المقدمة
تنظر الولايات المتحدة إلى اليمن تقليدياً من زاويتين: على أنه مسألة مكافحة إرهاب يتوجب إدارتها؛ وعلى أنه امتداد لسياسة الولايات المتّحدة تجاه السعودية. عنى ذلك بالنسبة لإدارة الرئيس دونالد ترامب استمرار وتوسيع حربين منفصلتين لكن متداخلتين في اليمن، بدأتا في ظلّ الإدارات السابقة.
في الحرب ضد تنظيمي القاعدة في جزيرة العرب وما يسمى “الدولة الإسلامية” أو (داعش)، وصلت إدارة ترامب إلى السلطة وهي مصممة على قلبِ ما اعتبرته ميلاً من جانب إدارة الرئيس باراك أوباما إلى إدارة عمليات المسؤولين العسكريين عن قرب وإلى التشكيك بقراراتهم، وخلال الحملة الانتخابية الرئاسية لعام 2016، زعم ترامب أن إدارة أوباما حوّلت القيادة العسكرية للبلاد “إلى ركام“، واقترح المرشح أن إدارة يقودها ترامب ستعتمد أكثر بكثير على “الجنرالات” وستعطي الجيش حريّةً أكبر للقيام بغارات جويّة. وهذا ما حدث بالضبط، على الأقل في البداية، فقد وافق الرئيس ترامب على غارة للقوات البحرية في اليوم الخامس له بالبيت الابيض، معلناً أنّ أجزاء من اليمن هي “مناطق أعمال عدائية نشطة” – مما جعلها بحكم الواقع مناطق حرب – كما قام بالتوقيع على زيادة عدد العمليات الجوية وعمليات الطائرات من دون طيار، مما ضاعف عدد الهجمات الأمريكية في اليمن لأكثر من أربعة أضعاف، فارتفعت من 32 غارة في السنة الأخيرة من إدارة أوباما إلى 131 غارة خلال السنة الأولى لإدارة ترامب.
بحلول منتصف عام 2018 عادت إدارة ترامب إلى معدل الأرقام التي رافقت عهد أوباما، حيث نفذت 36 غارة معترفاً بها خلال العام نفسه، ولم تحدث أيّة غارة خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة من العام، ومن غير الواضح ما إذا كان ذلك تحولاً في السياسة الرئاسية (على غرار خفض عدد الجنود في أفغانستان وإعلان الانسحاب من سوريا) أم أنّ الولايات المتحدة ببساطة افتقرت عام 2018 إلى خارطة الأهداف التي كانت تمتلكها عام 2017.
بالتزامن تشارك الولايات المتحدة في اليمن في حرب التحالف الذي تقوده السعودية ضد الحوثيين، ومثل إدارة أوباما قبلها، تقول إدارة ترامب أنه عندما يتعلق الأمر بهذه الحرب فإن الولايات المتحدة ليست “طرفاً في النزاع” بل هي تساعد فقط حليفين رئيسيين لها، (وذلك على الرغم من محاججة بعض المحامين ضد القول بأن الولايات المتحدة غير منخرطة في الحرب التي تقودها السعودية)، كما تدعم الولايات المتحدة السعودية والإمارات في حربهما ضد الحوثيين بنفس الطريقة التي يساعد فيها البلدان الولايات المتحدة في حرب الأخيرة ضد تنظيم “القاعدة”.
القول بأن الولايات المتحدة ” ليست متورطة من الناحية العملياتية في الأعمال الحربية” قد يكون صحيحاً – كما حاجج وزير الدفاع آنذاك جيمس ماتيس وآخرون – إلا أنّ ذلك لا يعني أن الولايات المتحدة عاجزة عن إيقاف النزاع، ففي الواقع قد تكون الولايات المتحدة اللاعب الدولي الوحيد القادر على إنهاء الحرب، فهي تقوم بخدمة طائرات التحالف وتوفير قطع الغيار لها، كما كانت حتى وقت قريب تزوّدها بالوقود جواً، حيث تزعم الولايات المتحدة أن هذا الدعم الأمريكي يجعل الحرب التي تقودها السعودية في اليمن أكثر أمناً وإنسانية.
على الرغم من تأكيد الدبلوماسيين الأمريكيين والدوائر الحكومية المختلفة مراراً وتكراراً على عدم وجود حل عسكري للنزاع في اليمن، إلا أن الولايات المتحدة لم تفعل الكثير لتقليص دعمها العسكري للتحالف الذي تقوده السعودية، والتعديلات القليلة التي أجرتها على سياستها – إيقاف تزويد الطائرات بالوقود جوّاً نهاية عام 2018 – جاءت على خلفية قتل السعودية لجمال خاشقجي وليست لخلفيات يتعلق باليمن، والواقع أنه ليس لدى واشنطن سياسة خاصة باليمن حتى، فكل ما تملكه استراتيجية مكافحة إرهاب تتمثل في “جزّ العشب“، بالإضافة إلى سياسة خاصة بالسعودية تنظر إلى اليمن غالباً كأحد الساحات الملحقة بالمملكة.
الحرب الأمريكية ضد تنظيم “القاعدة” وداعش في اليمن
منذ وصول دونالد ترامب إلى منصبه في يناير / كانون الثاني عام 2017، خاضت الولايات المتحدة ضد كلّ من القاعدة وداعش في اليمن حربين مختلفتين، كانت الحرب الأولى، التي استمرت حتى أوائل عام 2018، نهجاً عدوانياً لا هوادة فيه، شمل إنزالات بريّة متعددة ومضاعفة لعدد الطائرات بدون طيار والغارات الجوية إجمالاً، أما الحرب الثانية التي بدأت في منتصف عام 2018 وما تزال مستمرة فقد كانت عودة إلى المعايير التي وضعتها إدارة أوباما.
