الدكتور أبو بكر القربي
مقدمة المحرر: شغل الدكتور أبو بكر القربي منصب وزير خارجية اليمن في الفترة من 2001 إلى 2014، بدءاً من أعقاب تفجير السفينة الأمريكية كول في ميناء عدن في تشرين الأول/أكتوبر 2000، الحدث الذي صاغ الأجندة الدبلوماسية في اليمن لأكثر من عقد من الزمان.
شارك الدكتور القربي، عضو حزب المؤتمر الشعبي العام الذي أسسه الرئيس الراحل علي عبد الله صالح، في التفاوض على تنحي صالح من منصبه في عام 2012، ثم واصل قيادة وزارة الخارجية في ظل الحكومة المؤقتة للرئيس عبدربه منصور هادي إلى أن أُعفي من منصبه عام 2014. كما كان عضواً في مؤتمر الحوار الوطني للفترة 2013-2014 في الفريق المعني ببناء الدولة.
ورغم أنه لم يشغل منصباً رسمياً في “حكومة الإنقاذ الوطني” المشكّلة من الحوثيين والمؤتمر الشعبي العام، لكنه ساعد في نقل مواقف تحالف صنعاء إلى العالم. وكان عضواً في الوفد التفاوضي للمؤتمر الشعبي العام من صنعاء إلى محادثات السلام في سويسرا عام 2015 وفي الكويت عام 2016.
والدكتور القربي حاصل على الزمالة في عدد من كليات الطب في المملكة المتحدة وعمل كنائب رئيس جامعة صنعاء وكعميد لكلية الطب في الجامعة ذاتها.
أدى التوقيع على مبادرة مجلس التعاون الخليجي وخطة تنفيذها في تشرين الثاني/نوفمبر 2011 إلى ارتياح كبير للشعب اليمني وشعوب المنطقة. وشعر اليمنيون بالفخر لاختيارهم تسوية سياسية لأزمتهم وتجنب الصراع المسلح. ثم انطلق اليمن على مسار الاستقرار والتنمية، مع وعود من المانحين الإقليميين والدوليين بتقديم المعونة للتنمية. وللأسف كان مسار تحقيق الاستقرار مليئاً بالعراقيل، كما أن ضعف تنفيذ مبادرة مجلس التعاون الخليجي حوّل الاتفاق السياسي النموذجي إلى أزمة طال أمدها.
سأقدم في هذه المقالة تقييمي للأسباب التي أدت إلى فشل الجهود الرامية لحل الأزمة السياسية في اليمن وإنهاء الحرب، وسأستكشف كيف يمكن للجهود المستقبلية أن تتجنب إخفاقات مماثلة نابعة من سوء تقدير أو سوء إدارة مفاوضات السلام أو تدخّل اللاعبين الإقليميين والدوليين بأجنداتهم وتنافسهم.
لا شك في أن سبب الأزمة الطويلة في اليمن يعود جزئياً إلى تعنت الأطراف اليمنية، ولكن مبعوثي الأمم المتحدة الخاصين، وسفراء الدول الراعية لعملية السلام، والتدخل العسكري للتحالف، بالإضافة إلى قرارات مجلس الأمن الدولي، ساهمت جميعها في إطالة أمد الصراع. وأصبح واقع الصراع ملتبساً بسبب لعبة تبادل اللوم التي تمارسها الأطراف المتصارعة، وكثرة المقالات والتقارير التي يكتبها الصحفيون ومراكز البحوث، خاصة تلك التي تمولها القوى الإقليمية التي ترعى الأطراف المتنازعة في اليمن؛ لتعزيز مخططاتها والدفاع عن مواقفها. ومن العوامل الإضافية التي حالت دون إحراز تقدم، تصورات المبعوثين الأممين بشأن أزمة اليمن والشعب اليمني، فضلاً عن خبرتهم في حل الصراعات أو العمل في مناطق الصراع. وهكذا، جاؤوا بحلول جاهزة ونظرية، وظنوا أن تطبيقها ممكن على الأزمة في اليمن بأسلوب النسخ واللصق.
