توفيق الجند
سيكتب المؤرخون للحياة السياسية في اليمن أن حزب المؤتمر الشعبي العام ولد يوم 24 أغسطس 1982, وشيع آخر نسخة قوية منه يوم 24 أغسطس 2017. فاستمراره في الحياة بعد هذا التاريخ تحتاج لعملية تناسخ أرواح أسطورية ما لم يستطع تجاوز المرحلة وإدارتها بأدوات مختلفة للظهور بشكل ومضمون مختلفين، بعد مقتل مؤسسه ورئيسه علي عبدالله صالح إلى جانب آخر أمين عام له (عارف الزوكا)، في الـ4 من ديسمبر 2017. وهي أول مرة يصبح مضطرا للبحث عن رئيس جديد, لاستمرار صالح على رأسه منذ ولادته, وفشل الحزب بعده حتى في مجرد تشييع جثمانه.
على غرار الأحزاب الشمولية في سبعينات القرن الماضي كانت فكرة الرئيس اليمني الأسبق إبراهيم الحمدي تأسيس المؤتمر الشعبي العام التي مات قبل أن ترى النور, وتلقفها صالح بعده, عندما شعر بالحاجة إلى إطار يستوعب خلاله شخصيات القوى السياسية السرية في ظل حظر الحزبية رسميا في شمال اليمن حينها. ودشن الحوار الوطني عقب حرب المناطق الوسطى كمخرج للنزاع بين اليسار والقوى التقليدية تحديدا، وكان المؤتمر كتنظيم سياسي موحد لشمال اليمن أبرز مخرجاته.
مع ذلك كان استيعاب المعارضين في إطار سياسي واحد مجرد عبث بعد سيل من الدماء والثارات والتصفيات والاعتقالات والإخفاء القسري لكثير منهم. بل أن اختيار الـ24 من أغسطس كتاريخ لإعلان تأسيس المؤتمر بحد ذاته مثل استفزازا لهم لأنه يعيد استدعاء أحداث الـ24 أغسطس 1968 التي تمت فيها تصفية تيار القوميين واليساريين في جيش الشمال يومها. وكان صالح أحد الضباط الصغار المتورطين في تنفيذ تلك التصفيات, وكانت حروب المناطق الوسطى وتأسيس الجبهة الوطنية الديمقراطية الموالية لعدن والمناهضة لصنعاء إحدى تجليات إقصاء من تبقى من ضباط اليسار والقوميين على قيد الحياة.
مارس المؤتمر السياسة كحزب حاكم ونافذ وقوي وبدون معارضة حتى العام 1990 التي أعلنت فيه الوحدة اليمنية بين الشمال والجنوب, وأصبحت التعددية السياسية حقا مكفولا بنصوص الدستور. وكان المؤتمر والاشتراكي (الحزب الحاكم للجنوب) هما طرفا الوحدة أكثر من كون صالح والبيض ممثلين عن الشطرين, إذ أن الوحدة قامت على تقاسم الحزبين السلطة خلال المرحلة الانتقالية, قبل أن تؤدي خلافاتهما إلى نشوب حرب صيف 1994, وقيام المؤتمر بإقصاء شريكه من السلطة, ويستبدله بالتحالف مع حزب الإصلاح الذي شارك في الحرب جنبا إلى جنب مع المؤتمر.
استمرت شراكة المؤتمر والإصلاح لفترة قصيرة قبل أن تتراجع بعد انتخابات 1997, ويفترق طريقهما منذ 2001 بشكل واضح, ثم يتصعد بتشكيل خصمي الأمس (الاشتراكي والإصلاح) وأحزاب أخرى تكتل أحزاب اللقاء المشترك المعارض في 2003, ويهدد صعود التكتل بقيادة الحزبين كرسي حكم صالح في انتخابات 2006.
انفرد المؤتمر بالسلطة كليا من مطلع الألفية حتى العام 2011, مع وجود معارضة بدأت تكتسب الخبرة من العمل المنسق والمستمر ضد المؤتمر. وأواخر 2011 سلخت المبادرة الخليجية من الحزب الحاكم نصف المقاعد الحكومية, وأزاحت رأسه (صالح) من الرئاسة. رغم أن خلفه (هادي) كان أمينا عاما للمؤتمر, إلا أنه خسر تلك الصفة عندما أزاحه المؤتمر بقرار تنظيمي من منصبه بعد تصاعد حدة خلافاته مع صالح (2014), وتمسك الأخير برئاسة الحزب دون أي استعداد للتنازل عنها للرئيس الجديد بغض النظر عن نصوص النظام الداخلي للحزب.
