في 26 مارس 2015، أعلنت المملكة العربية السعودية بدء عمليات حربية في أراضي الجمهورية اليمنية، ضمن عملية أسمتها عاصفة الحزم، وذلك بغرض استعادة الحكم للشرعية الدستورية ممثلة بالرئيس هادي من يد جماعة الحوثيين التي تحالفت مع الرئيس الأسبق علي عبدالله صالح وانقلبت بالقوة على المسار التوافقي الحاكم لليمن خلال المرحلة الانتقالية التي شهدها بعد 2011.
فعلياً، لا يمكن تأريخ الحرب اليمنية اقتصاراً على توقيت إعلان السعودية لـ “عاصفة الحزم”، فالأمور كانت قد تحولت دراماتيكياً حين كسرت جماعة الحوثيين كافة التوقعات، وقامت باقتحام العاصمة اليمنية صنعاء في 21 سبتمبر2014، معلنة بذلك التصرف العنيف نقل الأزمات في اليمن إلى مستوى غير مسبوق، لم تشهده اليمن بالمعنى الفعلي منذ حرب صيف 1994.
إنّ حدثا استثنائيا، مثل إسقاط العاصمة اليمنية بيد طرف مثل الحوثيين، لم يكن شأنا ذا تفاعلات محلية فقط -على أهميتها- بل يقع في قلب الاستقطاب وصراع المحاور الإقليمي النشط بين القوتيين الأبرز، السعودية وإيران، ونقل الوضع إلى مستوى تهديد غير مسبوق للسعودية بتمدد النفوذ الإيراني في ما تعتبره حديقتها الخلفية، ولذلك فالتدخل السعودي كان متوقعاً للغاية بسبب انعكاس هذا التطور الخطير على أمنها القومي، لتتعزز ضرورات هذا التدخل، حين قام الحوثيون بتنظيم مناورة عسكرية على حدودها الجنوبية أفصح مضمونها بأن الخطر الإيراني صار في خاصرة السعودية الرخوة، أكثر من كونها مغامرة لجماعة طائشة.
عن عام من الحرب
بعد عام من وقوع أول غارة جوية سعودية على مطار صنعاء إيذاناً بالحرب، تحوّلت خارطة القوى في اليمن بشكل ملحوظ، فجماعة الحوثيين وصالح تراجعت كثيراً من مناطق سيطرتها الواسعة التي كانت تمتد إلى عدن وأبين وشبوه جنوباً، وهي وإن كانت تُحكم سيطرتها على الكتلة الأساسية من الشمال اليمني، باستثناء مأرب، بينما تتنازع السيطرة على الجوف وتعز مع المقاومة والقوات الموالية لهادي والمدعومة سعودياً، فإن وضعها ليس جيداً بسبب الضغط العسكري عليها، والذي وصل إلى مستوى خطير بتمدد الموالين للشرعية إلى منطقة نهِم الإستراتيجية المسيطرة على المدخل الشمالي الشرقي للعاصمة صنعاء.
لكن، على خلفية هذه التحولات التي لا تبدوا في صالح الحوثيين وصالح، يبدو المشهد أكثر تعقيداً، فالوصول إلى الهدف السعودي يتحقق بكسر جماعة الحوثيين بإسقاط صنعاء وليس حتى بتصفيتهم في مركزهم بصعدة ما زال غير متناول باليد. وخلال عام كامل استغرقته السعودية في التحالف الواسع الذي تقوده والإمكانات التي لديها لتحقيق النتائج القائمة الآن، لا يمكن وصف ما نتج عنه إلا أنه تقدم بطيء للغاية، ويفصح عن الفشل أكثر من الإنجاز، وإضافة لذلك ما زالت جماعة الحوثيين وصالح قادرين على التماسك بشكل لافت، والتوجه بضربات عسكرية، والتمسك بقتال عنيف في قلب مناطق يُفترض أنها غير حاضنة لهم. كما أنّ قاعدتهم الاجتماعية متماسكة نسبياً ولم يحدث اختراق فعّال في قلب التحالفات القبلية والسياسية الداعمة لهم في المناطق السياسية بشكل يكشف ظهرهم. كل ذلك يقول أنّ فشل الإستراتيجية العسكرية السعودية في إدارة المعركة مع الحوثيين قد تزامن مع فشلٍ في قدرتهم على الاختراق السياسي والاجتماعي، وتفكيك تحالفاتهم في قلب مناطق الشمال اليمني التي لطالما كانت ملعباً تقليدياً للنفوذ السعودي.
