدات الكهرباء، ولكن ما يصعب من الأمر هو أزمات الوقود وتضاعف أسعارها منذ بدء الحرب، وبالتالي لم يعد الكثير قادرين على تحمل تكلفة الوقود.”
قالت الوراق إنها تعرف العديد من الشبان اليمنيين الذين ضاعت عليهم مقابلات العمل أو عروض تقديمية بسبب انقطاع التيار الكهربائي وعدم قدرتهم على تسجيل الدخول إلى برنامج زووم Zoom، ووصفت ذلك قائلة “إنهم بالطبع يفقدون تلك الفرص.”
يحث تقرير عربيا برين ترست المُزمع نشره هذا الشهر السلطات اليمنية على منح تراخيص للشركات الخاصة لدخول السوق وإصلاح الأجهزة والمعدات التي تضررت من الحرب.
في هذا السياق، تقول الباحثة في شؤون الإنترنت نادية السقاف التي ساهمت في التقرير وشغلت منصب أول وزيرة إعلام يمنية عام 2014 لفترة وجيزة: “يمكن أن يحقق ذلك دفعة قوية للاقتصاد، دفعة يحتاجها الاقتصاد بشدة.”
وأضافت: “وجدنا أن ربط 80 في المئة من اليمنيين بالإنترنت سيزيد من نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي بنسبة واحد في المئة كل عام”.
في اليمن لا يوجد سوى عدد قليل جدًا من مقاهي الإنترنت للنساء، وبالتالي عند زيادة نسبة الأشخاص المتصلين بالإنترنت سيتحقق المزيد من الإدماج الاقتصادي للمرأة، كما قد يربط المزارعين والقطاعات الإنتاجية الأخرى بشبكة عالمية، ويسمح بالتعاملات المصرفية عبر الهاتف المحمول. فكما وصفته نادية السقاف: “قد يفتح ذلك عالم جديد كليًا.”
آثار حرب أوكرانيا تصل اليمن وانعدام التمويل يعني انعدام الغذاء
مايا جبيلي | مؤسسة تومسون رويترز | 17 مارس/آذار 2022
الحرب الروسية على أوكرانيا تتسبب في ارتفاع أسعار القمح، ووكالات الأمم المتحدة تقطع المساعدات الغذائية. المجاعة تلوح في الأفق، والآباء اليمنيون أمام خيارين أحلاهما مُر، إما إنقاذ طفلهم المريض أو إطعام طفلهم الآخر.
- ارتفاع تكاليف الغذاء والوقود يثقل كاهل الطبقات الأفقر في اليمن.
- الأطفال الجياع تتهددهم مخاطر جمة.
- المنظمات غير الحكومية تخشى أن يؤدي النقص في التمويل إلى قطع شرايين الحياة.
تتدلى ساقا علي النحيلتين من بدلته الرمادية، التي باتت تبدو كبيرة المقاس رغم أن مقاسها اعتيادي للأطفال في سنه. يبلغ علي من العمر ثلاثة أشهر أمضى ثلثها في كفاح للبقاء على قيد الحياة.
تلقى علي العلاج المجاني لسوء التغذية الحاد في مستشفى الصداقة العام بمدينة عدن الساحلية الجنوبية، لكن شريان الحياة الذي يبقيه هو وملايين الأطفال اليمنيين الجياع قد ينسد قريبًا.
وحذر فيليب دوميل المتحدث باسم صندوق الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف): “هناك عاصفة قوية تلوح في الأفق.”
تسبب الغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير/ِشباط بارتفاع الأسعار العالمية للقمح والوقود ارتفاعًا كبيرًا بعد أشهر قليلة من قطع وكالات الأمم المتحدة المساعدات الغذائية عن ثمانية ملايين يمني كون تلك الوكالات تعاني من ضائقة مالية.
ومن المتوقع أن تخفض تلك الوكالات المساعدات بقدر أكبر، حيث لم تتعهد الدول المانحة يوم الأربعاء بتقديم سوى 1.3 مليار دولار فقط من إجمالي التمويل المطلوب لتمويل المساعدات الإنسانية لليمنيين خلال العام المقبل والبالغ 4.2 مليار دولار.
إذ يمكن لذلك أن يهدد المساعدات الدولية المقدمة للمستشفيات اليمنية، التي تبقيها على قيد الحياة، وتمكنها من الحفاظ إضاءة مرافقها، وملئ مخازنها بالأدوية، ونقل المرضى من المحافظات النائية، كعائلة علي التي سافرت أكثر من 480 كيلومترًا للوصول إلى عدن.
