في مطلع هذا العام، أي قبل أشهر من إجراء الانتخابات الرئاسية في إيران، عُقدت محادثات أمنية مهمة بين إيران والسعودية في العاصمة العراقية بغداد. أُفِيدَ بأن مسؤولين أمنيين وعسكريين من كلا البلدين اجتمعوا ثلاث مرات على الأقل. لا يُعرف سوى القليل عن المضمون الفعلي للمحادثات، باستثناء أنها تطرقت إلى الشأن اليمني من بين أمور عدة. غير أن تشكيلة الوفد المشارك من كل جانب تُشير إلى أن هذه المحادثات كانت حقيقية وموضوعية.
وفي حين أنه من الخطأ النظر إلى التوتر الإيراني-السعودي باعتباره المحرك الوحيد لكافة النزاعات المسلحة في الشرق الأوسط، قد تقطع محادثات السلام بين البلدين شوطًا كبيرًا صوب حلّ بعض القضايا الإقليمية الأكثر إلحاحًا مثل الحرب في اليمن، والأوضاع في سوريا والعراق، فضلًا عن الأزمة المتفاقمة في لبنان. وكل التوقعات تشير إلى أن الاجتماعات ستُستأنف وفق هذا المسار المُعتمد مؤخرًا، بعد عيد الأضحى بفترة وجيزة، أواخر يوليو/تموز الجاري.
يشير مراقبون داخل دوائر صنع السياسات الأوروبية إلى أن السعودية أبدت اهتمامًا واضحًا بالانخراط في هذه المحادثات، كونها عالقة في اليمن حسب رأيهم. ويشكك نفس هؤلاء المراقبون في دوافع إيران للتوصل إلى اتفاق فعلي. إلا أن إيران أيضًا لديها ما تكسبه من هذه المحادثات.
أولًا، فيما يتعلق بالملف اليمني: تتطلع طهران إلى تحقيق انتصارين سياسيين. تنظر السعودية على نحو متزايد إلى إيران باعتبارها لاعبًا مهمًّا له دور كبير في إنهاء الحرب، على الأقل على مستوى الأبعاد الجيوسياسية. رفضت السعودية أي دور لإيران طيلة سنوات. والواقع أن الرياض شنت تدخلها العسكري في اليمن عام 2015 خشية أن تكتسب طهران موطئ قدم على حدودها الجنوبية. ويُشكل تغيّر هذه المفاهيم السعودية انتصارًا لإيران. من شبه المؤكد أن إيران بدورها سوف ترحب باستعداد السعودية لمنح حصة من السلطة السياسية للحوثيين في إطار دولة يمنية يُعاد تشكيلها. كما أن ترفيع حلفائها من مجموعة متمردة إلى طرف سياسي فاعل معترف به يُعد كذلك “انتصارًا” لطهران. ورغم أنه لم يكن لليمن قط قيمة كامنة بالنسبة لإيران، كان البوابة التي استطاعت من خلالها إيران تعزيز مركزها الجيوسياسي في شبه الجزيرة العربية ضد السعودية والإمارات، وكذلك ضد الولايات المتحدة. ومستقبلًا، سيكون لزامًا على واشنطن القلق بشأن جبهة جديدة تُشكل إيران من خلالها تهديدًا على حلفائها الإقليميين في الوقت الذي تتزايد التوترات الأمريكية-الإيرانية.
ثانيًّا، نوّهت التقارير الأولية عن زيارة رئيس الاستخبارات السعودي خالد الحميدان إلى سوريا احتمال وجود عملية في طور الإعداد لإعادة تأهيل الرئيس السوري بشار الأسد تدريجيًّا وإعادة دمج سوريا في الجامعة العربية. سترحب إيران بهذه الخطوة. ففي نهاية المطاف، قد يكون ذلك دليل واضح على استعداد السعودية لتقبل النظام السياسي السوري بقيادة الأسد. هذا التحوّل وعملية إعادة التأهيل المحتملة في سوريا كبلد عربي يماثل تحول نهج السعودية عام 2016 حين عاودت الانخراط الدبلوماسي مع العراق بعد قطع العلاقات الدبلوماسية منذ عام 1991. وعلى نحو مماثل، رحب المسؤولون الإيرانيون والجهات الفاعلة الإيرانية بالانفراجة إزاء بغداد باعتبار أنها تعكس إرادة سياسية من جانب الرياض لقبول نظام ما بعد حُكم صدام حسين في العراق والانخراط مع كيان سياسي يُنظر إليه كنظام يميل لطهران.
ثالثًا، في حين تظل المحادثات الإقليمية الأمنية في بغداد مستقلة عن المحادثات النووية في فيينا، من المؤكد أن هذين المسارين يتداخلان مع بعضهما البعض. أصرت إيران على تجميد القضايا الإقليمية عند تناول الملف النووي، ولكن ظلت دومًا على استعداد للتحاور بشأن شؤون المنطقة مع الأطراف الفاعلة الإقليمية. من شأن الطابع الإقليمي المحض لمحادثات بغداد أن يدعم موقف إيران خلال المفاوضات النووية مع مجموعة دول “4+1” (وفي تنافسها مع الولايات المتحدة على وجه التحديد)، لأنه من الناحية المثلى، ستكون السعودية والإمارات أقل اهتمامًا بممارسة الضغوط على المحادثات المرتبطة بخطة العمل الشاملة المشتركة، الأمر الذي سيسمح بإعادة إحياء الاتفاق النووي.
