سيطرت جماعة الحوثيين المسلحة على العاصمة اليمنية صنعاء في سبتمبر/أيلول 2014 مطيحة بالحكومة اليمنية من السلطة. أسفر هذا الصراع الدائر عن أزمة سياسية وعسكرية وأمنية؛ أدت بدورها إلى استقطاب أطراف مختلفة عبر أنحاء المنطقة. يستكشف الجزء الخامس من هذه السلسلة الديناميكيات المتغيّرة التي أنتجها الصراع في اليمن، وكيف انعكس على المنطقة بأسرها.
وفي قلب هذه التوترات، يقع كل من البحر الأحمر، أحد أكثر الطرق التجارية أهمية في العالم، ومضيق باب المندب، نقطة اختناق مهمة؛ كونه ممر مائي يربط بين البحر الأحمر والمحيط الهندي عبر خليج عدن. من شأن هذه الديناميكيات القائمة أن تبعث موجات من الاضطراب عبر القرن الأفريقي وما ورائه.
عقب استيلاء جماعة الحوثيين على صنعاء وإجبارها الرئيس عبدربه منصور هادي على الفرار إلى السعودية عام 2015، شكل اللاعبون الإقليميون تحالفات سريعة، وفي غضون أيام، كان التحالف العربي بقيادة السعودية والإمارات قد أطلق حملته العسكرية لهزيمة الحوثيين وإعادة حكومة هادي إلى صنعاء.
كانت تلك المحاولة الأولى على صعيد شن هجوم مضاد لمواجهة الحوثيين، ومنذ ذلك الحين، توسع الصراع ليشهد سلسلة من الاشتباكات والهزائم والانتصارات؛ ما جزأ اليمن إلى مناطق خاضعة لسيطرة الحوثيين في غرب وجنوب غرب البلاد، وأخرى خاضعة لسيطرة الحكومة وتأثير القوى الخارجية.
من يسيطر على الحديدة يسيطر على شريان الحياة
كحال العديد من النزاعات، حدد عامل الوصول إلى الممرات المائية توازن القوى في اليمن، وبمجرد سيطرة الحوثيين على صنعاء، انتقل صلب الصراع إلى الساحل.
في مطلع 2017، تقدمت القوات الحكومية المدعومة من التحالف بالأسلحة الثقيلة إلى مديرية ذُباب، الخاضعة لسيطرة الحوثيين والواقعة في محافظة تعز على الساحل الجنوبي الغربي للبلاد، والمُطِلّة على مضيق باب المندب الذي يربط البحر الأحمر بالمحيط الهندي. سيطرت قوات التحالف المشتركة (قوات التحالف والقوات الحكومية) على المديرية في أقل من شهر، لتتجه أنظار التحالف نحو مدينة المخا، غربي محافظة تعز.
مثّلت معركة السيطرة على ذُباب نقطة تحوّل في مجرى الحرب؛ إذ استعادت قوات التحالف المشتركة سيطرتها على البحر الأحمر، وشلّت الممرات التي كانت تؤمّن الموارد إلى الحوثيين، مثل منطقة باب المندب، التي لطالما استخدمها الأخيرون لتهريب كل شيءٍ، بدءًا من الكحول والأسلحة إلى الدراجات النارية، وحُرموا بذلك من أحد المنافذ الأساسية التي تمدهم بالأسلحة والدخل.
على الرغم من هذه الانتصارات ذات الأهمية الاستراتيجية، استمرت المعركة للسيطرة على الخط الساحلي؛ وسرعان ما رفعت قوات التحالف المشتركة طموحها في تحرير الساحل الغربي بأكمله، وصارت السيطرة على مدينة الحديدة التي يقع فيها أكبر ميناء في البلاد الهدف الأهم. السيطرة على الحديدة تعني أنه بوسع قوات التحالف المشتركة انتزاع الميناء من سيطرة الحوثيين، وبالتالي تحديد مسار الحرب؛ فالميناء لا يتمتع بثقل عسكري وحسب، بل يمثّّل شريان حياة لملايين المدنيين الذين يعتمدون على المساعدات الإنسانية التي تصل عبره منذ انزلاق البلاد نحو أزمة إنسانية.
