تكشف الأزمة الأخيرة في جزيرة سقطرى “سيولة” الساحة اليمينة، ما يؤدي إلى صراعات سياسية وعسكرية متلاحقة، وتبدل في التحالفات وفي تحديد المصالح، وضبابية في المشهد تزيد من استعصاء بلورة حل للوضع القائم.
دون أية مقدمات، قفزت الجزيرة الساحرة والمنسية في البحر العربي إلى صدارة الاهتمامات السياسية والإعلامية، باعتبارها رمزاً “للسيادة اليمنية”، وضحية للتجريف البيئي و”الأطماع التوسعية” من قبل دولة الإمارات العربية المتحدة، أو دولة “الاحتلال” كما وصفتها مصادر حكومية يمنية لوسائل إعلام دولية.
وعلى مدار أسبوع كامل، حبست الأوساط السياسية اليمنية والخليجية أنفاسها لمراقبة التصعيد الحكومي في وجه أبو ظبي. ونظراً لما تحظى به الجزيرة من أهمية جيو استراتيجية ومن قيمة بيئية، ولما ألقي عليها مؤخراً من حمولة أيديولوجية، فقد رد البعض نشوب أزمتها إلى حالة من “اليقظة الوطنية” التي نزلت فجأة على الشرعية، بينما جادل آخرون بأن جوهر الصراع يتصل بأهمية الجزيرة بذاتها، لا باعتبارها جزءاً – فرعياً – من رقعة الشطرنج اليمنية. وراجت رهانات بأن مآلات هذا التصعيد ستؤسس لتحوّل جوهري في صيغة العلاقة التي تجمع الشرعية اليمنية بدول التحالف العربي.
مر أكثر من شهر على تلك الأزمة، ودخلت الجزيرة نكبتها الكبرى بسبب الأعاصير الطبيعية هذه المرة، أما قنابل الدخان السياسي فقد انجلت لتكشف تهافت معظم الحجج السابقة. فأزمة سقطرى لم تكن نقطة تحول جذري في الصراع، كما صوّرها الصخب الإعلامي المرافق لها، بل هي ببساطة جولة جديدة من المواجهات البينية في جبهة المناوئين للحوثيين. وهي في عمقها أزمة كاشفة لمعضلة حقيقية، لا تتصل بالسيادة اليمنية أو بالأطماع الإماراتية (لأن مفاهيم كهذه لا تنتمي إلى واقع الصراع اليمني في لحظته الراهنة)، وإنما تسلّط الضوء على مسألتين محوريتين: هشاشة التحالفات التكتيكية التي فرضتها الأزمة اليمنية واستحالت لاحقاً إلى خصومات علنية زادت من تعقيد الصراع، وتراجع فاعلية القوى المحلية نتيجة ما يعتريها من ضعف بنيوي أمام الحسابات الإقليمية التي أصبحت تتحكم بمسار أي صراع داخلي، فيما يقبع دور اللاعبين اليمنيين عند الحدود الدنيا، أي إشعال فتيل الأزمة دون التحكم بمآلاتها.
إنقضى اليوم شهر على الأزمة، ودخلت الجزيرة نكبتها الكبرى بسبب الأعاصير الطبيعية.. اما قنابل الدخان السياسي فقد إنجلت لتكشف تهافت معظم الحجج السابقة التي قيلت في تفسير الحدث.
إن مقاربة الصراع الأخير حول سقطرى يقتضي أولاً تحديد طبيعة التنافس الاستراتيجي على موقعها الحيوي في البحر العربي والمحيط الهندي. فالجزيرة تندرج دولياً ضمن خارطة النفوذ الأميركي بفعل موازين القوى العالمية، قبل أن يكتسب نفوذ واشنطن غطاء سياسياً أكبر في العام 2010 بعد لقاء “صالح – بتريوس” الذي منح الولايات المتحدة امتيازات استثنائية في الجزيرة مقابل زيادة دعمها العسكري لليمن. وقد أفادت مصادر صحافية أميركية أن ذلك الاتفاق بين الرئيس اليمني السابق وقائد القيادة الوسطى في الجيش الأميركي، تضمن البدء ببناء قاعدة عسكرية (لم تكتمل حتى الآن)، لكن واشنطن شاركت في بناء مطار الجزيرة المدني الذي يصلح أيضاً لتأدية بعض الوظائف العسكرية. أما إقليمياً فقد اشتد التنافس الثنائي بين الدوحة وأبو ظبي منذ نهاية العام 2011، لكنه اقتصر على “أدوات ناعمة” كالجمعيات الخيرية والرحلات الجوية والمشاريع التنموية والزيارات الأميرية. وأما بعد “عاصفة الحزم” فقد ازدادت المنافسة خشونة وإن بقيت تحت المظلة السعودية، قبل أن يتحول التنافس إلى صراع سياسي وتشهير إعلامي عقب اندلاع الأزمة الخليجية.
