تُثير المعارك المشتعلة منذ أكثر من أسبوعين في منطقة باب المندب وصولاً إلى مدينة المخا ذات الميناء الحيوي اهتماماً شديداً كونها أول تحول كبير في مسرح الحرب اليمنية منذ استقرار خطوط التماس بين طرفي القتال طوال العام المنصرم دون تقدم كبير يمكن أن يغير موازين السيطرة على الأرض. وهي تبدو المعركة الأهم فعلياً منذ استطاعت القوات الموالية للحكومة الشرعية في اليمن دخول منطقة نهم التي تشكل البوابة الشرقية للعاصمة اليمنية في بداية عام 2016.
المعارك التي بدأت مع توجه قوات الجيش الوطني مدعومة بغطاء ناري كثيف من قوات التحالف العربي جوياً وبحرياً نحو مركز مديرية ذباب الاستراتيجي الذي يطل على باب المندب ، وانتزاعها أخيراً من يد القوات الموالية لصالح والحوثيين بعد فشل محاولات متعددة على مدى أكثر من عام، كانت تدور سجالا سيطرة وانسحاباً خاصة في محيط معسكر العمري ومديرية ذوباب, ومن ثم التقدم بشكل حثيث نحو مدينة المخا التي تبعد عن ذباب بأكثر من أربعين كيلومترا شمالاً حيث تدور حرب شوارع حالياً في أحياء المدينة بين الطرفين مع إطباق قوات الجيش الوطني الحصار على المدينة من الجهتين الجنوبية والشرقية وقطع طرق الإمداد القادمة لقوات الحوثيين وصالح القادمة من معسكر خالد بن الوليد الواقع شرق المخا باتجاه مدينة تعز. أُضيف لذلك إنزال مباغت من الجهة الشمالية لإطباق الحصار وقطع الإمدادات من جهة الخوخة, مع أن بعض المصادر تؤكد تمكن قوات الحوثي-صالح من فك الطوق الشمالي والعودة إلى حصر الاشتباكات جنوبا وشرقا. لكن التحول كليا إلى موقف دفاعي حوثي-صالحي دون تغطية جوية يجعل السيطرة على أحياء المدينة مسألة وقت.
إن السيطرة على كل من ذباب والمخا أمر مهم للغاية كونه يفقد تحالف صالح والحوثيين واحدة من أهم المنافذ التي يعتمد عليها في التهريب إلى الأراضي اليمنية. كما تحرمهم من شرفة بالغة الأهمية تطل بهم على مضيق باب المندب الذي تمر به خطوط الملاحة الدولية. لكنها بالإجمال ستظل سيطرة غير مستقرة في حال عدم تأمين السلاسل الجبلية الممتدة بموازاة الشريط الساحلي من باب المندب جنوبا حتى ميدي التي تقع أقصى الشمال (تابعة لمحافظة حجة) وتقع على خط التماس الحدودي مع السعودية في الزاوية الشمالية الغربية من اليمن, وتدور فيها معارك طاحنة أيضاً بين قوات الحوثيين وصالح من جهة والجيش الوطني من جهة أخرى.
الأمر لا يتعلق فقط بالجبال التي يلوذ بها مقاتلو الحوثيين وصالح وتوفر لهم حماية طبيعية تجاه الطيران، بل أيضاً لوجود معسكرات أساسية تغذي قواتهم في معركة المخا المشتعلة الآن، وأبرزها معسكر خالد بن الوليد الذي يشكل نقطة ارتكاز بالغة الحيوية لتغذية قوات الحوثيين وصالح في الجبهة الغربية لمحافظة تعز ولمهاجمة المخا والجزء الجنوبي من الساحل اليمني على البحر الأحمر وصولاً إلى باب المندب. وهو المعسكر الذي أنيطت بصالح مهام تأسيسه كقاعدة عسكرية لليمن الشمالي (قبل إعادة تحقيق الوحدة بين الشطرين في مايو 1990) ويوازي قاعدة العند العسكرية التي كانت تابعة للشطر الجنوبي إبان فترة حكم الرئيس الأسبق إبراهيم الحمدي منتصف السبعينات. كما كان المعسكر أساس القوة والنفوذ الذي صعد صالح إلى كرسي السلطة لاحقا بما أتاحه له من قوة واحتكاك مع العالم المفتوح على شواطئ المخا التي تحولت من ميناء اقتصادي حقيقي إلى نافذة تهريب للأسلحة والكحوليات، ونافذة للعلاقات مع كل عابري البحار من قوات وعيون.
الرمزية التي يمثلها معسكر خالد بن الوليد لصالح تجعل حرص القوات الموالية للشرعية أحرص على السيطرة عليه، خاصة وقد خاض معارك حرب صيف 1994، ضد وزير الدفاع لقوات البيض حينها (هيثم قاسم طاهر) الذي يقود معركة المخا وباب المندب حاليا. ولم يكن تكليف هيثم طاهر بالمهمة خارج هذه الحسابات فيما يبدو، لكن السيطرة على المعسكر بلغة أخرى تعطي للمسيطر عليه ميزة جوهرية ليس في وضع المخا تحت رحمة قذائفه، بل وفي إعطاء نقطة تمركز للتوسع في تعز والوازعية حيث تدور معارك أخرى تراوح أماكنها دون تغيير جوهري منذ العام الماضي.
ظهر زعيم الحوثيين في خطاب متلفز عشية الاشتباكات العنيفة في مدينة المخا رغم غيابه الطويل عن أنصاره، ليعيد شحنهم بطاقة معنوية ارتكزت على الخطاب الديني، معيدا تركيز خصومه على باب المندب وامتداد سواحله شمالا إلى رغبة السعودية بخدمة الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب، مؤكد الاستمرار في الدفاع عنه. لكن صالح لم يظهر بخطاب مماثل ربما لأنه غير قادر على إعطاء وعود بالنصر في تلك الجبهة التي يعرفها أكثر من أي يمني آخر ربما.
في حال حسم معركة المخا خلال الأيام القادمة كما يتوقع فإن السيناريوهات المتوقعة ترجح الذهاب نحو معسكر خالد بن الوليد وتأمينه كأولوية سابقة وأكثر أهمية من الدفع بالقوات قدماً نحو الخوخة شمالاً، والتي تقع في منتصف الطريق بين المخا ومدينة الحديدة بالغة الأهمية. والتوجه نحوها يعني غلق آخر وأهم النوافذ على الإطلاق للحوثيين وصالح على العالم الخارجي، كما يعني خنق الاقتصاد في المناطق الواقعة تحت سيطرتهم كليا، لأن الحديدة هي الممر الحيوي للحياة ومتطلباتها في بلد يستورد أكثر من 90% من احتياجاته الغذائية.
ومع ظهور أسلحة مضادة للدروع، وصواريخ موجهة قادرة على استهداف السفن والبوارج الحربية التابعة للتحالف من الجبال المطلة على الساحل الغربي وسفوحها، فإن عدم تأمين هذه المناطق قبل التوغل شمالا سيجعل هذا الساحل مصيدة قاسية ومستنقعاً لاستنزاف قوات التحالف والجيش الوطني، خاصة مع عدم قدرة التحالف على التغطية الجوية لأن مناطق القصف لن تكون منشآت عسكرية قابلة للقصف بل منصات متنقلة. وقد سبق قصف بارجة إماراتية وأخرى أمريكية من ذات الساحل في شهر أكتوبر من العام المنصرم.
ضمن مستوى آخر يمكن قراءة دلالات مختلفة لمعركة المخا، حيث يفصح سلوك قوات الحوثيين وصالح الذين لم ينسحبوا من المدينة، وفضلوا التمركز وسط الأحياء السكنية وخوض حرب شوارع انطلاقاً منها، عن هوية المعارك القادمة في حال تقدم القوات الموالية للحكومة الشرعية نحو المدن التي تقع تحت سيطرتهم، وكيف أنهم يذهبون باتجاه معارك صفرية ذات كلفة إنسانية عالية. خاصة أن المناطق الواقعة شمال المخا أكثر كثافة سكانية من جنوبها. لكن المؤكد أن الاستماتة في الدفاع عن المخا أو محاولة استعادتها لاحقا ستستمر لما تمثله من قيمة استراتيجية ورمزية في الوقت ذاته قد يؤدي فقدانها إلى تراجع قوي في معنويات مقاتلي الحوثي-صالح، وبالتالي تراجع قدرتهم على الحشد والإعداد لمقاتلين جدد لا يسعف الوقت لتوفيرهم حتى لو كان ذلك ممكنا نظريا.
الدلالة الأخرى المهمة هي هوية القوات الموالية للحكومة الشرعية التي تخوض المعركة، فهي مكونة من مقاتلين وقياديين عسكريين جنوبيين ينادون بفك الارتباط بين شمال اليمن وجنوبه. وتشكل المعركة التي تجاوزوا فيها الخطوط الشطرية السابقة إخلالاً بتعهدهم بالدفاع عن الجنوب فقط كون المعركة في الشمال لا تعنيهم. وفي ذلك يبدو أن قرار التحالف العربي ممثلاً بالإمارات كان المحرك الأساسي لهم وليست الخيارات السياسية الخاصة بهم. وتصدر اللواء هيثم قاسم طاهر آخر وزير دفاع للشطر الجنوبي وأول وزير دفاع في دولة الوحدة اليمنية الذي هزم أمام قوات صالح في صيف 1994.
بالإجمال يمكن القول أن معركة الساحل الجنوبي للبحر الأحمر ستحرم تحالف الحوثيين وصالح من الامتياز الاستراتيجي الذي توفره سيطرتهم عليه، وإطلالهم على الممرات البحرية الدولية التي تعبر باب المندب. وهو أمر كان يمنحهم ميزة تفاوضية أساسية ستصبح أوراقهم السياسية أقل قيمة بالتأكيد من دونها، وكان يمنحهم القدرة على التنفس وتجديد أسلحتهم وتعويض ذخائرهم التي يخسرونها في الجبهات المختلفة، وهذا سيفرض عليهم مستقبلا التفكير مطولا قبل إطلاق قذيفة واحدة بأي اتجاه، لأنه في الوقت نفسه حتى في حال عدم التقدم شمالا لغلق الساحل المتبقي شمالا ستكون الرقابة على ساحل مساحته المحصورة أكثر سهولة وأقل كلفة وأشد إحكاماً.
*ماجد المذحجي هو المدير التنفيذي لمركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية.