لماذا تبدو الحرب بالنسبة للبعض منطقية في عمران وغريبة في عدن أو تعز؟ لماذا تتعافى مدن كعدن من الحرب أسرع من غيرها، ويتسابق الشباب على عجل إلى تنظيف الشوارع وإعادة دورة الحياة؟ لماذا تنتهي الحروب بسرعة في مناطق كتعز وإب، بينما لا تنتهي إلا لتبدأ من جديد حول صنعاء؟ لا علاقة للأمر بالخير والشر، بل هو الاقتصاد بدرجة أساسية.
يغرق شمال الشمال القبلي في اقتصاد الحرب، وتُعرّف قبائله كـ “حربية” ومحاربة، وهي التي تنمو وتزدهر بفضل النزاعات، على عكس القبائل الفلاحية ( الممتدة على الأغلب في وسط اليمن وجنوبه) والتي تعتمد على الزراعة في اقتصادها. بمعنى آخر، الحرب في تعز تعطيل لاقتصاد المزرعة وحياة المزارعين، بينما انتهاء الحرب في منطقة كعمران، هو حضور للبطالة وانتهاء للحال “الطبيعي”.
من التسطيح القبول بالتفسير المعلب والمتعالي، المنحصر بقياس ارتفاع نسبة التعليم في الجنوب والوسط مقابل ارتفاع معدلات الأمية والجهل في شمال الشمال، أو القول أن الجنوب خضع لنظام “شيوعي” لسنوات.. علماً أن أجنحة النظام المذكور في الجنوب خاضت حربا دموية بشعة بمعطيات قبلية مناطقية في كانون الثاني/ يناير1986. وعلى ذلك وعلى الرغم من التباسات كثيرة، فقد أمكن ولو بحدود لا يمكن تجاهلها، تحويل قبائل يافع الجنوبية مثلا التي كان نمط حياتها قريبا من قبائل شمال الشمال، وخاضت حروبا وصلت إلى حضرموت شرقا، إلى الزراعة والصناعة.
الملكة أروى
في العصر الوسيط (القرن الخامس الهجري)، حكمت اليمن لخمسة عقود الملكة أروى بنت أحمد الصليحي. وهي من الأقلية الدينية الإسماعيلية، وقد عُرفت بامتلاكها للفقه الديني (كانت تفتي وفق المذاهب الأربعة) وبمقدراتها السياسية. وحينما أرادت إقناع زوجها بنقل العاصمة من صنعاء إلى جبلة (محافظة إب، أحدى أخصب مناطق اليمن)، قالت له مقولتها الشهيرة : “هنا (جبلة) العيش أي الخبز، وهناك (صنعاء) الجيش”. كانت الملكة أروى عارفة بتنوع وتعدد سكان مملكتها وجغرافيتهم واقتصادهم، فلاحظت بعين انثروبولوجية واقتصادية، أن أهل صنعاء حين حضروا للقائها، كانوا يحملون سيوفا وخناجر وما شابه من أدوات القتال حينها.
أما في جبلة، فحضر بعضهم وبيده منجل أو ماعز أو وعاء سمن. يدل هذا أيضا على أن نزعة الحرب كانت قائمة منذ ذلك الحين، وهي استمرت كإرث ناتج عن سياسات حكام الدول الزيدية المتعاقبة، منذ قدوم الإمام يحيى بن الحسين الرسي من الحجاز (282 هجرية) لاستنفار المواطنين في صعدة مقدّما لهم دوافع دينية لقتال من حولهم، تأسيسا لدولته التي فرش أرضها بأطروحات المذهب الزيدي كما عدّله، وبجثث ضحايا حروبه التوسعية. القتال إذاً ثقافة لم تصنعها ظروف الحاضر بل كرسها وعززها تاريخ طويل من غياب أي اقتصاد غير حربي للسلطات المتعاقبة.