2017: زيادة استخدام الطائرات من دون طيار
في 25 يناير / كانون الثاني وبعد خمسة أيام من أدائه اليمين الدستورية، أجاز دونالد ترامب أول غارة ضد الإرهاب خلال عشاء عمل أقامه بحضور وزير دفاعه آنذاك جيمس ماتيس ورئيس هيئة الأركان جوزيف دانفورد وآخرين، الغارة التي كانت قد نوقشت خلال الأسابيع الأخيرة من إدارة أوباما استهدفت قرية الغيل في منطقة يكلا في محافظة البيضاء الواقعة وسط اليمن، وأعطى المسؤولون الأمريكيون تفسيرين منفصلين حول الغارة آنذاك، حيث كانوا يعتقدون أنّ قاسم الريمي زعيم تنظيم القاعدة كان في القرية أو، حسب ما وضّحوا لاحقاً، توفّرت معلومات استخباراتية بما يكفي من الهواتف المحمولة وأجهزة الكمبيوتر في الموقع المذكور لتبرير إنزال القوات الأمريكية.
بعد منتصف ليل 29 يناير / كانون الثاني بقليل، وهو أول ليل بلا ضوء قمر منذ منح ترامب تفويضه، هبطت عناصر قوات خاصة من الفريق السادس لعناصر البحرية الأمريكية برفقة فريق من الجنود الإماراتيين في منطقة مكشوفة تبعد خمسة أميال عن القرية، كانت الخطة أن يمشوا تحت جنح الظلام وصولاً الى الهدف المنشود والسيطرة على القرية على حين غرّة. غير أنه كما أخبر الأهالي صحافية زارت القرية، كانت القرية قد تعرّضت قبل ساعات قليلة لهجوم من قوات الحوثيين لم يعرف به الجنود، وبالتالي كانت القرية لا تزال متأهبة، وعند اقتراب الجنود من القرية، رصدهم أحمد الذهب، الصبي الذي يبلغ من العمر 11 عاماً، من فوق أحد الأسطح وأطلق تحذيراً، وفقاً لوالده عبد الله الذهب فقد أُطلقت النار على الصبي لاحقاً وقُتِل.
في المعركة بالرشاشات التي تلت وشملت مروحية واحدة على الأقل، قتل جندي أمريكي وعدد من اليمنيين، وأفادت البنتاغون في وقت لاحق بمقتل 14 من عناصر القاعدة، لكنها نفت في البداية مزاعم وقوع خسائر بين المدنيين، وفي غضون أيّام عدلت الولايات المتحدة روايتها، قائلة أن “من المحتمل أنّ مدنيين غير مقاتلين لقوا مصرعهم” خلال الغارة المذكورة، ويدعي أهالي القرية من جانبهم بمقتل سبع نساء وعشرة أطفال على الأقل، أحد هؤلاء الأطفال هي نوار العولقي، البالغة من العمر ثماني سنوات، وكان والدها أنور العولقي، القيادي في تنظيم القاعدة، قد قتل في غارة أمريكية بطائرة من دون طيار في سبتمبر / أيلول 2011، وكان شقيقها عبد الرحمن البالغ من العمر 16 عاماً قد قُتل كذلك في غارة أمريكية منفصلة لطائرة بدون طيار في أكتوبر / تشرين الأول 2011.
صنف الرئيس ترامب الغارة على يكلا في البداية بأنها ناجحة، حيث وصف العملية في اليمن في خطاب له بعد شهر أمام جلسة مشتركة للكونغرس بأنها “ناجحة للغاية”، قائلاً إنها جلبت “كميات كبيرة من المعلومات الاستخباراتية الحيوية“، وبالرغم من ذلك فإن أحد الأدلة التي قدمها البنتاغون لتبرير الغارة كانت شريط فيديو للقاعدة عمره أكثر من عشر سنوات وكان متاحاً على نطاق واسع على الإنترنت، لكن الولايات المتحدة عادت بعد ذلك وحذفت الرابط، لتفيد قناة “إن بي سي نيوز” في شهر فبراير / شباط 2017 التالي بأنّ الغارة إيّاها لم تسفر عن “أية معلومات استخباراتية مهمة“.
خلال أمسية العشاء ذاتها التي أذن الرئيس ترامب خلالها بهجوم يكلا في يناير / كانون الثاني، أعلن أيضاً أنّ مناطق من ثلاث محافظات يمنية – أبين وشبوة والبيضاء – هي “مناطق أعمال عدائية نشطة “. أصبحت هذه الأجزاء مناطق حرب عمليّاً، مما خفّف من صرامة القواعد التي تحكم الغارات الجوية الامريكية، فقد أعفى هذا القرار وزارة الدفاع من عبء تقديم لوائح بالأهداف المختارة في هذه المناطق لتدققها مختلف الوكالات المسؤولة بشكل مشترك، ولم يعد قادة الجيش بحاجة إلى موافقة مسبقة من البيت الأبيض لتنفيذ الغارات، بخلاف ما كان يحصل في عهد أوباما بعد عام 2013.
يوم الـ 2 من مارس / آذار 2017 استخدمت وزارة الدفاع هامش الحرية المكتسب هذا لتنفّذ 20 غارة في كلّ من أبين وشبوة والبيضاء خلال ليلة واحدة، ثم أتبعت ذلك بعدة غارات جوية في اليوم التالي، وبعد عدة أسابيع من ذلك، قتلت الولايات المتحدة مواطناً يدعى محمد الأعذل في غارة لطائرة بدون طيار في 29 أبريل / نيسان، وحضّرت هذه الغارة الأجواء لهجوم بري أمريكي آخر في اليمن.
