بعد تردد طويل أعلنت اخيراً سلطة الأمر الواقع في صنعاء حكومة مكونة من 42 حقيبة، في خطوة أقل ما يمكن وصفها بالمفاجئة والتصعيدية في إطار الحرب التي تعيشها اليمن منذ حوالي العامين.
إعلان هذه الحكومة تأخر منذ إظهار الحوثيين وصالح لتحالفهم بشكل رسمي وذلك بتشكيل المجلس السياسي الأعلى، ومن ثم تكليف الدكتور عبد العزيز حبتور بمهمة تشكيل حكومة. وهو تأخر يمكن تفهم أسبابه بالخشية من تداعياته السياسية خصوصاً بعد تدخل دولة روسيا الاتحادية تحديدا لمنع تشكيل الحكومة في السابق. إذ كانت روسيا – التي تعتبر حليفا نظريا للحوثيين وصالح – قد حذرت الحوثيين في السابق من عواقب المضي قدماً في تسمية أعضاء حكومة بن حبتور كونها لن تحظى بأي إعتراف دولي.
يشكل هذا الإعلان ضربة قاسية لمسار محادثات السلام المتعثر أصلاً، ودفناً لفرص التسوية التي يسعى خلفها المبعوث الأممي إلى اليمن إسماعيل ولد الشيخ أحمد بدعم واضح من قبل الرباعية الدولية، لكونه يبدو رفضاً بحكم الأمر الواقع لخطوات التسوية القائمة على المبادرة الأخيرة المقدمة من المبعوث الأممي، وهي خطوة تتناقض مع التصريحات الأخيرة للناطق باسم جماعة أنصار الله محمد عبدالسلام الذي قال فيها أن اتفاق مسقط لم يسقط.
وبالإجمال هي خطوة تضاف إلى الرفض المعلن من قبل الحكومة الشرعية المقيمة في الرياض للخطة الأممية، ما يعني فعلياً عدم قبول طرفي النزاع لها.
يدرك طرفا تحالف صنعاء أن هذه الحكومة لن تحظى بأي اعتراف دولي، ولذلك يمكن فهم خطوتهما باعتبارها موجهة للداخل أكثر من الخارج، وبشكل أساسي يمكن النظر لهذا الإعلان باعتباره خطوة لها في إطار معالجة الاحتقان بين شركاء الحكم في صنعاء أكثر من أي شيء اخر. ولا يبدو تضخم عدد حقائب هذه الحكومة بشكل مبالغ فيه إلا كونه محاولة اقتسام للسلطة بينهما بشكل مرضي لأنصارهما، في ظل التوترات غير المعلنة بينهما مع فشل المجلس السياسي الأعلى في ترتيب شؤون الحكم على خلفية ما يبدو هيمنة حوثية عبر اللجان الثورية والمشرفين، وهو ما أثار انزعاج المؤتمر وأنصاره، والذي يراهن على أن حضوره عبر الحكومة في مؤسسات الحكم سيمنحه أفضلية استناداً إلى خبرته الطويلة وللتذمر القائم من الأداء العشوائي للجان الحوثيين ومشرفيهم.
مازال باكراً محاولة فهم كيف سينعكس هذا الأمر على العلاقة الملتبسة بين الطرفين اللذين يجتمعان على أرضية واحدة هي مواجهة هادي والتحالف العربي بقيادة السعودية، بينما يتنازعان ويختلفان في كل شيء عدا ذلك.
إضافة لذلك وعلى صعيد المواقف الدولية من الأزمة اليمنية، فإن خطوة تصعيدية كهذه ستعرقل مسار السلام على المدى القريب والمتوسط. وقد تؤدي إلى الإضرار بشكل كبير بقنوات الاتصال السياسي التي فتحها تحالف الحوثيين وصالح مع أطراف دولية في الفترة الأخيرة. كما ستمنح دعماً إضافياً للحكومة الشرعية في مواجهة خصومها عسكرياً بغض النظر عن فشلها السابق.
في مستوى آخر يمتلك تشكيل هذه الحكومة دلالة بالغة الرمزية في ظل استقرار حدود الصراع نسبياً، فعلى الرغم من الهوية الجنوبية الشكلية لرئيسها فهي أشبه بإعادة بعث رمزية للجمهورية العربية اليمنية بالنظر إلى النطاق الجغرافي المحصور بحدود الجمهورية العربية اليمنية قبل العام 1990 التي ستمارس السلطة الفعلية عليه وهوية الأطراف القائمة عليها، بمقابل هيمنة رمزية مقابلة لهوية جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية في النطاق الجغرافي التي تتواجد فيها الحكومة الشرعية الموالية للرئيس هادي، والتي لا تمتلك من السلطة إلا الحق الشرعي بها بينما تتقاسم أطراف عدة القرار الفعلي على أرض الواقع.
في أحسن الأحوال، ستضيف هذه الخطوة التصعيدية شهورا أخرى لعمر النزاع الجاري الدامي والذي خلف واحدة من أكبر الأزمات الإنسانية في العالم منذ سيطرة الحوثيين على العاصمة اليمنية صنعاء في 21 سبتمبر 2014 ولاحقاً بدء التدخل العسكري بقيادة المملكة العربية السعودية في 25 مارس 2015.
يرسخ هذا الإعلان واقع انقسام اليمن بين سلطتين ويديم الصراع بينهما على الأفق المنظور، وهي خطوة وإن كانت تستجيب لحاجة تحالف صنعاء لتسوية المشكلات فيما بينه، إلا أنها لا تتحسس ما سينجم من آثار سياسية على موقفهما التفاوضي وفي سياق الصراع الكلي وعلى الخطر الذي تشكله على الجمهورية اليمنية بمعناها وتكوينها الحالي.
سميت حكومة الـ42 حقيبة بحكومة الإنقاذ, لكنها في الواقع تعكس أزمة ثقة بالكاد تم تجاوزها بتوفير أكبر عدد ممكن من فرص السيطرة لكل طرف, فقد جرى الحديث سابقا عن 15 حقيبة كحكومة إنقاذ. إلا أن أربعة أشهر من مفاوضات الحليفين ضاعف الرقم ثلاث مرات. كما أن هناك اتفاقا ضمنيا بتعيين نائب/وكيل لكل وزارة من الطرف الآخر، بحيث أن الوزارة التي يشغلها وزير من حزب المؤتمر مثلا يكون نائبه أو وكيل الوزارة من الحوثيين، وهذا يعني تقييد صلاحيات الوزير وربطها بأداء شبه توافقي غنائمي بين الطرفين.كما أن جغرافيا القتال الراهن ألقت بظلها على أسماء التشكيلة الحكومية، بحيث تفردت منطقة خولان مثلا بأربعة أسماء أو 10% من الحقائب الحكومية كونها من مناطق طوق العاصمة صنعاء التي تقف قوات الشرعية على أعتابها.
ولأول مرة يشغل شيوخ قبليون كل هذا القدر من الوزارات الهامة كالاتصالات والنفط والتخطيط، ووزيري دولة. كما وشغل حقيبة النفط وزير حصل على البكالوريوس قبل عامين فقط, لكنه ينتمي لأسرة ذات نفوذ في منطقة النفط الرئيسية بمحافظة مأرب التي تسيطر عليها الشرعية والتحالف، باستثناء مديرية صرواح.
كما يلعب العامل الزمني دورا كبيرا في قضية فشل أو نجاح الحكومة، بحيث أن موظفي القطاع الحكومي (العسكري والمدني) لم يتسلموا سوى راتب نصف شهر من أصل ثلاثة أشهر عجزت أو توقفت بالأدق سلطة الأمر الواقع بصنعاء عن دفعها، ثم امتد العجز أو التوقف إلى حكومة الشرعية بعد إعلان نقل المركز الرئيس للبنك المركزي اليمني من صنعاء إلى عدن. وإذا تمكنت هذه الحكومة من دفع رواتب الموظفين فسوف توجه ضربة قوية لحكومة الشرعية على الأقل أمام الرأي العام المحلي، لكنها لا يبدو أنها تملك أي نوايا – أو حتى مورد – لذلك.