كان المؤتمر في أحيان قليلة يعمل وفقا لنظامه الداخلي وسياسات قياداته, عندما لا يتعارض ذلك مع رغبة صالح, الذي دائما ما يعمل وفقا لإرادته حتى في تنصيب الأمين العام كما حدث حين ضغط لتزكية عبدالقادر باجمال أمينا عاما للحزب خلفا للدكتور عبدالكريم الإرياني في المؤتمر العام للحزب بعدن, إلا أنه عاد وأقصى باجمال بعد محاولة الأخير تأسيس ثقافة عمل حزبي منظم وممارسة دور الأمين العام بكل الصلاحيات, وتصادمه مع قيادات الحزب المقربة من صالح, خاصة عبدالرحمن الأكوع ودويد والكميم وغيرهم, وكتب الأمين العام المساعد للمؤتمر ياسر العواضي مقالا شهيرا عام 2007 قال فيه أن المؤتمر لا يحكم وإن كان حزبا حاكما أمام الرأي العام, وأن من يحكم فعلا هي دائرة ضيقة تضم إلى جانب صالح كلا من الجنرال علي محسن والشيخ عبدالله الأحمر (رغم كونه رئيس حزب الإصلاح المعارض ورئيس البرلمان كمنحة من صالح لأن مقاعد حزبه في البرلمان لا تمنحه ذلك المنصب).
كانت الأغلبية التي يحصدها المؤتمر في البرلمان وبلغت ذروتها في انتخابات 2003 ليهيمن على ثلثي مقاعده, تعزز لديه نزعة الاستفراد بالسلطة وإقصاء حلفائه تدريجيا, مع الإبقاء على الشكليات الديمقراطية بإجراء الانتخابات التي كان يستخدم فيها كل إمكانيات السلطة ووجوهها حتى خسر الجميع. ودفع بأحزاب اللقاء المشترك إلى التهديد بمقاطعة الانتخابات البرلمانية مطلع 2011, عندما أقدم منفردا على إجراء تعديلات دستورية تجعل العملية الانتخابية مجرد مسرحية, وإلى اندفاعها لاحقا لتصبح رافعة لانتفاضة الشباب في نفس العام.
بعد وفاة الشيخ الأحمر نهاية 2007 ، لم يستطع صالح كسب أبنائه كحلفاء له كما كان مع والدهم, فخسر أحد أضلاع مثلث حكمه وقاعدته الصلبة (بعيدا عن المؤتمر). وفي 2011 انضم الجنرال محسن إلى انتفاضة الشباب بنفوذه وثقله, فخسر صالح الضلع الآخر المساند له تاريخيا. وإلى جانب تلك الخسارة انسلخت بعض قيادات حزبه عنه وانضمت إلى معارضيه, فأصبح المؤتمر مظلته الوحيدة وعمودها قوات الحرس الجمهوري, والحشود الشعبية التي ظل قادرا على جمعها حتى أغسطس الماضي. لكن المؤتمر بذاته كتنظيم كان قد شهد انسلاخا آخرا في 2015 بانضمام قيادات كبيرة فيه إلى صف الرئيس هادي كالأمين العام أحمد عبيد بن دغر رئيس الحكومة الموالية لهادي حاليا.
خسر المؤتمر المصالح التي كان يربط بها كثير من قياداته, ومنذ العام 2015 مر بمرحلة شلل تنظيمي شبه تام, وأصبحت قراراته وسياساته أكثر انحصارا في صالح ومقربيه, وترك ساحته وجماهيره أمام جماعة أنصار الله (الحوثيون) كقوة فتية شاركته السلطة ونخرت كل مقومات بقائه فيها.
في منتصف 2017 شهد العمل التنظيمي للمؤتمر انتعاشة أخيرة لم تستمر لشهرين, قبل أن تتراجع وتعود لحالة الجمود التي انتهى إليها مع اهتزاز ثقة أعضائه بقدرته حتى على مجرد الدفاع عنهم, وانسحب كثير منهم بصمت, سواء إلى هياكل جماعة أنصار الله, أو إلى شرعية هادي, أو إلى الصمت واعتزال الشأن العام.
