محمد عبد الله محمد
ملاحظة المحرر: يقيم كاتب هذه الورقة في صنعاء ويكتب بإسم مستعار لأسباب أمنية.
لا يزال فهم جماعة أنصار الله (الحوثيون) في اليمن من منظور محلي يمني موضوعا مهملاً برغم أهميته البالغة، فغالباً ما تصف الصحافة العالمية الصراع في اليمن على أنه حرب بالوكالة ضمن نزاع أوسع بين إيران والسعودية على الهيمنة الإقليمية في المنطقة. يخلق هذا التركيز المفرط على الجغرافيا السياسية الإقليمية سردية تتجاهل إلى حد كبير الدوافع المحلية وراء الصراع، والسياق التاريخي الذي تشكلت فيه هذه الدوافع. هذا أمر بالغ الأهمية في حالة جماعة أنصار الله (الحوثيون)، الجماعة الدينية المسلحة حديثة النشأة نسبياً والتي استولت على السلطة في السنوات الأخيرة بينما لا تزال أهدافها غير مفهومة بوضوح ولم تخضع للتدقيق الكافي من قبل المحللين والمعلقين في الشأن اليمني الذين يغفلون باستمرار سؤالاً أساسياً: كيف تُفهم جماعة الحوثيين من منظور يمني محلي؟
للإجابة على هذا السؤال، من المهم التعمق في ارتباط الجماعة بالطائفة الزيدية، أحد فرق الإسلام الشيعي الذي يعيش أغلب أتباعه في اليمن. تستمد الجماعة شرعيتها من أصول المذهب الزيدي كما تستمد منها وإلى حد كبير خطابها الأيديولوجي وممارساتها. تاريخياً، ترتبط الزيدية بشكل وثيق بمفهوم حكم الإمامة (أو ولاية الإمام)، المبدأ الديني الزيدي للحكم الذي يمنح بموجبه الحاكم الشرعية عبر امتياز “إلهي” قائم على “النَّسَب المقدَّس”. وفي حين تسمح الزيدية بالطعن في منصب الإمام، إلا أن هذا المنصب هو حصرياً من نصيب العائلات الهاشمية – أي أولئك الذين يزعمون انحدارهم من نسل فاطمة بنت النبي محمد وزوجها علي بن أبي طالب (إبن عم النبي). تأسست الإمامة الزيدية الأولى في نهاية القرن التاسع، وحكم العديد من الأئمة مناطق شمال اليمن – حقبة تخللتها فترات متقطعة من السيطرة الأجنبية وقيام دول يمنية سيطرت على أغلب مناطق اليمن خاصة في الوسط والغرب – حتى عام 1962. وخلال هذه الفترة، عزز الأئمة سلطتهم عبر تكريس الادعاء باستحقاقهم الإلهي للسلطتين الدينية والسياسية.
ومع أن جماعة الحوثيين برزت بعد أكثر من أربعة عقود على الإطاحة بالإمامة في 1962 وتأسيس الجمهورية، فإن أهداف وأيديولوجية الجماعة تأثرت بشدة بذلك الحدث. فمعظم قياديي الجماعة ينتمون -مذهبياً- إلى الزيدية وأغلبهم ينحدرون من عائلات هاشمية، بمن في ذلك عائلة الحوثي. صحيح أن الحوثيين يتلقون الدعم من إيران، ولكن هذا لا يكفي لتفسير صعودهم إلى السلطة، إذ تكمن أكبر نقاط قوتهم في تجذير أفكارهم التي تستدعي أحداثا ورموزا تاريخية دينية معينة تلقى صدى لدى شريحة من اليمنيين. وبالنسبة للبعد الطائفي للجماعة، لا يمكن اختصار الزيدية إلى طائفة دينية وحسب فإرث الأئمة الهاشميين الزيديين هو الذي لا يزال يؤثر على كيفية فهم الزيدية و”المناطق الزيدية” اليوم. بعد عام 1962، انتقل الكثير من سكان المناطق الشافعية إلى المناطق الشمالية من البلاد المعروفة تقيلدياً بالانتماء إلى الزيدية – حيث تقع العاصمة صنعاء. أدى أيضا ظهور الجماعات الإسلامية السنية وانتشار الوهابية إلى تغير ديموغرافي يمكن أن يوصف على أنه موجة “تسنن” واسعة في قلب المناطق التي كانت تعتبر تاريخياً زيدية. حدث هذا عندما انكمشت الزيدية في العقود التي تلت ثورة 1962 وتحولت من مدرسة فكرية تحتل مركز السلطة إلى معتقد إيماني وروحاني على المستوى الفردي.
وعليه، فقد أيقظ صعود الحوثيين إلى السلطة مخاوف الكثير من اليمنيين من عودة نظام الإمامة الزيدية السابق ليحل محل النظام الجمهوري، وبالتالي العودة إلى التسلسل الهرمي الاجتماعي الذي كان سائداً قبل عام 1962 وإلى الانقسام الجغرافي على أسس طائفية.
وفي حين أن الثورة الجمهورية أسفرت عن تغييرات هيكلية، إلا أنها لم تنجح في الانفصال عن الملكيين/الإماميين بشكل تام. شهد اليمن عقب ثورة 26 سبتمبر 1962 حرباً أهلية بين الجمهوريين، المدعومين من النظام المصري بقيادة جمال عبد الناصر، والملكيين، المدعومين بشكل رئيسي من السعودية، انتهت بتسوية سياسية عام 1970 أدمج بموجبها عناصر من الملكيين في الحكومة الجمهورية. وعند التمعن في الماضي، يبدو أن الميول الملكية الكامنة كانت تنتظر ضربة الحظ لتطفو إلى السطح مرة أخرى.
وخلال هذه الفترة، كان نجاح الثورة الإيرانية عام 1979 مصدر إلهام لأولئك الذين يدعمون إحياء مبدأ ولاية الإمام، وتحديداً لحركة الشباب المؤمن، التي تأسست عام 1992 كجماعة إحيائية زيدية مركزها صعدة، والتي سيشكل بعض أعضائها نواة جماعة الحوثيين لاحقاً.
برزت جماعة الحوثيين أكثر عندما نشب صراع مفتوح بينها وبين نظام علي عبدالله صالح. أسفرت العمليات العسكرية التي نفذها الجيش اليمني في محافظة صعدة عام 2004 عن مقتل حسين الحوثي، مؤسس جماعة الحوثيين والشقيق الأكبر لزعيم الجماعة الحالي عبد الملك الحوثي. كانت هذه المواجهة هي الأولى ضمن سلسلة من المواجهات المسلحة بين جماعة الحوثيين والحكومة اليمنية والتي عرفت فيما بعد بحروب صعدة الستة -أو تمرد الحوثيين- بين عامي 2004 و 2010. وبعد الجولة الأولى من القتال، استلم قيادة الحوثيين عبد الملك الحوثي، الذي ألهمه أيضاً حزب الله – المليشيا اللبنانية الشيعية – ومقاومته للاحتلال الإسرائيلي في جنوب لبنان وهيمنة الولايات المتحدة في المنطقة. ولاحقاً، وفر عدم استقرار السلطة التي أعقبت انتفاضة الشباب عام 2011 والحماسة الثورية التي واكبتها اللحظة المناسبة لجماعة الحوثيين لتعيد تركيز نشاطها التمردي بالزحف نحو صنعاء التي دخلتها في 21 سبتمبر/أيلول 2014. يشار إلى هذا التاريخ الآن في المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون باعتباره “ثورة 21 سبتمبر” التي تحتفل بها الجماعة رسميا وأعلنتها –كسلطة أمر واقع- إجازة رسمية يفوق زخمها الاحتفال بذكرى ثورة 26 سبتمبر التي أطاحت بنظام الإمامة عام 1962.
يشرعن مفهوم الإمامة في العقيدة الزيدية التمرد ضد إمام قائم ظالم أو غير مؤهل، ولكن هذا الحق بالتمرد يشترط في أي شخص يدعي أحقيته بالإمامة ويعلن الحرب لانتزاعها من الإمام القائم أن يكون هاشميا من البطنين (أي من سلالة ابني علي بن أبي طالب، الحسن أو الحسين). صبغ هذا المبدأ “بشرعية التمرد” جانبا كبيرا من التاريخ اليمني بصراعات مستمرة على السلطة بين العائلات الهاشمية كما أن هذا المبدأ يمثل مرتكزا رئيسياً في خطاب جماعة الحوثيين اليوم. لقد استخدمته جماعة الحوثي ضمنياً لتبرير مواجهاتها المسلحة ضد الدولة اليمنية خلال حروب صعدة وخلال معاركها للصعود إلى السلطة وخطابها الثوري في الفترة التي سبقت – وأعقبت – إنتفاضة عام 2011، ثم تحول إلى خطاب صريح ومباشر بعد سيطرتها على صنعاء كمناسبة دينية –يوم الغدير/الولاية- تحتفل بها بطريقة استعراضية مكثفة، وبالتالي، فمع أن الحوثيين يستمدون بعض قوتهم وزخمهم من الدعم الأجنبي، إلا أنه بمقدورهم خلق قاعدة محلية عبر ترسيخ أنفسهم في التاريخ السياسي اليمني ومضامينه المذهبية.