وبحلول يونيو/حزيران 2018، كانت قوات التحالف المشتركة قد سيطرت على الطرق الساحلية، وفرضت حصارًا على الحديدة وشنت هجومًا على قوات الحوثيين. ومع تصاعد وتيرة هجوم قوات التحالف المشتركة بقيادة الإمارات وبدعم سعودي، ازداد الضغط الدولي على الأطراف المتحاربة كون عرقلة عمل ميناء الحديدة سيؤثر بشكل مباشر على ملايين المدنيين الذين باتوا على حافة المجاعة. وفي ديسمبر/كانون الأول أجرت الأطراف المتحاربة محادثات برعاية الأمم المتحدة في ستوكهولم وتوصلت إلى اتفاق توقفت بموجبه معركة الحديدة، مع بقاء قوات كل من الطرفين في مواقعها.
حلفاء أم خصوم؟
لم تقتصر آثار محادثات ستوكهولم على جبهات القتال، بل أظهرت التصدعات داخل التحالف. ففي الوقت الذي ازدادت فيه حدة الاحتجاجات الدولية ضد معركة الحديدة، وجدت السعودية نفسها تحت المجهر بعد مقتل الصحفي جمال خاشقجي في القنصلية السعودية بإسطنبول. ويبدو أن هذا الضغط أثّر على السعودية ودفع بها إلى دعم اتفاقية ستوكهولم. أكسب هذا القرار السعودية بعض الوقت ولكنه ضحى بالجهود الإماراتية في اليمن.
وبالتالي، غيّرت اتفاقية ستوكهولم لهجة العلاقة بين الشريكين بعد أن سادها الانسجام بشكل عام. خلال الفترة التي سبقت محادثات ستوكهولم، كانت الإمارات قد عززت نفوذها في المحافظات الجنوبية، كما
أمّن حلفاء رئيسيون للإمارات مناصب تنفيذية في الحكومة اليمنية. في هذه الأثناء، ركزت السعودية على الشمال.
ظهرت أولى علامات التوتر قبل إجراء هذه محادثات ستوكهولم؛ حين أقال الرئيس هادي العديد من حلفاء الإمارات من مناصبهم، ومنهم محافظ عدن عيدروس الزُبيدي، ومحافظ حضرموت أحمد بن بريك، ووزير الدولة هاني بن بريك (ليس قريب أحمد بن بريك)، وبعد هذه التطورات، شكّل هؤلاء المسؤولون المفصولون من مناصبهم المجلس الانتقالي الجنوبي الذي يُعد أكبر منصة سياسية تمثّل الجنوب، ويتمتع بالدعم الكامل من الإمارات.
ألّبت المواجهات التي اندلعت مطلع 2018 بين الحكومة اليمنية والمجلس الانتقالي الجنوبي العداوة بين الحليفين، وغالبًا ما كانت الحكومة المدعومة من السعودية الطرف الخاسر. أدى هذا إلى تصاعد الحساسية السعودية تجاه ما بدا تماسك التحالفات التي أقامتها الإمارات، ونفوذها المتنامي، بالمقارنة مع ضعف شركاء السعودية وفسادهم.
أوقفت السعودية الهجوم على مدينة الحديدة عبر إجراء محادثات ستوكهولم؛ لتضمن عدم سيطرة القوات الموالية للإمارات على ميناء الحديدة الاستراتيجي وتوسيع نفوذها على الساحل؛ فسيطرة القوات المشتركة على مدينة المخا وتوسّع النفوذ الإماراتي على البحر الأحمر خلال الأشهر التي سبقت الاشتباكات في الحديدة، كانت تشير إلى تعزيز مكانة الإمارات كلاعب أول في اليمن.