إنّ وضع الحوثيين وصالح ليس أفضل بالتأكيد مما كانوا عليه قبل عام، ولكن مساحة حركتهم وقدرتهم على التماسك تعتمد بالأساس على الفشل المقابل لدى الشرعية، والسعودية من ورائها، وعدم امتلاكها مشروع وطني يتعدى شعار استعادة الشرعية الذي أصبح شعار الضرورة الجامع لأطراف متناقضة لا يوحّدها شيء سوى الخصومة للحوثيين وصالح.
بالتأكيد تجدر الإشارة أيضاً إلى فعالية الرئيس السابق صالح، ومهارته في إدارة الأزمات والاقتيات من الصراع والحروب، كجزء من خبرة الحكم الطويلة لديه والذي اُدير بهذه الطريقة، واستطاع عبرها مراكمة أوراق نفوذ مهمة على مدى حكمه الذي استمر أكثر من ثلاث عقود في قلب مختلف مراكز القوى الأساسية في البلد. كما أنشأ شبكة مصالح عميقة ومتشعبة تعتمد عليه في مركزها كضامن لها ولم يستطع خصومه النفاذ إليها وتفكيكها، إضافة بالطبع لاستثماره والحوثيين لمخاوف كتلة كبيرة من سكان “الشمال”، مما يبدو سلوك هادي والشرعية المعادي له مطلقاً تحت عنوان التقسيم الفيدرالي، مع عدم قدرة الآخرين على طمأنة هؤلاء اليمنيين شمالاً بأنّ المعركة ليست ضدهم، والتأكيد على أن أي مشاريع إصلاحية للدولة اليمنية مختلف عليها حالياً، لا تستهدف مصالحهم بل تضمنها، وأن ما يُعلن ليس نهائياً بل قابل للنقاش والتفاوض، بما يحقق المصالح المشتركة لكل اليمنيين، وبما يكفل فصل مخاوفهم من أنْ تتطابق مع الحوثيين وصالح كما يبدو الحال الآن في جزء كبير منه.
ماذا أحدثت الحرب؟
لا تبدو الصورة مبشرة للغاية في اليمن بعد عام من الحرب، فمغامرة الحوثيين العسكرية في أرجاء اليمن، بعد إسقاطهم صنعاء، استظهرت بشكل غير مسبوق حساسيات اجتماعية خطيرة، وأدّت إلى إحياء المجموعات الأهلية لتعريفاتها الطائفية والمناطقية والجهوية بشكل غير مسبوق، فالتعريف الطائفي والجهوي للحوثيين عنصر تفجير لمخزون من المخاوف الأهلية الراسخة في عقود طويلة من الصراعات السياسية، بل وإنها استدعت ما هو أقدم من ذلك، ويقع في قلب تعقيدات العلاقات بين اليمنيين خلال التاريخ الحديث لهم، ويُعزز هذا الوضع الخطير بأنْ تتسلل إلى محركات الانقسام الأهلي الحاد في اليمن أصداء التهييج الطائفي الذي تشهده المنطقة على قاعدة الانقسام السني والشيعي.
