إصدارات الأخبار تحليلات تقرير اليمن أرشيف الإصدارات

قراءة لخبراء مركز صنعاء للضربات الأمريكية والبريطانية التي استهدفت مواقع للحوثيين في اليمن

Read this in English

في الساعات الأولى من فجر الجمعة، 12 يناير/كانون الثاني، شنّت الولايات المتحدة وبريطانيا ضربات جوية وصاروخية استهدفت مواقع للحوثيين داخل اليمن، عقب شهرين من سلسلة هجمات استهدف الحوثيون من خلالها السفن التجارية في البحر الأحمر مما أجبر شركات الشحن الكبرى على إعادة تغيير مسار سُفنها وتسبب في تعطيل جزء من حركة التجارة العالمية المنقولة بحراً والتهديد بموجة جديدة من تضخم الأسعار عالميًا. بحسب تقارير، يبدو أن الغارات الجوية ضربت أهدافًا في محافظات صنعاء، وصعدة، وحجة، والحديدة، وتعز، وأدت إلى مصرع خمسة أشخاص وإصابة ستة آخرين بحسب تصريح لسلطة الحوثيين التي تعهدت بمواصلة عملياتها في البحر الأحمر ما دامت الحرب الإسرائيلية مستمرة على غزة. من جانبها، وجّهت الولايات المتحدة أصابع الاتهام إلى إيران بتسخير الإمكانيات العسكرية والمعلومات الاستخباراتية للحوثيين في تنفيذ هذه الهجمات.

وجاءت الغارات الأمريكية-البريطانية (المدعومة عسكريًا من أستراليا، والبحرين، وكندا، وهولندا) في أعقاب تبني مجلس الأمن الدولي -هذا الأسبوع -قرارًا يطالب الحوثيين بالوقف الفوري لهجماتهم بالصواريخ والطائرات المسيّرة، علمًا أنها لم توقع خسائر بشرية حتى الآن. وعلى ضوء التطورات العسكرية الجديدة، أعربت السعودية -الحليف الأبرز للولايات المتحدة -في بيان عن “قلقها البالغ”، بلُغة تعكس رغبتها في عدم التورط أكثر في صراع قد يُهدد مشاريعها التنموية والاقتصادية. ويأتي التصعيد الأخير في خضم محادثات سعودية-حوثية مباشرة هدِفت إلى وقف الأعمال العدائية رسميًا بين الجانبين ووضع أساس لعملية سلام بين الأطراف اليمنية، وبالتالي، يُهدد التصعيد الأخير مصير ومستقبل محادثات السلام المنتظرة بترقب.



يقدم خبراء مركز صنعاء (عبد الغني الإرياني، وميساء شجاع الدين، وحسام ردمان، وماجد المذحجي، وبلقيس اللهبي) فيما يلي قراءاتهم لآخر التطورات وكيف لها أن تنعكس على مستقبل اليمن.


مقارنة بغارات التحالف الذي قادته السعودية على المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين في اليمن، استندت الضربات الأخيرة للتحالف الذي تقوده الولايات المتحدة غالبًا إلى معلومات استخباراتية أدقّ مما يجعلها ربما أكثر تأثيرًا، إلا أن سنوات من الغارات الجوية التي شنها التحالف بقيادة السعودية لم تترك وراءها الكثير من الخيارات في بنك الأهداف. فرغم تركيز الولايات المتحدة على استهداف أنظمة الرادارات وقاذفات الصواريخ المتنقلة، لن يعود ذلك بالمكاسب المأمولة حتى لو بلغ الأمر حدّ ضرب مستودعات الأسلحة المشتبه بها؛ كون مخابئ الأسلحة موزعة الآن في جميع أنحاء البلاد، بينما تتحصن القيادات الحوثية الأكبر والأبرز تحت الأرض.

وعلى غرار الانتصار الذي حققه الحوثيون بإطلاق أول صواريخهم باتجاه البحر الأحمر، سينتصرون مجددًا بصمودهم أمام الضربات الأولى للتحالف بقيادة الولايات المتحدة، بل ولا يستبعد أن يحتفوا بانتصارهم عبر إطلاق وابل من الصواريخ والطائرات المسيّرة تستهدف البوارج الأمريكية والبريطانية خلال الساعات والأيام القليلة المقبلة.