في الواقع، يعطي تشكيل الحكومة مبررا للتحالف العربي وسلطة الرئيس هادي لفرض حصار حقيقي على شمال اليمن، ومنع التعامل معها على المستوى الدولي, باعتبارها أكملت أركان انقلابها على السلطة بتشكيل حكومة من طرف واحد، بعكس ما كان متوقعا – ومتفقاً عليه – بعد تصريحات وزير الخارجية الأمريكي جون كيري بعد لقائه قيادات حوثية بمسقط قبل أسبوعين عن تشكيل حكومة وطنية قبل نهاية العام.
وبالعودة إلى بنية الحكومة، فمن الملاحظ أيضا وجود تضارب اختصاصات ربما فرضه الحاجة إلى استحداث مناصب عليا لقيادات من الطرفين يصعب تجاوزها، فهناك مثلا وزير داخلية، وفي نفس الوقت هناك نائبان لرئيس الوزراء أحدهما لشؤون الأمن، والآخر للشؤون الداخلية، وهناك نائب آخر للشؤون الاقتصادية في ظل وجود وزيري المالية والاقتصاد، وهكذا.
ومن الملاحظ شكليا أن المؤتمر حرص على الوزارات الإيرادية كالنفط والاتصالات, بينما حرص الحوثيون على الوزارات ذات العلاقة بالتكوين الثقافي كالتربية والإعلام، مع سيطرتهم على الجيش عبر وزارة الدفاع، وهذا يشكل ضغطا كبيرا على المؤتمر فيما يتعلق بمستقبل الحرس الجمهوري الموالي لنجل صالح (أحمد علي عبدالله).
وصباح الثلاثاء (بعد حوالي 12 ساعة فقط على إعلان حكومة صنعاء) عقد هادي لأول مرة اجتماعا بحكومته في عدن، ويبدو موقفه الدولي أصبح أقوى بعد رفضه القبول بخريطة ولد الشيخ الذي أظهره كطرف متعنت خلال الأسابيع الأخيرة، وبدا أكثر تركيزا على العمل العسكري من خلال تعيين عدد من القادة العسكريين على رأس المناطق العسكرية الهامة والمرتبطة بجبهات القتال المفتوحة.
ومن المستبعد جدا أن تحظى بأي ترحيب خاصة من الأطراف الدولية ذات العلاقة المباشرة بالوضع في اليمن كدول اللجنة الرباعية (أمريكا، بريطانيا، السعودية، والإمارات).
بشكل عام قد يكون إعلان الحكومة أمرا محل ترحيب من أنصار الحليفين (الحوثيين وأنصار صالح)، وقد يؤجل طفو خلافاتهما على السطح حول مبدأ الشراكة في السلطة، لكنه قد يؤدي إلى صراع مصالح واختصاصات بينهما على الأرض، في ظل شحة الموارد، والعزلة الدولية، والأزمة الإنسانية غير المسبوقة. كما يقدم إعلان حكومة صنعاء لحكومة هادي إخلاء طرف عن مسؤوليات الأخيرة أمام مواطنيها في المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون وصالح.
هذه الحكومة المعلنة هي حكومة عملاقة باقتصاد شديد التقزم والهشاشة، وهذه نقطة الضعف الأخطر بعد عدم الشرعية، فعامل الزمن سيكشف عجزها سريعا وتتحول إلى نقمة على طرفيها من قبل الرأي العام، فهي تسيطر على أقل مساحة، بأقل موارد، وأكبر عدد من السكان، ودون غطاء دولي (ظاهريا على الأقل) في بلد يعيش على المساعدات الدولية.
كما يتعلق جزء كبير من مصيرها محليا بطبيعة رد فعل هادي وحكومته في التعامل مع مصالح اليمنيين أكثر من أي جهد دبلوماسي على المستوى الإقليمي أو الدولي، كونها غير معترف بها خارج إطار سيطرتها الفعلية.
* مدير مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية