علي الديلمي
منذ سنوات، يعمل وافد يمني في بيع الأقمشة بالسعودية، وبالرغم من عمله المتواضع إلا أنه استطاع تلبية احتياجاته وإرسال المال لأسرته في اليمن. لم يكن الأمر سهلًا عليه، إذ اُضطر للعمل خمس عشرة ساعة في اليوم، وتخلى – أيضًا – عن خدمة الإنترنت وزيارة صالون الحلاقة؛ مفضلاً حلاقة شعره بالكامل، ليتيح له ذلك إرسال نحو نصف أجره -البالغ 2,500 ريال سعودي شهريًا (ما يعادل 666 دولارًا) -إلى أسرته كل شهر، وتغطية نفقات أولاده في المدرسة والجامعة.
ذات مرة، باغتت الشرطة السعودية مكان عمله في إطار حملة مشددة على العمال الأجانب، اختبأ بين قطع القماش؛ إذ كان تصريح إقامته سينتهي قريبًا ولم يكن لديه المال الكافي لتجديده، حيث يكلّفه ذلك 11 ألف ريال سعودي (2,930 دولارًا).
أصبح الموقف في الآونة الأخيرة أكثر قتامة؛ إذ أُقفل المتجر – حيث يعمل – أبوابه بسبب تدابير الإغلاق الناتجة عن تفشي جائحة كورونا، ليعود ويفتح لاحقًا، ولكن مع تخفيض ساعات العمل إلى النصف، مقابل نصف الأجر.
صاحبت إجراءات الإغلاق بسبب جائحة كورونا حالة من عدم اليقين والذعر، فزاد من إنفاقه لتخزين الطعام في شهر أبريل/نيسان وبالتالي قلّت الحوالات المالية التي يرسلها إلى أسرته، وبعد أن عادت ساعات العمل في المتاجر إلى طبيعتها، عاد ليزاول عمله كالمعتاد لخمس عشرة ساعة يوميًا، ولكن جميع الموظفين في القطاعين العام والخاص أُلزموا بقبول أجور أقل. وفي يوليو/تموز، قال: “بالكاد أتقاضى الآن 1,500 ريال سعودي (400 دولار) في الشهر عن دوام كامل”، مضيفًا أنه أرسل إلى أسرته في يونيو/حزيران نحو 500 ريال سعودي (133 دولارًا).[1]
ولطالما اقتصد العمال اليمنيون هناك في معيشتهم لتوفير المال وإرساله لإعالة أسرهم في اليمن ودعم اقتصاد بلادهم النامي، لكن يبدو أن أوضاع عملهم في المملكة أخذت منعطفًا نحو الأسوأ حسبما روى عشرة يمنيين يعيشون ويعملون هناك -في الرياض وجدة والطائف والدمّام -في مقابلات مع مركز صنعاء تحدثوا خلالها عن تراكم الضغوط في السنوات والأشهر الأخيرة إبان أزمة فيروس كورونا، مثل التكاليف المتزايدة لتصاريح العمل والنفقات، وفقدان العديد من الوظائف نتيجة سياسات السعوَدة. كما تحدثوا عن الحملات المشددة على العمال الأجانب التي تتسبب في بعض الأحيان بترحيل المقيمين بصورة قانونية مع أولئك المقيمين بصورة غير قانونية في البلاد، وأعربوا عن قلقهم من أن تؤدي التدابير المتعلقة بجائحة كورونا وتداعياتها إلى تسريحهم من العمل وبالتالي عدم قدرتهم في إرسال المال إلى أسرهم باليمن. جميعهم طلبوا عدم الإفصاح عن أسمائهم خوفًا من تعريض عملهم أو إقامتهم في السعودية للخطر.
يوفّر الدخل بالريال السعودي درجة من الأمان المالي يعجز العمل في اليمن عن توفيرها؛ بعد أن خسر الريال اليمني أكثر من ثلثي قيمته منذ عام 2015. وفي الوقت نفسه، تتسم الأسعار في اليمن بالتقلّب، وترتفع نتيجة تنافس الأطراف المتحاربة لكسب مزايا اقتصادية والسيطرة على الواردات الأساسية والسياسة النقدية.[2] وكما قال العامل في بيع الأقمشة إنه يذكّر نفسه كل يوم، بأن دخله يصير جيدًا بعد تحويله إلى العملة اليمنية، ما يجعل معاناته التي تزداد سوءًا في المملكة، تستحق العناء. وقال: “ندرك طبعًا أن الأسعار ارتفعت في اليمن، ولكن لا يزال الوضع جيدًا بالنسبة لنا”.