أحد الأخطاء التي ارتكبتها الجهات الفاعلة غير اليمنية المشاركة في محاولة حل الأزمة في اليمن، هو عدم فهمها لجذور الأزمة السياسية. لقد بدأت الأزمة الحالية قبل الربيع العربي بزمن طويل، وهي تحمل في طياتها آثار العديد من الاضطرابات السياسية في كلٍ من شمال اليمن وجنوبه، والصراعات السياسية الداخلية وتأثيرات القوى الإقليمية، فضلاً عن المظالم الطائفية والقبلية والمحلية الناجمة عن سوء الحكم والتوزيع غير العادل للثروة والسلطة.
كما يبيّن دعم بعض رعاة السلام الدوليين لتمرير قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 2216 – الذي يقضي أساساً باستسلام حركة أنصار الله المسلحة غير المشروط – افتقارهم إلى الحياد، وتعقيد حل الصراع. إذ تجاهل رعاة حل النزاع، لا سيما الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن، مبادرة مجلس التعاون الخليجي، التي أكدت جميع قرارات مجلس الأمن في ذلك الوقت على أنها أساس للاتفاق السياسي لعام 2011. ولم يلتزموا بها قط في المراحل اللاحقة من الصراع.
كان قبول اليمنيين لمبادرة مجلس التعاون الخليجي ناتجاً عن حقيقة أن مشروعها الأصلي كتبه مفاوضون من المؤتمر الشعبي العام، وكانوا يفهمون جذور الصراع ومواقف مختلف المعارضين. والأهم من ذلك أنهم التزموا بمنع تصعيد الأزمة السياسية وتحويلها إلى صراع عسكري. ومن المؤسف أن جمال بن عمر، أول مبعوث خاص للأمم المتحدة، ورغم نجاحه في حمل الأطراف على الاتفاق على آلية تنفيذ مبادرة مجلس التعاون الخليجي، فشل مع رعاة السلام، في ضمان التزام الرئيس عبدربه منصور هادي ولجنة رئاسة مؤتمر الحوار الوطني للفترة 2013-2014 بمبادرة مجلس التعاون ولوائح المؤتمر. وساهم غض الطرف عن المخالفات في الإخفاقات اللاحقة، وأثر على التقدم الذي أُحرز في الفترة الانتقالية. وكان من بين أكثر الأمور ضرراً إدراج توصيات غير توافقية في التقرير النهائي لمؤتمر الحوار الوطني من أجل تلبية مصلحة هادي في تهميش بعض الأطراف السياسية ورغبته في فرض رؤيته الخاصة لنظام المناطق الفيدرالية، الأمر الذي من شأنه أن يحافظ على النظام الرئاسي بدلاً من النظام البرلماني الذي اختاره فريق بناء الدولة في مؤتمر الحوار الوطني.
بدأ مؤتمر الحوار الوطني على أساس خاطئ بتجاهله أولاً مبدأ توافق الآراء في تشكيل اللجنة التحضيرية للمؤتمر ورئاسته وأمانته. وقد سيطر هادي، مع المقربين منه والمبعوث الخاص، على العملية برمتها، التي افتقرت إلى الشفافية ولم تلتزم بقواعد وإجراءات مؤتمر الحوار. أما العامل الثاني وراء فشل مؤتمر الحوار في تحقيق أهدافه فكان عجز زعماء الأطراف السياسية عن إدراك حقيقة أن دور المؤتمر يتمحور حول إنقاذ اليمن، وليس منصة لتسوية النزاعات القديمة. وبعبارة أخرى، فإن الأطراف المشاركة في المؤتمر لم تكن توافقية ولا مستعدة لتقديم تنازلات.