وإلى جوار صعود الهويات الصغيرة تبدو السمة الأساسية هي تفتت مجال السياسية في اليمن، و”تملشن” الفضاء العام، فالحرب تغير المجتمع بشكل عنيف، واستمرارها ينتج دورة حياة مختلفة تستفيد منها الميليشيات على حساب الفاعلين السياسيين التقليدين، من الأحزاب والقوى المدنية[1]. يمكن الملاحظة بسهولة بعد عام من الحرب كيف انخفض الدور السياسي للأحزاب حتى التلاشي، حيث أدّت الحرب إلى تفكيك مجال فعاليتها في المجتمع، حيث يتصدر المقاتلون لا النشطاء السياسون، وتبرز الميليشيات لا فروع الأحزاب، وحتى مسارات التفاوض السياسي المحدودة المعلنة مغلقة على التقدير السعودي من جهة، وعلى الجانب الحوثي من جهة أخرى، بينما يستبعد ممثلو الأحزاب السياسية وتقديراتهم ومبادراتهم ما لم تكن تتطابق مع قطبي النزاع.
اقتسام كارثي لمناطق السيطرة
بالتوازي مع انقسام الجغرافيا اليمنية على مناطق سيطرة خاضعة لسلطة الطرفين، يبدو مشهد هذه المناطق كارثياً على أكثر من صعيد، فالمناطق التي تقطع تحت سيطرة الحوثيين، وعلى رأسها العاصمة صنعاء، تشهد فشلاً ذريعاً على كافة الأصعدة الخدمية. كما وينتعش فيها اقتصاد الحرب والسوق السوداء برعاية الحوثيين. ويتفكك الجهاز العام للدولة فيها لصالح سلطات الميليشيا التي تتذرع بمواجهة “العدوان” للتنصل من مسؤوليتها كسلطة أمر واقع. هذا علاوة على بيئة الانتهاكات الاستثنائية لحقوق الإنسان، التي أشاعتها ممارستهم الأمنية وإطباقهم بأجواء رعب أمنية تُذكّر بأكثر الفترات سوداوية في تاريخ البلد.
في المقابل، لا تبدو المناطق المحررة من سيطرة الحوثيين، والخاضعة للشرعية، وعلى رأسها عدن، أفضل حال بكثير، فـالفشل الأمني الكارثي هو تعريف أوضاعها اليومية، وتتقاسم السلطة على الأرض مجموعات مقاتلي المقاومة مع الجماعات المتطرفة، وتتكرر حوادث الاغتيال والاختطاف بأشكالها السياسية والجنائية بشكل يومي، وحتى وإن توفرت الخدمات الأساسية بشكل أفضل نسبياً من مناطق الحوثيين، إلاّ أن انعدام الأمن يقوض أي مكاسب أخرى، وتبدو مدينة عدن ذاهبة إلى المصير ذاته الذي شهدته بغداد عقب احتلالها من طرف القوات الأمريكية، فهناك تعايش مخيف مع العمليات الانتحارية بسيارات أو أفراد مفخخين التي لم تعد تثير الانتباه إلاّ إذا تعدى معدل الضحايا العشرات.
في خضم ذلك ، يتعقد يتعقد الوضع الإنساني بشكل عميق في المناطق التي تشهد عمليات اقتتال، وخصوصاً في مدينة تعز التي تشهد حصاراً لاإنسانياً من جماعة الحوثيين، وقصفاً يوقع ضحايا متكررين بين المدنيين، علاوة على الدمار الهائل الذي عرفته المدينة بسبب كثافة الاشتباكات فيها.
كما ترزح محافظة صعدة تحت وطأة إغلاقها كمنطقة عسكرية من قبل القوات السعودية بشكل مخالف للقانون الدولي الإنساني، فتقوم بحظر للحركة من خلال الطيران لكل أشكال الحياة فيها، وبشكل لا يميز بين الأهداف المدنية والعسكرية، وخصوصاً في المديريات المحاذية للحدود، مما أدّى إلى تعقيد الحياة لآلاف المدنيين بشكل لا يطاق.
