بدأ اليمنيون يفقدون الأمل في قدرة الأطراف المتحاربة على التوصل إلى اتفاق سلام يمهّد الطريق أمام عملية انتقال سياسي جديدة. فمنذ توقيع اتفاق ستوكهولم أواخر عام 2018، فشل المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة إلى اليمن في إقناع ممثلي الأطراف المتحاربة بالاجتماع وجهًا لوجه والاتفاق على معاهدة سلام أكثر شمولًا. حتى الجهود الحثيثة التي تقودها الولايات المتحدة منذ أوائل 2021 فشلت حتى اللحظة في الدفع قُدمًا بعملية السلام التي تقودها الأمم المتحدة. ومما يزيد من سوء فشل هذه الجهود الدبلوماسية المعروفة باسم مفاوضات “المسار الأول” -والتي تشمل الفاعلين الرئيسيين في النزاع- أنها تظل النهج الوحيد المُتّبع حتى مع استمرار تشرذم البلاد.
تتمحور النقاشات المتعلقة بالسلام في كثير من الأحيان، حتى بين اليمنيين، حول التقدم المحرز في المسار الأول من المفاوضات السياسية. غير أنه تبيّن حتى اللحظة أن المساعي للتوصل إلى صيغة سياسية لإنهاء الصراع بلغت أفقًا مسدودًا. والواقع أن احتمالات تحقيق السلام أصبحت بعيدة المنال في ظل استمرار الحرب. وقد أقرّ المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة إلى اليمن مارتن غريفيث خلال إحاطته الأخيرة أمام مجلس الأمن في 15 يونيو/حزيران بما يلي:
“على مدار النزاع، تضاعفت أعداد الجهات المسلحة والسياسية وتشظت. وتنامى في غضون ذلك التدخل الأجنبي ولم يتراجع. وما كان ممكنًا لفضّ النزاع قبل سنوات لم يعد ممكنًا اليوم. وما هو ممكن اليوم قد لا يبقى متاحًا في المستقبل. وأعتقد أنه ربما يجب أن تجري عملية حوار دولية لإعادة صياغة الأهداف الواقعية لعملية التفاوض.”
ثبُت أن السعي إلى إحلال السلام، لا سيما من خلال مكتب المبعوث الخاص للأمم المتحدة، يتخذ نهجًا فاشلًا ولم يحد من تدهور الوضع. والواقع أن مبعوث الأمم المتحدة اكتفى بإضافة مستوى آخر من التعقيد في معالجة الصراعات المتعددة في البلاد. ولا يُقصد هنا الانتقاص من جهود المبعوث الذي تقتصر ولايته إلى حد كبير على مفاوضات المسار الأول بحسب قرار مجلس الأمن 2216، بل القصد هو الاقتراح بأن تُوجّه الأنظار والجهود أيضا صوب نُهُج أخرى قد تنجح في تحسين الأحوال المعيشية وتُسهم في تحقيق سلام مستدام.
ومع ترقّب تولي مبعوث خاص جديد للأمم المتحدة زمام الأمور قريبًا، من الضروري إعادة النظر في النَهج المتبع لتحقيق السلام في اليمن من أجل تذكير الشعب بأن إحلال السلام ليس ممكنًا فحسب، بل يستحق النضال من أجله. ولعل الخطوة الأولى تبدأ بالاعتراف بأن النهج المتبع حاليًّا لا يجدي نفعًا.
لماذا فشلت جهود السلام؟
دأبت الأطراف المتحاربة على إلقاء اللوم على المبعوث الأممي في فشل عملية السلام، واتهمته في بعض الأحيان بالانحياز إلى الجانب الآخر. ورغم أني لم أكن من المعجبين بمسار السلام الذي تقوده الأمم المتحدة ونهجها الفوضوي، أتفهم أنها لا تملك العصا السحرية، وتلعب فقط دور الوساطة. القدرة على إنهاء الصراع تقع على عاتق الأطراف المتحاربة. وللأسف، فإن كلا الطرفين يتربّح من استمرار النزاع ولا يوجد لدى أي منهما الكثير من الحوافز للعمل من أجل تحقيق السلام والتعامل مع ما سيحدث عند إحلاله.
في حالات عديدة، قوضت الأطراف المتحاربة بشدة جهود تحقيق السلام التي بذلتها المسارات الأخرى. فالحوثيون، على سبيل المثال، يحظرون كافة الأنشطة المتصلة بالسلام في المناطق الخاضعة لسيطرتهم، مع تركيز السلطة في صنعاء إلى مستويات لم يسبق لها مثيل عبر فرض نظام دولة بوليسية وحشية. وفي الوقت نفسه، واجهت الحكومة المعترف بها دوليًّا صعوبة في تأسيس وجود لها في المناطق الخارجة عن سيطرة الحوثيين. وقد سمح هذا للفاعلين خارج إطار الحكومة/ الدولة مثل المجلس الانتقالي الجنوبي باكتساب شعبية، الأمر الذي أدى إلى إذكاء نار النزاع. خلاصة القول، أصبحت البندقية هي الشرعية الوحيدة التي تمتلكها الأطراف المتحاربة وسط السكان الخاضعين لسيطرتها. ويبدو أن ذلك يشجع على ظهور المزيد من الجماعات المسلحة.
ورغم ضرورة مواصلة جهود المسار الأول، التي تشمل الفاعلين الرئيسيين في النزاع، المبذولة للتوصل إلى اتفاق سياسي بين الأطراف المتحاربة، فإن هذا لا ينبغي أن يكون محور التركيز الوحيد. من الممكن أن يساعد اتباع نَهج متدرج من أسفل الهرم إلى أعلاه خلال المسار الثاني والمسار الثالث من المفاوضات -واللذان يشملان قيادات من الطبقة المتوسطة والقاعدة الشعبية على التوالي- في ممارسة الضغط اللازم على الطرفين المتحاربين الرئيسيين لدفع المسار الأول من المفاوضات صوب التوصل إلى اتفاق سياسي. ومع تعثر جهود المسار الأول، يتعيّن على اليمنيين الاستثمار في جهود المسارين الثاني والثالث من المفاوضات للدفع قُدمًا بجهود السلام. على الصعيد المحلي، يمكن أن يساعد ذلك على منع اتساع رقعة النزاع ووقف المزيد من التشرذم عبر توفير مزيد من الحوافز لتحقيق الاستقرار. وقد تشمل هذه الجهود دعم مبادرات السلام المحلية وخلق منابر للمجتمعات المحلية للانخراط في حوار بنّاء يتناول القضايا التي تواجهها. ويمكن أن تسهم هذه الجهود في إحلال السلام على الصعيد المحلي في الوقت الذي يتلكأ الطرفان المتحاربان الرئيسيان في التوصل إلى اتفاق على الصعيد الوطني.
غير أن هذه المسارات البديلة بحاجة إلى دعم. اتسمت الجهود المبذولة سابقًا بالمحدودية، فعلى سبيل المثال، نُفذت العديد من برامج المسار الثاني على هيئة ورش العمل نظرًا لافتقارها التنظيم والاتساق. وهي تفتقر إلى أوجه تفاعل مع المسارات الأخرى، وخاصة المسار الأول، بسبب الضغط الممارس من قِبل الأطراف المتحاربة التي تميل إلى احتكار السلطة وسلب اليمنيين أصواتهم. ومن عجيب المفارقات هنا أن توسيع وتعزيز التعامل المباشر مع الجهات الفاعلة المحلية قد يضغط على الأطراف المتحاربة لكي تعمل بقدر أكبر لصالح الشعب عوضًا عن التربح من معاناتهم. وإن كان هناك ما يثير مخاوف الأطراف المتحاربة، فهو الاستقرار والتلاحم على المستوى المحلي.
وللمضي قُدمًا نحو عملية سلام متعددة المسارات، يتعيّن علينا إعادة تعريف السلام الذي يريده اليمن. ركز النهج الحالي إزاء السلام على ما يريده الأمريكيون والسعوديون والأطراف المتحاربة. ولكن أصبح من الواضح بدرجة متزايدة أن السلام بمعناه الهادف ليس له وجود في أجندة الأطراف المتحاربة. لم يُبد الحوثيون ولا الحكومة المعترف بها دوليًّا حتى الرغبة في تصوّر بلد مزدهر ومُوحّد، ولم يقدما أي رؤية لما ينبغي أن يبدو عليه يَمن جديد وأفضل من سابقه بعد خروجه من حالة الحرب -وهذا أمر يُظهر أن الطرفين لا يشعران بأي مسؤولية تجاه اليمن.
إذًا، هل مصير السلام متروك للأطراف المتحاربة؟ بشكل جزئي، نعم، ولكن عملية السلام تذهب إلى أبعد من ذلك. ينبغي النظر إلى عملية السلام في اليمن من منظور الشرائح المتعددة للمجتمع، بدءًا من المستويات المحلية الفاعلة وصولًا إلى القيادة السياسية الوطنية. وبالتالي، فإن عملية السلام المتعددة المسارات هي السبيل للمضي قُدمًا، والعمل على الصعيد المحلي جوهري وأساسي. فمن هنا يجب السعي نحو السلام. والأمر متروك للقيادة المحلية والمجتمعات المحلية لمعالجة القضايا التي تواجهها، وعدم انتظار توصّل القوى الوطنية أو الدولية إلى اتفاق.