كيف تعتمد العائلات اليمنية والاقتصاد اليمني بشكل عام على الحوالات المالية؟
أدت قرابة ست سنوات من الحرب في اليمن إلى انهيار اقتصادي طال جميع قطاعات البلاد، يتضح ذلك في خسارة تراكمية تُقدّر بنسبة 45% في الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي من عام 2015 وحتى عام 2019.[3] نتيجة لذلك؛ يعتمد ملايين اليمنيين على الحوالات المالية المرسلة من السعودية وبلدان أخرى. ولكن تحديد الأرقام بدقة ليس ممكنًا كون العديد من هذه الحوالات تجري خارج النظام المصرفي الرسمي. وفي فبراير/شباط 2020، قدّر محمد العديل، نائب وزير المغتربين في الحكومة اليمنية، قيمة الحوالات المالية السنوية بحوالي 8 مليارات دولار أمريكي، وقال إن المغتربين يدعمون نصف سكان اليمن.
ونظرًا لأن الحوالات المالية تُعد عاملًا خارجيًا رئيسيًا في تخفيف آثار الانهيار الاقتصادي، ينبغي وضعها في حسبان العلاقات اليمنية مع بلدان الخليج العربي التي تستضيف أعدادًا كبيرة من العمال اليمنيين. وبحسب العديل، هناك سبعة ملايين يمني موزعين على 50 دولة، يعيش أكثر من مليونين منهم في السعودية.[4] وتشير تقديرات البنك الدولي إلى أن الحوالات المالية ظلت ثابتة إلى حد كبير منذ عام 2016 عند 3.77 مليار دولار سنويًا،[5] منها 61% – أو 2.3 مليار دولار سنويًا -تُرسَل من السعودية و29% (1.1 مليار دولار) من بلدان الخليج العربي الأخرى، لا سيما الإمارات والكويت وقطر والبحرين.[6]
وفضلًا عن دعم هذه التحويلات لأسر المغتربين، أمست هذه المليارات المصدر الرئيسي للعملة الأجنبية في السوق المحلية منذ توقف تصدير النفط تقريبًا بشكل كلي عام 2015، ما يجعلها أساسية في تمويل الواردات -كالأغذية وغيرها من المواد الأساسية -وتخفيف الضغط على الريال اليمني.[7] وقد يكون لانخفاض الحوالات المالية بشكل كبير عواقب مدمرة.
أبلغ مارك لوكوك، منسق الشؤون الإنسانية في الأمم المتحدة، مجلس الأمن في 28 يوليو/تموز أن الحوالات المالية الواردة من الخارج إلى اليمن تقلّصت بنسبة تصل إلى 70% نتيجة جائحة فيروس كورونا.[8] أقدم اليمن مع اثني عشر دولة أخرى – تعاني أيضًا من انخفاض كبير في قيمة الحوالات المالية بسبب الجائحة – والبنك الدولي وغيره من المؤسسات التجارية الدولية ومنظمات الهجرة التوقيع على دعوة في مايو/آيار، تطلب من صانعي السياسات إعلان خدمات الحوالات المالية ضرورة أساسية، وتناشد منظمي ومؤمّني هذه الخدمات المالية باتخاذ إجراءات تجعل تحويل الأموال إلى الوطن أيسر وأقل تكلفة.[9]
جائحة كورونا تزيد الطين بلة على المغتربين اليمنيين في السعودية
أصبح العمل في السعودية بشكل قانوني أصعب من ذي قبل؛ نتيجة الحملات المشددة المتكررة التي تستهدف العمال الأجانب، وتصاريح الإقامة التي ازدادت كلفتها بهدف ثنيهم عن القدوم إلى البلاد أو البقاء فيها.[10] لم تستثنِ هذه الحملات المشددة – التي تأتي ضمن إطار الجهود التي تبذلها السعودية على مدى سنوات للحد من الاعتماد على القوى العاملة الأجنبية – اليمنيين،[11] رغم العلاقة الفريدة بين البلدين، والدور السعودي في إدامة الحرب اليمنية التي قللت من فرص العمل، باستثناء تلك المرتبطة بالقتال، وأمسى الوضع أصعب بكثير بعد أن تعاظم الضغط المالي نتيجة فيروس كورونا.
وروى اليمنيون في السعودية الذين أجرى مركز صنعاء مقابلات معهم عن فقدانهم، هم أو أصدقائهم أو شركاؤهم في السكن، ما بين 60% إلى 100% من أجورهم الاعتيادية لمدة تصل إلى شهرين في أبريل/نيسان ومايو/آيار، في ذروة فترة الإغلاق في المملكة. ومع إعادة فتح المتاجر والشركات، أُعلِن عن اتخاذ تدابير تبعث على الإحباط لمواجهة التداعيات الاقتصادية للجائحة: سمحت الحكومة السعودية بخفض رواتب القطاع الخاص بنسبة 40% حتى أكتوبر/تشرين الأول،[12] كما سمحت بتعديل عقود العمل أو إنهائها في وقت مبكر،[13] بينما أمست بعض المهن غير مؤهلة للحصول على تصاريح إقامة، ورفعت الحكومة في شهر يوليو/تموز ضريبة القيمة المضافة من 5% إلى 15%.[14] وفي يونيو/حزيران، أصدرت وزارة العمل السعودية قائمة بالمهن التي لم تعد متاحة للمقيمين الأجانب، مثل بعض السائقين والعاملين في مجالات السياحة والمطاعم والفنادق والموارد البشرية ومديري علاقات الموظفين وخدمة العملاء، فضلًا عن مناصب أخرى.[15] وقد دخلت آخر خطوات الحد من الاعتماد السعودي على العمالة الأجنبية حيز التنفيذ في 20 أغسطس/آب، مع إلغاء إمكانية تبوُّء الأجانب لمناصب عديدة في مجالات البيع بالجملة والتجزئة. واشتمل القرار على توطين الأنشطة في متاجر بيع القهوة والشاي والعسل والتوابل والتمور والفواكه والخضروات واللحوم والألبان والنباتات ولوازم التنظيف والقرطاسية والهدايا. ووفقًا لوكالة الأنباء السعودية التي تديرها الدولة، سيخفّض هذا القرار نسبة شغل العمالة الوافدة لتلك الأنشطة بنسبة 50%.[16]
وربطت السعودية – بصورة قانونية – تصاريح إقامة العمال الوافدين مباشرة بأرباب العمل المعروفين باسم الكفلاء، ومنذ خمسينيات القرن الماضي – في نظام تعرّض لانتقادات واسعة بوصفه “شكلًا معاصرًا من أشكال الرقّ”.[17] ومع وجود بعض الاستثناءات – ينبغي على العمال الأجانب الحصول على إذن كفلائهم لتغيير وظائفهم والخروج من البلاد أو الدخول إليها، ما يفسح المجال لإذلال واستغلال العمال الوافدين، مثل إجبارهم على العمل واحتجاز رواتبهم.[18]
وفي إطار نظام الكفالة هذا، وبسبب القوانين والأنظمة السعودية، ظهرت ممارسة شائعة تعرف “بالتستر التجاري” أي قيام أصحاب مشاريع غير سعوديين بدفع رسوم للكفيل ليكون المالك القانوني لمشروع يستثمر فيه العامل الوافد ويديره، مثل متجر صغير أو مطعم. وفي ضوء الإصلاحات المتوقعة على نظام الكفالة[19][20] وكجزء من الإصلاحات الاقتصادية التي يقوم بها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، تعمل وزارة التجارة السعودية لمحاربة ظاهرة “التستر التجاري”،[21] ما يزيد من صعوبة استمرار الوافدين في كسب لقمة عيشهم من المتاجر التي استثمروا فيها وامتلكوها، بشكل غير رسمي ولو غير قانوني.
ويفرض قانون صدر في أغسطس/آب عقوبات صارمة على تلك الانتهاكات: السجن لمدة تصل إلى خمس سنوات، وغرامات تصل إلى 5 ملايين ريال سعودي (1.3 مليون دولار)، والحجز على الأرباح غير المشروعة، وإغلاق المحل التجاري، وحظر النشاط التجاري خمس سنوات، وترحيل المدان، إذا كان غير سعودي، وحظره من دخول المملكة مدى الحياة.[22][23] ولا يُعرف عدد العمال الوافدين، بمن فيهم اليمنيون المشاركون في هذا النظام من الملكية كونه يمارس في الخفاء منذ فترة طويلة.