تغذية التطرف
أحد أسوء التداعيات التي أثارتها الحرب هو تمكين بيئة التطرف الديني بشكل واسع، وهو الأمر الذي تعزز ليس فقط بتفكك سلطة الدولة على مناطق شاسعة (مما أحدث فراغات أمينة وسياسية استفادت منه القاعدة وداعش)، بل البعد الطائفي ضمن أبعاد الصراع المشتعل على امتداد اليمن.
إنّ هذا البعد الطائفي نقل القتال في مستوى منه ضمن تعريفات بعيدة عن السياسية، لكنها جذابة ومُهيجة لجمهور واسع. وبمغامرة الحوثيين غير الحساسة في المحافظات اليمنية الوسطى والشرقية والجنوبية، قاموا بكسر الطوق الاجتماعي عن الجماعات المتطرفة التي تصدرت، في قلب تحالفات في كل المناطق مع أطراف محلية متعددة، في مواجهة النقيض المذهبي الممثل بالحوثيين. لقد جعل ذلك من مشاهد مقاتلي أنصار الشريعة (القاعدة) وضعاً مألوفاً في أكثر من منطقة قتال، باعتبار المعركة الواحدة ضد عدو مشترك دون تحسس لمخاطر ذلك، وهو الأمر الذي تم توظيفه بشكل انتهازي من الشرعية وقوات التحالف، وتم تجاهل المخاطر بعيدة المدى لهذه التحالفات الانتهازية، بأغراضها العسكرية الآنية والمحدودة. انعكس ذلك لاحقاً بتمكن جماعة القاعدة وداعش من توطيد أقدامها في أكثر من مكان، وخصوصاً عدن، مع احتفاظها أساساً بالسيطرة على حضرموت، المحافظة النفطية المهمة، ومينائها المهم المكلا، من دون أي مخاطر أو تعقيدات، وتشكل لاحقاً شوكة في خاصرة فرص تسوية الأوضاع، وفرض الاستقرار في المناطق المحررة من الحوثيين.
الفاعل الآخر، الذي استفاد من الهوية الطائفية المفترضة للصراع، هي الجماعات السلفية، والتي وان كانت تتميز بخطاب أكثر برجماتية، بالمعنى السياسي، لا تضع فيه الدولة كعدو بل توالي سلطة ولي الأمر الشرعي الممثل بهادي. إلا أنها بالمعنى العميق تغير هوية الصراع وتنقله خارج السياسة، حيث محركاته طائفية ومتعلق بالصراع مع “الروافض”، كما هو التعريف السلفي التقليدي للحوثيين والشيعة عموماً.
الأخطر في موضوع الجماعات السلفية، هو تصدرها في قلب التحالفات المقاتلة ضد الحوثيين، برعاية ودعم علني من قبل قوات التحالف العربي، وخصوصاً من قبل السعودية والإمارات. بالمقابل إضعاف أدوار الفاعلين السياسيين الآخرين. في الجنوب، على سبيل المثال، يتمّ إحلال السلفيين كقوى تمثيل جنوبية على حساب فصائل الحراك الجنوبي، باستثناءات محدودة من بعض فصائل الحراك في محافظة الضالع الذين فرضوا حضورهم باستحقاقات قتالهم ضد الحوثيين وانتصارهم عليهم بدون دعم من التحالف. ضيف هذا الأمر في محصلته البعيدة تعقيداً خطيراً على المستقبل السياسي للقوى في الجنوب الذي ترزح بالأساس تحت وطأة تعقيدات وصراعات بينها آلت إلى إضعاف قدرتها على تمثيل قضيتها.
خيارات سعودية مرتبكة
أحد المخاوف الأساسية، بعد مضي عام من الحرب، مُتعلق ب بماهية الدور السعودي في اليمن الآن، وخصوصاً في ظل عدم تحقق واضح لأهدافها المعلنة. مخاطر ذلك مُتعلقة بعدم قدرة المملكة على الخروج خاسرة من اليمن، فهذا مجالها الحيوي، وستشكل أي انتكاسة فيه ضربة لسياسات الملك سلمان التي غيرت وجه المملكة منذ بدء ولايته ووضع فيها حسم الحرب في اليمن على رأس أولوياته. تعقيد كهذا يدفع بالقول إلى أنّ المملكة لن تتراجع قريباً، ولكنها ربما تستكشف خيارات أخرى إلى جوار الخيار العسكري الذي لا يبدو التعويل عليه كافياً، بعد مرور أكثر من عام رغم كثافة النار التي لديها، وهي وإن كانت تبدي موقفاً متشدداً ضد صالح، فمن الواضح أنها تفتح باباً موارباً للحديث مع الحوثيين عبر أكثر من قناة، لكن دون أي وضوح لأفق هذه المحادثات أو مآلات التهدئة المؤقتة على الحدود أخيراً. لهذا فالوضع حتى الآن ما زال عالقاً في حدود الاستكشاف السياسي، أكثر من كونه صياغة لإستراتيجية سياسية جديدة، وذلك دون أي موقف من أي خيار، وبدون تراجع حاسم أيضاً عن الخيار العسكري.
وعلى الرغم من هذا الإرباك الذي يضعف السعودية سياسياً، خاصة مع تزايد الضغوط بسبب الكلفة الإنسانية للحرب التي تشنها في اليمن، فإنّ المملكة تظل هي الفاعل الأول فيه، وطرفاً مُقرراً في تحديد وجهة مستقبلة، منذ نهاية الستينات وحتى الآن، ولا يبدو أنّ الظروف المعقدة التي انتهى إليها وضع تدخلها غير المسبوق في اليمن حالياً سيغير من كونها أحد الحقائق المركزية في مستقبله، والذهاب لأي تسوية تُنهي الحرب لن يتمّ من دون قرار المملكة واطمئنانها، وهو ما يدركه كل الفاعلين المحليين والإقليميين في الأزمة اليمنية بما فيهم إيران والحوثيين، علاوة على الرئيس الأسبق صالح الذي رغم كل ما تبديه المملكة من صد له، لا يكف عن محاولة خلق قنوات له معها ليكون طرفاً في أي تسوية بشكل مباشر، وأنْ لا يُختصر بجماعة الحوثيين. كانت أبرز محاولات صالح الأخيرة في هذا الشأن، تأكيد حضوره كطرف مركزي في الصراع والتسوية عبر الرسائل التي بعثها خلال أول تجمع شعبي حاشد له منذ أحداث 2011، في مناسبة الذكرى الأولى لبدء السعودية عملياتها الحربية في اليمن، مستعرضاً تماسك قاعدة تحالفاته وعدم تضرر قدرته على السيطرة والحشد، ومحذراً الطرفيين السعودي والحوثي ضمنياً من استثنائه.
مستقبل “الشرعية”
على اعتبار الأهمية الرمزية التي يشكلها موقع هادي الرئاسي وشرعيته، كعنصر حاكم في سردية الحرب المناوئة للحوثيين وصالح، بقيادة السعودية وضمن تحالف عريض يجمع أضداداً كثراً لا يوحدهم سوى العدو المشترك، إلا أنه بعد عام كامل من الحرب، يبدو أن الرئيس هادي استنفذ كل قيمة سياسية وفرتها الشرعية التي يحوزها. فهو كلّ شهر يمضي يصبح عبئاً أكثر وأكثر على التحالف العريض الذي يتوسل شرعيته، وكشف عن فقر هائل ليس فقط في الكاريزما، بل في الحدود الدنيا من التقدير السياسي الذكي الذي كان بإمكانه استثمار موارد ودعم هائل توفر له طوال العام، لتعزيز شرعيته وفكرة الدولة التي يمثلها، بغض النظر عن مستوى التقدم العسكري في الأرض في مواجهة خصومة. أسوء من ذلك، الأخبار والإشاعات التي لطّخت سمعته ودائرته الضيقة باستثمار وضع الصراع وظروف الأزمة الاقتصادية بسبب الحرب في قضايا فساد تصعد تفاصيلها من حين إلى آخر على السطح.