وكجماعة صاعدة لا تزال في طور تعزيز سلطتها، لا تتبنى جماعة الحوثيين رسمياً موقفاً مناهضاً للجمهورية/مؤيداً للامامة، ولكن تظهر محاولات الجماعة لتحريف التاريخ من خلال خطابها المستحدث الذي تفرضه في المناطق الخاضعة لسيطرتها والذي تحاول فيه إظهار تاريخ الإمامة الزيدية بشكل إيجابي، كما يبدو واضحاً من نوع الكتب التي أصبحت وللمرة الأولى تباع في مكتبات صنعاء والتي تتحدث عن إرث و”إنجازات” الإمامة كما يصف بعضها ثورة 26 سبتمبر ب”الانقلاب”. وبالتالي، من المفهوم عدم تبني الحوثيين رسمياً نهجاً معلناً مؤيداً للإمامة، كون الأخيرة لا تزال تحمل وصمة عار ترسخت لأكثر من نصف قرن من النظام الجمهوري، فالجماعة لا تريد أن تخاطر بنفور شرائح كبيرة من أنصارها في الوقت الحالي. لذا اختار الحوثيون، وبشكل استراتيجي، الدفع بسردية الضحية لما لها من أثر جامع والتي تقول بأن الزيديين مضطهدون في الجمهورية اليمنية – وهي سردية تخلط ما يعتبرونه تهميشاً سياسياً وتنموياً للزيديين في صعدة خلال عهد صالح مع تجربة عامة السكان الزيديين في فترة من بعد 1962.
وعلى الرغم من أنه لا يمكن التقليل من أهمية فهم العوامل المحلية وراء الصراع في اليمن، إلا أنه لا يجب التغاضي عن الدور الذي يلعبه الدعم الإيراني في قدرة الحوثيين على إحكام قبضتهم في مناطق سيطرتهم حيث تصاعد ارتباط الحوثيين العسكري واللوجستي بنظام طهران خلال سنوات الصراع، ولكن لا يزال النفوذ الإيراني محصوراً إلى حد كبير في الدعم الأيديولوجي والاجتماعي والسياسي. كما أثرت الحركات الإسلامية المعاصرة بشقيها السني والشيعي وكذلك تقاليد وتاريخ الأئمة الزيديين في جماعة الحوثيين أيضاً. وبالتالي، يجب فهم نشاط الحوثيين على أنه عودة إلى تقليدية المذهب الزيدي وامتدادا للمبدأ الرئيسي الذي يعتبر الحكم حقا إلهيا للإمام (الولاية)، مع الأخذ بعين الاعتبار التأثيرات العابرة للطائفة المذكورة أعلاه.
ليست هذه المرة الأولى التي يبالغ فيها بدور العوامل الخارجية خلال الصراعات في اليمن. فبعد ثورة سبتمبر عام 1962، كان اهتمام الصحافة العالمية في تغطية الحرب الأهلية شمال اليمن يتركز حول الوجهة التي قد تذهب إليها الأمور هناك: هل يذهب اليمن الشمالي نحو القطب الشرقي المناهض للاستعمار أم نحو القطب الرأسمالي الغربي؟ وفي ذلك الوقت – كما يحدث الآن بشكل خاطئ- كانت تصنف أطراف الصراع الداخلي بشكل أساسي تبعاً لقربها أو بُعدها من هذين القطبين من دون محاولة فهم الأسباب المحلية التي كانت في الواقع الدوافع الرئيسية وراء النزاع. هذا التحليل كان ولا يزال مشكوك في دقته، فعندما انسحب المصريون من اليمن بعد هزيمة العرب أمام إسرائيل في يونيو 1967، أمسى النظام الجمهوري في صنعاء في وضع خطر وافتقر إلى الدعم الخارجي الذي تمتع به في ظل التواجد العسكري المصري، ولكن الجمهورية استمرت.
الدرس الذي يجب تعلمه من الماضي هو أن الدعم الخارجي لجماعة الحوثيين لن يقرر على الأرجح نجاحها أو فشلها النهائي. من الصحيح أن الحوثيين باتوا يشكلون عنصراً متلاحما فيما يعرف “بمحورالمقاومة” حيث أي انتكاسات أو تصدعات رئيسية في هذا المحور تستطيع بلا شك أن تؤثر على معنويات الجماعة وقدرتها على التمسك “برؤيتها” الكبرى للمنطقة، ولكن طالما بقيت الشروط والديناميات المحلية التي أدت إلى صعود الحوثيين وطالما استمر تماسك الجماعة العسكري، كما هو مرجح، فإن علاقتها بإيران لن تحدد وحدها نجاحها أو فشلها النهائي.