وبدلاً من محاولة استعادة ثقة الأطراف السياسية التي عبّرت خطياً عن اعتراضاتها على التقرير النهائي، واصل هادي تنفيذ بعض توصيات مؤتمر الحوار بطريقة انتقائية، بينما تجاهل توصيات أخرى. فعلى سبيل المثال، تجاهل هادي التوصيات والمعايير المتعلقة باختيار أعضاء الهيئة الوطنية التي ستشرف على تنفيذ توصيات المؤتمر. كما غيَّر قائمة المرشحين للجنة الدستورية، وهم أفراد اختارتهم لجنة شُكلت وفقاً لتوصيات المؤتمر التي ترأسها هادي نفسه. وعلاوة على ذلك، فقد غيّر نصف الأعضاء المختارين دون التشاور مع لجنة الاختيار أو أي من الأطراف السياسية.
أدت هذه الأحداث، بالإضافة إلى جهود هادي المستمرة للتأثير على اللجنة الدستورية أثناء إعداد مشروع الدستور، إلى زيادة التوتر وانعدام الثقة، لا سيما بينه وبين جماعة أنصار الله. وكان شغل هادي الشاغل في ذلك الوقت إنقاذ رئاسته عبر ضمان أن يعكس مشروع الدستور رؤيته الخاصة لدولة موحدة متعددة الأقاليم في ظل نظام رئاسي.
وبينما كانت الأزمة تتفاقم بين هادي وجماعة أنصار الله، لعب المبعوث الخاص دور الوسيط بينهما. في ذلك الوقت، كان هادي يفقد السيطرة وكانت جماعة أنصار الله تكتسب الزخم، حيث قاتلت الجماعات السلفية في قرية دماج بمحافظة صعدة، وتقدمت نحو صنعاء. وبدوره، شجع فريق السفراء الذين يرعون عملية السلام جماعة أنصار الله؛ بتقاعسهم عن العمل سواء في الميدان أو داخل مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة مع تدهور الوضع بشكل خطير.
كما اُبتليت الفترة الانتقالية بضعف القيادة في جميع المجالات وتدهور العلاقة بين رئيس الوزراء محمد باسندوة والرئيس، لأن هادي تجاوز رئيس الوزراء ليتعامل مباشرة مع الوزراء في الحكومة. كما لم يتشاور هادي مع باسندوة ولم يدعُه إلى حضور اجتماعات تتعلق بالمسائل الأمنية والعسكرية. وهكذا، اتخذ الرئيس جميع القرارات الأمنية والعسكرية، واستُبعدت الحكومة تماماً من أي قرارات تتعلق بها. ولم يستطع رئيس الوزراء من جانبه تحدّي الرئيس، ولم يصر على مسؤوليته المشتركة مع الرئيس في المسائل الأمنية، الأمر الذي أثر بصورة مباشرة على أداء الحكومة.
والنقطة الأخرى التي جرى تجاهلها في الفترة الانتقالية هي أن هادي كان رئيساً توافقياً اُختير كجزء من اتفاق سياسي، ويجب عليه بالتالي أن يعمل مع أعضاء الحكومة الانتقالية كشركاء متساوين في إدارة البلد. ومع تزايد الخلافات بين الرئيس ورئيس الوزراء وظهورها للعلن، لم يتدخل المبعوث الخاص ولا رعاة التسوية السياسية لتصحيحها. وفي نهاية المطاف تخلى زعماء تكتل أحزاب اللقاء المشترك، وهو تحالف من أحزاب المعارضة، عن رئيس الوزراء الذي اختاروه، وانحازوا إلى جانب الرئيس للحفاظ على امتيازاتهم. وقد زاد ذلك من إضعاف موقف رئيس الوزراء وتفاقم الأوضاع السياسية والاقتصادية والأمنية. ومع استبعاد رئيس الوزراء من جميع التطورات في الصراع بين الرئيس وجماعة أنصار الله، لم يكن أمامه خيار سوى الاستقالة بعد سيطرة حركة أنصار الله على صنعاء في أيلول/سبتمبر 2014.
