إصدارات الأخبار تحليلات تقرير اليمن أرشيف الإصدارات

معضلة اتفاق الرياض

Read this in English

يمثل تشكيل وفد حكومي يضم ممثلين للمجلس الانتقالي الجنوبي، كما نص اتفاق الرياض الذي توسطت فيه السعودية ووقعه الطرفان (الحكومة اليمنية والمجلس) العام الماضي، إحدى العقبات الرئيسية أمام عقد مفاوضات سلام على الصعيد الوطني في اليمن. كما أن التنفيذ الناجح لهذا الاتفاق يتطلب إعادة نشر القوات الموالية للرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي في عدن، العاصمة المؤقتة لحكومته، وهو ما يهدد بتجدد المواجهات الدامية مع القوات الموالية للمجلس الانتقالي الجنوبي، والتي من شأنها أن تُفشل مفاوضات السلام. وتلك هي معضلة اتفاق الرياض.

في 5 نوفمبر/تشرين الثاني 2019، وقعت الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا والمجلس الانتقالي الجنوبي اتفاقاً في الرياض لإنهاء المواجهات العسكرية بينهما، والتي احتدمت في عدن ومحافظات جنوبية أخرى خلال الأشهر السابقة وأسفرت عن طرد قوات الرئيس هادي من عدن (أغسطس 2019). نص الاتفاق – الذي صيغ بناء على نموذج محادثات الكويت عام 2016 بين الحكومة اليمنية وسلطة الأمر الواقع لجماعة أنصار الله (الحوثيون) في صنعاء – على عودة الحكومة إلى عدن وتقاسم السلطة ودمج القوات العسكرية والأمنية للمجلس الانتقالي في القوات المسلحة الحكومية ووزارة الداخلية، على أن يتم بعدها تشكيل حكومة يكون المجلس شريكاً فيها وفي وفد الحكومة للتفاوض بشأن وقف الأعمال العدائية على الصعيد الوطني مع جماعة الحوثيين المسلحة، التي تسيطر على صنعاء ومعظم مناطق شمال اليمن.

بعد تسعة أشهر على توقيعه، تعذر تطبيق اتفاق الرياض نتيجة الخلافات حول ترتيب تنفيذ بنوده – نفس المشكلة التي غالباً ما يُعزى إحباط اتفاق الكويت عام 2016 إليها-، حيث يصر المجلس الانتقالي الجنوبي على تعيين محافظ ومدير أمن لمحافظة عدن قبل أن يعيد نشر قواته خارج المدينة، في حين يصر هادي على العكس. سممت النوايا السيئة وغياب الثقة بين الطرفين المحادثات بشأن تنفيذ الاتفاق، كما استمر الطرفان بالقيام بأعمال عسكرية تتناقض مع تصريحاتهما العلنية بالالتزام به، فقد استمر القتال بينهما بشكل متقطع منذ نوفمبر/تشرين الثاني، في الوقت الذي صعد فيه المجلس الانتقالي نبرة خطابه ضد هادي وحكومته، لدرجة اعتبر فيها أن هادي ليس أكثر من دمية في يد الإرهابيين (في إشارة إلى حزب التجمع اليمني للإصلاح، حليف هادي في الحكم) ومن وصفهم بـ”المحتلين الشماليين”. من ناحية أخرى، واصلت القوات التابعة للرئيس هادي إرسال التعزيزات العسكرية ونقل وحداتها من مأرب وحضرموت نحو شبوة وأبين لزيادة الضغط على المجلس الانتقالي.

يبدو أن السعوديين الذين أجبروا الطرفين على القبول بالاتفاق لم يتعلموا من التاريخ، ونتيجة لذلك صدقوا الرواية السائدة التي تُعرف ما يجري على الأرض بأنه صراع بين فصيل يرون أن من يهيمن عليه هو الشماليين ويرغب في الحفاظ على الوحدة اليمنية، وفصيل آخر يمثل الجنوبيين الذين يحاولون تخليص أنفسهم من الهيمنة الشمالية واستعادة دولتهم التي كانت قائمة قبل مايو 1990. وعلى هذا الصعيد، يشير المراقبون والخبراء إلى المنافسة بين السعودية والإمارات العربية المتحدة وإلى أن هدف الأخيرة المعلن هو القضاء على حزب الإصلاح. ومع أن هذه الآراء يمكن أن تؤخذ في الاعتبار، إلّا أنها لا تقدم صورة كاملة بتفاصيلها الدقيقة.