لم تؤثر هذه العوامل على اليد العاملة غير الماهرة وحسب، بل زادت الضغوط على العمال المؤهلين أيضًا. وقالت طبيبة أسنان يمنية ممن أجري مقابلات معها، إنها وعائلتها فكروا في مغادرة السعودية منذ بدأت معاناتهم، بخسارتها ثلاثة أرباع راتبها في أبريل/نيسان ومايو/آيار، ثم 60% منه في يونيو/حزيران، كما لم تُشعر بإمكانية تلقي راتبها بالكامل. وقالت: “لا يمكنني البقاء هنا طويلًا إذ يزداد الوضع صعوبة مع متطلبات الرسوم المدرسية للأطفال ورسوم الإقامة”.[24]
علاقة مميزة لم تسفر عن معاملة مميزة
تاريخيًا، اتسمت العلاقة بين السعودية واليمن بكونها أقل شبهًا بالجيران، وأكثر شبهًا بعلاقة شقيق كبير مسؤول عن أخيه الأصغر والأقل يسرًا والطائش في أغلب الأحيان.. وللبلدين عادات وتقاليد متشابهة، وقبل الصراع الجاري، كانت التجارة بينهما تتمّ بسلاسة على طول الحدود الطويلة المشتركة. كما كانت المملكة من الدول الأكثر إحسانًا تجاه اليمن، وهي اليوم الراعي الرئيسي للحكومة المعترف بها دوليًا بقيادة الرئيس عبدربه منصور هادي الذي أمضى أغلب أعوامه الثمانية في السلطة يحكم من الرياض.
ولدى السعودية، التي تدخلت عسكريًا في اليمن بعد أشهر من استيلاء جماعة الحوثيين (أنصار الله) المسلحة على صنعاء في 21 سبتمبر/أيلول 2014، مصلحة خاصة في الحفاظ على قدر من الاستقرار في اليمن. وبالنظر إلى موقع اليمن الجغرافي، فإن مخاطر عدم الاستقرار وضعف الدولة تهدد بنشوب اضطرابات على طول الحدود المشتركة بين البلدين وكذلك على طرق الملاحة البحرية، بما في ذلك مضيق باب المندب الذي تحرص السعودية وحلفاؤها في الخليج وعملاء النفط الدوليون على حمايته. ومن شأن إيجاد صيغة لإنهاء حرب اليمن بطريقة تحفظ ماء الوجه وتساهم في بناء الدولة ما بعد الحرب، أن يخدم مصالح المملكة الاقتصادية الأوسع، المتمثلة في الحد من التهديدات التي تتعرض لها شحنات النفط والاستقرار في سوق النفط.
ولكن تحقيق غاياتها في اليمن لم يكن صعب المنال وحسب، بل باهظ الثمن أيضًا، إذ بلغت قيمة المساعدات -وبمعزل عن التكاليف المباشرة للحرب -التي قدمتها المملكة لليمن منذ سبتمبر/أيلول 2014 أكثر من 16.9 مليار دولار، حسبما صرح وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان في يونيو/حزيران 2020. وقال إن هذا التمويل شمل تقديم وإيصال المعونات والإغاثة الإنسانية وتنفيذ أعمال تنمية ومساعدة الاقتصاد اليمني والبنك المركزي وإزالة الألغام الأرضية، فضلًا عن تقديم الدعم إلى الحكومة اليمنية واليمنيين داخل المملكة.[25] ويمكن تخفيف اعتماد اليمن على المساعدات الأجنبية المباشرة كهذه -أو على الأقل عدم زيادتها -عن طريق ضمان بقاء العمال اليمنيين في أسواق العمل السعودية أو الخليجية وعدم إجبارهم على المغادرة.
ولو أرادت الحكومة اليمنية بذل جهود لمساعدة عمالها المغتربين في السعودية فمن الممكن أن توفّر طبيعة العلاقة بين البلدين واستضافة الرياض للرئيس هادي ووزراء حكومته في المنفى أرضية مناسبة، غير أنها لم تبد اهتمامًا يذكر لمعالجة الوضع.