كان محمد الأعذل يعيش في محافظة مأرب وهو أحد أبناء قبيلة مراد، وبعد مقتله في شهر أبريل / نيسان، استولى سبعة رجال على الأقل من خارج قبيلته على منزله، لكن في 23 مايو / أيار شنّت الولايات المتحدة غارة برية استهدفت ذلك المنزل في مأرب، وتماماً كما حدث في غارة يكلا في يناير / كانون الثاني، هبطت القوات الخاصة الأمريكية على مسافة من القرية ثم مشت بضعة كيلومترات، ومثلما حدث في يكلا أيضاً، سرعان ما تعرضت القوات الأمريكية لإطلاق النار من أبناء قبيلة الأعذل الذين لم يكونوا يعلمون أن منزلاً واحداً هو موضع الاستهداف، وقد عثر صحافي زار القرية في وقت لاحق على حقيبة طبية أمريكية متروكة مع ورقة تحتوي أسماء 20 من أفراد القوات الخاصة الأمريكية وكلبين وفئات دمائهم.
قتل في تلك المعركة خمسة من رجال القبائل تتراوح أعمارهم بين 15 و80 عاما، كما أصيب خمسة آخرون، وقد أشار كلّ من تنظيم القاعدة ويمنيون محليون إلى مجريات الغارة وضحاياها في بيانات لاحقة، حيث قتلت القوات الأمريكية الأفراد السبعة المستهدفين الذين كانوا يقيمون في منزل الراحل محمد سعيد الأعذل.
لم تعلن الولايات المتحدة عن أسماء هؤلاء السبعة، ولم تعترف التغطية الصحفية المحلية ولا بيان القاعدة بموتهم، كما منع أعضاء القاعدة الذين نجوا من الغارة أهالي القرية من دخول منزل محمد سعيد الأعذل، وخلال الأيام القليلة التالية تم نقل الجثث السبع من القرية لتُدفن لاحقاً في مكان مجهول.
توضّح الغارة على المنزل الذي تحول إلى ملجأ لتنظيم القاعدة في مأرب، كتلك التي جرت في يكلا، تعقيدات القتال ضد تنظيم القاعدة في اليمن، فقد حقق الجيش الأمريكي هدفه في مأرب مما أسفر عن مقتل سبعة أعضاء في القاعدة، لكنه قتل أيضاً خمسة من رجال القبائل الذين كانوا يدافعون عن قريتهم دون أن يكونوا يحمون القاعدة، وقد تجري هذه العمليات في اتجاهين متعاكسين؛ فمن ناحية قد تؤدي غارات الطائرات بدون طيار وغيرها من الغارات الجويّة إلى ثني بعض العشائر والقبائل عن مساعدة وإيواء عناصر تنظيم القاعدة، لكن من ناحية أخرى قد يتحول موت أقارب وأبناء القبائل إلى أداة تجنيد قوية في يد تنظيم القاعدة.
إذا ما حدث وانقلبت القبائل في اليمن ضد القاعدة فلن يكون بمقدور التنظيم البقاء في البلاد. تدرك القاعدة ذلك جيداً، فقد طورت منهجاً مزدوجاً للتعامل مع القبائل:
أولاً، كثيراً ما تشدّد القاعدة في تصريحاتها وفي دعايتها على أنها تريد إنشاء علاقات إيجابية مع مختلف القبائل، والتي تتجاهل التنظيم إلى حدّ كبير وتراه القاعدة مسألة ثانوية لا أساسيّة بالنسبة لها.
ثانياً، تعمل القاعدة بنشاط على تجنيد شباب القبائل ليس فقط للحصول على المزيد من المقاتلين، بل لأن هؤلاء يمثلون تحديداً مدخلاً إلى المجتمع القبلي وهو ما ترغب فيه القاعدة بشدّة.
في أكتوبر / تشرين الأول من عام 2017 استهدفت الولايات المتحدة بشكل مباشر تنظيم داعش في اليمن للمرة الأولى وقصفت معسكر تدريب له في البيضاء، وبشكل عام ،قامت الولايات المتحدة طوال تلك السنة بإجراء “عمليات برية متعددة“، بالإضافة إلى أكثر من 120 غارة جوية في اليمن استهدفت كلاً من القاعدة وداعش، حيث قدّرت مؤسسات مثل مركز الصحافة الاستقصائية ومجلة لونغ وور جورنال زيادة في عدد الغارات الأمريكية، ليتراوح بين 127 و131 بحسب كل من المؤسستين على التوالي، وفي الحالتين فإن هذا العدد أكثر من أربعة أضعاف عدد الغارات وهجمات الطائرات بدون طيار المنفذة عام 2016 خلال السنة الأخيرة لإدارة أوباما.
في سياق متصل، فرضت الولايات المتحدة عام 2017 عقوبات على عدة أشخاص لصلتهم المفترضة بتنظيمي القاعدة وداعش، بما في ذلك 11 رجلا تم فرض عقوبات عليهم بالتنسيق مع “مركز استهداف تمويل الإرهاب“، وبالإضافة إلى السعودية فإن الولايات المتحدة طرف أساسي مشارك في “مركز استهداف تمويل الإرهاب” الذي تأسس خلال أول رحلة للرئيس ترامب خارج البلاد، والتي زار فيها السعودية في مايو / أيار 2017.