أما الزاوية الثانية فتتعلق بسياق وحيثيات ومآلات الأزمة الأخيرة بين الشرعية وأبو ظبي، وجوهر التناقضات التي أدت إلى تعميق الانقسامات داخل الحالة اليمنية وتحول الصراع الذي كان ثنائياً ومحلياً إلى صراع متعدد يتداخل فيه المحلي والإقليمي وتتوزع ساحاته غرباً وشرقاً.
تصدع تحالفات الضرورة
“انقضّوا أو انفضّوا”، هكذا وصف محمد حسنين هيكل دعوة الملك سلمان بقية الدول العربية للاشتراك في عمليات “عاصفة الحزم”، حين بدا واضحاً أن القرار السعودي لم يعد قابلاً للأخذ والرد، ذلك أنه لم يكن وليد رغبة ذاتية مضمرة أو مخطط استراتيجي متكامل، بل كان ردة فعل عاجلة لمجاراة المتغيرات اليمنية الداهمة عقب انقلاب الحوثيين وتمددهم عسكرياً إلى عدن، ولتثبيت التغيرات السعودية المتعلقة بانتقال السلطة من الملك عبد الله إلى الملك سلمان، ومعه فعلياً من جيل الأبناء إلى جيل الأحفاد.
وقد حافظ الحضور العربي على نفسه في حدود التأييد السياسي والإعلامي، أو المشاركة العسكرية المحدودة، باستثناء دولة الإمارات العربية المتحدة التي بدت جاهزة سياسياً وعسكرياً ومالياً للمضي حتى النهاية في النهج السعودي، بما رفعها إلى مرتبة الشريك الاستراتيجي الذي لم يأتِ ليحزم حقائبه ويعود في اليوم التالي، ولكنه سيشترك في رسم مستقبل الصراع اليمني.
بيد أن هذه الشراكة لم تخلق بدورها رؤية استراتيجية مشتركة، وذلك بسبب محدودية الخبرة الخليجية في هذا النمط من الصراع، ولما تحفل به البيئة اليمنية من غموض وتعقيد وتقلب.
بداية الحرب قدمت الرياض لأبو ظبي ضمانات سياسية قوية تمظهرت داخل “السلطة الشرعية” تُعزز بها حالة التوازن السياسي والعسكري بين دول “التحالف العربي” من جهة، وبين حلفاء الحرب المحليين من جهة أخرى. وفي هذا السياق، جاء تعين خالد بحاح نائباً لرئيس الجمهورية إلى جانب منصبه كرئيس للوزراء، وتولت شخصيات سياسية تنتمي للحراك الجنوبي مقاليد السلطة المحلية في المحافظات الجنوبية (المحررة). لكن هذه الضمانات اهتزت بقوة بعد مرور عام من الحرب، وإصدار الرئيس هادي حزمة قرارات أقال بموجبها خالد بحاح من منصبيه، وعين علي محسن الأحمر نائباً للرئيس والدكتور أحمد عبيد بن دغر رئيساً للوزراء.
نجح هادي بتغيير قواعد اللعبة لإضعاف النفوذ السياسي الإماراتي الذي كان يتمدد على الأرض، وبالمقابل عمدت أبو ظبي إلى دعم قوات أمنية وعسكرية رديفة للشرعية، اشتركت بعمليات مكافحة الإرهاب. بل أنها ذهبت أبعد من ذلك، بالاشتراك في عمليات “الرمح الذهبي” (كانون الثاني/ يناير 2017) التي استهدفت تحرير الساحل الغربي وصولاً إلى ميناء المخا. وبهذا واجهت الإقصاء السياسي من الحكومة بإقصاء الشرعية من التواجد العسكري في الساحل الغربي.
تغيير قواعد الاشتباك هذه المرة حوّل التنافس إلى صراع، أولاً من خلال تعديل ميزان القوى باستدعاء قوات عسكرية مرابطة في صعدة ونجران إلى عدن وضمّها إلى قوات الحرس الرئاسي، وثانيا بإقالة ما تبقى من حلفاء الإمارات الوازنين في الحكومة أو السلطات المحلية. وعليه فقد تكتل حلفاء أبو ظبي من السلفيين والانفصاليين في كيان سياسي جديد سُمي “المجلس الانتقالي الجنوبي” برئاسة عيدورس الزبيدي، وتحوّلت القوات الرديفة للشرعية إلى سلطات موازية في المحافظات الجنوبية.