الحياة في المملكة في ظل خطر الترحيل
يتحدث شاب يمني يقطن في مدينة الدّمام السعودية عن المخاطر التي يواجهها مع بعض زملائه في العمل ويقول “كعمال أجانب، نهرب حين نرى أي دورية للشرطة”. وبحسب الشاب، فإذا رأى موظفو وزارة العمل والتنمية الاجتماعية يمنيًا أو أجنبيًا يعمل في المهن المقصورة على السعوديين -كحال بعض زملائه -أو قبضوا على عاملٍ تأشيرته منتهية، فإن الغرامة التي تُفرض على الشركة قد تصل إلى 30 ألف ريال سعودي (8 آلاف دولار)، عادة ما يدفعها أصحاب العمل ثم يقتطعونها على دفعات من رواتب العمال الشهرية.
وقال: “نحاول توخي الحذر دائمًا. وإذا ساورنا شك في مرور موظفين من مكتب الوزارة أو رجال شرطة بجوار متجرنا، نغلق الأبواب ونغادر المتجر على الفور”. وأضاف “ما زلت أذكر آخر مرة حدثت فيها حملة مشددة (في مارس/آذار) حين اُضطر صديقي الذي انتهى تصريح إقامته للاختباء بضعة أيام، الوضع (فعلًا) مريع”.[26]
يواجه العمال الذين عبروا الحدود -من السهل اختراقها -ومكثوا في المملكة دون أوراق رسمية، أو أولئك الذين انتهت فترة إقامتهم القانونية، خطر الترحيل باستمرار. كما يخشى المقيمون بصورة قانونية من الترحيل بسبب مخالفات أخرى لا تتعلق بإقامتهم كخرق التدابير المفروضة لمواجهة جائحة كورونا، إذ أعلنت المملكة أنها سترحّل أي أجنبي لا يرتدي كمامة أو لا يلتزم بالتباعد الاجتماعي بغض النظر عن وضعه القانوني،[27] ولكن ليس واضحًا ما إذا طُبق هذا الإجراء أم لا.
وأكثر من يواجه خطر الترحيل هم أولئك العازمون على إيجاد وسيلة للبقاء وسط جهود المملكة الثابتة نحو تخفيف الاعتماد على العمالة الأجنبية. ونتيجة زيادة رسوم تصاريح العمل، أقدم العديد من المغتربين بتأمين تصاريح عمل كسائقين – وهي من بين الأرخص إذ تكلّف 600 ريال سعودي (160 دولارًا) في السنة،[28] بالإضافة إلى رسوم التأمين الصحي ورسوم أخرى – ثم يعملون في وظائف أخرى لجني المزيد من المال ليتمكنوا من تلبية احتياجاتهم.
وقال خبير تكنولوجي يمني تكفله الشركة التي يعمل بها في الرياض، إن الكثير من اليمنيين كانوا يغادرون السعودية قبل سنوات ثم يعودون إليها ويحصلون على تصاريح عمل كسائقين بغض النظر عن العمل الذي سيزاولونه. وبالتالي، شنت السلطات السعودية حملة لترحيل أولئك الذين بدّلوا تصاريح عملهم بهذا الشكل، وكان من ضمنهم العديد من اليمنيين.[29] ويبدو أن قدرة العمال الأجانب على إصدار تصاريح كسائقين بدأت تقل أكثر فأكثر مع سن قانون في يونيو/حزيران يُدرِج مهنة قيادة المركبات الخفيفة ضمن المهن الخاصة بالسعوديين فقط.
وقال مهندس يمني يعمل في الرياض إن الوضع ازداد سوءًا منذ رفع رسوم الإقامة في يوليو/تموز 2017.[30] وتهدف هذه الرسوم، التي تفاوتت قيمتها وفقًا لعوامل عدة وازدادت بمقدار الضعف أو أكثر منذ عام 2018 وحتى عام 2020،[31] إلى دعم جهود السعودية الرامية إلى التخفيف من الاعتماد على العمالة الأجنبية، وبدأ الوافدون الشعور بوطأتها مع تباطؤ الاقتصاد السعودي.
وأضاف المهندس اليمني “انخفضت الرواتب بصورة كبيرة في السنوات الأخيرة بينما ارتفعت تكاليف المعيشة”، موضحًا أن الضائقة المالية جعلت الكثير من العمال المغتربين عاجزين عن تجديد تصاريح عملهم، ما دفعهم للسعي إلى تأمين تصاريح أرخص أو العمل في وظيفة ثانية لا يملكون تصريح لمزاولتها.