ثقافة المحارب
تتميز مناطق الشمال اليمني القبلي الممتدة بين ذمار (جنوب صنعاء) وصعدة المحاذية للسعودية شمالا، بطبيعها الحربية واستعدادها للقتال، وانتشار الثأر فيها.. وقلة الأمطار. وهي عوامل جعلت من القتال الوسيلة الوحيدة لكسب المال، وذلك منذ الدولة الزيدية التي استمرت من القرن التاسع الميلادي إلى منتصف القرن العشرين، ولو بتقطع وتفاوت في الامتداد، حيث كانت تعتمد على قبائل الشمال كمورد بشري للقتال في ظل عدم وجود جيش نظامي كبير يغطي حاجتها للتوسع والحروب المستمرة مع خصومها، أو بين المتنافسين على الحكم من زعمائها. وقد استمر هذا الوضع حتى ثورة أيلول/ سبتمبر 1962 التي أنهت عهد آخر حاكم ينحدر من سلالة الأئمة هؤلاء.
وعند قيام ثورة 1962، توافد كثير من أبناء قبائل الشمال للمشاركة في حروب الثورة (سواء معها أو ضدها)، ليس كأفراد متطوعين وإنما كجماعات تتبع شيوخها القبليين، وتَكوّن جيش قبلي (ميليشيا) يقاتل مع الجمهورية، ويشبه بتركيبته ما كان يسمى بـ “الجيش البراني” أي ما كان يستخدمه الإمام لتأديب القبائل المتمردة. وكان الوافدون ينضوون تحت قيادة شيوخ القبائل وليس القادة العسكريين المحترفين. وكان هؤلاء الشيوخ يمارسون مقاولات الحرب، فتصرف لهم الدولة المال والسلاح لتحرير منطقة بعينها، وتعتمد لهم موازنة مالية بيد شيوخهم. ولهذا ظل ولاء الناس لشيخ القبيلة مقدما على أي ولاء آخر، لأن عجلة “الاقتصاد” مرتبطة به. ولم يتوقف هذا السلوك بعد الثورة، بل قامت الدولة بتكريسه عن طريق حشدها لرجال هذه القبائل في حروبها الداخلية المتعددة، ابتداء من الحرب الشَطْرية بين الشمال والجنوب (1972) ومرورا بحرب المناطق الوسطى (الجبهة) نهاية
السبعينات وبداية الثمانينات من القرن الماضي، وحرب صيف 1994، ثم حروب صعدة الست ضد الحوثيين (2004 -2009) وانتهاء بالحرب الحالية الدائرة في اليمن. فمعظم مسلحي جماعة الحوثي الذين يحاربون معها ينحدرون من هذه البيئة القبلية.
نسبة الفقر على المستوى الفردي في محافظة كعمران (دارت فيها حروب متعاقبة في السنوات الماضية) هي (بناء على تقرير للبنك الدولي لعام 2007) أعلى من تلك التي في محافظة الحُدَيدة الخالية من القبائل أصلا. لقد سمح هذا الفقر المدقع وغياب المدارس وأي فرص للحياة في وسط هذه المناطق (عمدا من قبل السلطة والمشايخ) بالتحكم بمصير الأفراد، وحضّرهم ليكونوا وقود حروبهم حتى الآن.
كما تتشابه القبيلة وأعرافها وتركيبتها في محافظات كالبيضاء بمحافظة عمران في شمال الشمال. لكن قبائل البيضاء لم تحارب خارج جغرافيتها قط ــ على عكس قبائل شمال الشمال ــ وسبب ذلك بشكل كبير هو أن البيضاء إحدى أعلى المحافظات اليمنية استقبالا للحوالات المالية من الخارج، فأصبح اقتصاد القبائل هناك يعتمد بشكل أساسي على أموال المغتربين من أبنائها بدلا من الحروب كما كان في السابق.