في هذه الأثناء، يراقب المعسكر المناهض للحوثيين في اليمن التطورات الحاصلة بذهول، لا سيما بعد أن قُوبلت بعض التصريحات المنتقدة للحوثيين في بداية عملياتهم الداعمة لفلسطين بانتقادات شديدة من قِبل الشعب اليمني -في موقف يُمكن اختزاله بمقولة شائعة: “أنا وأخي على ابن عمي، وانا وابن عمي على الغريب”. طالب المواطنون اليمنيون من كافة الأطياف المتحدثين باسم الجماعات المناهضة للحوثيين بأن “يغلقوا أفواههم”.

من جانبهم، أعرب السعوديون عن قلقهم البالغ إزاء التطورات الجارية وهو ما يعكس رغبتهم في المُضي قُدمًا في إعلان رسمي، برعايتهم ورعاية سلطنة عُمان، عن وقف الأعمال العدائية في اليمن، علمًا أن الرياض هي الطرف الوحيد الآن في الصراع الذي يتوق إلى الاحتفاء بهذا الإعلان من باب رغبتها في ضمان عدم استهداف الحوثيين للأراضي والأصول السعودية في حال توسّعت رقعة الصراع. لكن في جميع الأحوال، لم يعد الاتفاق المُرتقب -الذي بذلت السعودية في سبيله مفاوضات مضنية وقدمت سلسلة من التنازلات لانتزاع اعتراف من الحوثيين بدورها كوسيط عوضًا عن طرف في الصراع -في الأفق المنظور. أما بالنسبة للحوثيين المخمورين بالمكاسب السياسية الهائلة التي حققوها من تضامنهم مع فلسطين، فباب إعادة التفاوض سيبقى مفتوحًا حسب تلميحاتهم.


فقدت الضربات الأمريكية والبريطانية عُنصر المفاجأة كَونها شُنت بعد حملة إعلامية ودعائية طويلة ولا يستبعد أن يكون الحوثيون أعدوا عُدتهم لذلك، فالجماعة -في نهاية المطاف -لا تمتلك البنية التحتية العسكرية للجيوش التقليدية وتعتمد في هجماتها على منصات إطلاق صواريخ يُمكن تحريكها ونقلها بسهولة، فضلًا عن استخدام أسلحة رخيصة بات بمقدروهم الآن تصنيعها داخل اليمن وهو ما يستدعي طرح السؤال التالي: ما الهدف من وراء هذه الغارات الجوية؟ يتفق خبراء على أنها لن تقوّض القدرات العسكرية للحوثيين، وأفضل ما يمكنها تحقيقه هو ردع هجمات الحوثيين لفترة قصيرة، إلى حين تغيّر الوضع في غزة وفتح الباب أمام التفاوض. بأية حال، يبدو هذا السيناريو الأقل احتمالًا.

الأكيد أن هذه الضربات داخل اليمن ستُعقد الوضع في المنطقة لعدة أسباب: أولًا، هي لن تردع الحوثيين عن شن هجماتهم في البحر الأحمر، بل على النقيض، قد تتوسع هجماتهم الآن لتستهدف القواعد العسكرية الأمريكية في المنطقة ولا سيما في البحرين. ثانيًا، رفض التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة ربط الأحداث في البحر الأحمر بالحرب في غزة، لكن الواقع أن المسألتين مرتبطتان ببعضهما بشكل لا ينفصم. فالكراهية والغضب الإقليمي تجاه الولايات المتحدة نتيجة موقفها الداعم لإسرائيل في حرب الأخيرة على غزة بلغ مستوى غير مسبوق، وبالتالي سيعزز الهجوم العسكري المباشر ضد الحوثيين من شعبيتهم ونفوذهم. ثالثًا، تشكّل الغارات داخل اليمن عقبة أخرى أمام مساعي وقف الحرب الدائرة منذ تسع سنوات، وستؤجل إلى أجل غير مسمى الاتفاق السعودي-الحوثي المرتقب لوقف إطلاق النار بشكل دائم. هذا بحد ذاته يخدم الحملة الدعائية للحوثيين، ويعزز فرصهم لتجنيد المزيد من الأفراد إلى جانب توفير غطاء من الشرعية افتقرتها الجماعة منذ إبرام الهدنة في أبريل/نيسان 2022 والتي بموجبها توقفت الغارات السعودية وأفسحت المجال أمام تنامي المعارضة المحلية ضد الجماعة بسبب الفساد وسوء الإدارة تحت سلطتهم. رابعًا، يعاني اليمن أساسًا من ظروف إنسانية واقتصادية صعبة، وفي حال توسّع نطاق العمليات العسكرية وإغلاق ميناء الحديدة، فسيعني ذلك تفاقم الوضع الإنساني لا محالة.