ووصف الحملة المشددة ضد العمال الذين لا يملكون تراخيص، واضطرارهم إلى الاختباء والعيش في ظل الظروف القاسية بأنها “إهانة لأبعد الحدود”، غير أنه أقر بحق السعودية في تنظيم اقتصادها ورعاية مصالح مواطنيها.
في الماضي، اتخذت السلطات السعودية خطوات رسمية لتنظيم وضع العمال اليمنيين. فبعد فترة وجيزة من دخول التحالف العسكري بقيادة السعودية الحرب في اليمن عام 2015، وتصاعد حدة القتال في البلاد نتيجة هذا التدخل، أصدرت المملكة عفوًا عن جميع اليمنيين المتواجدين على أرضها بطريقة غير نظامية “تقديرًا لظروفهم”. وانتهت المهلة الممنوحة لهم لتصحيح وضعهم في المملكة في أغسطس/ آب 2015، وأعلنت السلطات أن 400 ألف يمني صححوا وضعهم، مضيفة أنها ستشن حملة مشددة لملاحقة جميع العمال الأجانب المقيمين بطريقة غير نظامية.[32]
عام 2017، نسقت السفارة اليمنية في الرياض مع السعوديين عفوًا آخرًا يسمح لليمنيين المقيمين في المملكة بصورة غير قانونية بالمغادرة طوعًا دون حظرهم من العودة إليها بشكل قانوني.[33] وسُمح لبعض اليمنيين عام 2017 بتسوية أوضاعهم القانونية عن طريق تحويل تصاريحهم من زيارة إلى إقامة.[34]
وأضاف المهندس اليمني “آمل أن تطالب الحكومة (اليمنية) بحملة أخرى لتسوية أوضاع اليمنيين (في المملكة) واضعة في الحسبان الوضع الكارثي في اليمن”.
ورفض مسؤول يمني في السعودية على إطلاع بالموقف الحكومي حول هذه المسألة، التعليق، عازيًا السبب إلى حساسية الأمر.
وقال أحد المغتربين المتواجدين في السعودية منذ فترة طويلة، والذي انتهى تصريح عمله مؤخرًا، إنه بغض النظر عن إقدام المملكة على إصدار عفو أم لا، فإن العودة إلى الوطن حيث لا وجود فرص عمل ليست خيارًا.
وبالرغم من أنه مكث في المملكة وعمل بشكل قانوني طيلة 23 عامًا إلا أنه لم يجمع القدر الكافي من المال لتحقيق الحلم الذي غادر بلاده لأجله، والمتمثل بشراء منزل في اليمن وتأمين “حياة بسيطة ومتواضعة”. ويصف شعوره الآن بأنه “محاصر بشكل مخيف” بسبب الوضع الصعب الذي يعيشه.
أمضى ذو الـ46 عامًا معظم سنوات حياته يعمل في متجر للعطور في الرياض، ويتقاضى 2,600 ريال سعودي (693 دولارًا) في الشهر. وإبان اندلاع الحرب في اليمن، رُفض طلبه بالحصول على علاوة وساءت علاقته مع رب عمله. ثم ارتفعت رسوم تجديد الإقامة لتصل إلى قيمة رواتب أربعة أشهر، ولم يكن يملك أي مدخرات لتسديدها إذ كان يرسل أجره لعائلته في اليمن كونها بأمس الحاجة إليه.
وقال “حين رُفعت رسوم تجديد الإقامة، أدركت أنه من المستحيل أن يؤمّن راتبي الشهري احتياجات المعيشة الأساسية، سواء لي أو لعائلتي. وفعلت ما بوسعي، وكنت مستعدًا للتوسل (كي أحصل على زيادة في الراتب)”. وأضاف أنه عند سماعه عن فرصة عمل في منطقة نائية في المملكة مع صاحب عمل مستعد لتوظيفه بصورة غير شرعية، لم يتردد لاقتناص الفرصة. وهو يعمل الآن 15 ساعة في اليوم طيلة أيام الأسبوع في مطعم ويتقاضى ألف ريال سعودي (267 دولارًا) في الشهر ويعجز عن إرسال المال لأسرته، ولم يرسل سوى 200 ريال سعودي (53 دولاراً) لشراء الدواء لابنه. وبدون تصريح عمل وعدم القدرة على كسب أجر، لم يكن لديه أي خيار سوى القبول بهذا العمل والمخاطر المصاحبة له. وأضاف: “جل ما أردته هو أن (أؤمّن المعيشة) لأسرتي، وبالتالي ليس لدي ما أخسره من الهروب والاختباء”.[35]
علي الديلمي هو باحث في مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية، حيث ينسّق أيضًا موادًا للتقرير الشهري: تقرير اليمن.