أدت مأسسة الحرب والعنف (بل وتقديسهما في أحيان كثيرة) من قبل السلطة والقادة المحليين في هذه المناطق إلى جعل العمل بأي حرفة مَنْقصة وعيباً. وبالمقابل، لا يعاب كثيرا سلوك قطع الطريق على العابرين. وكان هذا ربما وراء انتشار الأقليات اليهودية في القرى الواقعة على الطرق العامة لمناطق الشمال (هاجر أغلبها إلى إسرائيل في “عملية بساط الريح” الشهيرة 1948)، لأنها تميزت بممارسة الأعمال الحرفية التي لا يجيدها رجال القبائل ولا يعملون فيها باعتبارها مهانة للقبلي وتحقيرا اجتماعيا له.
هذه الشروط الصعبة للانتماء للقبيلة شمالا، دفعت بالكثير من أبناء تلك القبائل للهجرة باتجاه مناطق وسط اليمن في قرون مختلفة. ويلاحظ انتشار كثير من الأسر المنحدرة من بكيل وحاشد (قبائل الشمال الكبرى) في محافظة إب وسط البلاد حتى اليوم، لكن ليس هناك من هجرة معاكسة من الوسط إلى الشمال بشكل كثيف أو جماعي، بل بدأ (بعد 1962) يفد المعلمون قادمين من مناطق اليمن الوسطى حيث الكثافة السكانية الأعلى.
هذه الشروط الصعبة للانتماء للقبيلة شمالا، والتي تتطلب من ضمن ما تتطلبه الكثير من الغُرم القبلي ( التكاتف في السراء والضراء) وشراء السلاح، لا توفرها الوظيفة العامة التي ظلت هدفا مباشرا للتعليم، فأدت أيضا إلى عزوف أبناء القبائل عنه.
في أواخر التسعينات وبداية الألفية، كان الاستقرار قد عمّ اليمن. وبدأت بعض قبائل الصحراء، كمأرب، التعامل مع اقتصاد جديد متخفف من السلاح، فترى الجامعات امتلأت بأبناء تلك المناطق ومال العديد منهم لدراسة الآثار مثلا، أملاً في الحصول على عمل كدليل سياحي في محافظتهم المليئة بها… لكن تلك الرغبة بالتخلي عن السلاح ، اصطدمت بحروب خلت فيها اليمن من الآثار والسياح معا، مما اعاد أبناء القبائل إلى أسلحتهم.
ثقافة الفلاح
على عكس الجغرافيا الجافة في شمال الشمال (باستثناء صعدة)، تنتشر بكثافة في مناطق وسط وغرب اليمن الزراعة، وتهطل الأمطار بمعدلات أعلى من المناطق الأخرى، وتغيب المشاكل والنزاعات وتخف نسب المجندين في الجيش، ويحل السكان خلافاتهم ( النادرة أصلا)، عن طريق التقاضي غالبا وليس الثارات، ويلتحقون بالمدارس بمعدلات مرتفعة مقارنة بمناطق الشمال. كما أن نسبة كبيرة منهم تحولوا إلى الاغتراب بحثا عن فرص للعمل عندما أصبحت الزراعة لا تلبي احتياجاتهم مع التزايد في عدد السكان وتناقص نصيب كل فرد من الأرض المزروعة. في مثال شديد الدلالة بالنسبة للفلاحين في اغلب هذه
المناطق، فإن مواسم الزراعة مقدسة، ولا يحارب الفلاح (إن اقتضى الأمر) إلا في فصل الشتاء. وتمثل الحرب في نظره مشكلة وعائقا، لأن اقتصاده مبني على أعمدة من الاستقرار والسلام.
وفي هذه المناطق الوسطى والغربية نشأت كثير من دول التاريخ الإسلامي الوسيط التي اشتهرت بمشاريعها الإنمائية كالدولة الصليحية، أو بمنشآتها التعليمية والدينية كالدولتين الرسولية والطاهرية، التي كرست في مراحل استقرارها ثقافة العمل والتعلم والإنتاج، بعكس الدول الزيدية المتعاقبة التي كانت هيمنتها على الشمال أكثر استمرارية وسطوة، الى ان توج الامر بعهد علي عبد الله صالح الذي كرست سلطته ثقافة الحرب والقتال كأحد أهم معالم حكمها.