بعد عام كامل، أصبح واضحاً لدى مختلف الفاعلين الدوليين والإقليميين كيف يتوازى الحضور الشخصي الباهت للرئيس هادي مع فشله في تحمل الحدود الدنيا من المسؤوليات على صعيد إعادة الاعتبار للدولة التي يمثل رمزيتها، وتكثف ذلك في تجربة عدن بعد تحريرها، علاوة على فشله في تطوير أدائه السياسي الذي ظل ضمن إيقاع بطيء للغاية، لا يستجيب لتحديات الأزمة وتطوراتها المتسارعة، وعدم قدرته على التخاطب مع الأطراف السياسية، وبناء تحالفات تدعمه وتسند موقعه وخياراته، ركوناً بشكل أعمى على حاجة الجميع لشرعيته، وهو أمر سينعكس بشكل حاسم على مستقبله السياسي المعلق لانتهاء هذه الحرب فقط، فالعبء الذي أصبح يشكّله يجعل من الضروري حسم مصيره حال الاتفاق على أي تسوية قادمة.
ومع أهمية حسم قضية الشرعية وهادي في أي مسار تسوية، يبرز سؤال البديل السياسي عنه على خلفية أي نقاشات تطال مستقبل الحلول، وعن إمكانية خالد بحاح الذي قُدم لرئاسة الوزراء بداية كـتكنوقراط، قبل أنْ يصعد إلى موقع نائب الرئيس -بدلالة ذلك السياسية- ويخلف هادي في ظل توافق مع كافة أطراف الأزمة لفترة انتقالية جديدة، وخصوصاً أنّ بحاح مُحرر من تاريخ الصراعات السياسية اليمنية القديمة، وليست لديه أعباءها، كما أنّ الحملة تجاهه ليست حادة من الحوثيين وصالح، وهو مقبول خليجياً ودولياً، وذلك بالطبع على الرغم من الملاحظات العميقة على أدائه خلال عام من الحرب، والتي تجلى فيها عالقاً بين ضعف هادي وكارثية أدائه ، والسيطرة السعودية على القرار دون أن يستطيع تصدير دور فعال له أو يقدم نفسه كـ”رجل دولة” وسياسي أكثر شجاعة من الدبلوماسية الهشة التي تبدّى أنه يحتمي بها.
وضع القضايا المعقدة
يتضح جليّاً كيف تعقدت مسارات القضايا المركزية في اليمن، وانفتحت على جروح وتعقيدات إضافية، فمشهد القضية الجنوبية انفتح على التغييرات العميقة في موازين القوى الجنوبية بسبب الحرب، وانتهاء احتكار ممثلي وفصائل الحراك الجنوبي للقضية، بصعود فاعلين جدد أبرزهم السلفيون الجنوبيون يحظون بدعم خليجي واضح ولا يتقاطعون كثيراً مع مطالب الحراك الجنوبي التقليدية، مثل فكّ الارتباط عن الشمال؛ وذلك يتوازى مع انكشاف المحافظات الجنوبية أمنياً بشكل غير مسبوق أمام أنشطة الجماعات المتطرفة، مثل القاعدة وداعش التي استثمرت الحرب لتوطيد نفوذها وعناصرها داخلها، ليخلق ذلك وضعاً أمنياً وسياسياً معقداً سيؤجل النظر في حل قريب للقضية الجنوبية، في ظل أولويات مواجهة التطرف الذي قد يستفيد من أي مسارات فوضوية قد يؤول بها الذهاب نحو خيار الانفصال.
من زاوية أخرى، تبدو نتائج مؤتمر الحوار الوطني، خصوصاً المتصلة منها بإعادة تصميم اليمن فيدرالياً، عنصراً اشكالياً كبيراً، فالخلافات الكبيرة حولها مع الحوثيين وصالح وأطراف أخرى تقع في صلب المقدمات التي قادت إلى الحرب، ولا يتوهم كثيراً أنّ أيّ حل سياسي ينهي الصراع سيعيد إنتاجها على نفس ما كانت عليه. ما يطرح إمكانية تأجيلها وإعادة النقاش حول مضامينها لاحقاً، أي بعد انتهاء القتال، لا الذهاب نحو تنفيذها بصيغتها الإشكالية.
إنّ تعقيد الموضوع الفيدرالي تعزز بكونها صارت أحد عناوين الحرب الحاسمة، وقاتل كثيرون ضدها ومعها، كل من زاوية رهانه على المستقبل المنشود لليمن، وهو ما سيجعلها قضية حساسة لا يمكن سحبها ببساطة من النقاش العام، ولكن يجب عقلنتها وتضمينها ضمن نقاش يتجاور فيه السياسي والفني والوطني، ويأخذ وقتاً كافياً.
ما بعد عام الحرب!
بعد انقضاء أكثر من عام على حرب اليمنيين، لا تبدوا فرص السلام قريبة، كما لا تبدو بعيدة أيضاً، ومراوحة كهذه في الفرص المتاحة أمام السلام متصلة بالتعقيدات التي أنتجتها الحرب، وهذه المراوحة العسكرية في القتال التي لم تنتج تقدماً حاسماً لطرف على آخر، بشكل يجعله يمضي منفرداً في تأسيس المستقبل اليمني.لكن التعقل من جانب أخر، ليست ميزة محسوبة للأطراف اليمنية. أما السعودية، كصانعة قرار حاسم في مستقبل الصراع، فمازالت قائمة خياراتها وتفضيلاتها غامضة، وكيف تقيس أداءها وأداء حلفائها بعد عام من الحرب، مع أنه من الواضح أيضاً أنها بدأت تستشرف مسارات تفاوض سياسية صغيرة مع الحوثيين، بما لا يُعطّل خيارها العسكري الأساسي حتى الآن.
بالإجمال، كل هذه التداخلات تقول بأنّ اليمن ستشهد نشاطاً سياسياً أكبر في الفترة القادمة نحو الوصول لتسوية بتدخل دولي يدفع أكثر نحو الحل بسبب ارتفاع التكلفة الإنسانية، مع بقاء المعارك مشتعلة، ولكن دون تصور تطورات دراماتيكية على الأرض، خاصة من جهة تمكن الشرعية والسعودية من إسقاط صنعاء، فالحوثيون وصالح يدركون جيداً أنّ الاحتفاظ بورقة العاصمة بأيديهم من الأهمية بمكان لكي يظلوا موجودين في مستقبل اليمن القريب. ذلك أن خسارتهم لها، ستغير الحقائق على الأرض بشكل حاسم، وتضعفهم للغاية في أي اتفاق سلام متوقع.
إنّ اليمن التي تشهد أوضاعها الإنسانية تدهوراً واسعاً، بسبب سنة كاملة من حرب ذات طبيعة أهلية وإقليمية متداخلة لم تصل بعد نحو الأسوء ، وما زالت أسوء مخاطر استمرار الحرب قائمة في إمكانية ترسخ مستقبل للصراع يتغذى على صناعة الهويات الصغيرة والكراهية التي تلحقها، وهي التي ستلحق ضرراً دائماً بالنسيج الاجتماعي اليمني، حين تستنفر مكونات المجتمع ضد بعضها البعض، في حال استمرار الصراع لفترة أطول من التي مضت، وهو الأمر الذي يعني تحول هذا البلد الفقير والمتعب، على أطراف الجزيرة العربية، إلى خزان مشتعل لفترة طويلة ستلحق أضراره بالمنطقة والعالم.
[1] للاطلاع بشكل تفصيلي عن التغييرات في ادوار ووضع الفاعليين السياسيين التقليدين في اليمن خلال الصراع الحالي يمكن مراجعة ورقة السياسات الصادرة عن مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية تحت عنوان ادوار اللاعبين المحليين في الحروب الدائرة في اليمن،https://sanaacenter.org/ar/yemen-in-crisis-ar/19