الهوامش:
[1] مقابلات خاصة أجراها الكاتب مع عامل يمني، 2 يونيو/حزيران 2020 و12 يوليو/تموز 2020.
[2] “النشرة الاقتصادية اليمنية: سيطرة المجلس الانتقالي الجنوبي على عدن تشل البنك المركزي وتهدد المالية العامة”، مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية، 17 يونيو/حزيران 2020. انظر أيضاً: أنثوني بيسويل، “النشرة الاقتصادية اليمنية: الحرب من أجل السيطرة النقدية تدخل مرحلة جديدة خطيرة”، مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية، 21 يناير/كانون الثاني 2020.
[3] “المستجدات الاقتصادية والاجتماعية في اليمن، (44) -أغسطس/آب 2019″، وزارة التخطيط والتعاون الدولي عبر موقع ريليف ويب، 7 أكتوبر/تشرين الأول 2019.
[4] “الدكتور العديل: ثمانية مليار دولار تحويلات المغتربين اليمنيين السنوية”، سقطرى بوست، 11 فبراير/شباط 2020.
[5] تقديرات خبراء البنك الدولي المبنية على بيانات ميزان المدفوعات الصادرة عن صندوق النقد الدولي، “الحوالات الشخصية المستلمة (دولار أمريكي) -اليمن”، البنك الدولي.
[6] “المستجدات الاقتصادية والاجتماعية في اليمن، 2018″، وزارة التخطيط والتعاون الدولي، قطاع الدراسات والتنبؤ الاقتصادية، فبراير/شباط 2018.
[7] “انخفاض التحويلات إلى اليمن مع تزايد الاحتياجات وسط الحرب وفيروس كورونا”، أوكسفام، 1 يونيو/حزيران 2020.
[8] مارك لوكوك، “وكيل الأمين العام للشؤون الإنسانية ومنسق الإغاثة في حالات الطوارئ، مارك لوكوك: إحاطة إلى مجلس الأمن حول اليمن، نيويورك، 28 يوليو/تموز 2020″، نسخة من مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية عبر موقع ريليف ويب، 28 يوليو/تموز 2020.
[9] “التحويلات المالية في أزمة، فكيف نحافظ على تدفقها؟”، شراكة للمعرفة العالمية بشأن الهجرة والتنمية، تم الاطلاع في 14 أغسطس/آب 2020.
[10] وضاح أحمد، صالح زيد، يوسف محسن، “القوى اليمنية العاملة المغتربة تحت التهديد: الدور الحيوي للتحويلات المالية في الحد من الانهيار الاقتصادي”، مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية، 31 مايو/أيار 2019.
[11] بحسب ما أفادت جريدة عكاظ، على سبيل المثال، شنت السلطات السعودية حملة مشددة على العمالة الأجنبية واُعتقل أكثر من 31 ألف يمني أثناء محاولتهم دخول المملكة بشكل غير قانوني، أي 44% من إجمالي الذين جرى ضبطهم عبر الحدود. وكان هؤلاء اليمنيين من بين 4.1 مليون شخص قُبض عليهم خلال تلك الحملة لمكافحة المخالفات المتعلقة بالعمل والإقامة. لم تحدد السلطات عدد اليمنيين الإجمالي الذين اُعتقلوا خلال هذه الحملة. كما جرى ترحيل أكثر من مليون شخص. انظر: “الحملة الأمنية: 4 ملايين مخالف وترحيل مليون”، عكاظ، 2 تشرين الثاني/نوفمبر 2019.
[12] سارة الشرفا، “كوفيد-19: السعودية تخفّض الرواتب بنسبة 40٪”، جلف نيوز، 4 مايو/أيار 2020.