وبعد سيطرة حركة أنصار الله على صنعاء، وفي محاولة منه لإنقاذ مهمته في الأمم المتحدة من الفشل، دعا المبعوث الخاص جمال بنعمر الأطراف السياسية المتورطة في الصراع إلى إجراء مشاورات لمحاولة التوصل إلى حل بشأن التطورات الجديدة. وقد أُعيقت الحلول المقترحة التي تم توصل إليها في المشاورات بصورة جزئية بسبب رفض هادي لاقتراحين منفصلين لتشكيل مجلس رئاسي، ولذا رفعت جماعة أنصار الله سقف مطالبها مع سيطرتها على المزيد من المحافظات.
زاد هروب هادي إلى عدن في شباط/فبراير 2015 من عزله وحرمانه من فريقه الاستشاري الذي بقي في صنعاء. وبالتالي، لم يتمكن من إدارة الحكومة بفعالية أو قيادة القوات المسلحة للبلاد، التي ضعفت معنوياتها وتشرذمت بسبب خطة إعادة الهيكلة والتردد في مواجهة جماعة أنصار الله.
وطوال فترة مفاوضات إنهاء الصراع التي امتدت من تشرين الأول/أكتوبر 2014 إلى آذار/مارس 2015، واصلت جماعة أنصار الله مسيرتها نحو المحافظات الجنوبية دون أي مقاومة فعّالة ودون معارضة صارمة من الجهات الفاعلة الدولية أو التابعة للأمم المتحدة. وقد يكون هذا الوضع نتيجة لتضارب مصالح رعاة السلام الدوليين في اليمن، وعدم فعالية القيادة اليمنية. وواصلت جماعة أنصار الله، التي رفضت قبول نصيحة العديد من القادة السياسيين، تقدمها نحو عدن وقصفها الجوي للقصر الرئاسي في معاشيق. الأمر الذي دفع هادي إلى اللجوء للطريق الذي سلكه نائب الرئيس السابق علي سالم البيض في عام 1994، بالفرار إلى عُمان، ولعل ذلك ما دفع التحالف العربي إلى التدخل. وتوقيت التدخل العسكري للتحالف في 25 آذار/مارس 2015 حين كان هادي في طريقه إلى عُمان وليس في عدن لم يكن مفهوماً، خاصة أن هادي أعرب عن دهشته حين سمع بالتدخل وهو في طريقه إلى عُمان.
لم يكن التدخل العسكري للتحالف في اليمن استجابة لدعوة هادي للمساعدة في مواجهة تمرد جماعة أنصار الله. بل يُرجّح أن تكون الأولوية الرئيسية وراء اتخاذ الإجراءات هي الإعداد لاحتمال استيلاء جماعة أنصار الله على كافة الأراضي اليمنية أو احتواء أي تهديد محتمل على الأراضي السعودية. وأياً كانت الدوافع وراء تدخّل التحالف الذي تقوده السعودية، فإن أهدافه واستراتيجيته طويلة الأجل كانت غير واضحة كما افتقرت إلى خطة للخروج، وخاصة في بداية الصراع حين مثلت رفضاً صريحاً للحل السياسي. ولسوء حظ مؤيدي التحالف، بما في ذلك الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا، فبدلاً من وقف التدخل العسكري والخوض في التوصل إلى حل سياسي، قامت الدول السالفة الذكر بدعمه دون وضع خطة للخروج في حسبانها، لأنها اعتقدت أن إلحاق الهزيمة بجماعة أنصار الله لن يتطلب سوى بضعة أسابيع. وبالنسبة للولايات المتحدة وغيرها من مؤيدي التحالف، كانت الحرب أيضاً فرصة لعقد صفقات بيع أسلحة، وبالتالي لم تكن خطة الخروج ضرورية لأن النصر كان الخيار الوحيد.
وكان التدخل العسكري لبلدان مجلس التعاون الخليجي متسرعاً، وأهمل حقيقة أن مبادرة مجلس التعاون الخليجي ظلت ورقة قوية في يدها. وأتيحت لها الفرصة لإعادة تفعيلها من أجل وقف التصعيد الجديد باستكمال المبادرة عن طريق إضافة مرفق تكميلي يتناول التطورات في الصراع منذ عام 2011. وكان يمكن لمبادرة دبلوماسية جديدة أن تشمل رعاية جولة جديدة من المفاوضات بين الأطراف اليمنية مع تقديم حوافز مالية وضمانات سياسية وأمنية لوقف القتال. ومن المؤسف أن هذا المسعى غير مرجح الآن بسبب الانقسامات بين دول مجلس التعاون.
أفسد سوء إدارة التحالف للأوضاع الأمنية والاقتصادية والاستجابة غير الكافية لاحتياجات الشعب، نجاحه العسكري الأولي في تحرير محافظة عدن والمحافظات الجنوبية الأخرى. إضافة إلى التنسيق الضعيف بين السعودية والإمارات من جهة، والحكومة الشرعية في اليمن من جهة أخرى. ومع استمرار الحرب، توجهت جميع الجهود إلى دحر جماعة أنصار الله، لكن دون استراتيجية سياسية وعسكرية واضحة وشاملة. وأدت سياسات التحالف في ما يسمى بالمحافظات المحررة وتهميش الحكومة الشرعية إلى تصوير التدخل العسكري الذي شنه التحالف في الأوساط اليمنية على أنه عدوان وليس تدخلاً لإعادة تنصيب الحكومة الشرعية.
أصبح الانقسام بين طرفي الصراع أكثر وضوحاً في مفاوضات الكويت عام 2016، حين أعاق وفد الحكومة العملية؛ برفضه التفاوض ما لم تنفذ جماعة أنصار الله قرار الأمم المتحدة 2216، القرار الذي انحاز بوضوح لصالح الحكومة، والأهم من ذلك، الذي افتقر إلى خطة للتنفيذ. وطالب الجانب الحكومي كذلك بتنفيذ البنود العسكرية من القرار قبل حل المسائل السياسية. وفي ذلك الوقت، تصاعدت أيضاً وتيرة القصف الجوي للتحالف وهجمات جماعة أنصار الله داخل الأراضي السعودية. وفي فترة المفاوضات بالكويت، أجرت السعودية عدة مفاوضات مباشرة مع جماعة أنصار الله أسفرت عن توقيع سبعة اتفاقات. بيد أن أياً منها لم يُنفذ؛ لأن هذه المفاوضات السرية أثارت مخاوف وشكوكاً في أوساط اليمنيين بشأن جماعة أنصار الله. وعالجت هذه الاتفاقات الشواغل الأمنية الأساسية للسعودية، التي كان من الممكن تحقيقها عبر مفاوضات يمنية يمنية، لأن جانب صنعاء كان على علم بالشواغل الأمنية للمملكة، وأنه يجب معالجتها كجزء من أي اتفاق سلام بين اليمنيين. وعلاوة على ذلك، كان لدى وفد صنعاء شواغل مماثلة ينبغي أن يتناولها بشأن أمن اليمن.
ثمة عاملان إضافيان منعا إبرام اتفاق في الكويت. الأول كان المبعوث الخاص للأمم المتحدة آنذاك، إسماعيل ولد الشيخ أحمد، الذي كانت نواياه حسنة ولكنه للأسف لم يتمكن من تحرير نفسه من ضغوط التحالف ومطالبه. وفي مناسبتين التقى وفد صنعاء معه على انفراد لمناقشة مقترحات لمعالجة شواغل التحالف من أجل مساعدته على تحقيق تقدم كبير، وردّ المبعوث قائلاً إن التحالف لن يقبلها. وقد كرر سفراء الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن هذا الموقف في بعض المناسبات.