يضم المركز في عضويته دولاً أخرى مثل الإمارات والبحرين والكويت وعمان وقطر. وعلى وجه الخصوص وضع “مركز استهداف تمويل الإرهاب” في أكتوبر / تشرين الأول 2017 نايف القيسي، المحافظ السابق للبيضاء في حكومة الرئيس عبد ربه منصور هادي، وعادل الذبحاني المعروف باسم أبو العباس في قائمة العقوبات، لكن صحيفة “واشنطن بوست” ذكرت أنه، على الرغم من العقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة والإمارات، فقد استمر أبو العباس في تلقي الأسلحة والمساعدات من أبو ظبي، كما فرضت الولايات المتحدة أيضاً عقوبات على خالد العرادة، شقيق محافظ مأرب الحالي في حكومة هادي سلطان العرادة.
2018: العودة إلى قواعد عهد أوباما
انخفضت الغارات الجوية وهجمات الطائرات بدون طيار الأمريكية بشكل كبير في اليمن، في 2018 حيث عادت إلى مستويات ما قبل عام 2017، ونفذت الولايات المتحدة 36 غارة في اليمن عام 2018، نفذت غالبية هذه الهجمات في النصف الأول من العام، حيث حدثت 10 غارات جوية في يناير/ كانون الثاني، وست منها في فبراير / شباط، وسبع في مارس / آذار، بينما لم تكن هناك أيّة غارات خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة من العام.
ثمة -على الأقل – ثلاث تفسيرات محتملة – ليست بالضرورة متعارضة – لتقلّص عدد الغارات، التفسير الأول أن الرئيس ترامب ألغى الأمر الذي أعلن فيه أن أجزاء من محافظات أبين وشبوة والبيضاء “مناطق نزاع نشط”، وقد فعل الرئيس أوباما شيئاً مشابهاً في نهاية ولايته الثانية، حيث أزال المنطقة المحيطة بسرت في ليبيا من قائمة مناطق الحرب والتي كانت تطبق فيها قواعد حرب أكثر تراخياً؛ والتفسير الثاني، أنه بعد الارتفاع الكبير في عدد الغارات عام 2017، أصبح لدى الولايات المتحدة أهداف أقل لتلاحقها في اليمن، وكان تنظيم القاعدة قد تبنى أكثر من 200 هجوم في اليمن في كل من 2016 و2017، لكن بحلول عام 2018 انخفض هذا العدد بأكثر من النصف.
أما التفسير الثالث فهو أن عدد الغارات لم ينخفض كما تشير الأرقام، بل ربما تكون الولايات المتحدة قد استخدمت وكالة المخابرات المركزية مرة أخرى لتنفيذ هجمات في اليمن، أو أسندت تنفيذ بعض الغارات على أهداف لتنظيمي القاعدة وداعش إلى حلفاء مثل الإمارات.
يشير ديفيد ستيرمان من “مؤسسة أمريكا الجديدة” في تقييمه لمراجعة القيادة المركزية للجيش الأمريكي لعام 2018 حول غارات اليمن إلى أن الولايات المتحدة استخدمت وكالة المخابرات المركزية لتنفيذ هجمات طائرات بدون طيار في اليمن سابقاً، كما سعت إدارة ترامب كذلك للاستفادة من الوكالة لتنفيذ هجمات طائرات بدون طيار في سوريا، وقد وجد تقرير إخباري لموقع ياهو أن الولايات المتحدة تدرب طياري الإمارات على القيام بعمليات قتالية في اليمن. يشير التقرير إلى أن الولايات المتحدة تدرب طيارين إماراتيين على المشاركة في حرب التحالف بقيادة السعودية ضد الحوثيين، وهو النزاع الذي أكّدت الولايات المتحدة مراراً وتكراراً أنها ليست متورطة فيه على الصعيد العملياتي، ومع ذلك فإن الولايات المتحدة متورطة في الحرب ضد كل من تنظيمي القاعدة وداعش، شأنها في ذلك شأن الإمارات، ويتماشى ذلك مع مهمّات من قبيل “إلى جانب، بالتعاون مع، من خلال” والتي يقوم بها الجيش الأمريكي عبر تدريبه طيارين إماراتيين لتنفيذ غارات قصف ضد أهداف القاعدة في اليمن.
على الرغم من زعم قيادة الجيش الأمريكي أنها لم تنفذ أية غارات في اليمن خلال أكتوبر / تشرين الأول ونوفمبر / تشرين الثاني وديسمبر / كانون الأول 2018، إلا أن خمس هجمات على الأقل استهدفت أعضاء مشتبهاً بكونهم من عناصر القاعدة خلال هذه الفترة. فهل كانت هذه الغارات السرية لوكالة المخابرات المركزية – سي آي إيه- التي لا تعترف الولايات المتحدة بها علانية؟ أم حدثت عبر الشراكة مع دولة الإمارات، أم كانت شيئاً آخراً كلياً؟
يبرز تطوران آخران عندما يتعلق الأمر بمكافحة الإرهاب في اليمن. الأول أنه على الرغم من أن القاعدة تكسب مجندين جدداً في صفوفها (تقدر الأمم المتحدة وجود 6000-7000 عنصر)، فإن معظم هؤلاء هم من المقاتلين المحليين الذين ينضمون للمشاركة في التمرد المحلي ومحاربة الحوثيين وحكومة هادي والإمارات والسعودية، أي جميع الأطراف تقريباً، لكن الأهم هو أنهم لا يركزون على أي هجمات دولية ضد الغرب، فلدى القاعدة جناحان: جناح الإرهاب الدولي وجناح التمرّد المحلي، وقد تضاءل الأول – بسبب غارات الطائرات بدون طيار وإغراء الانضمام الى داعش في السنوات الأخيرة – لحساب تنامي الثاني. لذلك، بينما يشكل تنظيم القاعدة في جزيرة العرب خطراً متزايداً في اليمن فهو لم يعد يشكّل بالضرورة تهديداً للغرب، ومع ذلك هناك تحذير هام، بأنه ما دامت القاعدة تحتفظ بقاعدة محلية نابضة بالحياة فستكون في وضع يمكّنها من إعادة إحياء جناحها الإرهابي الدولي بسرعة وتشكيل تهديد أمني خطير للغرب من جديد.