[13] المرجع نفسه؛ “الموارد البشرية”: تخفيض أجر العامل أو منحه إجازة لمواجهة كورونا”، عكاظ، 6 أبريل/نيسان 2020.
[14] “ابتداء من اليوم.. السعودية تنفذ قرار زيادة نسبة ضريبة القيمة المضافة إلى 15٪”، CNN بالعربية، 1 يوليو/تموز 2020.
[15] “وزارة العمل والشؤون الاجتماعية تكشف قائمة بأهم المهن التي سوف يتم إنهاء إقامتها رسميًا”، صدى، تم الاطلاع في 13 أغسطس/آب 2020. “السعودية: العمل تعلن عن المهن التي سيتم سحبها من المقيمين وسعوّدتها وإنهاء اقامتهم خلال هذه الفترة”، أخبار اليمن، 14 يونيو/حزيران 2020.
[16] “الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية: توطين 9 أنشطة تجارية.. وفرص واعدة للسعوديين في سوق العمل”، وكالة الأنباء السعودية، 20 أغسطس/آب 2020.
[17] “موجز السياسة رقم 2: إصلاح نظام الكفالة”، منتدى المهاجرين في آسيا، 3 يوليو/تموز 2012.
[18] “أحداث السعودية عام 2019″، التقرير العالمي 2020، هيومن رايتس ووتش، تم الاطلاع في 2 سبتمبر/أيلول 2020.
[19] “إلغاء نظام الكفالة وشيك: تقرير”، جريدة سعودي جازيت، 4 فبراير/شباط 2020.
[20] ريبيكا سميث، “يمكن للسعودية إعادة كتابة سجلها بخصوص اليد العاملة من خلال إنهاء نظام الكفالة”، مركز التنمية العالمية، 3 مارس/آذار 2020.
[21] ديمة طلال الشريف، “محاربة التستر التجاري بشكل فعال”، عرب نيوز، 26 أغسطس/آب 2020.
[22] المرجع نفسه.
[23] “نظام مكافحة التستر الجديد”، وزارة التجارة السعودية، تم تعميمه وإتاحته للتنزيل على موقع الوزارة الرسمي على تويتر، 19 أغسطس/آب 2020.
[24] مقابلة خاصة أجراها الكاتب مع طبيبة أسنان يمنية، 10 يونيو/حزيران 2020.
[25] “بدء أعمال مؤتمر المانحين الافتراضي لليمن 2020 الذي تنظمه المملكة بالشراكة مع الأمم المتحدة”، وكالة الأنباء السعودية، 2 يونيو/حزيران 2020.
[26] مقابلة خاصة أجراها الكاتب مع عامل يمني، 8 مايو/أيار 2020.
[27] الأمن العام، تغريدة على تويتر، “عقوبة أي تجمع للمتسوقين أو العاملين داخل أو خارج المحل التجاري…”، 6 يونيو/حزيران 2020.
[28] الجوازات -أبشر، تغريدة على تويتر من الحساب الرسمي لخدمات الجوازات الإلكترونية في السعودية، “وعليكم السلام.. رسوم تجديد أو إصدار إقامة السائق الخاص…” 15 يوليو/تموز 2019.
[29] مقابلة خاصة أجراها الكاتب مع خبير تكنولوجي يمني، 6 مارس/آذار 2020.
[30] مقابلة خاصة أجراها الكاتب مع مهندس يمني، 15 مارس/آذار 2020.
[31] وضاح أحمد، صالح زيد، يوسف محسن، “القوى اليمنية العاملة المغتربة تحت التهديد: الدور الحيوي للتحويلات المالية في الحد من الانهيار الاقتصادي”، مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية، 31 مايو/أيار 2019، ص. 25.
[32] “اليوم تنتهي مهلة التصحيح للأشقاء اليمنيين.. والجهات الأمنية تتعقب المخالفين”، جريدة الرياض، 15 أغسطس/آب 2015.
[33] “الداخلية السعودية تستجيب لطلب السفارة بتمديد حملة “وطن بلا مخالف”، سفارة اليمن في الرياض، 15 سبتمبر/أيلول 2017.
[34] “المملكة تمنح الإقامة النظامية لليمنيين حاملي هوية زائر”، سفارة اليمن في الرياض، 11 سبتمبر/أيلول 2017.
[35] مقابلة خاصة أجراها الكاتب مع عامل يمني، 27 يوليو/تموز 2020.