بقاء صالح كأب مؤسس, حافظ على استمرار المؤتمر كقوة في الخيال العام, باعتقاد عام تمثل في قدرة الرجل على انتزاع الحزب من حالة الفشل إلى صهوة حصانه مرة أخرى بقرار يعلم وحده طبيعته وتوقيته. وكانت دعوته لحشود واسعة للاحتفال بالذكرى الـ35 لتأسيس الحزب في الـ24 أغسطس الماضي مؤشرا على عبقرية الرجل في خيال أنصاره.
كانت توقعات جمهور المؤتمر من زعيمهم أكبر من قدرته. وكان خطابه المقتضب الذي ألقاه أمامهم لا يشبه صالح الذي عرفوه لعقود, ولا يقترب من توقعاتهم وآمالهم التي جاءت بهم إلى ميدان السبعين بصنعاء فيما يشبه التشييع الأخير لأكبر حزب حاكم عرفته اليمن في تاريخ التعددية الحزبية.
مثل خطاب صالح في 24 أغسطس الماضي رصاصة الرحمة له في خيال جمهوره, وأحد الأسباب المباشرة لتخليهم عنه في اشتباكاته مع حلفائه الحوثيين مطلع ديسمبر, وهي أضعف مرحلة مر بها وأكثر معاركه خسارة منذ اشتغاله في السياسة, وانتهت بمقتله على يد الحوثيين في الرابع من ديسمبر.
من المؤكد أن المؤتمر لا زال لديه حضور جماهيري, وقيادات محنكة وخبيرة, لكنه افتقد الرأس الذي أدار جسده واحتفظ بخيوط لعبته وتحالفاته خلال أكثر من ثلاثة عقود. وعزز هذه الخسارة غياب عارف الزوكا الرجل الثاني في الحزب, كما أن حالات الاستقطاب الشديدة التي يتعرض لها أعضاء المؤتمر اليوم ساهمت في ارتباكه وجموده.
الخاصية التي تفاخر بها المؤتمريون على الدوام بكونهم حزبا غير أيديولوجي, بل حزبا سياسيا برامجيا كانت واحدة من عوامل انهياره السريع وعدم تماسك جمهوره بعد صدمة مقتل صالح. فالأحزاب الأيديولوجية قادرة على استعادة ترتيب صفوفها بشكل أسرع, والحفاظ على عناصرها من الذوبان في حالة الانصهار المفاجئ.
كما أن قيادات المؤتمر الوسطية واقعة في خيارات صعبة للغاية تنحصر في التحالف مع خصومهم الأحدث (الحوثيون), أو إلى خصومهم الأقدم (الشرعية وحلفائها) وقد تحولت علاقة صالح بها (أو كادت) إلى التحالف آخر أيامه.
أقارب صالح ومنهم نجله أحمد وهو عضو سابق في الحزب ترشح باسمه في الانتخابات البرلمانية (1997), ويحيى صالح الذي تم تصعيده لعضوية اللجنة العامة (المكتب السياسي للمؤتمر) قبل أشهر, لا يبدو أنهما يلتقيان في توجهاتهم الراهنة. إذ يقع أحمد تحت قبضة الإمارات وتسعى إلى خلق تحالفات بينه وبين قيادات الشرعية خاصة حزب الإصلاح وربما كان سلطان البركاني (الأمين العام المساعد) إلى صفه. بينما كان خطاب يحيى واضحا أنه ضد الشرعية ويدعو إلى الحوار مع أنصار الله (الحوثيين), وهذا قد يؤدي إلى تمزيق الإرث المعنوي لصالح بينهما.
أما القيادات الأخرى المتواجدة في صنعاء, وأبرزها صادق أمين أبوراس وياسر العواضي ويحيى الراعي فلا يبدو أنها قادرة على المضي قدما دون انتظار مؤشرات توجهات أحمد ويحيى وترتيب علاقتهم بالحوثيين كسلطة جديدة منفردة. كما أن عبدالرحمن الأكوع غير ظاهر في المشهد الآن, لكن المؤكد أن علاقاته مع الحوثيين لن تسمح له بالعمل من صنعاء، وعلاقته مع تيار هادي لا تؤهله للتحالف معه.
