توفيق الجند
ليس موقع تعز المطل مباشرة على مضيق باب المندب وحده ما يمنحها كل هذا الجدل والأهمية، فلتعز تأثيرها ونفوذها الناعم على شمال اليمن وجنوبه قبل وحدة الشطرين وبعدها، ومارست حضورها في عدن كما مارسته في صنعاء، وفرضت حضورها بطابعه المدني الثقافي السياسي النقابي. لم تعترف بتشطير ولم تخضع لهيمنة ولم تقيّدها مصالح، ما جعلها هدفاً لقوى النفوذ في الشمال والجنوب معاً في فترات مختلفة، لتتحول عملياً بحكم ذلك، ولوقوعها على خط الحدود الشطرية السابقة إلى شمال الجنوب، وجنوب الشمال في اليمن.
النتيجة المؤسفة أخيراً أنه بدلاً من نجاح تجربة تعز في تمدين مناطق اليمن الأخرى، نجحت عوامل وقوى الصراع الراهن في تسليح تعز، وأصبح النموذج الذي لم يخضع للتنميط الرسمي المطلوب، ولم ينخرط في مسلسل الاستقواء بالسلاح تاريخياً، نموذجاً جديداً لديناميكيات الصراع اليمني.
أغلب التيارات الفكرية والسياسية اليمنية المعاصرة على مستوى الشمال والجنوب من تعز
انطلقت أغلب التيارات الفكرية والسياسية اليمنية المعاصرة على مستوى الشمال والجنوب من تعز، بجغرافيتها وأشخاصها، فمؤسس تنظيم الإخوان المسلمين في اليمن عبده المخلافي، من تعز، وأبرز القادة المؤسسين لحركة القوميين العرب في اليمن، كعبدالفتاح إسماعيل وسلطان أحمد عمر من تعز، والمرشد العام للإخوان المسلمين في اليمن اليوم، ياسين عبدالعزيز، من تعز، وأبرز قادة التنظيم الناصري منذ تأسيسه وحتى اليوم، كعبد الملك المخلافي وسلطان العتواني وعبدالله نعمان من تعز، وقائد انقلاب الناصريين على الرئيس السابق علي عبدالله صالح، عيسى محمد سيف، من تعز، وأمين عام حزب البعث جناح بغداد، قاسم سلام من تعز، وأمين عام حزب البعث جناح دمشق، عبدالوهاب محمود من تعز.
هذا التنوع والحيوية ليس رأسمالها الوحيد، فأبرز رجال المال والشركات التجارية الرائدة في اليمن، كالمجموعات التجارية لهائل سعيد أنعم، وشاهر عبد الحق، وإخوان ثابت، ودرهم العبسي، وعبد الجليل ثابت، وتوفيق عبد الرحيم، والخامري، قادمة من تعز أيضاً. كما أن تعز المساوية للبنان في المساحة، هي أكبر محافظة يمنية من حيث عدد سكانها الذين يشكلون أكثر من 12 في المائة من عدد السكان في اليمن، وربما ليس هناك منطقة يمنية لا يوجد فيها معلّم أو طبيب أو مهندس أو تاجر من تعز، وهذا سرّ آخر من أسرار تأثيرها الناعم في عموم اليمن.
معظم الصحافيين والناشطين اليمنيين يتحدرون أيضاً من تعز، ما جعل التأثير في الرأي العام تجاه قضايا اليمن المختلفة يبدأ منها، فقد صدرت منها، فجر الثورة، صحيفة “الجمهورية” لترفع رايتها، وتصدّرت صحيفة “الثقافية” صحف التنوير في اليمن، كما تصدّرت “مؤسسة السعيد” مؤسسات الثقافة والعلوم مطلع الألفية. ومثّل عبد الله عبد الوهاب نعمان، كاتب كلمات النشيد الوطني اليمني، وأيوب طارش عبسي، الذي لحّن كلمات النشيد وغنّاها، أبرز ثنائي يمني أثرى الساحة الفنية بالأناشيد الوطنية والعاطفية أيضاً.
في تعز، تمّ تدريب فصائل العمل المسلّح ضدّ الاحتلال الانكليزي في جنوب اليمن، بالتزامن مع تجهيز وتدريب المتطوعين للدفاع عن ثورة سبتمبر/ أيلول ضدّ الملكيين في شمال اليمن خلال ستينيات القرن الماضي، ومنها انطلق أوّل اعتصام في ساحات الشباب ضد علي عبد الله صالح في 2011. وفي إطار الحرب الراهنة، لا زالت تعز ساحة صراع بين الحوثيين وخصومهم من الشرعية والتحالف حتى اليوم، وفي الوقت نفسه تتعرّض للحصار والقصف من الطرفين، من دون اعتبار لآلاف الضحايا من المدنيين.
قبل وحدة شطري اليمن، كانت الوزارة أقصى ما يصله شمالي في الجنوب أو جنوبي في الشمال، ولم يحدث أن حَكَم الجنوبَ شماليٌ، أو حكم الشمال جنوبي، لكن تعز كسرت تلك القاعدة مرة واحدة لم تتكرر، بوصول عبد الفتاح إسماعيل، أشهر أمين عام للحزب الاشتراكي اليمني، إلى حكم جنوب اليمن أواخر سبعينيات القرن الماضي، وكان إسماعيل من أبرز قادة الكفاح المسلح لطرد الإنكليز من الجنوب رغم تحدره من تعز كمحافظة شمالية.
أخذ التفسير الطائفي لطبيعة الصراع الأخير ينخر النسيج الاجتماعي والوطني في تعز
لم يصل إسماعيل إلى حكم الجنوب لأنه استند إلى قوة نفوذ اجتماعي أو قبلي، كما حدث مع غيره، لكنه حكم كرئيس مدني تقدّمي منقطع عن حاضنته القبلية والاجتماعية لدرجة خاض فيها أثناء حكمه للجنوب حرباً مع الشمال. إلا أنّ رفاقه في عدن تخلّصوا منه في صراع أجنحة الحزب الذي عرف بأحداث يناير/ كانون الثاني 1986، كما تخلّص رفاق رئيس هيئة الأركان العامة الأسبق، عبد الرقيب عبد الوهاب، منه، في تداعيات أحداث أغسطس/ آب 1968 بين أجنحة الجمهوريين بصنعاء. فالرجلان نموذج لابن تعز الذي يناضل من أجل قضية ويتناسى الجغرافيا، فتأكله الهويات ما دون وطنية ورفاق النضال معاً.
عندما عارض رئيس الوزراء اليمني الأسبق، أحمد محمد نعمان، ومعه عضو المجلس الجمهوري بعد الثورة، محمد علي عثمان، سلطات المركز في صنعاء، وجادلا بأن الجمهورية يجب أن تنهي هيمنة القوى القبلية في شمال الشمال، تمّ اتهامهما بأنهما يريدان إقامة دولة شافعية في تعز، وهما من أبرز القادة الجمهوريين، وهذا ما أشار إليه المؤرخ العسكري الإنكليزي إدغار أوبلانس، رغم أن نعمان وعثمان كانا مصنّفين ضمن القوى اليمينية المناهضة للمدّ اليساري والقومي، أي في صف التيار المهيمن بصنعاء يومها، وقادا مع القاضي عبد الرحمن الأرياني وشيوخ القبائل معارضة نظام عبد الله السلال، أوّل رئيس للجمهورية بعد ثورة سبتمبر.
أثناء حكم الرئيس اليمني الأشهر إبراهيم الحمدي، عادت بعض القيادات العسكرية من أبناء تعز إلى صنعاء بعد عمليات التصفيات والإقصاء التي حدثت لهم أثناء أحداث أغسطس/ آب 1968 وبعدها. وبعد اغتيال الحمدي، حدثت تصفيات منظمة لأبرز الشخصيات الاجتماعية في تعز، أشرف على أغلبها علي عبد الله صالح، القائد العسكري لتعز يومها، قبل أن ينطلق منها مباشرة إلى كرسي الحكم في يوليو/ تموز 1978، ويواجه أخطر انقلاب على نظامه ويقوم بإعدام الناصري التعزي عيسى محمد سيف الذي قاد الانقلاب. وهذا ما جعل علاقة صالح بتعز موضع حساسية مفرطة حتى مقتله في ديسمبر/ كانون الأوّل الماضي.
لم تدعم القوات الجنوبية والإماراتية مقاومة تعز إلا بشكل يسمح باستمرار الحرب
بعد حرب صيف 1994، رجحت كفة الأحزاب التقليدية والجماعات الدينية، وأصبح لحزب “الإصلاح” الإسلامي في تعز جمهوراً واسعاً إلى جانب الاشتراكيين والناصريين والبعثيين أبرز القوى فيها تقليدياً. ورغم حصول حزب “المؤتمر الشعبي” الحاكم على أكثر مقاعد البرلمان في المحافظة باستمرار، فإن الناصريين والبعثيين والاشتراكيين – بدرجة أقلّ – لم يعودوا قادرين على دخول قاعة البرلمان كأعضاء فيه، إلا عبر صوت الناخب التعزي بدرجة أساسية، وهذا التنوّع والتعايش في المحافظة جاء بسبب الممارسة الفردية للتعددية السياسية بعكس أغلب المناطق التي تنتمي إلى الأحزاب، وفقاً لحسابات جمعية يفرضها شيخ القبيلة غالبا.
التنوّع في تعز ليس جديداً، فمنطقة الجحملية في المدينة كانت معروفة كمركز للقادمين من صنعاء ومحيطها إلى تعز، خصوصاً عندما اتخذها الإمام أحمد بن يحيى عاصمة لحكمه (1948 – 1962)، ثم عندما أصبح علي عبد الله صالح قائداً عسكرياً للمحافظة، وفيها انصهرت الانتماءات المذهبية للزيدية والشافعية، وقبلها الانتماءات المناطقية. إلا أنّ هذه الاعتبارات عادت للظهور مرة أخرى بفعل ما أحدثه الصراع الجاري من ارتداد نحو التصنيفات ما قبل وطنية للمختلف.
أخيراً، بدأت تعز تتحول من أكثر المحافظات تنوعاً حزبياً وفكرياً إلى أكثرها تنوعاً في الجماعات الدينية والمليشيات المسلحة، فبعد توسّع “الإصلاح” (الجناح اليمني للإخوان المسلمين) كحزب ديني، جاء الحوثيون فأحيوا الانتماء الطائفي للأسر الهاشمية في تعز التي كانت أقرب للصوفية من التشيّع بنسخته الزيدية. ومع اشتعال الصراع خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة، تعرّضت بعض هذه الأسر الهاشمية للتنكيل والتصفيات على يد الفصائل المقاومة للحوثيين، فكثير من السلفيين الذين هجّرهم الحوثيون من دماج مطلع 2014، جاؤوا إلى تعز للأخذ بالثأر. والحوثيون حاصروا تعز عملياً بالتزامن مع الصراع المسلّح منذ أواخر مارس/ آذار 2015، وأخذ التفسير الطائفي لطبيعة الصراع ينخر النسيج الاجتماعي والوطني أيضاً.
قال الحوثيون عند قدومهم إلى تعز إنهم يريدون فقط فتح الطريق أمامهم إلى عدن ولا يستهدفون تعز بذاتها، لكنهم قوبلوا بالتظاهرات الرافضة لوجودهم ولمطالبهم بفتح الطريق إلى عدن باعتبارهم قوات غير شرعية ضد الرئيس عبد ربه منصور هادي الذي فرّ من قبضتهم إلى عدن قبلها بشهر واحد. قمع الحوثيون التظاهرات وسقط عدد من القتلى والجرحى، ونشأت المقاومة المسلحة ضدهم، وتصدّرت قيادات من حزب “الإصلاح” والسلفيين صفوف المقاتلين تحت مظلة الشرعية والتحالف، وهذا ما حول تعز إلى بؤرة صراع له أقنعة وتفسيرات طائفية ودينية، فكان حصار سكان المدينة بالنسبة للحوثي جزءاً من المعركة المقدّسة، وكان القتال ضد الحوثيين جزءاً من المعركة المقدّسة لخصومهم أيضاً.
قاتل الناصريون واليساريون أيضاً ضد الحوثيين، لكنّ القوة الأبرز تمثّلت في “الإصلاح” والسلفيين، وتوقفت القوات الجنوبية والإماراتية على حدود المحافظة بعد سيطرتها على عدن ولحج المحاذية لتعز أواخر 2015، ولم تدعم مقاومة تعز في مواجهة من يفترض أنه خصم مشترك، إلا بشكل يسمح باستمرار الحرب ولا يسمح بحسمها، بتقليص السلاح والعتاد مع ضخّ الأموال لعدد من قادة المقاومة في سباق لاستقطابها، وفي إطار التباين بين دول التحالف خصوصاً السعودية والإمارات.
عدم الحسم في تعز أمر مطلوب حتى لا تظهر للعلن ملامح اليمن المرغوب به مستقبلاً من التحالف
لم تتغيّر جغرافيا الصراع إلا ببطء كبير، لأن العمليات العسكرية ترسم بالقلم والمسطرة من قبل التحالف، لحسابات جزء منها متعلّق بمن يسيطر على الأرض بعد انسحاب الحوثيين، مع خصوصية جوهرية متعلقة بتعز تحديداً ومشاريع التحالف غير المعلنة لإعادة رسم الخريطة اليمنية بعد الحرب. فإخراج تعز من قبضة صنعاء اليوم، لن يسلمها إلى قبضة عدن، لأن ذلك يكسر الحدود الشطرية السابقة بين الشمال والجنوب التي عادت كأمر واقع منذ سيطرة التحالف على عدن (يوليو/ تموز 2015). وإبقاء هذا الوضع السائل يبدو مطلوباً حتى تتمكّن الإمارات من إنشاء قوة جديدة بديلة للحوثيين على مستوى الشمال، والحفاظ على هذا الوضع أيضاً يتطلب استمرار القتال في تعز دون حسم، حتى لا تظهر للعلن ملامح اليمن المرغوب مستقبلاً من التحالف قبل استكمال معطياته على الأرض.
لقد أعلن التحالف أكثر من مرة البدء بعملية “تحرير تعز” وآخرها نهاية يناير/ كانون الثاني الفائت على لسان المحافظ الجديد، لكن ذلك لم يحدث، والجبهات التي نشطت في تعز يومها بدت كتغطية لأحداث عدن الأخيرة، إذ توقّفت بتوقفها. ومطلع إبريل الجاري، قام وفد من القيادات العسكرية للتحالف بزيارة تعز لمناقشة قضية إنشاء قوات حزام أمني في المحافظة على غرار نظيرتها في عدن وأبين ولحج. لقد خسرت الإمارات حليفها أبوالعباس بعد إدراجه في قائمة الداعمين للإرهاب قبل أشهر، وبات عليها بالتالي أن تخلق حليفاً جديداً في تعز أو هكذا يبدو الأمر.
يروّج التحالف لقصف الحوثيين وحصارهم لتعز ليمارس عليها الدور نفسه تقريباً، وهو يعمل على تعزيز صراع فصائل المقاومة فيها وعدم منح السلطات الرسمية فرصة إحكام قبضتها على مؤسسات الدولة، حتى تظلّ عوامل عدم الاستقرار مستمرة، ويتم بناءً على ممارسات التحالف بالدرجة الأولى، تحويل تعز إلى مجرد محرقة بشرية لليمنيين من جميع الأطراف، سواء كانوا من حلفائه في المقاومة والجيش الموالي لهادي، أو من خصومه الحوثيين، إلى أن تتوفّر الشروط الكفيلة بتحقيق أجندته على الأرض. فهل يعجز التحالف فعلاً عن مجرد توفير مستلزمات تقديم الخدمات الطبية في المحافظة، أو عن السماح لأبنائها بدخول عدن مثلاً؟
نشرت هذه المادة في موقع العربي الجديد