رابعًا، في ظل استمرار تجريم أي مبادلات تجارية مع إيران تحت طائلة العقوبات الشاملة المفروضة من الولايات المتحدة، فإن استكشاف آفاق جديدة للتعاون التجاري مع دول جوارها المباشر يشكل أهمية كبرى بالنسبة لإيران. وبالتالي، فإن معاودة الانخراط تدريجيًّا مع السعودية والإمارات قد يوسّع نطاق الخيارات المطروحة أمام إيران لفتح طُرق تجارية جديدة. وهذا أمر له أهمية لإيران، حتى لو رُفعت العقوبات كجزء من إعادة إحياء خطة العمل الشاملة المشتركة. ففي نهاية المطاف، الهدف الاستراتيجي الرئيسي بالنسبة لإيران هو الحدّ قدر الإمكان من مخاطر إعادة الزج بها في نفس نظام العقوبات من قِبل حكومة جديدة قد تُنتخب في واشنطن اعتبارًا من 2024 وما بعده. بمعنى آخر، في حين أن العودة إلى خطة العمل الشاملة المشتركة هو المسار الأسرع لرفع العقوبات، فإن تحسين الروابط الإقليمية يمكن أن يشكل خطوة واعدة نحو إبطال مفعول العقوبات، بحيث يتيح استكشاف خيارات جديدة للالتفاف على العقوبات.
خامسًا، من المرجح أن تسعى إيران أيضًا من خلال الانخراط مع السعودية إلى ثني الأخيرة عن تطبيع العلاقات مع إسرائيل بشكل رسمي. ففي إيران، تم بحث “اتفاقات أبراهام” بوصفها تهديد جيوستراتيجي محتمل، في ظل اقتراب سطوة الاستخبارات الإسرائيلية وقدراتها العملياتية المحتملة من الأراضي الإيرانية. ويُحتمل أن تسعى طهران إلى الاستفادة من التردد الملحوظ من جانب القيادة السعودية، واستغلال المشاعر المتولدة بعد التصعيد الأخير في غزة وحي الشيخ جرّاح في القدس لتعزيز فكرة ترتيبات إقليمية تستثني إسرائيل.
وأخيرًا، من المهم أن لا يغيب عن الأذهان أن إيران سوف تواصل النظر إلى المنطقة ضمن إطار خلافاتها مع الولايات المتحدة. وكلما زاد الاحتقان مع الولايات المتحدة كانت إيران أكثر ميلًا لتعزيز قدراتها الدفاعية سواء من خلال وسائل حرب غير متكافئة (كالاستثمار في حلفاء على الميدان، مثل جماعات مسلحة غير حكومية وقوات هجينة) أو من خلال تدابير رادعة (كبرنامج الصواريخ الباليستية). وإذا ما أُعيد إحياء خطة العمل الشاملة المشتركة، وانتهت الحملة الأمريكية المتمثلة في “ممارسة أقصى قدر من الضغط” برفع العقوبات، ستكون إيران أكثر استعدادًا للانخراط في محادثات توفيقية مع خصومها الإقليميين نتيجة استشعارها تهديد أقل من جانب الولايات المتحدة.
سيستمر وجود المسؤولين المنخرطين في محادثات بغداد عند تشكيل الحكومة الجديدة في طهران، بقيادة الرئيس المنتخب إبراهيم رئيسي. وليس هناك ما يدعو إلى الافتراض بأن رئيسي وطاقم حكومته سيعتمدون نهجًا مغايرًا للمسار المتبع حتى الآن في المحادثات. حين يتعلق الأمر بقضايا الأمن الإقليمي، فإن المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني هو الهيئة الحاسمة التي ترسم السياسات الأمنية للبلاد ــوكان رئيسي عضوًا في المجلس منذ عام 2019 كرئيس للسلطة القضائية، وسيتولى رئاسة المجلس قريبًا بحُكم منصبه كرئيس البلاد الجديد.
أكد رئيسي، خلال أول مؤتمر صحفي له بعد الانتخابات، أن العلاقات مع دول المنطقة ستحظى بأولوية رئيسية، وأنه لا يرى “أي عقبات” في استئناف العلاقات الدبلوماسية مع السعودية. هذه المؤشرات ليست جديدة، ولكنها تُبعث الآن بالتزامن مع مسار محادثات جادة جرى البدء فيها والأمل معقود في أن يتسنى توطيدها. هذا وتوحي الحوافز المتعددة بالنسبة لإيران، الملخصة آنفًا، باهتمام طهران على العمل في هذا المنحى.
هذا المقال جزء من سلسلة إصدارات لمركز صنعاء تفحص أدوار الجهات الحكومية وغير الحكومية الأجنبية الفاعلة في اليمن.