ليس ذلك وحسب، بل كانت السعودية قلقة من أن تصبح الإمارات القوة الرئيسية في جنوب البحر الأحمر بأكمله، ولكنها لم تعبّر عن قلقها علنًا.
الامتداد الدولي للتوترات الإقليمية
ليست العلاقة بين السعودية والإمارات سوى غيض من فيض، وبالرغم من المظالم الثنائية بين الحليفين، كان كليهما يخشيان من تنامي نفوذ المحور القطري-التركي-العُماني المنافس لهما. وتُعد محافظة تعز في قلب هذه الديناميكيات حيث تدعم كل من عُمان وتركيا المليشيات المحلية بقيادة الزعيم القبلي حمود المخلافي الذي تموّله قطر. لا يقتصر الدور القطري والعُماني في اليمن على تعز بل يتعداها تقليديًّا إلى محافظة المهرة التي تحد عُمان. غير أن الحرب أعادت تعريف التقاليد مع كسب السعودية نفوذًا في المهرة من خلال وكلاء محليين ومسؤولين حكوميين معينين من قِبل الرئيس هادي.
سعت سلطنة عُمان إلى بسط نفوذها في اليمن من خلال تقديم نفسها كمحاور مع الحوثيين، وهو ما يتناسب مع نهج السلطنة المتوازن في سياستها الخارجية، ليس فقط على صعيد اليمن، ولكن عبر المنطقة ككل. لم تذهب هذه الجهود سدى إذ أمست مسقط أهم منصة سياسية عامة للحوثيين خارج اليمن. ولكن المشهد لا يقتصر على اللاعبين الإقليميين وحسب، إذ برزت أهمية البحر الأحمر دوليًّا عند بدء الصراع؛ حين استُهدفت حاملة الطائرات الأمريكية يو إس إس ماسون بصواريخ أُطلقت من الأراضي اليمنية. حينها، وُجهت أصابع الاتهام إلى الحوثيين المدعومين من إيران، ما عمّق القلق من قدرة إيران على عرقلة ممرات الشحن الدولية في البحر الأحمر.
ما يحدث في البحر لا يظل في البحر
ما لا شك فيه، أدى عدم الاستقرار في اليمن إلى تفاقم الوضع المضطرب على الجانب الأفريقي المقابل، وقد تجلى ذلك بوضوح في تجارة الأسلحة عبر السواحل اليمنية، حيث تُباع الأسلحة من اليمن في عدد من البلدان الأفريقية، ومنها جيبوتي، وجنوب السودان، وكينيا، وتنزانيا، وجمهورية إفريقيا الوسطى. يُبقي تدفق الأسلحة من اليمن على نشاط حركة التهريب، كون المهربون يحصلون على أرباح ضخمة ولا يواجهون سوى مخاطر قليلة.
ولكن التعقيدات لا تقتصر على التجارة غير المشروعة عبر البحر إذ أن العديد من اللاعبين الإقليميين لديهم مصالح ذاتية في اليمن، فعلى سبيل المثال، شاركت السودان في العمليات العسكرية ضد الحوثيين منذ أن أطلق التحالف حملته العسكرية في اليمن عام 2015.
كما بدأت الخرطوم بالاعتماد على سخاء الرياض وأبوظبي في أعقاب الانتفاضة الشعبية التي أطاحت بنظام الرئيس السابق عمر البشير قبل عام. ساعد الدعم المقدم من السعودية والإمارات في تجهيز القوات السودانية في اليمن، كما ساعد في الحفاظ على الوضع الراهن محليًّا.
كانت التوقعات حينها بأن الانتفاضة السودانية ستسفر عن تغيير في مشاركة السودان بحرب اليمن، غير أنها أتت بالقائد العسكري محمد حمدان دقلو “حميدتي” إلى الصدارة، وعززت دوره كقائد قوات الدعم السريع التي تنتمي إليها معظم القوات السودانية الموجودة في اليمن. ونظرًا لتحالفات حميدتي مع أبو ظبي والرياض؛ فليس مفاجئًا أن أولوية القيادة العسكرية السودانية لم تكن تلبية مطالب الحرية والسلام والعدالة التي نادت بها الثورة، بل في المحافظة على العلاقات الاستراتيجية مع دول الخليج.