وكان من الممكن أن تتطور حالة الاستقطاب المحلي بين “الحراك الجنوبي” و”السلطة الشرعية” إلى خلاف حاد بين الرياض وأبو ظبي، لولا أن الساحة الإقليمية شهدت حدثين محوريين ساهما بتبريد الأجواء وتعزيز التفاهمات المشتركة، هما: صعود محمد بن سلمان إلى ولاية العهد؛ واندلاع الأزمة الخليجية مع الدوحة. وعليه دخل الصراع اليمني في حالة من الجمود أو الاستاتيكو العسكري والسياسي حتى نهاية العام 2017، وهدأت فيه المواجهات الثنائية بين “الشرعية والانقلاب”، لكن التناقضات البينية داخل كل جبهة ظلّت تتفاعل إلى أن انفجرت وأعادت تشكيل المشهد.
تحالفات ما بعد صالح
مقتل الرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح على يد حلفائه الحوثيين في صنعاء أدخل تغييرات هامة على خارطة التوازنات المحلية، وفرض على جميع الأطراف مراجعة حساباتها. وفي مقدمة تلك الأطراف أبو ظبي التي لطالما اعتبرت صالح “حليفاً مفترضاً” في الشمال وراهنت على انقلابه على الحوثيين. وبعد أيام من مقتله، كان متوقعا أن تتجه الإمارات إلى لانفتاح على حزب الإصلاح (الإخوان المسلمون) والرئيس هادي، وهذا الانطباع عززه لقاء “جدة” الذي جمع الشيخ محمد بن زايد بأرفع قيادييَن إصلاحيين برعاية الأمير محمد بن سلمان.
لكن هذه الخطوة لم تكن أكثر من مناورة إماراتية لالتقاط الأنفاس عقب ما تجرّعته من خسارة، واختارت أبو ظبي السير في الطريق الأصعب وإعادة إحياء تركة صالح السياسية (عبر نجله أحمد وقيادات “المؤتمر” الموالية له)، وعسكرياً (من خلال ابن أخيه طارق الذي جمع قوات الحرس الجمهوري في عدن وأسس ما عرف بـ”قوات المقاومة الوطنية” ويبلغ قوامها حالياً 15 ألف مقاتل).
وهكذا استولدت التصدّعات البينية داخل جبهتي الصراع ثلاثة معسكرات مختلفة، اثنان منها تحت رعاية دول “التحالف” والثالث معادي لها:
- معسكر المحتكرين لـ”الشرعية”: يمثله الرئيس هادي وحزب الإصلاح، ومرجعيته الرياض.
- معسكر المقصيين من “الشرعية”: يتكون من “المجلس الانتقالي الجنوبي” والقوات الموالية لطارق، وهو مدعوم إماراتياً ويلبي أهداف التحالف أيضاً.
- معسكر المنقلبين على “الشرعية”: ويستفرد به الحوثيون حالياً في صنعاء وهو يوالي طهران.
رفعت خارطة القوى الجديدة حدة الاستقطاب بين ممثلي الشرعية وحلفاء أبو ظبي في اتجاهين: أولهما التنافس على تقاسم السلطة داخل “المدن المحررة”. وقد بلغ هذا الصراع ذروته في كانون الثاني / يناير الماضي حينما صعّد “المجلس الانتقالي الجنوبي” ضد حكومة بن دغر مطالباً بإقالتها. وتطور التصعيد السياسي إلى اشتباكات مسلحة استمرت ثلاثة أيام، تمكّنت خلالها مجاميع “الانتقالي” من محاصرة “قصر المعاشيق” مقر إقامة الحكومة. غير أن الوساطة السعودية والضغوط الإماراتية أوقفت المواجهات التي لم يستفد منها “الانتقالي” سياسياً لكنه نجح عسكرياً بخفض التواجد المسلح للشرعية، وعدّل موازين القوى بحيث انتهت الجولة الأولى من الصراع لصالحه ميدانياً. وقد مثل ذلك للإمارات خطوة إيجابية لتجنب تداعيات سياسية أو عسكرية في عدن جراء دخول طارق صالح على خط المواجهات، وعدم تكرار سيناريو العام الماضي، حين صعّدت الشرعية عسكرياً وسياسياً في العاصمة المؤقتة لتفرض معادلة جديد مفادها “عدن مقابل المخا”.