لفهم طبيعة الصراع بين حكومة هادي والمجلس الانتقالي الجنوبي، يجب على المرء العودة إلى يناير/كانون الثاني 1986 عندما خاضت الفصائل المتناحرة داخل الحزب الاشتراكي اليمني الحاكم في اليمن الجنوبي حينها حربًا أهلية قصيرة ولكنها شديدة الدموية في عدن، أسفرت عن مقتل أكثر من 10 آلاف شخص خلال أسبوعين. وبشكل عام، ألب هذا الصراع مكونين جنوبيين ضد بعضهما البعض: الرعاة في شرق أبين وشبوة (يشار إليهم بالبدو)، والمزارعون/المحاربون في لحج والضالع (يشار إليهم برجال القبائل). ولم تكن أحداث يناير 1986 المواجهة الوحيدة بين المجموعتين المختلفتين، ولكنها كانت الأكثر عنفاً، وانتهت بهزيمة فصيل أبين/شبوة وطرد عشرات الآلاف منهم ومن ضمنهم الرئيس هادي إلى شمال اليمن وخارجها.

صراعات الهوية تعتبر شائعة في اليمن، وقد طور المجتمع اليمني أعرافاً قبلية مفصلةً للتعامل مع مثل هذه النزاعات والتخفيف من تأثيرها. ولكن اليمنيين صُدموا بشراسة ودموية صراع عام 1986 في عدن وغياب محاولات تسوية له. هناك عاملان يفسران حدة ذلك الصراع: عام 1972، قامت قيادة الجبهة القومية الحاكمة (قبل تأسيس الحزب الاشتراكي اليمني في 1978) خلال حكم سالم ربيع علي، كممثل لفصيل أبين حينها، باعتماد النموذج الماوي للاشتراكية وأممت السلطات الشركات الخاصة والأراضي الزراعية بما في ذلك الشركات الصغيرة. وبالتالي كان الوصول إلى وظائف الدولة هو المصدر الوحيد لكسب الرزق، وبالتالي فإن خسارة الصراع على السلطة لم تكن مجرد نكسة، أو إخفاقاً في تحقيق أرباح محتملة، بل تحولت إلى مسألة وجود.

ما زاد من تدهور الوضع حينها هو قيام النظام الاشتراكي بتنظيم انتفاضات الفلاحين ضد ملاك الأراضي والزعماء التقليديين ابتداء من عام 1972، وخلالها قُتل العديد من السلاطين والشيوخ ورجال الدين ورجال الأعمال، الذين مثلوا مخزن الحكمة التقليدية المتراكمة على مدى آلاف السنين في إدارة الصراع والتخفيف منه، وآخرون سُجنوا أو أجبروا على مغادرة البلد. وفي مجتمع تقليدي لم تكن المؤسسات والهياكل القانونية الحديثة قد تطورت بعد، كانت هذه الخسارة بمثابة قطع المجتمع لرأسه وأدوات تأثيره التقليدية، وبالتالي لم يعد هناك جهود تُبذل لتخفيف حدة الصراع كما كان الوضع سابقاً أو كما كان عليه الحال –ولازال- في شمال اليمن.

في أعقاب أحداث يناير 1986 الدموية، شُرد البدو الذين وُصفوا حينها ازدراءً بـ (الزمرة) وصودرت منازلهم واستولى عليها المنتصرون الذين وصفوا أيضا بـ (الطُغمة)، وانتهى بهم المطاف في المنفى شمال اليمن حيث دُمج الكثير منهم في القوات المسلحة اليمنية الشمالية مشكلين 15 لواء عسكريا سُميت بـ (ألوية الوحدة). ومن بين الناجين من ذلك الصراع الرئيس هادي ومعظم أعضاء دائرته الضيقة اليوم.