أما السبب الثاني فهو الموقف الذي اتخذه سفراء مجموعة الـ18، وهي مجموعة من سفراء مجلس التعاون الخليجي والسفراء الدوليين تتضمن الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن، والتي تم تشكيلها في صنعاء بعد توقيع مبادرة مجلس التعاون الخليجي لتسهيل ورعاية عملية السلام في اليمن. ثم انتقلت بعد ذلك إلى الرياض عندما أصبحت العاصمة السعودية قاعدة لهادي. وكانت هذه المجموعة من السفراء موجودة في جميع مواقع المفاوضات، ولكن بدلاً من أن تكون على مسافة متساوية من الطرفين المتنازعين، استغلت اجتماعاتها مع وفد صنعاء للضغط عليه وتهديده بشأن ثمن رفض اقتراح المبعوث الخاص بحل الصراع. وبدلاً من معالجة شواغل وفد صنعاء والمساعدة على حلها، واصلت المطالبة بتنفيذ القرار 2216. وظل هذا الموقف قائماً حتى حدد وزير خارجية الولايات المتحدة آنذاك جون كيري القرار 2216 على أنه السبب في الجمود، وتوسط من خلال العمانيين للتوصل إلى اتفاق مثمر مع مندوبين من صنعاء في مسقط في كانون الأول/ديسمبر 2015. وللأسف، جاءت هذه المبادرة الأميركية، التي كان من الممكن أن تحيي مفاوضات السلام الشامل، في نهاية ولاية الرئيس الأميركي باراك أوباما، ورفضها الائتلاف والحكومة الشرعية المعترف بها دولياً.
قبل تعيينه في عام 2018 كمبعوث خاص للأمم المتحدة إلى اليمن، ألقى مارتن غريفيث محاضرة في مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية بالرياض في تشرين الثاني/نوفمبر 2017، ذكر فيها أن حل الصراع في اليمن أسهل من حل الصراع في سوريا أو ليبيا. وقد أثار خطابه قدراً كبيراً من التفاؤل لأنه كان مرشحاً قوياً لمنصب المبعوث الخاص إلى اليمن الشاغر. ولعل تنبؤات غريفيث المتفائلة استندت إلى زيارته القصيرة إلى صنعاء قبل بضعة أشهر من تعيينه والتي التقى فيها بقيادة جماعة أنصار الله.
لا يزال غريفيث متفائلاً بعد مرور عامين ونصف على توليه المنصب، إلا أن هذا التفاؤل لا يدعمه تطور الأحداث على أرض الواقع ولا يشاركه إياه اليمنيون. ويبدو أن غريفيث وقع في فخ الوعود والتقديرات الكاذبة. إذ ضغط من أجل التوقيع على اتفاقات انطوت على عثرات، والأسوأ من ذلك أنها افتقرت إلى أي نية حقيقية من جانب الموقعين لتنفيذها. إلا أن أكبر خطأ ارتكبه كان في بداية بعثته، حين لم يفكر لا هو ولا السفراء الراعين لعملية السلام في أفضل السبل التي تمكن المبعوث الجديد من إحياء العملية السياسية. والخطأ الاستراتيجي الذي ارتُكب هو اتخاذ قرار ببدء العملية عند نقطة الصفر بدلاً من البدء من حيث وصلت نتائج مفاوضات الكويت والاستناد على مبادئ التسوية التي تم التوصل إليها هناك. وقد أدى إغفال هذه النقطة إلى ضياع البوصلة فيما بعد.