تكشف أزمة سقطرى هشاشة التحالفات التكتيكية التي فرضتها الأزمة اليمنية، والتي استحالت لاحقاً الى خصومات علنية زادت من تعقيد الصراع، وتراجع فاعلية القوى المحلية نتيجة ما يعتريها من ضعف بنيوي أمام الحسابات الاقليمية التي أصبحت تتحكم بمسار أي صراع داخلي، فيما يقبع دور اللاعبين اليمنيين عند الحدود الدنيا، أي اشعال فتيل الازمة دون التحكم بمآلاتها.
وكان الاتجاه الآخر، أن نشّطت المعارك المستعرة بين الحوثيين وبين القوات المدعومة من التحالف، حدة التنافس غير المباشر بين الشرعية وحلفاء أبو ظبي حول مكاسب “عملية التحرير”، لاسيما مع تقدم قوات طارق و”لواء العمالقة” جنوب محافظة الحُديدة وشمال غرب محافظة تعز. وخلال الشهر المنصرم بلغ الصراع ذروته في تعز حين قرر حزب الإصلاح الحشد سياسياً وجماهيرياً للتظاهر ضد طارق صالح باعتباره المسؤول عن قتل “شهداء الثورة”. وحالياً تشهد المدينة توتراً أمنياً وعسكرياً بين المجاميع الموالية للإمارات والوحدات العسكرية الموالية للإصلاح. وبعكس عدن، فإن الجولة الثانية من الصراع في تعز لم تُحسم بعد لمصلحة أحد، لكن نتيجة التعادل جاءت بطعم الخسارة بالنسبة لحزب الإصلاح.
سقطرى .. جولة ثالثة من الصراع
جاءت زيارة المبعوث الاممي، الذي التقى بمعسكر “المقصيين”، لتمنح أبو ظبي وحلفاءها اعترافاً ضمنياً أثار حفيظة الحكومة الشرعية ونشاطها. لذلك فإن رئيس الوزراء أحمد عبيد بن دغر _الذي غادر العاصمة المؤقتة بعد أيام من محاصرته في مقر إقامته بعدن_ قرر العودة إليها نهاية شهر نيسان / ابريل الماضي، ليبدأ جولة ميدانية في محافظة أبين ثم محافظة حضرموت وصولاً إلى جزيرة سقطرى التي أطال الإقامة فيها. وتزامن ذلك أيضاً مع زيارة قام بها نائب رئيس الجمهورية علي محسن الاحمر إلى محافظة مأرب، ومن هناك عمل على لقاء عدد كبير من المسؤولين، وكذلك الشخصيات العامة الحضرمية.
خلال السنوات الفائتة، جرى تحييد سقطرى عن تداعيات الصراع البيني، وسادت حالة من المساكنة بين الشرعية والإمارات بخصوص الجزيرة استقامت على ركيزتين: أولاً اقتصار الدعم العسكري الإماراتي في الجزيرة على المؤسسات الرسمية من خلال اللواء الأول مشاة بحري، وعدم تشكيل أية قوة موازية، وثانياً منح أبو ظبي أفضلية التواجد الجيوسياسي في الجزيرة في إطار مهامها ضمن قوات “التحالف العربي”، وكذلك من خلال أدواتها الناعمة بالجزيرة. لكن هذه العلاقة اهتزت بفعل الهواجس التي رافقت زيارة رئيس الوزراء اليمني.
قرأت أبو ظبي زيارة بن دغر على أنها محاولة لنقل الصراع من المركز إلى الأطراف ومن الغرب إلى الشرق، وهي ترى من واقع تجربتها أن ثمة مساع لفرض معادلة جديدة مفادها “سقطرى وحضرموت مقابل تعز والحديدة”. وبحسب بيان الحكومة اليمنية، فإن دولة الإمارات استجلبت مزيداً من المعدات العسكرية إلى المحافظة، وهو ما زاد من توتير الأجواء، ولعلها أرادت استباق أي تصعيد سياسي من خلال تعديل موازين القوى العسكرية، خصوصا وأن حلفاءها في سقطرى أضعف من بقية المحافظات الجنوبية.
نجح بن دغر بدفع الصراع إلى حافة الهاوية مستغلاً ضعف الموقف السياسي الإماراتي، وعمد إلى استحضار وساطة سعودية لتسوية الأوضاع لمصلحته. لكن شركاءه في الشرعية عملوا على توجيه الصراع نحو الهاوية من خلال تسريبات إعلامية تصف التواجد الإماراتي بالاحتلال وتشير إلى نية الرئيس هادي إلغاء المشاركة الإماراتية في صفوف “التحالف العربي”، وهو ما زاد التأزم.
وقد أدت إطالة عمر الأزمة بعد فشل الوساطة السعودية الأولى إلى دخول أطراف جديدة للاستثمار في الصراع، منها الدوحة التي أخذت سقطرى نقطة ثابتة في وسائل إعلامها، وكذلك أنقرة التي أصدرت بياناً رسمياً عن وزارة خارجتيها لتأييد الشرعية ومهاجمة الإمارات التي حاولت بدورها تحسين موقفها السياسي من خلال حلفائها في “المجلس الانتقالي الجنوبي” حيث قاموا بحشد مئات المتظاهرين لتأييد أبو ظبي، وذلك بعد أيام من حشد “الإصلاح” عشرات المتظاهرين لتأييد الحكومة.
وبعد أيام من الشد والجذب نجحت الوساطة السعودية أخيراً بنزع فتيل النزاع وإنهاء أي وجود عسكري مستحدَث من الإمارات، مقابل تهدئة لهجة الحكومة الشرعية. وبتعبير بن دغر “لم ينتصر أحد، ولم ينهزم آخر، بل انتصرنا جميعنا، واتفاقنا يقضي بعودة الأمر إلى ما كان عليه”.
مقتل الرئيس اليمني السابق على عبد الله صالح على يد حلفائه الحوثيين في صنعاء أدخل تغييرات هامة على خارطة التوازنات المحلية، وفرض على جميع الاطراف مراجعة حساباتها. وفي مقدمة تلك الاطراف ابوظبي التي لطالما اعتبرت صالح “حليفاً مفترضاً” في الشمال وراهنت على انقلابه على الحوثيين
إذاً انتهت الجولة الثالثة أيضا بالتعادل. إعلامياً هو بطعم الفوز للشرعية، وعملياً لا يبدو بطعم الهزيمة للإمارات، ذلك أن موقعها لم يهتز في الجزيرة، لكنها ستبقى برعاية سعودية تدير التوازنات وتحل الخلافات. كما أن الشرعية لم تقايض سقطرى مقابل عدن، لذا فإن رئيس الحكومة مرّ إلى العاصمة المؤقتة بضع ساعات فقط ومن ثم عاد إلى الرياض. والواضح أن بن دغر كان محترفاً في إدارة خلافات الحكومة اليمنية مع الإمارات، وعمل على تبريد الأجواء عندما رأى أن الأزمة تكاد تحيد عن السكة. بيد أن المنظومة التي يعمل من خلالها تظل حافلة بالضعف والتناقض، وهي عاجزة عن إصلاح جوهر المشكلة المتعلق بشكل وطبيعة التحالفات. ومن منظور بن دغر فإن التحالفات “وحدة في الأهداف، وشراكة في القول والفعل، وتكافؤ في الفرص”، ولا شيء من هذا ينطبق على وضع الشرعية مع قوى الداخل أو الخارج.
في الأخير، لم يتجاوز تصعيد الشرعية السياسي مربع التشهير أولاً ثم تطييب الخواطر لاحقاً، وذلك يعود إلى عاملين رئيسيين:
العامل الأول أن “السلطة الشرعية” لم تعد كذلك إلا صورياً، لأنها فقدت عمليا مشروعيتها جراء عمليات الإقصاء التي مورست بحق بقية المكونات، واحتكارها من قبل طرف بعينه أفقدها عنصري الفاعلية والمصداقية. وليس من المصادفة أن تقف جميع الأحزاب السياسية التي هي جزء من “عملية الانتقال السياسي” (الاشتراكي، الناصري، تيار واسع من المؤتمر) ضد إجراءات التصعيد الأخيرة. وبمعنى آخر، فإما أن يتم ترميم وإصلاح الشرعية سياسياً او أنها ستظل “شرعية حزب الاصلاح” بنظر بقية القوى السياسية. كما أن السلطة تعاني من عجز بنيوي نتيجة الفساد والترهل وغياب الكفاءة.
أما العامل الثاني فيتعلق بحجم التوافقات السعودية الاماراتية اليوم، والتي تتغلب على أية خلافات جزئية تتعلق بالملف اليمني. إن دور اللاعبين الإقليميين بات أكثر محورية من دور القوى المحلية، لاسيما في ضبط مآلات أي صدام. وقد تجلى ذلك أولاً في مواجهات عدن، وها هو يتكرر في سقطرى، ولا يستبعد أن يحدث أيضاً في تعز.