وأخيرًا، فقدت الولايات المتحدة ثقة حلفاء لها في المنطقة كالسعودية، سواء بسبب موقفها الداعم لإسرائيل خلال حرب غزة أو بسبب تراجعها وتغيير موقفها إزاء التدخل السعودي في حرب اليمن. لن ينسى السعوديون والإماراتيون بأن الولايات المتحدة أوقفت تحركهم العسكري لانتزاع الحديدة من يد الحوثيين عام 2018، وبالتالي، هذه الضربات الأمريكية ما هي سوى دليل آخر على سياسة أمريكية تفتقر لبُعد النظر بالنسبة للوضع في المنطقة، وخاصة في اليمن.


للهجمات العسكرية التي تقودها الولايات المتحدة في اليمن ثلاثة أهداف حسبما يبدو: أولًا، ترسيخ موطئ قدم عسكرية للولايات المتحدة في البحر الأحمر وبشكل رسمي، وهي خطوة عملت عليها منذ عام 2022. ثانيًا، قطع شوط لاستعادة شكل من أشكال الردع الأمريكي الاستراتيجي في المنطقة ضد شبكة حلفاء إيران الإقليميين، في أعقاب سلسلة من الضربات استهدفت الجماعات المدعومة من إيران في العراق. ثالثًا، تغيير قواعد الاشتباك في البحر الأحمر مجددًا بحيث يَتبع كل هجوم يشنه الحوثيون في البحر الاحمر ردّ أمريكي على الأرض.

من الواضح أن الهجمات الأمريكية جاءت بمثابة هبة للحوثيين لنيل الاعتراف وإضفاء نوع من الشرعية على سلطتهم، وحتى كتابة هذه السطور، لا توجد معلومات دقيقة عن حجم الأضرار التي خلفتها الغارات الأمريكية في ظل سعي كلا الجانبين إلى الترويج لها وفق ما يخدم أهدافهما الدعائية. من جهة أخرى، نأت السعودية بنفسها رسميًا عن الغارات الأخيرة، لكن زيارة وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن إلى السعودية قبل بضعة أيام فقط واجتماعه بولي العهد محمد بن سلمان تشير إلى أن الرياض كانت على عِلم مسبق، بل وأعطت موافقة ضمنية على الأقل لشنّ رد أمريكي متناسب.

في جميع الأحوال ومن هذه النقطة، من المرجح أن تتجه الأمور نحو التصعيد تدريجيًا حيث ستنخرط الولايات المتحدة والحوثيون في تبادل هجمات ضد بعضهما على نطاق محدود وأحيانًا استعراضية إلى حد كبير، بغية الحفاظ على هيبتهما وبعث رسائل سياسية. من ناحية أخرى، قد يُصعّد الحوثيون هجماتهم ضد أهداف غربية عمومًا لاستدراج واشنطن للردّ بصورة أعنف. هناك أيضًا احتمال قائم بأن تشارك القوات الموالية للحكومة الشرعية في اليمن في إطار الجهود التي تقودها الولايات المتحدة، بغية الضغط على الحوثيين.

في غضون كل ما يجري من تطورات، يمكن القول بأن الولايات المتحدة استعادت شكل من أشكال الردع في المنطقة عبر تشكيلها تحالف لحماية ممر الشحن في البحر الأحمر للتحرّك متى اقتضت الحاجة، وربّما على غرار عمليات حلف الناتو في سوريا والعراق التي استهدفت تنظيم الدولة الإسلامية. أما سؤال ما إذا كان هذا سيقوّض أو يعزز نشاط جماعة الحوثيين، فهذه مسألة أخرى.


نشهد اليوم تحولًا في الميدان وفى أبعاد حرب اليمن، مع تلاشي الخط الرفيع الفاصل الذي كان يحول دون اشتباك الولايات المتحدة والحوثيين، لكن النطاق المحدود للغارات الجوية يشير إلى أنها هدفت لبعث رسائل ردع مفادها أن الجيش الأمريكي قادر على تحديد المواقع واستهدافها والوصول إليها في جميع أنحاء اليمن، وهو ما يقوّض القدرات العسكرية للحوثيين ويُعد شكلًا أكثر حدّة من أشكال الدبلوماسية.

