أدى استمرار الصراع الدائر ضد الحوثيين لخمسة أعوام في اليمن إلى إنهاك السعودية سياسياً ومالياً، حيث تكبد الحرب المملكة 200 مليون سعودي ريال يومياً، ما دفع بالرياض إلى إعلان وقف إطلاق نار أحادي الجانب في 8 أبريل/نيسان، ومددته بعد أسبوعين كجزء من محاولاتها للتوصل إلى حل تفاوضي في ظل خسارة بعض المناطق لصالح الحوثيين. تزامنت هذه المبادرة مع جائحة كورونا، ما أمن للسعودية أرضية أخلاقية للتراجع عسكرياً وحفظ ماء الوجه في نفس الوقت. دُعي الحوثيون إلى الامتثال لوقف إطلاق النار ولكنهم تجاهلوا هذه الدعوات وردوا بوضع شروط سلام ترقى إلى ما يمثل استسلاماً سعودياً. ونظراً لتعنت الحوثيين ويأس الرياض المتزايد بعد أن وصلت إلى طريق مسدود، يبدو أن السعوديين بدأوا إعادة النظر في تدخلهم في اليمن من حيث المبدأ.
انطلاقاً من تصرفات السعودية والآراء التي يعبر عنها كتاب مستقلون أو بعض المحررين والناشرين الذين يعكسون أفكار كبار المسؤولين السعوديين، يبدو أن هناك خيارين قيد النظر:
الخيار الأول هو التوصل إلى اتفاق مع الحوثيين وترك الأطراف اليمنية الأخرى لتدافع عن نفسها مع توفير الدعم الكافي لأمراء الحرب المحليين لإبقاء اليمن في حالة حرب أهلية دائمة كحال الصومال في التسعينات. من شبه المؤكد أن يؤدي الانسحاب السعودي من اليمن إلى انهيار اقتصادي، حيث أن معظم النقد الأجنبي الذي يحافظ على استمرار الاقتصاد اليمني يأتي من ميزانية الحرب التي تتمثل في الرواتب والمدفوعات لرجال القبائل. سيكون هذا الخيار طريقة ملتفة لتحقيق الهدف المنشود “لا غالب ولا مغلوب” إذ سوف تتجنب السعودية الهزيمة الصريحة، ولن يكون هناك منتصر في اليمن، بينما سيكون هناك شعب كامل تفتك به المجاعة والأمراض.
أما الخيار الثاني فهو تقسيم اليمن إلى دويلات أصغر، فقد كتب عبد الرحمن الراشد، أحد الكتاب السعوديين البارزين والمطلعين على سياسات الديوان الملكي، أن بعض الدوائر في السعودية تدعم هذه الفكرة. وأشار إلى أنه على الرغم من أن فكرة تقسيم اليمن إلى دويلات قد تبدو أفضل من يمن واحد موحد بالنسبة للسعودية، فإن العواقب غير المقصودة -مثل توسع تنظيم القاعدة في جزيرة العرب وسيطرة الدولة الإسلامية على أراض جديدة أو تدخل اللاعبين الإقليميين الآخرين مثل إيران وتركيا وقطر بشكل متزايد- تدفع نحو إعادة النظر في هذا الخيار. وإذا نجحت السعودية في تقسيم اليمن، فسوف تسعى بطبيعة الحال إلى ضم أكبر قدر ممكن من شرق اليمن أو السيطرة عليه. قد يكون هذا خياراً جذاباً كونه يضمن تحقيق الهدف الاستراتيجي السعودي التي سعت المملكة إلى تحقيقه منذ عقود وهو الحصول على منفذ إلى المحيط الهندي للالتفاف على مضيق هرمز.
غالبًا ما يتغاضى الكتاب السعوديون عن المخاطر المحتملة الأخرى التي يمكن أن تنجم عن أي من هذين الخيارين، وأهم تلك المخاطر أن معظم اليمنيين لن يقفوا بلا حراك وهم يشاهدون بلادهم تتمزق، بل من المرجح أن ينضموا إلى صفوف أقوى فصيل يمني، للدفاع ليس فقط عن وطنهم بل عن وجودهم أيضاً، وهذا الفصيل حاليا هو جماعة الحوثيين، في وقت تجري فيه محادثات سرية بالفعل بين شخصيات من حزب الإصلاح والحوثيين لصياغة رد جماعي على هذا التهديد.
يتفق العديد من السياسيين المستقلين اليمنيين وصناع الرأي في الداخل والخارج على أنه من المحتمل أن يتبنى اليمنيون الذين يصطفون وراء جماعة الحوثيين خطاب الأخيرة المتشدد فيما يخص نقل المعركة إلى الأراضي السعودية لاستعادة الأراضي اليمنية التي سلمت للمملكة بموجب معاهدة الطائف التي وقعت عام 1934، وجرى تثبيت أغلب خطوط الحدود اليمنية السعودية بناء عليها في اتفاقية الحدود بين البلدين إبان عهد صالح. تشمل هذه المناطق جنوب السعودية والصحراء الشاسعة في الربع الخالي. وفي حين لا يتمتع هذا الادعاء بأحقية الأرض بأي أساس بموجب القانون الدولي، إلا أن مثل هذا التحدي قد يخضع الإمبراطورية السعودية الهشة لامتحان صعب.
الدولة السعودية بشكلها الحالي هي في الواقع إمبراطورية تأسست من قبل مجتمع مهيمن، أي نجد، الذي أخضع قسراً أجزاء أخرى من شبه الجزيرة العربية ووضعها تحت سيطرته في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي. وهذا على عكس دول أخرى مثل اليمن التي نشأت وتطورت على مدى قرون أو آلاف السنين، وإن توحدت وانقسمت عدة مرات سياسيا خلال هذه الفترة، إلا أن ذلك لم يؤثر فيها ككيان حضاري. فمن خصائص الإمبراطورية هو أن تفيض بالقوة والصلابة، ولكنها أيضاً كالزجاج الذي يتحطم عندما يتشقق. ورغم كل مظاهر القوة، فإن مظاهر التماسك تتلاشى باستمرار لدرجة يمكن فيها اعتبار التصدعات داخل الدولة السعودية، مثل تلك الموجودة بين نجد والجنوب والمنطقة الشرقية أعمق من تلك الموجودة بين هذه المناطق والدول المجاورة لها. فتقارب المنطقة الشرقية مع البحرين والعراق وإيران أكثر من تقاربها مع نجد، ويمكن قول الشيء نفسه عن العلاقة بين المحافظات الجنوبية واليمن.
بناء على هذه المعطيات، فإن لدى الرياض سبب حقيقي للقلق من أن رسالة الحوثيين قد تجد جمهورًا حاضناً لها في جنوب المملكة، ففي عام 1934 ومن أجل جذب نجران وإبعادها عن حاكم اليمن آنذاك الإمام يحيى، تعهد عبد العزيز بن سعود، مؤسس الدولة السعودية، بالسماح للإسماعيليين في نجران بممارسة شعائرهم الدينية بحرية، إلا أن ذلك لم يتحقق لهم عمليا في ظل الطابع الديني المتشدد للدولة السعودية، فقد عانت المجتمعات الزيدية والإسماعيلية في جنوب السعودية من التهميش والقمع لعقود من الزمن، وعلى سبيل المثال، فقد واجهت السلطات السعودية في أبريل/نيسان 2000، انتفاضة عنيفة في نجران بعد إغلاق الحكومة لمساجد الشيعة الإسماعيليين هناك. وبالنظر إلى التقارب القبلي والثقافي -الهندسة المعمارية وأسلوب الحياة وحتى العادات كمضغ القات- فقد وجدت جاذبية الحوثيين كحركة إحيائية زيدية صدى في البداية في معظم مناطق جنوب السعودية والحجاز. وفي العقد الأول من القرن الحالي، خلال ما عرف بـ”حروب صعدة الستة” (2004-2010)، عبرت قبيلة يام في نجران عن تضامنها مع قبيلة وائلة في صعدة، في استجابة للداعي القبلي، أي الدعوة لحمل السلاح فالتقارب الاجتماعي والمذهبي والجغرافي بين قبائل يام ووائلة لم يتأثر كثيرا بخط الحدود السياسية بين اليمن والسعودية الذي قسمها إلى قسمين. وهذا الأمر ينطبق على الخط الحدودي نفسه بالاتجاه شرقا، الذي يقسم قبيلة خولان بن عامر البارزة بين محافظة صعدة اليمنية ومحافظة عسير السعودية.
كل الخيارات السعودية المشار إليها هنا لا تخلو من المخاطر الجسيمة، فإذا تم العمل وفقا لخيار ترك اليمن في حالة حرب دائمة، من المرجح أن يؤدي ذلك إلى نشوء تهديدات أمنية طويلة المدى للسعودية، وهي تهديدات من الممكن مواجهتها عموماً ولكن بتكلفة باهظة. أما إذا تم التعامل مع الخيار الثاني المتمثل بتقسيم اليمن إلى دويلات، فقد يحقق بعض المصالح السعودية ولكنه بالمقابل سيعطي إيران، ومن المفارقة بعض دول الخليج أيضاً، فرصة لمواجهة الهيمنة السعودية على المنطقة. تعاني الإمبراطورية السعودية بالفعل من شقوق رقيقة، ولكن أي حسابات خاطئة بشأن اليمن قد تحولها إلى شروخ أوسع، وقد تؤدي إلى تحطمها أيضا.