وقال دوميل لمؤسسة تومسون رويترز: “هناك حاجة لتمويل أكثر وليس تمويل أقل، لكننا وصلنا إلى مرحلة نحتاج فيها إلى البدء في التقليص”.
“إنه لضرب من ضروب الجنون!”
تتوقع اليونيسف أن يحتاج 19 مليون يمني للمساعدات الغذائية في نهاية عام 2022، أي بزيادة قدرها 2 مليون حالة عن عدد المحتاجين بداية العام.
من بين العدد الإجمالي للمحتاجين، هناك 2.2 مليون طفل يُتوقع أن يعانوا من سوء التغذية الحاد هذا العام.
يقول دوميل: “الأطفال خاصة أطفال الأسر الفقيرة هم في العادة أكثر من يعانون في بيئات كهذه”.
من لا يستطيعون الدفع
عند اندلاع الحرب عام 2015، كانت اليمن أكثر الدول فقرًا في المنطقة، وأدى الانخفاض الحاد في قيمة العملة المحلية إلى سحق ميزانيات الأسرة أكثر من قبل.
أكثر من نصف المرافق الصحية في البلاد مغلقة حاليًا، لذلك بدأت اليونيسف في تقديم الدعم لنقل الأسر، التي يتعين عليها السفر بالحافلة لساعات للوصول إلى المستشفيات التي ما تزال تعمل.
يقول لسان حال الآباء: “نشعر بالكثير من الحرج والألم، ولكن علينا أن نختار ما إذا كنا سننفق المال لعلاج طفلنا هذا أو توفير الطعام لأطفالنا الآخرين”. ووصف دوميل ذلك قائلًا: “كيف يمكن للآباء اتخاذ قرار صعب كهذا؟”
وكون العيادات الخاصة باهظة الثمن بالنسبة لغالبية الناس، فإن ملاذهم الوحيد للحصول على الرعاية هي المرافق الصحية الحكومية.
وبحسب مرام يوسف الطبيبة في وحدة حديثي الولادة في مستشفى الصداقة: “العائلات التي تأتي إلى هنا هي العائلات التي لا تستطيع دفع تكاليف الرعاية الصحية الخاصة”.
تحدثت الطبيبة بهدوء وهي تفحص الأطفال حديثي الولادة الذين يصطفون في حاضنات على جدار وردي، وصدورهم الصغيرة المثقلة تتحرك وتحرك معها الأنابيب الرفيعة التي تنتهي في أنوفهم.
تتلقى هذه الوحدة التمويل من الأمم المتحدة بحسب الطبيبة، ودفعت الأمم المتحدة تكاليف 16 جهازًا وآلة، وتكاليف الأكسجين، إضافة إلى رواتب الموظفين التي ارتفعت للضعف أي حوالي 100 دولار شهريًا.
كارثة حقيقية
أما القطاعات الأخرى في مستشفى الصداقة التي لا تتلقى تمويلًا خارجيًا فكانت أكثر تدهورًا بكثير، إذ كانت الممرات ممتلئة بالأطعمة المتعفنة ورائحة البول، ومرضى الكلى من صغار السن يرقدون على أسرّة متسخة.
تمكن مستشفى الجمهورية الحكومي من الاستمرار في تشغيل وحدة غسيل الكلى من خلال تمويل اللجنة الدولية للصليب الأحمر لتشغيل المولدات.
تقول نبيهة باماجد المديرة الإدارية لوحدة غسيل الكلى إن المرضى ومنهم الأطفال يأتون للمستشفى من مناطق بعيدة، قد تصل إلى 600 كيلومتر، وإن البعض منهم يفارقون الحياة بسبب عجزهم عن الانتقال إلى المركز، وأضافت قائلة “سنعاني من كارثة حقيقة إذا ما توقفت المساعدات الدولية”.
يُعد الوقود ضروريًا أيضًا لتشغيل محطات ضخ المياه المحلية، مما يسمح للأسر بالغسل والطهي وشرب المياه الآمنة في أحد أكثر البلدان معاناة من شحة المياه.
هناك مخاطر تهدد إمدادات الوقود أيضًا، حيث تقول اليونيسف إن مخزونها من الوقود المخصص لهذه المحطات سينضب نهاية شهر مايو/أيار.