يظهر أن جماعة الحوثيين ملتزمة بمواصلة عملياتها المعطّلة لحركة السفن التجارية في البحر الأحمر كوسيلة للضغط على إسرائيل والغرب لإنهاء الهجوم العسكري على غزة، وقد يأتي رد فعلها على الغارات الجوية الأخيرة باستهداف البوارج الأمريكية والبريطانية في البحر الأحمر. وتبعًا لنطاق الرد الأمريكي على ذلك، قد تتوسع الهجمات الحوثية لتشمل استهداف أصول أمريكية أكثر حساسية في منطقة الخليج كالقواعد العسكرية، فالمعركة الجديدة لها أهميتها السياسية والرمزية للحوثيين وسيستغلون خطابهم العسكري المعتاد وسردياتهم الأيديولوجية لمواجهة العدو الأكبر -أي الولايات المتحدة. الأهم من هذا أن المواجهة الجديدة تمنح الحوثيين غطاءً لمواصلة حربهم داخليًا وإعادة استغلال المجتمع ودفعه إلى حلقة جديدة من الصراع يُرسخون معه قبضتهم ويضمنون إدامة سلطتهم بطبيعتها الحالية. المختلف هذه المرة هو أن الحوثيين سيحظون بدعم شعبي متزايد لهم في جميع أنحاء المنطقة.

بالعودة إلى النطاق المحدود للضربات الأمريكية، قد يشير ذلك إلى أن واشنطن ستمتنع عن الخوض في مغامرة عسكرية واسعة في اليمن استجابة للمخاوف من أن تُهدِر الفرص الهشة لتحقيق السلام في البلاد حال توسّع الحملة العسكرية. للوقت الحاضر، قد تزعم الولايات المتحدة ببساطة استعادة الردع الاستراتيجي في جنوب البحر الأحمر، لكن بدلًا من أن تكون لها الكلمة الأخيرة، ستفتح هذه الغارات على الأرجح الباب أمام تحولات جديدة في منطقة مضطربة ولن تضع حدًا لعسكرة البحر الأحمر ومضيق باب المندب.

قد يتشاور الحوثيون عن كثب مع حلفائهم الإيرانيين لتحديد طبيعة ردّهم العسكري والسياسي على الغارات الأخيرة، لكن لا ينبغي نسيان أن المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة وبريطانيا تتجذر في الخطاب الأيديولوجي للجماعة وفي هويتها التأسيسية، حسبما ما أثبته خطاب زعيم الجماعة عبدالملك الحوثي الذي قال بصراحة ووضوح إنهم لن يترددوا في خوض المعركة.


التدخل العسكري الأمريكي ليس بالخبر الجيد إطلاقًا في ظل وجود مخاوف حقيقية من أن تشكل حاضنة لنمو واستفحال الحركات الأيديولوجية المسلحة في اليمن. كانت الولايات المتحدة، قبل الغارات الجوية الأخيرة، تنتهج سياسية التدخل من بعيد وبصورة جزئية في اليمن، بما يكفي لدعم الحرب التي تقودها السعودية، إلا أن تلك السياسية لم تكن كافية بنفس القدر لمساعدة الحكومة المعترف بها دوليًا على تحقيق هدفها الأساسي المتمثل في استعادة صنعاء. ومن قبيل المفارقة أن التدخل الأمريكي المباشر في اليمن سيعمل على تقوية عظم جماعة الحوثيين (أنصار الله) على حساب الأطراف اليمنية الأخرى.

قد تكون واشنطن مدركة لهذا الواقع، إلا أن التحرك العسكري جاء بعد نفاد الصبر إزاء تعطيل الحوثيين لحركة السفن التجارية في البحر الأحمر والمضايقات التي تسببت بها في خضم الحرب الإسرائيلية المدعومة من الولايات المتحدة في غزة.

كل التجارب السابقة للتدخلات العسكرية الأميركية المباشرة لا تنذر بالخير، فأحد نتائج تدخلها العسكري في أفغانستان لمحاربة حركة طالبان وتنظيم القاعدة كان تشظي البلاد نتيجة افتقارها (أي الولايات المتحدة) للمعرفة المحلية الجيدة بطبيعة تلك الجماعات. في حالة اليمن، لن تردع هذه الضربات جماعة الحوثيين، بل قد تعزز شعبيتهم حتى في المناطق الواقعة خارج نطاق سيطرتها، بما في ذلك لدى معارضيها الذين أُعجبوا فعلًا بإبداء الجماعة استعدادها لخوض هذه المعركة نُصرة لفلسطين.

لكن على الأرض، سيدفع الرجال والنساء والأطفال اليمنيين الثمن الأغلى لتهور الحوثيين في ظل استمرار النزاعات الداخلية في البلاد والتي قد تصبح أكثر تعقيدًا. كنا شاهدين في السنوات الأخيرة على تعمّق معاناة المواطنين اليمنيين العاديين وتآكل الحقوق والحريات في غياهب الحرب وأعمال العنف الممنهجة والعشوائية، والتي غالبًا ما دفع ثمنها النساء والفتيات كضحايا.

مشاركة