وفي 1967، حين توافد أبناء المناطق الوسطى خصوصاً، ومن تهامة، إلى صنعاء، لنصرة ثورة 1962 التي كانت قد غرقت في الحرب الأهلية لأسباب عدة منها التدخلات الإقليمية، قدموا كأفراد وليس كجماعات تحت مظلة شيوخ القبيلة. وبعد انتهاء الحرب (1968) عادوا إلى مناطقهم لممارسة أعمال أخرى زراعية أو تجارية أو يدوية. وبالطبع حينها، ساعد على كسر سطوة الشيوخ انتشار كبير للمد اليساري والقومي في هذه المناطق، وهو ما حَدّ من ثقافة الاحتكام للشيخ لصالح التعامل مع أجهزة الدولة، وشجع على الالتحاق بالتعليم بشكل كبير، وعلى انتشار مبدأ العمل التعاوني كشريك/بديل للدولة في تنمية المناطق.
وفي مناطق الوسط تلك لا تحقر المهن والحرف اليدوية، بل يُنعت حامل السلاح بـ “المُدبر” أي جالب المشاكل، ولهذا فسرعان ما وضع من شارك من أبنائها في الدفاع عن الثورة سلاحه وتوجه للحياة بمعزل عنه. ولأن مناطقهم لم تكن مواطن حرب، فهم قاموا بمناصرة الثورة جماعيا، على عكس قبائل الشمال والشرق التي انقسمت بين طرفي القتال.
المتغيرات
بعد دخول اليمن في حروب متعاقبة منذ سيطرة الحوثيين على السلطة في صنعاء (أيلول/سبتمبر 2014)، بدأ القتال في مناطق الوسط بالتصاعد والازدهار على حساب أي نشاط اقتصادي آخر، وبواقع كارثي، إذ راح يتخذ طابعا طائفيا بالضد من الطابع الطائفي الزيدي، بينما هو في الأصل مؤسس على جذر مناطقي أو جهوي. ومع ذلك، فلم يتمدد القتال بشكل واسع في المناطق الزراعية، ولا زال مركّزا في المدن الرئيسية كعدن وتعز، المتشابهة ثقافياً وفكرياً، والتي تتشارك المأساة التي خلفها اجتياح جماعة الحوثيين للمحافظات بقوة السلاح وبمقاتلين ينحدرون غالبا من شمال الشمال.
لم يستطع الفلاح نقل ثقافته وطابع حياته السلمي المنتِج باتجاه الشمال، ربما لأسباب كثيرة منها الجغرافيا والطبيعة، ولكن اهم من تلك، لغياب رغبة السلطات المتعاقبة في تحويل اهتمامها نحو أي شيء غير الحرب. فحتى في العام 2007، حينما أراد علي عبد الله صالح رشوة القبائل إعداداً لاستلام إبنه احمد للسلطة ، قام بالاعلان عن إعادة الخدمة الإلزامية العسكرية (لم تُفعَّل). وكانت الحروب المتعاقبة منذ 2004 قد حولت صعدة، التي كانت أجمل وأخصب محافظات شمال الشمال، والمعروفة بألذ أنواع الرمان والعنب في العالم، إلى عاصمة للقنابل العنقودية. وبدلا من صعود رأسمال المزارعين هناك، صعد نجم أشهر تجار السلاح في اليمن وفي القرن الأفريقي..
مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية هو مركز أبحاث مستقل يسعى إلى إحداث فارق عبر الإنتاج المعرفي، مع تركيز خاص على اليمن والإقليم المجاور. تغطي إصدارات وبرامج المركز، المتوفرة باللغتين العربية والإنجليزية، التطورات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية، بهدف التأثير على السياسات المحلية والإقليمية والدولية.