ستكون إعادة إمدادات الوقود أكثر تكلفة في الوقت الحالي بسبب ارتفاع أسعار الوقود، وهو ما قد يعني أن تصبح الأسر دون مياه في ذروة فصل الصيف.
هناك تفاوت صارخ في قدرات الناس في الحصول على الرعاية الصحية.
تمتلئ الرحلات الجوية من عدن وإليها بانتظام بالمسافرين الراغبين بالحصول على الرعاية الصحية الذين يمكنهم تحمل تكاليف السفر إلى القاهرة أو إلى غيرها للحصول على الرعاية الصحية.
يُنشئ البرنامج السعودي لتنمية وإعمار اليمن مستشفى بأحدث التجهيزات بتكلفة 56 مليون دولار أمريكي طبقًا لأحمد مدخلي مدير البرنامج في عدن. المستشفى مجهز بشكل جيد، وتملأ غرفه الحديثة شحنات من المعدات الطبية الغربية المغلفة بالبلاستيك. لكن المستشفى لم تفتح أبوابها بعد.
من غير المرجح أن يُعوض النقص في التمويل نظرًا لقلة التمويل وتركيز الأمم المتحدة على أوكرانيا.
في تصريح في مؤتمر إعلان التبرعات، قال ديفيد بيسلي رئيس برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة “لا تجعلونا نختار بين إطعام أطفال أوكرانيا أو أطفال اليمن.”
أما جان إيجلاند رئيس مجلس اللاجئين النرويجي، قال إنه “يشعر بخيبة أمل شديدة” من نتائج القمة، وأضاف: “سنخسر المزيد من الأرواح، وسيتضوّر المزيد من الأطفال جوعًا، وستنام المزيد من الأسر في العراء، وستُحرم المزيد من المجتمعات من المياه النظيفة، ولكن لن يكون لدينا تمويل لمد يد العون إليهم.”
مدينة يمنية تعود للماضي لتجاوز تغيرات المناخ
مايا جبيلي | مؤسسة تومسون رويترز | 16 مارس/آذار 2022
يقول مسؤولو المدينة إن “الاحتباس الحراري يؤدي إلى ظروف جوية قاسية في اليمن المعرضة للتغيرات والمخاطر المناخية، إلا أن ترميم صهاريج الطويلة يمكن أن يساعد في تجنب أي كوارث مستقبلية”.
- التغير المناخي يعرّض اليمن لخطر الفيضانات والجفاف.
- صهاريج الطويلة القديمة كانت تحمي عدن من كلتا الظاهرتين الطبيعيتين.
- ستكون الأسر ذات الدخل المنخفض الأكثر عرضة لمخاطر الظاهرتين في حال عدم اتخاذ إجراءات للحيلولة دونها.
ساعدت شبكة من القنوات المائية والأحواض مدينة عدن الساحلية اليمنية على مواجهة الفيضانات والجفاف على مدى آلاف السنين، لكن القنوات المائية القديمة مسدودة بالأكياس البلاستيكية وعلب المشروبات والأخشاب في الوقت الراهن.
وفي وقت يؤدي فيه الاحتباس الحراري إلى تزايد الأحوال الجوية القاسية في بلد معرض للتغيرات المناخية، يقول مسؤولو المدينة إن إعادة صهاريج الطويلة إلى مجدها يمكن أن يساعد بضمان استمرار إمدادات المياه خلال فترات الجفاف وتجنب الفيضانات في موسم الأمطار.
يقول عضو المجلس المحلي في مديرية كريتر المعرضة للفيضانات بالمدينة جلال هيكل البالغ من العمر 28 عامًا: “أعرف تاريخ مدينتي، وأريد استعادة أمجاد الماضي.” سميت كريتر بهذا الاسم لموقعها على بركان خامد.
كانت صهاريج الطويلة منذ القرن الخامس عشر قبل الميلاد تنقل مياه الأمطار عبر سلسلة من السدود، وتملأ 6 خزانات، وتحوّل المياه الزائدة باتجاه البحر وفقًا لبرنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية.
تمر القنوات المائية المصنوعة من الرماد البركاني والجص المقاوم للماء في خط متعرج بين سلاسل الصخور البركانية وتحوّل مياه الأمطار بعيدًا عن أقدم أجزاء عدن وأكثرها انخفاضًا وتنقذ السكان من الفيضانات.
ووصفها عثمان عبد الرحمن نائب رئيس مكتب آثار عدن لمؤسسة طومسون رويترز بـقوله “لقد كانت طريقة عبقرية”.
كانت هذه القنوات والصهاريج تزوّد العدنيين بما يصل إلى 20 مليون جالون (90 مليون لتر) من مياه الشرب، أما في وقتنا الحاضر فيعيش سكان مدينة عدن في واحدة من أكثر البلدان التي تعاني من الإجهاد المائي في العالم.
قال عبد الرحمن “اعتاد الناس على الحصول على المياه منها”، وأشار إلى سلسلة من الحواف والسلالم المنحوتة داخل الصهاريج تسمح للسكان بالاقتراب من المياه.
في الوقت الحاضر، أغلب القنوات المائية مسدودة بالمخلفات والقمامة، وانتشرت التجمعات السكنية العشوائية حول الفتحات التي تسمح بدخول المياه إلى خليج عدن.
وذلك يعني أن بعض القنوات تمتلئ جزئيًا وتفيض دون أن تملأ الأحواض والصهاريج، ووصف عبد الرحمن الوضع قائلًا: “يؤلمني أن أراها بهذا الوضع.”
“نشعر بالخوف”
تواجه اليمن الواقعة في الطرف الجنوبي الغربي لشبه الجزيرة العربية والبالغ عدد سكانها 30 مليون نسمة نتيجتين متعاكستين لتغير المناخ.
فاليمن أساسًا واحدة من أكثر بلدان العالم معاناة من ندرة المياه، ويزيد التصحر فيه من صعوبة حصول الملايين من الأشخاص على مياه الشرب الآمنة، لكن اليمن يعاني في الوقت ذاته من فيضانات مدمرة ومفاجئة في مناطقه الساحلية. ففي عام 2020، قتلت الفيضانات المفاجئة أكثر من 170 شخصًا في جميع أنحاء البلاد، وفي عام 2021، أثر فيضانان متتاليان على آلاف العائلات اليمنية في مناطق مختلفة منها عدن.
ووفقًا لدراسة أجراها مركز التنمية العالمية غير الربحي عام 2009 تُعد عدن سادس أكثر مدن العالم عرضة لارتفاع مستوى سطح البحر والعواصف.
يقع الميناء الطبيعي للمدينة وأقدم أحيائها في مناطق كريتر المنخفض، ويعيش معظم سكانها من الأسر منخفضة الدخل في منازل من الطوب، التي دُمر الكثير منها جراء الفيضانات عام 2020، ومن بينها منزل عائلة فيصل الشوقي المكوّن من طابقين.
يقول الشاب البالغ من العمر 28 عامًا: “لقد كان يومًا مرعبًا ومخيفًا” متذكرًا كيف تدفقت مياه الأمطار إلى المنزل جارفة درج الطابق العلوي سريعًا، ومبقيةً على عائلته عالقة في الطابق الأرضي. تتطلب حماية منزلهم من الفيضانات أو الانتقال إلى حي أكثر ارتفاعًا المال الذي لا يمتلكونه. ومع اقتراب موسم الفيضانات في الربيع، يشعر شوقي بالتوتر، حيث قال: “نشعر بالكثير من الخوف والتوتر، فمنزلي والمنازل حوله تتداعى حقًا.”
استعادة التاريخ
جدد برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية أكثر من 100 منزل تضررت من الفيضانات، وأنشأ شبكات تصريف مياه الأمطار ليستفيد منها 15 ألف شخص إضافي من سكان عدن، ويرى البرنامج إمكانية إعادة تأهيل شبكة المياه القديمة في المدينة، حيث قال رئيس فرع البرنامج في اليمن وائل الشهاب إن “صهاريج الطويلة هي إحدى السُبل المستدامة لمواجهة آثار الفيضانات، لكن الحصول على التمويل لذلك قد يكون صعبًا.”
نظرًا للوضع الإنساني المُزري في اليمن ومعاناة معظم الأسر من أجل توفير المواد الغذائية الأساسية أو الرعاية الصحية بعد سبع سنوات من الحرب، قد يكون الحصول على التبرعات لمشروع بنية تحتية طويل الأجل كهذا أمرًا صعبًا.
وأضاف وائل الشهاب قائلًا: “يعتقد معظم المانحين أن الغذاء والدواء والمياه هي التحديات الرئيسية الثلاثة التي يجب عليهم معالجتها في هذا السياق الإنساني للنزاعات المسلحة والحروب طويلة الأمد.”
قدّر محمود جرادي مدير عام مديرية كريتر تكلفة ترميم صهاريج الطويلة بالكامل بـ 600 ألف دولار أمريكي، في حين قال هيال الذي يعمل ضمن فريق بن جرادي أن هذه التكلفة ضئيلة مقارنة بكونها ستنقذ مدينته، وأضاف “الفيضانات مفاجئة للغاية هذه الأيام، وهناك الكثير من السيول، ونعلم جيدًا مدى أهمية نظام الصهاريج هذا.”
حرب أوكرانيا تهدد بجعل الخبز من الكماليات في الشرق الأوسط
مايا جبيلي ومنة فاروق | مؤسسة تومسون رويترز | 28 فبراير/شباط 2022
في الوقت الذي تسبب الغزو الروسي لأوكرانيا بارتفاع الأسعار العالمية للقمح، تواجه البلدان فقيرة الغذاء في الشرق الأوسط ارتفاع أسعار المواد الغذائية الأساسية اليومية
- تُعد أوكرانيا وروسيا من أهم موردي القمح في الشرق الأوسط.
- الدول فقيرة الغذاء من اليمن إلى مصر تخشى ارتفاع الأسعار.
- المزيد من الملايين في المنطقة معرضون لمخاطر الفقر الغذائي.
تبعد الحرب في أوكرانيا آلاف الأميال عن اليمن، إلا أن إلهام البالغة من العمر 32 عامًا تخشى أن تشعر عائلتها بعواقب تلك الحرب على مائدتهم في اليمن.
أدى الصراع بين أوكرانيا وروسيا اللتان توفران أكثر من ربع صادرات القمح في العالم إلى ارتفاع الأسعار العالمية للقمح إلى أعلى مستوى لها منذ 13 عامًا، الأمر الذي تسبب في قلق لدى دول الشرق الأوسط التي تعتمد على الواردات من المواد الأساسية من الخبز المفرود إلى الكُسكُس.
قالت إلهام التي طلبت عدم ذكر اسمها الكامل لمؤسسة تومسون رويترز: “الأسعار باهظة حقًا بالنسبة لنا، لذا لا أستطيع أن أتخيل ما سيحدث عندما ترتفع الأسعار أكثر من ذلك”.
وفي أماكن أخرى فقيرة الغذاء في المنطقة كلبنان ومصر، حاول المتسوقون في لبنان تخزين الخبز في وقت مبكر لتجنب ارتفاع الأسعار، في حين يقول الخبازون في مصر إنهم يشعرون بالفعل بأثر ارتفاع تكاليف الدقيق.
وقالت المتحدثة الإقليمية باسم برنامج الأغذية العالمي عبير عطيفة، إن تداعيات الحرب في أوكرانيا على أسعار المواد الغذائية قد تدفع الملايين في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا نحو “الفقر الغذائي”.
تعتبر المنطقة مُعرضة بشدة لارتفاع أسعار المواد الغذائية الأساسية نظرًا لعدم كفاية الإنتاج المحلي وارتفاع معدلات الفقر، إذ أدى الغضب الشعبي الناتج عن ارتفاع تكاليف الغذاء إلى تأجيج احتجاجات “الربيع العربي” عام 2011.
يقول مسؤول مالي كبير ومستورد للقمح طلب عدم ذكر اسمه إن اليمن الذي يعتمد على واردات الغذاء من الخارج كليًا تقريبًا يشتري ما لا يقل عن 27 في المئة من قمحه من أوكرانيا و8 في المئة من روسيا.
سبع سنوات من الصراع دمرت الاقتصاد اليمني، وأضرت بالوظائف، وزادت أسعار المواد الغذائية بأكثر من الضعف، ودفعت أكثر من نصف سكان البلاد البالغ عددهم 30 مليون نسمة نحو الجوع وفقًا للجنة الإنقاذ الدولية.
في أواخر العام الماضي، أجبر نقص التمويل برنامج الأغذية العالمي على تقليص المساعدات لثمانية ملايين يمني مما يهدد “بكارثة جوع تلوح في الأفق”.
أشارت أفراح الزوبة، التي تقود هيئة حكومية تسعى إلى تحسين وصول المساعدات، إلى أن احتمال حدوث ارتفاع إضافي في أسعار القمح العالمية يعني أن اليمنيين قد يكونون أكثر عرضة للخطر من أي وقت مضى.
قالت الزوبة مديرة المكتب التنفيذي لتسريع استيعاب المساعدات ودعم إصلاحات السياسات: “بالطبع، سيعرض هذا الناس للخطر، فالمشكلة لم تكن أبدًا في وفرة الغذاء، بل القدرة على تحمل كلفته.”
الفقر الغذائي
تحصل مصر، التي تُعد في الغالب أكبر مستورد للقمح في العالم، على 90 في المئة من قمحها من أوكرانيا وروسيا، ويراقب المسؤولون الحكوميون فيها الصراع عن كثب مع التركيز على أسعار المواد الغذائية المحلية.
وفقاً للبنك الدولي بلغ عدد سكان مصر الذين يعيشون تحت خط الفقر ثلث سكانها البالغ 100 مليون نسمة قبل جائحة كورونا، وتضع الدولة سقفًا لأسعار الخبز لجعل أسعارها في متناول الجميع.
لكن مع ارتفاع الأسعار العالمية إلى أعلى مستوى لها منذ عام 2008، صرح رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي في 16 فبراير/شباط إن الحكومة سترفع سعر رغيف الخبز المدعوم لأول مرة منذ ثمانينيات القرن العشرين.
وقال في مؤتمر صحفي “أؤكد أن (الزيادة) ستطبق لكن بطريقة نضمن من خلالها عدم الإضرار بالأشخاص الأكثر حاجة” دون الخوض في مزيد من التفاصيل.
بدأ أصحاب المخابز في مصر بالشعور بتأثير ارتفاع أسعار الدقيق وزيت الطهي، حيث تعتبر روسيا وأوكرانيا من أكبر موردي زيت عباد الشمس.
يقول حسين الباجوري البالغ من العمر 33 عامًا، ويملك مخبزًا شرق العاصمة المصرية القاهرة، إن عمله تضرر من ارتفاع أسعار الدقيق بنسبة 50 في المئة، وارتفاع أسعار زيت الطهي بنسب أقل، وأضاف: “لقد تسببت زيادة التكاليف بخسارتنا للكثير من المال.”
معاناة قادمة
أثارت احتمالات حدوث قفزة أخرى في أسعار المواد الغذائية مخاوف المتسوقين في لبنان، حيث أدت الأزمة الاقتصادية العميقة والانخفاض الحاد في قيمة العملة الذي بدأ عام 2019 إلى جعل العديد من السلع الأساسية بعيدة عن متناول ملايين الأشخاص. وحاول البعض منهم تخزين الغذاء في عطلة نهاية الأسبوع تحسبًا لارتفاع الأسعار في الأيام المقبلة.
خرج فادي موسى، أحد سكان العاصمة اللبنانية بيروت بحثًا عن الخبز، وقال: “ذهبت إلى عدة مخابز بحثًا عن الخبز، ويكاد يكون من المستحيل الحصول على أكثر من ربطة خبز واحدة”. وأضاف “يبدو لبنان وكأنه في حالة حرب”.
صرّح وزير الاقتصاد اللبناني أمين سلام في مؤتمر صحفي يوم 25 فبراير/شباط أن البلاد تدرس خيارات توريد بديلة نتيجة الغزو الروسي لأوكرانيا التي تزود لبنان بحوالي 60 في المئة من وارداتها من القمح، وأضاف أن مخزون البلاد من القمح يكفي لتلبية احتياجات شهر واحد فقط.
كما أدى انفجار مدمر في أغسطس/ آب 2020 بمرفأ بيروت إلى تدمير مجمع صوامع تخزين الحبوب القريب من المرفأ، حيث يعد ذلك المجمع أكبر مساحة لتخزين القمح والحبوب الأخرى في البلاد.
على الرغم من دعم واردات القمح وتقييد الحكومة لأسعار الخبز، إلا أن الخبز أصبح بالفعل شكلًا من أشكال الرفاهية لبعض اللبنانيين. تحدد المخابز هناك عددًا محددًا من الأرغفة للزبون الواحد، وفي بعض الحالات تُسعّر الأرغفة الزائدة عن الحصة بسعر “السوق السوداء“.
وبحسب غسان أبو حبيب مالك سلسلة مخابز وودن بيكري، إحدى سلاسل المخابز الرئيسية في البلاد: “هناك خياران، الأول ألا يكون لدينا أي قمح على الإطلاق، والثاني أن يكون لدينا قمح لكن بأسعار باهظة. المعاناة تلوح في الأفق.”