وليست السودان باستثناء في المنطقة، إذ كان للتعقيدات في اليمن أثرٌ متتاليٌ في تصاعد الصراع في الصومال بين الإمارات من جهة وقطر وتركيا من جهة أخرى، حيث تنظر الدوحة وأنقرة بقلق إلى النفوذ الإماراتي في اليمن، وإلى قواعدها العسكرية في مدينة عصب في إريتريا ومدينة بربرة في الصومال، وإلى نفوذها المتزايد في السودان، إذ ولّت الأيام التي كان يتمتع بها البلدان بالنفوذ في السودان. ردًا على ذلك، يتنافس الحليفان على اهتمام الصومال في الوقت الذي يصبان فيه اهتمامهما على البحر الأحمر.
حل النزاع يحتاج إلى عملية سياسية بشأن مساعدات الإغاثة
يمثّل تنامي قوة الحوثيين تهديدًا للعديد من القوى الدولية والإقليمية؛ إذ أتى توسع جماعة الحوثيين على حساب معظم الأطراف المعنية الأخرى، ونتيجة انتماء الجماعة إلى محور إيران الإقليمي. يُعد الخوف من إيران كدولة تتعزز قوتها القاسم المشترك الأصغر لجميع الأطراف الفاعلة الخليجية. ليس هناك ضمانات بأن توازن القوى الذي توصلت إليه اتفاقية ستوكهولم سيصمد، إذ لا يزال هناك احتمال بتجدد المعارك للسيطرة على الحديدة؛ لا سيما إذا كان هناك اندفاعًا متزايدًا للإطاحة بالحوثيين ومواجهة النفوذ الإيراني على مضيق باب المندب، وفي هذه الأثناء، تستمر الحرب دون أي نهاية تلوح في الأفق.
وبما أن هذه الديناميكيات توجه القوى الإقليمية والدولية، هناك أربعة متغيرات يجب أخذها بعين الاعتبار:
لا يمكن تجاهل أهمية الحديدة فيما يتعلق بالمساعدات الإنسانية ويجب حمايتها، إذ تحدد متغيرات الصراع مصير الملايين الذين يعانون بالفعل من الجوع في اليمن.
يجب على السعودية أن تحدد أهدافها في المعارك ضد الحوثيين، وحل التوترات بينها والإمارات.
يجب على الولايات المتحدة إعادة النظر في نهجها تجاه اليمن، وتحديد مدى التهديد الذي تمثله إيران. إذا كسب الحوثيون السيطرة على الساحل، ستكسب إيران نفوذًا مهمًا للغاية على ممرات النفط من جانبي شبه الجزيرة العربية.
ستستمر الدول التي تمتلك مصالح في البحر الأحمر بمراقبة التطورات في اليمن، وستظل في حالة استعداد للتدخل إذا كانت التطورات تمثل تهديدًا غير مقبولًا لمصالحها الاقتصادية والأمنية. تشمل هذه الدول إسرائيل ومصر وإثيوبيا وحلفائهم. يهدد أي تصعيد بتطور الأمور نحو مسار متفجر.
الخلاصة
من الواضح أن هناك حاجة إلى الانخراط في عملية سياسية تسعى إلى التوصل لحل. ولكن، من أجل تمهيد الطريق للتوصل إلى حل، يجب على العملية السياسية أن تلبّي المطالب العملية ومعالجة المشاكل الملموسة، مثل الوصول إلى الموانئ والممرات التجارية. ليس هناك ما يوحي بأن آثار هذه الكارثة الناجمة عن صنع الإنسان ستقتصر على حدود اليمن. لا شيء أقل من أن استقرار منطقة البحر الأحمر يقع على المحك.
ملاحظة المحرر: نُشر هذا المقال أولًا في موقع The Africa Report.