ويتحمل مجلس الأمن قدراً من اللوم على تطور الأحداث في اليمن. إذ لم يدرك المجلس، أولاً، أن حيزاً من فشل المبعوثين الخاصين في إحراز تقدم كان نتيجة قرارات متسرعة وغير متوازنة، كالقرار 2216، الذي مرره مجلس الأمن بتوافق الآراء بين الدول دائمة العضوية، إذعاناً لتأثير اللاعبين الإقليميين. وازدادت الحالة سوءاً بسبب تردد مجلس الأمن في التساؤل عن السبب وراء عدم تنفيذ قراراته، كما في حالة القرار 2216، وإعاقة تحقيق تسوية. وكان إخفاق مجلس الأمن الآخر هو عدم الإمعان الجدي بتصريحات المبعوثين الخاصين بالأمم المتحدة لمعرفة العقبات التي واجهوها. كما قد يكون الأمر راجع إلى أن المبعوثين تجنبوا التصريحات عن قضايا لا ترغب الدول الخمس دائمة العضوية في إثارتها، مثل التأثير السلبي الذي خلفه القرار 2216 على تقدم المفاوضات.
ليس عجز الأمم المتحدة عن حل أزمة اليمن إلا واحداً من إخفاقاتها العديدة في المنطقة. وهذه الإخفاقات ناتجة عن إحجام مجلس الأمن عن الخوض في أسباب الأخطاء السابقة وتغيير الاعتقاد الخاطئ بأن تعيين مبعوث جديد من شأنه أن يصحح المسار. وتؤدي إخفاقات الأمم المتحدة المتكررة في حل الصراعات إلى تراجع الثقة فيها، خاصة حين يرى العالم أن الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة تضع مصالحها فوق ميثاق الأمم المتحدة وقيم العدالة والقانون الدولي.
يقف اليمن اليوم على مفترق طرق بين المصالحة والسلام، أو يصبح مرتعاً للفُرقة والتمرد والتقلقل الإقليمي والذي قد يخرج تماماً عن نطاق السيطرة. لذا فقد حان الوقت لكي يتقبل التحالف واللاعبون الإقليميون حقيقة أن الخطوة الأولى نحو حل الصراع في اليمن تتلخص في التخلي عن أجنداتهم السرية والحروب بالوكالة التي لن تخدم مصالحهم في الأمد البعيد ولن تحقق الاستقرار الإقليمي. وبدلاً من ذلك، يجب على هذه الأطراف الفاعلة أن توحد قواها وتعمل معاً من أجل إنهاء الحرب والحفاظ على يمن متحد ومستقر، والذي بدوره سيشارك الجميع في تحقيق الأمن الإقليمي لصالح الجميع.
ويجب على معرقلي السلام والمستفيدين من الصراع، سواء كانوا أمراء حرب أم منتجي أسلحة، أن يعيدوا النظر في مواقفهم نظراً للدمار الذي يلحقونه باليمن، ومن أجل التخفيف من خطر انتشار الصراع إلى بلدان أخرى في المنطقة. ولا يمكن تحقيق هذا دون حمل اللاعبين غير اليمنيين على إنهاء صراعهم بالوكالة في اليمن. ولذلك، يجب على مجلس الأمن بذل جهود متضافرة تماماً لرعاية القوى الإقليمية والدولية للاتفاق على عملية سلام تشكل حجر الأساس لمفاوضات شاملة بين اليمنيين. ويجب أن تعيد جمع اليمنيين إلى طاولة المفاوضات، دون أي استثناءات أو شروط مسبقة، وتحميلهم مسؤولية التفاوض على اتفاق سلام عادل ومنصف للجميع مع توفير الضمانات والحوافز اللازمة من القوى الدولية والإقليمية. وفي الوقت نفسه، يجب أن يفهم معرقلو عملية السلام من اليمنيين عواقب أفعالهم.
الآراء المعرب عنها هي آراء الكاتب ولا تمثل آراء مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية.
هذه المقالة ضمن سلسلة من الإصدارات والمقالات يستكشف فيها مركز صنعاء دور الخارج في اليمن.
مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية هو مركز أبحاث مستقل يسعى إلى إحداث فارق عبر الإنتاج المعرفي، مع تركيز خاص على اليمن والإقليم المجاور. تغطي إصدارات وبرامج المركز، المتوفرة باللغتين العربية والإنجليزية، التطورات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية، بهدف التأثير على السياسات المحلية والإقليمية والدولية.