هادي من جهته لا يحبذ عودة أحمد علي إلى المشهد, ويدفع ومعه بعض القيادات المؤتمرية التي وقفت معه ضد صالح منذ 2015 إلى استغلال فرصة غياب صالح عن المشهد لإعادة التفاف المؤتمريين حوله (هادي) كما سعى لذلك منذ 2012.لكن ذلك أمر مستبعد في الوقت الراهن.
بالمجمل يتوزع المؤتمر بالضرورة حسب معطيات اللحظة إلى ثلاثة تيارات رئيسية, أبرزها في صنعاء ولن يعمل ضد رغبة الحوثيين كسلطة قد تسعى لاستمالتهم إلى صفها أو لتحييدهم على الأقل. والآخر في الرياض مع هادي ، والثالث تحت مظلة الإمارات وأحمد علي صالح. وقد يكون ظهور ثلاث قنوات تحمل اسم “اليمن اليوم” القناة الرئيسية المعبرة عن المؤتمر في السنوات الثلاث الأخيرة, أحدها في صنعاء برعاية الحوثيين, والأخرى برعاية الشرعية والثالثة برعاية الإمارات.
تحالف المؤتمر مع الإسلاميين والقوى القبلية منذ تأسيسه حتى قيام الوحدة. ثم تحالف مع الاشتراكي مؤقتا بعد الوحدة رغم الخلافات التي طغت على علاقتهما وأثمرت عن حرب صيف 1994, ليعود للتحالف القديم مع الإسلاميين وقد أصبحوا حزبا (الإصلاح). ثم تحالف الإصلاح والاشتراكي ضد المؤتمر منذ مطلع الألفية حتى إزاحة صالح من الحكم ونزع صفة الحزب الحاكم عن المؤتمر (2011). بعدها تحالف المؤتمر مع الحوثيين حتى تحول خلافاتهما إلى اشتباكات مسلحة انتهت بمقتل صالح, وتحول قيادات المؤتمر إلى شخصيات مطلوبة أمنيا للحوثيين, مع فشل الأخيرين في طمأنة أعضاء المؤتمر عبر خطابات ولقاءات متوالية, كان مضمونها أن المستهدف كان صالح ومن اشترك معه في التآمر ضد الحوثيين ومحاولة الانقلاب عليهم, وأن “شرفاء المؤتمر” ليسوا خصوما للجماعة.
يحتاج المؤتمر إلى إعادة ترتيب صفوفه, وتوحيد خطابه الإعلامي للحفاظ على جمهوره, والتوافق على قيادة جديدة تنتزعه من حالة التفسخ والانحلال التي يمر بها, حتى لا يتحول إلى نسخة شبيهة بحزب البعث العراقي. وفي كل الأحوال وحتى في حال تحقق ذلك على صعوبته, فإن المؤتمر اليوم وغدا لن يستمر كما كان عليه بالأمس, ويجب عليه التفكير والعمل كحزب لم تعد له سلطة ولا رئيس بمواصفات صالح. بل يحتاج رئيسا بمواصفات علي صالح عباد (مقبل) الذي قاد الحزب الاشتراكي بعد نكبته في حرب 1994.
ليس على المؤتمر إشهار إفلاسه الآن, بل أن يعتمد على نفسه, وأن يستثمر ما بقي له من رأسمال مادي ومعنوي بذكاء وصبر, ليعود إلى سوق السياسة من نافذة مختلفة, وأن ينتج سلعا جديدة لجمهوره شريطة أن تكون ذات جودة عالية في ظل كساد السوق وتشبعه بمختلف السلع واحتكاره من قبل تجار جدد لم يعودوا مجرد منافسين له بل مهيمنين بقوة.
توفيق الجند هو محرر القسم العربي في مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية. عمل الجند كاتباً ومحرراً في العديد وسائل الإعلام اليمنية والعربية، بما في ذلك صحف الجمهورية والمصدر والسفير، كما أشرف على عدة دراسات بحثية حول التاريخ السياسي اليمني والمسائل المتعلقة بالتعليم والجندر. الجند حاصل على بكالوريوس آداب في التاريخ من جامعة صنعاء.