في أعالي جبال “البيضاء” (محافظة في اليمن تبعد عاصمتها، مدينة البيضاء، عن العاصمة صنعاء 268 كيلومتراً)، وبعد وديان ممتدّة باسترخاء على بساط الجغرافيا المتعرّج، تقع منازل آل الذهب. أما هذا المنزل المتربع على قرية يكلا الصغيرة فهو على ما يبدو قد بني حديثاً وعلى عجل، مقارنةً مع الدار المعروفة لهم. ويسكن قرية يكلا مجموعة من المزارعين وبائعي القات، وتشتهر المنطقة تقليلدياً بزراعة القات وشراسة مقاتليها وقصائد الشعر الشعبي المنظوم بحكمة والمتعافي غالباً من المقص الذاتي أو الاجتماعي للنصوص.
خلال الأعوام الماضية اشتهرت البيضاء باعتبارها هدفاً لضربات طائرات “الدرون” الأميركية. وكانت في كانون الثاني/ يناير 2017 موقعاً للإنزال الأمريكي الشهير الذي ناقش تبعاته وعواقبه فيلم وثائقي صدر أخيراً. وقد وقّع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب هذا الإنزال الأرعن بعد أيام من وصوله للسلطة، وهو الذي راح ضحيته عدد من أفراد عائلة الذهب والعديد من المدنيين الآخرين وبعض المقاتلين.
قبل ذلك، كانت البيضاء ساحة لسلسلة من أدمى ضربات الـ”درونز” الأميركية: ما يقال له “الضربات الموقعة”. والضربات الموقعة هي سياسة أميركية شهيرة تسمح بتنفيذ ضربات جوية في أماكن معينة من اليمن (وأفغانستان و الصومال)، بناءً على سلوك مشبوه يلاحظ وليس على معلومات استخباراتية. وفي أكثر من مرة، وافق هذا “السلوك المشبوه” حفلات أعراس في البيضاء، كما الحادثة الشهيرة في كانون الأول/ ديسمبر من العام 2013.
الرعونة وقتل الأطفال في البيضاء لا تقتصر على الرئيس الامريكي الحالي بل سياسة نفذها الرئيس السابق أوباما، الذي حوّل اليمن إلى مختبر تجريبي أمام أداء الطائرات من دون طيار. لقد تضمن تدخل أوباما أخطاءً كارثية تبعتها تدخلات ترامب بخطايا مكتملة الأركان.
آل الذهب كتكثيف لديناميكيات اليمن وتداخلاتها
يساور المرء شعورٌ غريبٌ وهو يقف أمام هذا المنزل الذي تحْمل جدرانه آثار تبادل إطلاق النار ليلة الإنزال، بين القوات الأميركية وبين وقاطنيه ومجموعة من الجيران والضيوف القبليين الذين كانوا هناك لحل قضية عشائرية، ووجدوا أنفسهم فجأة يخوضون معركة مع القوات الخاصة الأميركية معزّزة بالقوات الإمارتية.
نزحت عائلة الذهب إلى يكلا منذ أن اشتدّت المعارك مع الحوثيين في منطقتها الأصلية (المناسح) قرب مدينة رداع ثاني أكبر مدن المحافظة في العام 2015. وآل الذهب إحدى ثلاث أسر عريقة تولّت زعامة عشائر قبيلة “قيفة” التي تعرف المنطقة باسمها، إلى جانب آل جرعون وآل القبلي.
كان والد الذهب أحد أبرز مشايخ اليمن وأهم شعرائه القبليين، وصاحب مجد ضارب في تاريخ قبائلها وقبائل البيضاء تحديداً، التي تحد 8 محافظات يمنية أخرى، ما جعلها جغرافياً شديدة الأهمية عسكرياً وأمنياً.
وتشبه قصة الذهب وإخوته قصص الدراما البوليودية الهندية. فبعد وفاة والده نشب نزاع بين الأبناء وعمهم، ولاحقاً بين الأبناء أنفسهم، فقتل أحدهم (حزام) أخاه الآخر (طارق). وحالياً يقاتل واحد من أبناء عمومتهم مع الحوثيين، ما يناقض موقف أغلب الأسرة المناهضة للحوثيين، حال معظم الأسر والقبائل التي تشرذمت في هذه الحرب. وقد قتلت ال”درونز” في السابق أخاه الآخر (نبيل). وخاضت أسرة الذهب تحديداً العديد من النزاعات والصراعات المختلفة بين أفرادها، وبينهم وبين أشخاص آخرين من خارج الأسرة.
“الضربات الموقعة” هي سياسة أميركية شهيرة تسمح بتنفيذ ضربات جوية في أماكن معينة من اليمن (وأفغانستان والصومال)، بناءً على “سلوك مشبوه يُلاحَظ” وليس على معلومات استخباراتية. وفي أكثر من مرة، وافق هذا “السلوك المشبوه” حفلات أعراس وسواها من المناسبات..
لدى الذهب 18 ولداً ذكراً من زيجات مختلفة، قتل منهم 14 سواء في ثارات قبلية أو في صراعاتهم البينية أو بطائرات من دون طيار. ولعل المفارقة الأكبر أن آل الذهب ليسو سنّة بل هم في الواقع “زيوداً” (الزيدية مذهب إسلامي ينسب إلى زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وهو ينتشر بشكل خاص في شمال اليمن – محافظة صعدة – ويشكل أتباعه قرابة ثلث تعداد سكان هذه البلاد) بعكس محيطهم الإجتماعي. والأكثر غرابة أن أحد ابناء الذهب كان عضواً في البرلمان اليمني ممثلاً لحزب البعث العربي الاشتراكي (فرع العراق).
وقبل أن يميل طارق الذهب إلى التديّن، كان بحسب العديد من معارفه والسكان المحليين، أبعد ما يكون عن الشخص المتديّن. لكن تشدّده المفاجئ كان يخفي تفاصيل أخرى: فآل الذهب أسرة مثالية للاستقطاب سواء من السلطة أو الجماعات المسلحة، نتيجة تأثيرهم في المنطقة. وتُعدّ منطقة قيفة مثالية لمن يريد التمرّد ضد السلطة بأقل قدر من المخاطر. وقد احتمى طارق بتنظيم “القاعدة”، حاله حال بعض رجال القبائل في مسار عكسي عن العادة، إذ جرى الواقع / التوقع أن تستقوي “القاعدة” بالقبائل وليس العكس.
تعقيدات البيئة اليمنية وخفة الإدارة الأميركية
وجد تنظيم “القاعدة في جزيرة العرب” فرصة ذهبية لمحاولة الغوص في مناطق البيضاء الوعرة والواسعة، والاختباء في جبالها، كما كوّن فهماً نادراً حول طبيعة المنطقة وأهلها وعاداتها وتقاليدها. فالبيضاء تضم قبائل يمنية ذات هوية سنيّة واضحة، وهي منطقة لا تزال تحتفظ بالسلاح والتضامن القبلي، ولا تزال قادرة على حماية أبنائها ضد الآخرين، حتى لو استدعى ذلك مواجهة السلطة نفسها.
يُضاف إلى ذلك أنها إحدى أفقر مناطق اليمن، على الرغم من أنها تسجّل أحد أعلى معدّلات الاغتراب بين المحافظات اليمنية، وأعلى نسب تحويل الأموال من الخارج – على الأقل حتى ما قبل هذه الحرب.
كالعديد من مناطق اليمن القبلية، لا يجدي نفعاً استخدام القوة لإجبار “قيفة” على القيام بشيء معين أو عدم القيام به. لذلك فسياسة مكافحة الإرهاب الحالية وهجمات الـ”درونز” والقوات الخاصة الأميركية لن تضعف في الواقع “القاعدة” في البيضاء بل ستقويها، خاصة مع استمرار الحرب الأهلية الدامية في البلاد التي تُفاقِم من الاستقطابات المذهبية، وهي بيئة مثالية تتغذى عليها “القاعدة”.
مهما بدا الأمر غريباً، فإن سلسلة الأبحاث التي قمتُ بها في البيضاء ومأرب وأماكن مختلفة من اليمن منذ العام 2012 فيما يتعلق بفعالية وثمن سياسة مكافحة الارهاب، تجعلني أعتقد أنه ينبغي على الولايات المتحدة التعلّم من “تنظيم القاعدة” في البيضاء إذا ما أرادت هزيمته! خاصة في ما يتعلق بإدراك واقع أن استخدام القوة وقتل المدنيين لن يصبّ في مصلحتها بل سيقلّب الرأي العام المحلي ضدّها، وسيجند المزيد من المقاتلين الشباب في صفوف خصومها.
لقد ترك الإنزال الأميركي الأخير قرية مليئة بالمفزوعين، خاصة الأطفال والنساء. وأكثر من ذلك خلّف سخطاً محلياً لامتناهياً، خاصة في ما يتعلق بعدم الاعتراف بارتكاب الخطأ / الجريمة أو حتى مجرد الاعتذار عن قتل المدنيين الذين سقطوا في الهجمات. وقد فسرّ الناس في قيفة هذا السلوك على أنه دعم مباشر لخصومهم من الحوثيين، لأن عمليات الطائرات الأميركية والإنزال الأخير جاءا في ذروة قتال هؤلاء مع الحوثيين.
ولأن المرات القليلة التي دفعت فيها الولايات المتحدة تعويضات للضحايا لم تتم ضمن عملية شفافة – فقد سمح ذلك بنهبها من شركائها اليمنيين. الولايات المتحدة الأمريكية دفعت تعويضات للضحايا في يكلا عبر مقربين من الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي، لكن لم يصل للضحايا أي مبالغ تعويضية بأي شكل من الأشكال.
لم يقْدم ترامب على مغامراته في اليمن لأجل الحفاظ على الأمن القومي، بل كانت “حفلات مكافحة الإرهاب” مطلوبة بذاتها وبصرف النظر عن نتائجها لتحقيق أهداف دعائية تستهدف الداخل الأمريكي. ولم يجد ترامب ساحة مستباحة ومنسية أفضل من اليمن وعدواً مأزوماً أكثر من “القاعدة”، يتيح له استعراض عضلاته السياسية خلال أيامه الأولى داخل البيت الابيض.
عشية الهجمة الأميركية، كان ديوان الذهب مليئاً بالسكان المحليين والقادمين من القرى المجاورة، الذين لا علاقة لهم بالقاعدة. وكان أفراد من آل الجوف مجتمعين في ديوان الذهب لحل قضية محلية، لكنهم سقطوا ضحايا الهجمات من دون أن يدركوا من هاجمهم أو ماذا يجري من حولهم بشكل واضح.
وكما اعتادت الحكومتان الأميركية واليمنية في السابق، وقبل تنفيذ هجماتها، لم تعلن قط أن الذهب شخص مطلوب حتى يتسنى للسكان المحليين الابتعاد عنه أو تحمل مسؤولية الاقتراب منه على سبيل المثال.
في الواقع، كان عبد الرؤوف الذهب عائداً للتو من محافظة مأرب محملاً بالأسلحة والمال لمواجهة الحوثيين، ما خلق انطباعاً عاماً بأنه شخص غير مطلوب أمنياً.
وقد قال لي وزير الدفاع اليمني أن مقتل الذهب والإنزال العسكري الأميركي كانا خطأ غير محسوب العواقب، وإنه – أي الذهب – كان للتو قادماً من مأرب حيث التقى بالحكومة اليمنية وعاد محملاً برواتب لمقاتلين ضد الحوثيين.
أمنياً، فأن هذه الواقعة – إلى جانب تكلفتها الإنسانية – تؤرخ لانعطافة هامة في سياسات واشنطن الأمنية التي تخلت عن تفوقها الجوي النوعي لمصلحة حضورها الكمي غير المجدي.
إن هذه القرى المتناثرة في ريف محافظة البيضاء لم تعرف من الحداثة الأوروبية سوى بنادق الكلاشنكوف، ولم تعرف من العولمة الامريكية سوى الطائرات بلا طيار. لذا كان مضحكاً ادعاء الرئيس الامريكي مطلع 2017 حصول قواته على بنك معلومات قيّم للغاية يوازي وثائق “أبوت اباد” (مقر بن لادن)، في قرية تفتقر حتى الى الاسفلت والكهرباء.
من جهته، استخدم تنظيم القاعدة الحادثة للتفاخر والتباهي بإسقاطه طائرة أميركية كان أعلن البنتاغون أنها تعطلت، وبقتله أحد أفراد القوات الأميركية الخاصة. وبحسابات التنظيم، فأن التباهي يكسبه أكثر بكثير مما يعرضه للخسائر.
لا يوجد منطقة في البيضاء لم تصلها يد الدرونز الطويلة. وبالكاد تجد أسرة غير مكلومة أو لم تفقد أحد أفرادها أو معارفها، سواء بسبب الدرونز أو في الحرب اليمنية الداخلية. وكل ذلك لا يساعد على الإطلاق على هزيمة القاعدة، خاصة أن العديد من هؤلاء الضحايا هم من المدنيين.
صراع “القاعدة” و”الدولة الإسلامية”
على العديد من الطرق الفرعية لقيفة، تنتشر حالياً بعض نقاط التفتيش التابعة لتنظيم القاعدة، وأخرى لتنظيم الدولة الإسلامية. وقد تصادم وتقاتل الطرفان أكثر من مرة في السابق على الرغم من قتالهما على الجبهة نفسها ضد الحوثيين.
وعلى الرغم من استهداف القاعدة والدولة الإسلامية لكل من الجيش اليمني والحوثيين بالوقت نفسه، إلا أنهما يختلفان حول الهدف بشكل عام. فتنظيم القاعدة، الذي تتألف غالبية عناصره من السكان المحليين، يرى أن المعركة الآن بشكل جوهري هي مع العدو وليس الحكم بموجب الخلافة التي لم تتحقق شروطها بعد. في المقابل، يعتبر تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) الذي يتألف أعضاؤه إجمالاً من العرب والأجانب – ما يفسّر عدم حساسيته تجاه التعقيدات المحلية والصعوبات التي تواجهه، خاصة مع استخدامه المفرط للعنف على عكس تنظيم القاعدة – يعتبر أن الهدف المباشر والآني والأوسع هو الحكم الصارم بتطبيق الخلافة.
طور تنظيم القاعدة فهماً كبيراً تجاه المنطقة، وتعامل معها ببرغماتية تتناقض في أحيان مع بعض أفكاره. على سبيل المثال، وعلى الرغم من أن قيادات القاعدة تتعامل مع نبتة القات بتحريم صارم، إلا أن إدراكها لمحورية القات كتجارة وكعادة في “قيفة” جعلها تتسامح مع المقاتلين المحليين الذين يمضغونها.
وعلى الرغم من هويتها السنّية (الشافعية) الواضحة، لا تُعتبر البيضاء مكاناً متطرّفاً عند الحديث عن القبائل، إنما هي مكان له دينامياته المحلية والقبلية الخاصة إلى حدّ كبير. وعلى حد تعبير أحد السكان المحليين في قيفة “مذهبي أصلّي لربي وأقاتل مع صاحبي”، ولم تترك الولايات المتحدة بسبب أفعالها وطائراتها الفتاكة أي صديق لها بين المدنيين.
بالمقابل طور تنظيم القاعدة فهماً مفزعاً تجاه المنطقة، وتعامل معها ببرغماتية تتناقض حتى وفي أحيان مع بعض أفكاره. على سبيل المثال، على الرغم من أن قيادات القاعدة تتعامل مع نبتة القات بتحريم صارم، إلا أن إدراكها لمحورية القات كتجارة وكعادة في “قيفة” جعلها تتسامح مع المقاتلين المحليين الذين يمضغونها. وقد أصدر إبراهيم الربيش – بحسب مقاتلين محليين أجريتُ معهم مقابلات عدة – فتوى بتحريم القات على نفسه لكنه “لا يحرمها على غيره”. هذه الحساسية والبرغماتية المفرطة تجاه الوضع المحلي، هي ما سمحت لأحد أخطر التنظيمات الإرهابية في العالم بالازدهار في هذه المنطقة.
لا يستطيع المرء أن ينسى أن “رَداع” التي سيطر عليها تنظيم القاعدة في العام 2013 وانسحب منها، ليس بالقوة بل بعد مفاوضات قبلية، كانت قبل قرون مركزاً حضارياً، ومنها انطلقت إحدى أقدم عمليات الهجرة إلى الغرب منذ أوائل القرن الماضي بحثاً عن التجديد وهرباً من الانغلاق.
ومن المفارقات أن القلعة التاريخية في قلب المدينة تحولت من معْلم حضاري فريد إلى معتقل يديره الحوثيون، يهددون به خصومهم أو المشتبه بكونهم خصوما للجماعة.
نشرت هذه المادة في السفير العربي