لم يكن عقد مؤتمر حضرموت الجامع بداية نيسان / أبريل الماضي مفاجئاً كحدث، ولكنه فجّر مفاجئات كثيرة من خلال النقاط الأربعين التي تضمنها بيانه الختامي، والتي لم يرد لفظ “اليمن” أو “الدولة اليمنية” في أية نقطة منها. فالمحافظة اليمنية الأكبر مساحة وثروة لها طموح تاريخي في التحوّل إلى دولة متحررة سواء من هيمنة الدولة اليمنية القائمة أو دولة الجنوب اليمني التي كانت قائمة قبل توحد الشطرين (22 أيار / مايو 1990) على حد سواء، أو كما وصف محافظها أحمد بن بريك المؤتمر بأنه “يطوي صفحة 50 عاماً”، مشيراً بذلك إلى دولة اليمن الديمقراطية التي استقلت عن بريطانيا في 1967، وكانت حضرموت جزءاً منها (عمر دولة الوحدة فقط 27عاماً). وبالتالي فقد تساوت إلى حد كبير مشاعر التوجس من مخرجات مؤتمر حضرموت لدى اليمنيين المؤيدين لاستمرار الوحدة اليمنية، ولدى الجنوبيين المطالبين بانفصال الجنوب عن الشمال معاً، الذين يرون أن مطالب “الحضارم” قد تعرقل مشروع استقلال الجنوب عن الدولة اليمنية الأم الذي ينادي به الحراك الجنوبي، لأن حضرموت، كما يبدو، أكثر جاهزية من سواها لإعلان دولة جديدة في جنوب شبه الجزيرة العربية.
“الرؤية والمسار”.. والنخبة الحضرمية
في العام 2011، ومع بداية انتفاضة الربيع اليمني، عقد الحضارم مؤتمر “حضرموت.. الرؤية والمسار” كأول تمثيل مناطقي يمني يتحدث عن دولة اتحادية يمكن أن تكون حضرموت إقليماً فيها “كحد سياسي أدنى”. أي أن الحد الأعلى يمكن أن يكون دولة مستقلة. فحضرموت لم تكن فقط مواكِبة لتحولات الوضع اليمني بل سباقة إلى التنبؤ بما يمكن أن تصل إليه في آخر المطاف، وبالتالي مستعدة للتعامل معه، حيث أن الحديث عن دولة اتحادية في اليمن تأخر عامين كاملين حتى عقد “مؤتمر الحوار الوطني الشامل” الذي خاض اليمنيون نقاشاتهم فيه حول مستقبل الدولة اليمنية بين آذار / مارس 2013، وكانون الثاني / يناير 2014.
حضرموت ديمغرافياً وثقافياً أقرب إلى تركيبة بلدان الخليج العربي. وهناك مطامع سعودية لمدِّ أنبوب نفطي إلى بحر العرب عبر حضرموت، كما أن السعوديين من أصل حضرمي والحضارم المقيمين في السعودية يمثلون تقريباً ثاني أكبر ثقل في الاقتصاد السعودي بعد السعوديين أنفسهم، ولديهم اهتمامات كبيرة بعملية التنمية في مناطقهم، ويرعون مادياً آلاف الطلاب المبتعثين للخارج. إلا أن دولة الإمارات خلقت بسرعة لافتة تواجداً ونفوذاً على أراضي حضرموت بتبني تدريب قوات عسكرية محلية تسمى بـ “النخبة الحضرمية” تتولى عملية إدارة الأمن بالمحافظة بعد قيام قوات إماراتية بدعم أمريكي بدحر تنظيم القاعدة من مركز المحافظة في نيسان / إبريل 2016.
وحضرموت هي المحافظة اليمنية الوحيدة التي تحتفظ باسم دولة يمنية قديمة حكمت خلال الألف الأول قبل الميلاد، ولها مدرسة فنية خاصة بها، وتعد أحد أبرز مركزين للصوفية في اليمن، وتشكّل ثلث مساحة اليمن الحالية، وتتمركز فيها منطقتان عسكريتان للجيش اليمني من أصل 7، ما يعكس أهميتها من جهة، ومخاوف السلطة المركزية من تمردها من جهة أخرى. وعندما أعلنت اللجنة الفنية لتحديد أقاليم دولة اليمن الاتحادية نتائج تقسيمها للأقاليم الستة، كانت حضرموت أحد هذه الأقاليم مضافاً إليها محافظات شبوة والمهرة وسقطرى (محافظة مستحدثة منذ 2014)، أي أن الإقليم كما رُسم يمثل نصف مساحة اليمن الحالية. إلا أن النزعة الحضرمية المتأصلة لا زالت، كما أكدت نقاط بيان مؤتمر حضرموت الجامع، تتحدث عن المحافظة بحدودها الإدارية الحالية، مع نزعات أخرى ترفض الانضواء معها تحت مظلة واحدة كما محافظة المهرة.
تشكل حضرموت ثلث مساحة اليمن الحالية، وهي ديمغرافياً وثقافياً أقرب إلى تركيبة بلدان الخليج العربي، كما أن السعوديين من أصل حضرمي والحضارم المقيمين في السعودية يمثلون ثاني أكبر ثقل في الاقتصاد السعودي بعد السعوديين أنفسهم
عملياً وتشريعياً، فإن الأقاليم اليمينة المفترضة لم تصبح واقعاً بعد ولا تستند إلى أي مسوّغ دستوري، بل مثلت إشكالية رئيسية ودافعاً جوهرياً للحرب اليمنية الراهنة، بعد رفض كثير من القوى اليمنية لآلية التقسيم المعتمدة لإعلان الأقاليم. فلم يتم الاستفتاء على شكل الدولة المقترح، ولم يتم الاتفاق على إجراءات الانتقال إلى الدولة الاتحادية ولا على صلاحيات الأقاليم، وبالتالي فربما تكون مخرجات مؤتمر حضرموت محاولة لتشكيل رافعة تمثل أبناء المحافظة في الاستحقاقات القادمة بعد الحرب، أو محاولة للحفاظ على وضع مستقر للمحافظة في محيطها المضطرب، أي أنها قبل أي شيء محاولة للتوفيق بين وجهات نظر مختلفة لأبناء المحافظة، حتى لا تتحول إلى تباينات مستقبلية أمام الغير، سواء كان دولة أو أقاليم مماثلة. لكن اعتبار المؤتمر إطاراً لدولة قادمة في ظل استمرار الحرب الراهنة وضبابية المشهد القادم يظل احتمالاً وارداً في سياق مخاوف مستمرة من تمزق البلاد إلى دويلات.
بين الإقليم والدولة
أتى في ديباجة بيان مؤتمر حضرموت الجامع “تمكين أبنائها في إدارة شؤونها السياسية والإدارية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية والعسكرية والأمنية،أصبح حتميّاً، وبإرادتهم الحرة، وفق خطط واستراتيجيات يعدونها لرسم مستقبل حضرموت المشرق”، وهي مقدمة تنم عن أهداف واضحة تتعامل مع حضرموت كهوية أكثر من كونها جزءاً من دولة يمنية أوسع. كما تشير فقرة أخرى الى “إن أمن واستقرار حضرموت هو من أمن واستقرار أشقائنا في دول مجلس التعاون الخليجي”، إذ تم التخاطب مع دول مجلس التعاون الخليجي ككيان نظير، بينما لم ترد أية إشارة لليمن التي يفترض أنها الدولة التي تتبع لها حضرموت. وينص البند السادس من البيان على أن “يتمتع إقليم حضرموت بحقوقه السياسية السيادية كاملة غير منقوصة، بعيداً عن مختلف صنوف التبعية والانتقاص والإلحاق، بما يحقق العدالة في توزيع السلطة والثروة، بالتوازن في المصالح السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية”، في تعارض واضح بين مفرداته، إذ يصف حضرموت بالإقليم ويطالب بعدالة توزيع الثروة والسلطة، وفي الوقت ذاته ينص على تمتع الإقليم “بحقوقه السياسية السيادية كاملة غير منقوصة”، ويشير إلى الصلاحيات العسكرية في بنود أخرى بما يتعارض مع صلاحيات الأقاليم الاتحادية التي تعتبر الأمور العسكرية شأناً سيادياً للمركز، ما يرقى لمستوى الدولة المستقلة.
وفي فقراته المختلفة يحتوي البيان مطالباً محددة باسم الإقليم، على الرغم من عدم وجود مرجعية تشريعية يستند إليها في مطالبه، كنسبة الثروة وآلية التمثيل في مؤسسات الدولة الاتحادية: “لحضرموت تمثيل في الحكومات الاتحادية، والهيئات والقطاعات والمجالس الاتحادية، والمجلس البرلماني، بما يتوافق مع مساحتها الجغرافية وتعدادها السكاني، وإسهامها في الميزانية الاتحادية” كما ينص البند الثامن، أو “يمنح برلمان حضرموت الحق في تصديق وتوقيع الاتفاقيات والمعاهدات والعقود في مجال الأسماك والاستكشافات النفطية والمعدنية والغاز وعقود الاستثمار داخل حضرموت” كما ينص البند التاسع. وبينما تنص وثيقة حل القضية الجنوبية على تمثيل الجنوب في كل هيئات الدولة الاتحادية بما لا يقل عن 50 في المئة، نجد مؤتمر حضرموت يتحدث عن نسبة خاصة به وليس كجزء من الجنوب كما يفترض: “يجب العمل في المراحل القادمة وفي أي إطار كان على تعزيز وجود ممثلي حضرموت في السلطات الثلاث بما في ذلك الهيئات المعنية بمراجعة الدستور أو أي هيئات أخرى، بحيث لا تقل نسبة حضرموت عن 40 في المئة وذلك بما يتناسب مع مساحتها وإسهامها في الموازنة العامة” (البند العاشر)، وهذا قد يكون مصدر قلق للجنوبيين أكثر منه لعموم اليمنيين، خاصة ومؤتمر حضرموت نتج عن جهود ورؤى واضحة وعمل ممتد على مدار سنوات، بينما “المجلس الانتقالي للجنوب” الذي تم إعلانه مطلع أيار / مايو كرافعة سياسية افتراضية لتمثيل الجنوب كاملاً أتى كرد فعل مباشر على قرار الرئيس هادي بعزل محافظ عدن عيدروس الزبيدي الذي رأس المجلس، ولم يحظ بالدراسة والإعداد الكافيين ليتحول إلى رافع حقيقي وكيان عملي بمنهجية ورؤية واضحتين.
ربما تكون مخرجات مؤتمر حضرموت محاولة لتشكيل رافعة تمثل أبناء المحافظة في الاستحقاقات القادمة بعد الحرب، أو محاولة للحفاظ على وضع مستقر للمحافظة في محيطها المضطرب..
لكن النقطة الأكثر جدلاً ربما تتمثل في البند 11 من بيان مؤتمر حضرموت الذي نصّ على أنه “يحق لأبناء حضرموت ترك الاتحاد متى رأوا أنه لم يعد على النحو الذي اتُّفِقَ عليه، بما يضمن امتلاكه لكافة حقوقه، ويحفظ الهوية الحضرمية، وبخاصة الهوية الثقافية والاجتماعية والمدنية”. وهذا نص استباقي لأمر غامض الدلالة يتمثل في “متى رأوا أنه لم يعد على النحو الذي اتُّفِقَ عليه”، أي أنهم وحدهم من يقررون دون مشاركة طرف آخر ودون ضوابط محددة كمعيار يمكن العودة إليه، أما الشرط الجزائي إذا صح التعبير فهو “ترك الاتحاد”، أي إعلان دولة مستقلة وإن لم يرد ذلك بالنص، إلا أن هناك ما يعززه من ألفاظ متعلقة بالمؤسسة العسكرية وتأهيل قوات النخبة وفتح كليات حربية، بينما من المتعارف عليه في الدول الفيدرالية الاتحادية أن الأمور العسكرية سيادية ولا تقع ضمن صلاحيات الأقاليم الاتحادية.
وفي بند آخر تظهر مؤشرات يمكن وصفها بالخطيرة لأنها تؤسس لهوية دينية مذهبية، فالبند 28 من البيان ينص على “التمسك بالهوية الحضرمية ذات الإرث الثقافي الأصيل والمستمد من ديننا الإسلامي الحنيف ومدرسته الشافعية..”، فالمدرسة الشافعية هنا تشير لأوسع المذاهب الإسلامية انتشاراً في اليمن وهو المذهب الشافعي، لكن الدستور اليمني لا يتضمن أية إشارة إلى الانتماء المذهبي للدولة أو السكان، وإنما إلى المواطنة والشريعة الإسلامية كمصدر للتشريع. وهذه سابقة خطيرة في اليمن تؤسس لتكريس الهويات الطائفية والمذهبية بما يحمله ذلك من مخاطر حقيقية على مستقبل التعايش في البلد بغض النظر عن بقائه موحداً من عدمه.
خلاصة
سواء تحوّلت مخرجات مؤتمر حضرموت إلى إطار أدبي لدولة ناشئة من بيئة الحرب اليمنية الراهنة، أو تحوّلت إلى مجرد وثيقة تاريخية مهمَلة، أو استُخدمت كورقة ضغط لرفع سقف مطالب الإقليم، فإن جاهزية حضرموت للتحوّل إلى دولة تبدو أعلى من سواها من مناطق اليمن، لاعتبارات كثيرة منها ثرواتها الطبيعية وإرثها التاريخي والثقافي، وعلاقتها وتجانسها النسبي مع دول الخليج المجاورة. إلا أنها في حال تحولت إلى دولة فإن جنوب اليمن بدوره سيتشتت بين دويلات متعددة، بحيث تعود المهرة سلطنة مجاورة لسلطنة عمان (تفصلها حضرموت عن كل المحافظات اليمنية الأخرى)، ومحافظات غرب حضرموت وإن شكلت دولة واحدة، فإنها ستكون مضطربة وفقيرة وبهوية ناقصة تعكس إرث الصراع التاريخي بين الضالع وأبين الذي يقلق حضرموت كثيراً في حال بقائها جزءاً من الجنوب أو من اليمن عموماً، وتفقدها صحة ادعاءاتها الحالية باعتبار الجنوب كتلة جغرافية واحدة ذات مطالب وطموح موحد يتمثل في الانفصال عن الشمال ثم الذهاب إلى الفردوس بعيداً عن جحيمه وهيمنته وصراعاته، وكل ذلك يعتمد على نتائج الحرب الراهنة وأهداف الإمارات والسعودية من تدخلها العسكري الجاري في الجمهورية اليمنية.