أما التطور الملحوظ الآخر على جبهة مكافحة الإرهاب فهو أنه، على خلاف السنوات الماضية، فإنّ تنظيمي القاعدة وداعش في اليمن يقاتلان بعضهما البعض، فما بدأ على أنّه حادثة صغيرة عند نقطة تفتيش – يقع معسكرا التنظيمين بجوار بعضهما البعض في البيضاء – تحول لاحقاً إلى حرب متواصلة، وكما أشارت إليزابيث كيندال، الزميلة الباحثة في الدراسات العربية والإسلامية في كلية بيمبروك بجامعة أوكسفورد، ركّزت غالبية هجمات داعش في ديسمبر / كانون الأول 2018 على استهداف القاعدة وليس على الحوثيين أو حكومة هادي أو أية قوى خارجية أخرى.
دعم الولايات المتحدة للتحالف السعودي
في 25 مارس / آذار 2015 (بتوقيت واشنطن)، دعا سفير السعودية لدى الولايات المتحدة عادل الجبير إلى مؤتمر صحفي في واشنطن العاصمة ليعلن من خلاله بدء المملكة “شنّ عمليات عسكرية في اليمن“، وبدلاً من الإعلان عن بداية الحرب في اليمن من مدينة الرياض، اختارت السعودية القيام بذلك من عاصمة أجنبية تقع على بعد آلاف الأميال من ساحة القتال، وبينما لم تنضم الولايات المتحدة إلى التحالف الذي تقوده السعودية، إلا أنّ إدارة أوباما أعلنت في المساء نفسه تأسيس “خلية تخطيط مشتركة” لدعم السعودية.
كان ذلك نصف خطوة لم ترضِ أحداً، وهي خطيئة الولايات المتحدة الأصليّة بالنسبة للحرب في اليمن، حيث حصلت على أسوأ ما يمكن الحصول عليه: كان اسمها يرتبط بالحرب لكن لم يكن لديها سيطرة على مسارات هذه الحرب، فلم تفرض الولايات المتحدة أي حدود زمنية لإيقاف دعمها وفقاً لدافنا راند، مساعدة وزير الخارجية في إدارة أوباما. قالت راند إن التحالف الذي تقوده السعودية أعلن أن “هجوم استعادة صنعاء سيستغرق ستة أسابيع“، لكن الولايات المتحدة لم تلزم التحالف أبداً بهذا الجدول الزمني، ولا يزال الحوثيون يسيطرون على صنعاء بعد ما يقرب من أربع سنوات، ولا تزال الحرب مستمرة.
خلال ديسمبر / كانون الأول 2016 وهو آخر شهر لإدارة أوباما، أصدرت هذه الأخيرة توبيخاً علنياً غير مألوف للسعودية، وأوقفت صفقة بيع أسلحة موجهة بدقة كان مخططاً لها قبل ذلك. لكنّ هذه الخطوة كانت إلى حد كبير بلا معنى، وهو ما كانت إدارة أوباما على دراية به، وكذلك السعودية أيضاً، وفي شهر مارس / آذار 2017، قوضت إدارة ترامب القرار لتتمّ عملية بيع الأسلحة.
إدارة ترامب والحرب التي تقودها السعودية
قام الرئيس ترامب بأول رحلة خارجية رسمية له إلى السعودية في مارس / آذار 2017، حيث افتتح مركز استهداف تمويل الإرهاب بالرياض، في وقت لاحق من ذلك العام، وفي أعقاب مجموعة هجمات حوثية بالصواريخ الباليستية على الرياض، وصل عدد صغير من فريق القبعات الخضراء الأمريكي إلى المملكة لإيجاد وتدمير مخابئ الصواريخ ومواقع إطلاقها في الأراضي التي يسيطر عليها الحوثيون، ولكن كل شيء كان يجري كالمعتاد على جميع المستويات الأخرى.
فيما يتعلق بالحرب في اليمن، استمرت إدارة ترامب إلى حد كبير في السياسات التي وضعتها إدارة أوباما، قفد استمرت بتزويد طائرات التحالف التي تقودها السعودية بالوقود، والتي أهملت الولايات المتحدة تتبّع مساراتها فلم تعرف أي رحلات كانت تزودها بالوقود وأيّاً لم تزوّدها، وكان ذلك جزءاً من محاولة تجنب تحمل مسؤولية وقوع الضحايا بين المدنيين، فإذا لم تزوّد الولايات المتحدة الطائرات الحربية بالوقود ما كانت لتنفّذ مهماتها في اليمن، وإذا ما أسفرت هذه المهمات عن سقوط ضحايا من المدنيين فيمكن اعتبار الولايات المتحدة مسؤولة عن ذلك.
تواصل الولايات المتحدة أيضاً في ظلّ إدارة ترامب تقديم ما تسميه “الدعم اللوجستي والاستخباري” للتحالف، وهذا يعني في جانبه اللوجستي، كما ذكرت صحيفة “نيويورك تايمز” في ديسمبر / كانون الأول الماضي، وجود “ميكانيكيين أمريكيين يشغلون (الطائرات السعودية التي تشارك في القتال) ويقومون بالإصلاحات على الأرض”، كما يقوم فنيون أمريكيون بتحديث برامج الاستهداف وغيرها من التقنيات المصنّفة سريّة والتي لا يُسمح حتى للسعوديين بلمسها، وفي الجانب الاستخباري تزوّد الولايات المتحدة الجانب الثاني بمعلومات حول “قوائم عدم الاستهداف” وتقدم “مشورة عسكرية” وتضمن إيصال جميع المعلومات بدقة للطيارين في الجو. لكن الولايات المتحدة تدّعي أنها “لا تقوم باختيار الهدف الفعلي للهجوم الذي يشنه التحالف العربي” كما قال وزير الدفاع ماتيس في نوفمبر / تشرين الثاني 2018.
لقد أكد المسؤولون الأمريكيون في كل من إدارتي أوباما وترامب مراراً وتكراراً أن التحالف الذي تقوده السعودية يقدم أداءً أفضل وأنه مسؤول عن أعداد ضحايا مدنيين أقل بسبب الدعم الأمريكي، ومن المستحيل إثبات ذلك بالطبع، فالتحالف الذي تقوده السعودية لم يعمل يوماً من دون دعم أمريكي، وخلال توليه وزارة الدفاع، أشار ماتيس إلى أشياء مثل إعادة التزود بالوقود في الجو والتي قال إنها تخفف الضغط على الطيارين السعوديين كي لا يضطروا إلى اتخاذ “قرارات طائشة أو متسرعة“.
لكن على الرغم من التأكيدات المتكررة وسنوات المشورة والمساعدة الطوال، لم تتحسن قدرات الاستهداف لدى التحالف الذي تقوده السعودية، حيث قصف حافلة مدرسية في اليمن في شهر أغسطس / آب 2018 مما أسفر عن مقتل أكثر من 40 طفلاً. مع ذلك، وبالرغم من هذا الحادث وأمثلة أخرى غيره، أصر وزير الخارجية بومبيو بعد شهر واحد في سبتمبر / أيلول 2018 أنّ التحالف الذي تقوده السعودية يتخذ خطوات كافية لحماية المدنيين في اليمن. وقد بيّنت تقارير تفصيلية لاحقة في صحيفة وول ستريت جورنال أن بومبيو قد فرض آراءه على مسؤوليه العسكريين والإقليميين داخل وزارة الخارجية، وأنه وقف إلى جانب دائرة الشؤون القانونية التي أكدت أن عدم المصادقة رسمياً على عمليات التحالف السعودي قد تؤثر مستقبلاً على مبيعات الأسلحة.
أثر خاشقجي
في 2 أكتوبر / تشرين الأول 2018 قام عناصر مخابرات سعوديون بتعذيب وقتل جمال خاشقجي في القنصلية السعودية في اسطنبول. كان خاشقجي مقيماً في الولايات المتحدة وصحفياً في واشنطن بوست، وقد أثارت عملية القتل هذه الرأي العام ضد السعودية بطريقة لم تتسبب بها أي من وفيات المدنيين في اليمن، سواء تلك الناجمة عن الغارات الجوية أو الناجمة عن نقص الأدوية أو التجويع.
السيناتور بيرني ساندرز من ولاية فيرمونت كان قد اقترح في مارس / آذار 2018 تصويتاً في الكونغرس على مشروع قانون (SJ 54) يطالب الولايات المتحدة بسحب جميع قواتها من العمليات القتالية الداعمة للتحالف الذي تقوده السعودية، لكن هذا التصويت انتهى بالفشل، وقد عاد مجلس الشيوخ بعد مقتل خاشقجي إلى ذلك القانون نفسه ليقوم بتمريره في نوفمبر / تشرين الثاني.
كان مشروع القانون الأمريكي مهماً من الناحية السياسية، لكن من الناحية القانونية لم يكن له أيّ معنى، فسياسياً كانت تلك المرة الأولى التي يضغط فيها الكونغرس ضد الدعم الأمريكي للتحالف الذي تقوده السعودية في اليمن، لكن قانونياً لم يكن لمشروع القانون أي وزن يذكر، فقد دعا الولايات المتحدة إلى سحب جميع القوات المتورطة في العمليات القتالية في اليمن باستثناء الذين يقاتلون تنظيمي القاعدة وداعش، والذين يسمح بانتشارهم تصريح 2001 لاستخدام القوة العسكرية، لكن إدارتي أوباما وترامب أصرتا أن الولايات المتحدة غير متورطة عسكرياً في النزاع اليمني، وكما ذكر وزير الدفاع جيمس ماتيس للكونغرس عشية التصويت: “الولايات المتحدة ليست متورطة عملياتياً في العمليات القتالية الجارية في الحرب الأهلية في اليمن أو في الحالات التي يكون فيها خطر الأعمال العدائية وشيكاً”، وبعبارة أخرى فإنّ الولايات المتحدة تدعم حلفاءها السعوديين والإماراتيين لكن قواتها غير مشاركة في القتال.
على الرغم من أن هذا صحيح بالمعنى الضيق – إذ لا جنود أمريكيين يحملون السلاح بأنفسهم أو يقودون طيارات ضد الحوثيين – لكن من الصحيح أيضا القول أن التحالف الذي تقوده السعودية لم يكن لينفذ حربه في اليمن دون دعم الولايات المتحدة، فببساطة توفّر الولايات المتحدة الكثير من الدعم اللوجستي للسعودية، وكما قال بروس ريدل، الضابط السابق في وكالة الاستخبارات المركزية: إذا أرادت الولايات المتحدة أن تشل حركة سلاح الجو السعودي تماما غداً فيمكنها ذلك. لكن لا إدارة ترامب ولا الكونغرس اقتربا حتى من التهديد باستخدام هذا النفوذ ضد السعودية.
بدلاً من ذلك، قال وزير الدفاع جيمس ماتيس في 9 نوفمبر / تشرين الثاني 2018 أن الولايات المتحدة لن تزود طائرات التحالف بقيادة السعودية بالوقود جوّاً، كما دعا كل من ماتيس ووزير الخارجية مايك بومبيو إلى وقف إطلاق النار في اليمن بحلول نهاية ذلك الشهر، لكن لم يحدث أيّ من ذلك، لكن الضغط السياسي الأمريكي وكذلك جهود ماتيس وراء الكواليس مهّدت الطريق لاتفاقية ستوكهولم في ديسمبر / كانون الأول.
نتج اتفاق ستوكهولم عن مفاوضات أدارها المبعوث الخاص للأمم المتحدة مارتن غريفيث، ووقعه ممثلون من الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً وممثلون عن جماعة الحوثيين المسلحة (أنصار الله)، وهو يتألف من ثلاثة اتفاقات منفصلة: اتفاق على آلية تبادل السجناء/الأسرى، واتفاق مدينة تعز، واتفاق مدينة الحديدة. لكن البيان النهائي بالكاد يقدم أي شيء يتجاوز شكر الأطراف المختلفة ووضع لائحة أهداف غامضة للمستقبل.
لم يكن اتفاق تعز أقل غموضاً، الأمر الذي يرجع إلى حد كبير لوجود عدد أكبر من الجهات المشاركة في القتال، والتي تتجاوز الطرفين الرئيسيين أي الحكومة اليمنية والحوثيين، وكان اتفاق الحديدة هو الأكثر تفصيلاً بين الاتفاقات الثلاثة، كما حظي بأكبر قدر من الاهتمام، لكنه احتوى على بعض النقاط الرئيسية الغامضة مثل هوية “قوات الأمن المحلية” مما جعل تنفيذه تحدياً.
في الأمم المتحدة، ضمن مساعيه إلى تثمير المكاسب المتوقعة لاتفاق استكهولم، قرر مجلس الأمن صياغة مشروع قرار جديد، وبصفتها القائمة على صياغة النصوص الخاصة باليمن، أخذت المملكة المتحدة زمام المبادرة في ذلك، لكنها واجهت صعوبات كبيرة مع الولايات المتحدة التي وقفت إلى جانب السعودية والإمارات واعترضت على اللغة المستعملة حول المساعدات الإنسانية والمساءلة عن جرائم الحرب المحتملة، بل إن الولايات المتحدة ذهبت حدّ التهديد باستخدام حق النقض ضد قرار المملكة المتحدة ما لم يتم تجريد النص من تلك اللغة، وهو ما تمّ في النهاية ومرّ القرار 2451.
حروب متداخلة ومزاعم إساءة
وفقاً لوزارة الدفاع الأمريكية، فإنّ القوات الأمريكية موجودة على الأرض في اليمن منذ مايو / أيار 2016. في الواقع، وبنفس الطريقة التي تدعم الولايات المتحدة السعودية والإمارات في حربيهما ضد الحوثيين، تدعم كلّ من السعودية والإمارات الولايات المتحدة في حربها ضد القاعدة وداعش بالمقابل. حيث تساهم الإمارات في غارات مشتركة مع الولايات المتحدة، ويتبادل البلدان الخليجيان المعلومات مع الولايات المتحدة، وتخوض القوات المدعومة من الإمارات بشكل روتيني معارك مع مقاتلي القاعدة، (هناك أيضاً بعض أدلة ظرفية تشير إلى تعهّد الإمارات القيام بغارات جوية أحادية الجانب ضد أهداف القاعدة وداعش).
أواخر نوفمبر / تشرين الثاني 2018 ربط وزير الخارجية بومبيو الحربين معاً، مشيراً بشكل ضمني للكونغرس أن الانسحاب من الدعم الأمريكي للتحالف الذي تقوده السعودية قد يؤدي لتراجع موازٍ في الدعم السعودي والإماراتي للحرب ضد القاعدة وداعش، حيث قال بومبيو أمام أعضاء مجلس الشيوخ: ” فلتجربوا محاولة الدفاع عن تلك العواقب عندما تعودون لدوائركم الانتخابية”.
الحروب اليمنية المتداخلة والسيولة التي تتنقّل بها الولايات المتحدة والسعودية والإمارات أثارت أيضاً مزاعم إساءة معاملة وتواطؤ أمريكي، فقد ذكرت وكالة “أسوشيتد برس” في يونيو / حزيران 2017 أن الإمارات تعذب سجناء في شبكة سجون سرية تديرها في اليمن. لاحقاً قام فريق خبراء الأمم المتحدة المعني باليمن (والكاتب كان عضواً فيه) بتأكيد تقرير أسوشيتد برس، كما قام بالبناء عليه، وهو ما فعلته أيضاً كلّ من هيومن رايتس ووتش ومنظمة العفو الدولية. و(قال كريستوفر هينزل مرشح الرئيس ترامب للسفارة الأمريكية في اليمن خلال جلسة استماع عقدت في ديسمبر / كانون الأول 2018 أنّه لم يقرأ أياً من التقارير حلو مزاعم التعذيب). حينها قال مسؤولون أمريكيون أنه على الرغم من معرفتهم بمزاعم التعذيب، فهم على ثقة أنه لم يحدث أي تعذيب بوجود موظفين أمريكيين في السجون، وقالت دانا وايت المتحدثة باسم وزارة الدفاع لوكالة أسوشيتد برس: “لن نغض الطرف لأننا ملزمون بالإبلاغ عن أي انتهاكات لحقوق الإنسان“.
بعد عام ونصف، في ديسمبر / كانون الأول 2018، تغيّر موقف الولايات المتحدة بشكل محسوب ولكن ملحوظ، وبدلاً من إبقاء الادّعاء بأنه لم يحدث أي سوء معاملة بوجود قوات أمريكية، قال البنتاغون فقط أن “وزارة الدفاع قررت أن الأفراد التابعين لوزارة الدفاع لم يلاحظوا أو يتواطؤوا في أية معاملة قاسية أو لاإنسانية أو مهينة للمحتجزين في اليمن”.
إذا أراد المرء إساءة الظن فبإمكانه قراءة هذا التحول الدلالي ويقول أن الجنود الأمريكيين لم يروا بأعينهم أي تعذيب، لكن ذلك يترك الباب مفتوحاً أمام احتمال أن يكونوا قد خرجوا عن نطاق الرؤية باتجاه غرفة مجاورة مثلاً.
بالمثل، قام تقرير وزارة الدفاع في ديسمبر / كانون الأول 2018 بتعديل موقف الوزارة القائل بأن الولايات المتحدة “ملزمة بالإبلاغ عن أي انتهاك لحقوق الإنسان” ليشير إلى أن “الشركاء الأجانب الذين يجرون عمليات احتجاز في اليمن لا يتلقون أية مساعدة من الولايات المتحدة قد تخضع لقانون ليهي“، والذي يحظر على الولايات المتحدة تقديم مساعدات لقوات الأمن التي تنتهك حقوق الإنسان، وحسب مدير سابق لمكافحة الإرهاب في مجلس الأمن فإن الوثيقة المكونة من صفحتين هي “سرد مضلل ومراوغ بشكل متعمد للنشاط الأمريكي والإماراتي في اليمن وهو يرقى إلى إنكار عدم الإنكار”.
في ذات السياق أشار تقرير وزارة الدفاع إلى أنه في حين “لا تقوم القوات الأمريكية بعمليات احتجاز في اليمن” إلا أنها تقوم “بإجراء عمليات استجواب للمعتقلين المحتجزين لدى شريكها“. وقد أشارت تقارير لاحقة لصحيفة “ديلي بيست” إلى أن الولايات المتحدة ليست فقط على معرفة بوجود تعذيب في سجون الإمارات باليمن، بل قد يكون الأمريكيون موجودين في الغرفة بينما يتم تعذيب المشتبه بهم.
وبالإضافة إلى التعذيب، ظهرت أدلة موثوقة على أن الإمارات استأجرت مرتزقة أمريكيين كجزء من “فرق الموت” التي تغتال بها معارضيها السياسيين في اليمن.
المساعدات الإنسانية:
لقد ساهمت الولايات المتحدة بأكثر من 1.46 مليار دولار كمساعدات مقدّمة لليمن منذ 2015، بما في ذلك 321 مليون دولار في 2018، وبحسب هيئة أبحاث الكونغرس فإن هذا يجعل الولايات المتحدة أكبر مانح منفرد للمساعدات الإنسانية لليمن خلال السنوات الأربع الماضية، (هذه الأرقام لا تأخذ في الاعتبار التدخلات السعودية في الاقتصاد اليمني، كمبلغ الـ2 مليار دولار الذي أودعته الأخيرة في البنك المركزي اليمني بعدن في يناير / كانون الثاني 2018).
ربما كان مشروع المساعدات الأمريكية الأكثر تميزاً في اليمن في ظل إدارة ترامب هو أربع رافعات سلمتها الحكومة الأمريكية إلى ميناء الحديدة في يناير / كانون الثاني 2018 لتحل محل الرافعات الأربع التي دمّرها التحالف بقيادة السعودية عام 2015. وقد عملت الولايات المتحدة لسنوات على إقناع التحالف الذي تقوده السعودية بالسماح بتسليم الرافعات، واعتبرت وصولها إلى الحديدة نصرا دبلوماسيا كبيرا، ومع ذلك، ولأن الرافعات كانت متنقلة، فهي لم تستطع التعامل مع كمية الحمولة الكافية لتحل تماماً محل الرافعات التي تدمرت قبل سنوات.
خاتمة
اتبعت إدارة ترامب سياستين منفصلتين في اليمن: مكافحة القاعدة وداعش، ومواجهة النفوذ الإيراني، وقد وضع هذان الهدفان السياسيان الولايات المتحدة في حربين منفصلتين في اليمن، وعلى الرغم من أن هاتين الحربين بدأتا في ظل إدارات سابقة، فإن إدارة ترامب وسّعت إلى حد كبير عدد الهجمات الأمريكية لمكافحة الإرهاب في اليمن، كما حافظت على دعمها القوي للتحالف الذي تقوده السعودية رغم الخسائر البشرية الكبيرة التي تسبب بها في صفوف المدنيين.
كان لاتباع هاتين السياستين تأثير محرج تمثل في الموقع الذي وجدت فيه الولايات المتحدة نفسها فيه، حيث تحارب جميع الأطراف في اليمن، فهي تحارب القاعدة وداعش، والذين بالإضافة إلى القتال الداخلي بينهما يستهدفان الحوثيين، الذين هم أنفسهم هدف الحليفين الرئيسيين للولايات المتحدة السعودية والإمارات، لذلك سقط اليمن في غمار صراع فوضوي متعدد المستويات، ولن يكون من السهولة بمكان فكفكته أو حله.
لدى الولايات المتحدة سياسة مكافحة الإرهاب وسياسة معادية لإيران، لكن ليس لديها سياسة خاصة باليمن.