عند اتفاق شمال اليمن وجنوبه على الوحدة التي أعلنت عام 1990، طالب المنتصرون في صراع 1986، أي رجال القبائل (الطغمة)، بطرد قيادات أعدائهم (الزمرة) من صنعاء. وقد وافق الرئيس صالح على هذا الطلب، واضطر -الرئيس الجنوبي (1980 – 1986) علي ناصر محمد إلى مغادرة اليمن، في حين اضطر رفاقه إلى التفرق بين المحافظات اليمنية البعيدة مثل صعدة. أما هادي والذي كان يُنظر إليه حينها كضابط قليل الأهمية في قسم التموين العسكري، فلم يشمله طلب النفي ولكنه اضطر إلى الانتقال إلى حجة لبضعة أسابيع.

احتدمت المواجهة عام 1994 بسبب خلافات على تنفيذ اتفاقية الوحدة بين الرئيس علي عبد الله صالح ونائبه علي سالم البيض، آخر زعيم لدولة اليمن الجنوبي، وتطورت إلى حرب قصيرة بين الطرفين استمرت ثلاثة أشهر وانتهت بدخول قوات صالح، على رأسها ألوية الوحدة، مدينة عدن منتصرة. حرص صالح أن تكون قيادة الحملة العسكرية في المناطق الجنوبية من أبناء الجنوب، فعين هادي، الضابط الجنوبي المغمور، وزيرا للدفاع. وكما كان متوقعًا بعد السيطرة على عدن، سمح صالح لحلفائه من القبائل الشمالية بنهب ممتلكات الحكومة، وأرسل العديد من كبار رجال الأعمال بمن فيهم محمد عذبان وصالح المرشد لإعادة شراء ما نُهب بالنيابة عن الحكومة. وفي الوقت ذاته، أقدم الكثير من الضباط الجنوبيين المنتمين إلى ألوية الوحدة (المهزومون في أحداث يناير 1986) على ملاحقة خصومهم السابقين في الجنوب (المنتصرون في أحداث يناير 1986) والاستيلاء على منازلهم وحتى قتل العديد منهم. أي أن معظم الفظائع التي ارتكبت في عدن خلال وبعد حرب عام 1994 كانت انتقاماً لما حدث عام 1986.

احتكرت دائرة هادي (الزمرة) تمثيل جنوب اليمن بعد حرب 1994، أما خصومها من (الطغمة) فقد همشوا بشكل كبير ومعهم غالبية سكان الجنوب. وظل ضباط الجيش والأمن من الطغمة عاطلين عن العمل لسنوات، وعانوا من فقدان سبل العيش إلى أن أجبرت الضغوط المحلية والدولية الرئيس صالح على إصدار قرارات بإعادة دمجهم في الجيش الوطني. وبالرغم من هذا، فقد أظهرت ممارسات صالح منذ العام 1986 وحتى استقالته عام 2012 نواياه في تقويض الجنوب باستمرار،[1] حيث قام بتعيين هادي رئيسًا للجنة الرئاسية المكلفة بإعادة دمج الضباط الجنوبيين الذين سُرحوا قسراً، مع علمه التام بأن هادي سيبذل قصارى جهده لعرقلة عملية الدمج بهدف معاقبة أعدائه السابقين. عام 2001 حاول صالح العبث باحتكار (الزمرة) لتمثيل الجنوب من خلال التودد إلى بعض شخصيات الضالع من (الطغمة)، فأقال حسين عرب وزير الداخلية آنذاك، وأحد أقوى شخصيات (الزمرة)، ورداً على ذلك، أعلنت (الزمرة) عن تأسيس تحالف سياسي، تحت اسم ملتقى أبناء المحافظات الجنوبية والشرقية، وهددت بالدعوة إلى استقلال الجنوب. أي أن (الزمرة) لم تكن مؤيدة للوحدة أكثر من (الطغمة) ولكنها استخدمت تحالفاتها مع القوات الشمالية والحكومة المركزية في مساعيها لتهميش منافسيها الجنوبيين.

يظهر التاريخ بوضوح أن الصراع على جنوب اليمن ليس مجرد صراع سياسي بل هو صراع هويّات. الجنوبيون، وخاصة أفراد الطغمة (المنتمون للمجلس الانتقالي الجنوبي اليوم)، يضرون بأنفسهم من خلال تقديم الصراع على أنه صراع بين الجنوب والشمال، وذلك لأن إنكار الديناميكيات الحقيقية للنزاع يجعل التوصل إلى حل أمراً مستحيلاً. وبالمقابل، لن تؤدي محاولة تنفيذ اتفاق الرياض دون معالجة الأسباب الكامنة وراء الصراع بين المجلس الانتقالي الجنوبي وهادي سوى إلى دفع الوضع نحو المزيد من التعقيد. أدت هزيمة قوات هادي وطردها من عدن عام 2019 إلى نزع فتيل التوترات التي طال أمدها في المدينة، لكن إعادة تلك القوات، بغض النظر عن مدى ذكاء الخطط بشأن إعادة انتشارها، سيكون بمثابة إعادة ملء برميل البارود الذي يهدد بسفك دماء أسوأ بكثير مما حدث العام الماضي، وقد يعيد للأذهان أحداث يناير 1986.

ومع ذلك يُنظر إلى التنفيذ الناجح لاتفاق الرياض كشرط مسبق للتقدم نحو المفاوضات من أجل وقف الأعمال العدائية على الصعيد الوطني. وفي الحقيقة، سيكون الخيار الأفضل لوقف أعمال العنف الحالية والحفاظ على سلام هش هو نسخة معدلة من الاتفاق. ففي الجانب الأمني​، يمكن أن ينص الاتفاق على بقاء قوات الجانبين في مواقعها ومنفصلة عن بعضها البعض، مع وجود قوة شرطة شكلية في عدن. ومن الممكن إدراج القوات الموالية للمجلس الانتقالي الجنوبي في جدول المرتبات الحكومية، ما يعالج إحدى الشكاوى الرئيسية للمجلس المتعلقة بالتمويل. وفي نفس الوقت، ومن أجل تجنب نشوء توترات في عدن يمكن نقل مقر الحكومة إلى المناطق الموالية للحكومة أكثر في سيئون مثلاً أو المكلا في حضرموت أو الغيضة في المهرة.

سينزع هذا النهج فتيل الصراع على جنوب اليمن مؤقتاً. ويمكن حينها تأجيل التطرق للسبب الأساسي للصراع في الجنوب إلى ما بعد انتهاء الحرب حين تُبذل جهود المصالحة الوطنية، مثل ما يتوجب القيام به مع سلطات الحوثيين في صنعاء على المستوى الوطني.


عبد الغني الإرياني، باحث أول في مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية، تتركز أبحاثه على عملية السلام وتحليل النزاع وتحولات الدولة اليمنية. يغرد على agaryani59@


مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية، هو مركز أبحاث مستقل، يسعى إلى إحداث فارق عبر الإنتاج المعرفي، مع تركيز خاص على اليمن والإقليم المجاور. تغطي إصدارات وبرامج المركز، المتوفرة باللغتين العربية والإنجليزية، التطورات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية، بهدف التأثير على السياسات المحلية والإقليمية والدولية.


هامش:

[1] مثلت حرب 1994 فرصة غير مسبوقة لعلي عبد الله صالح لتعزيز سلطته وإخماد منافسيه تحت راية “الدفاع عن الوحدة”. وقد حرص الرجل بعد تحقيق تلك المكاسب الهائلة على إبقاء السخط الجنوبي مستعراً من أجل استخدامه لتعزيز السلطة مرة أخرى عند الحاجة. فعندما تجرأ تكتل أحزاب اللقاء المشترك المعارض على تحدي صالح عام 2006 عن طريق تأييد مرشح آخر للرئاسة، بدأ صالح في تنشيط خطة الدفاع عن الوحدة عبر القيام باستفزازات في الجنوب شملت القتل المستهدف للناشطين. وكثيراً ما تحدى صالح قادة الحراك الجنوبي لإعلان المقاومة المسلحة. وعام 2007 أعلن سعيد شحتور، وهو ضابط من أبين كان يعمل تحت قيادة علي محسن الأحمر في صعدة، المقاومة المسلحة في مديرية المحفد بمحافظة أبين، وأقدم مع آخرين على قتل بضعة جنود وقطع الطرق عدة مرات، ولكن قادة الحراك الجنوبي قاوموا محاولاته لإفساد احتجاجاتهم السلمية. ويعتقد الكثيرون أن صالح ومحسن هما من حرضا شحتور للقيام بتلك الأفعال.

مشاركة