إصدارات الأخبار تحليلات تقرير اليمن أرشيف الإصدارات

من المكلا إلى قيفة.. البيضاء: قاعدة “القاعدة”

كشفت عملية الإنزال العسكري في محافظة البيضاء نهاية يناير المنصرم عن جملة التحولات التي طالت المقاربة الأمريكية في مكافحة الإرهاب من جهة، والبنية التنظيمية والاستراتيجية الجهادية لتنظيم القاعدة في جزيرة العرب من جهة أخرى.

أمريكياً، استطاع الرئيس الجديد تيسير اندفاعاته السياسية على نحو عملياتي. “النيويورك تايمز” نقلت عن مصادر مطلعة بأن مخطط الإنزال كان مطروحا على طاولة الإدارة السابقة، غير أن أوباما لم يرد أن يخالف قاعدة “لا أقدام على الأرض”. مقابل ذلك لم يتوانَ ترامب عن افتتاح عهده الجديد بعملية تعكس تغيراً نوعياً في أسلوب مواجهة الإرهاب في اليمن بعد أن انحصر سابقاً بضربات الدروز.

حتى الآن لا يمكن الجزم بديمومة التحول الطارئ على الأداء الأمريكي وتبلوره كنهج مستقبلي في استراتيجية الحرب على الإرهاب في اليمن. لكن مجرد الإقدام على تنفيذ هذه العملية يوضح مقدار ما باتت تشكله البيضاء من خطورة حقيقية على الأمن القومي الأمريكي، وهو ما تجلى مؤخراً في حجم الخسائر العسكرية التي وصلت حد وقوع قتلى وجرحى في صفوف أفراد العملية. كما أفصح مستوى المقاومة الشرسة عن مقدار القوة التي يدخرها تنظيم القاعدة للدفاع عن “ملاذاته الآمنة” وقياداته البارزة.

نجحت العملية في قتل عدد من القيادات البارزة، لكنها عوائد لا ترقى من حيث أهميتها إلى حجم الخسائر التي اضطر الأمريكان إلى تعويضها باستدعاء مزيد من القوة واستهداف مزيد من المدنيين بينهم نساء وأطفال.

استراتيجياً لم تحقق العملية أهدافها رغم ما رافقها من تضخيم إعلامي أمريكي، حيث نقلت فوكس نيوز عن مصادر عسكرية أنه تم الحصول على وثائق هامة في مسرح العمليات قد تضاهي وثائق (أبوت أباد) وهو حديث غير مؤكد حتى اللحظة.

في المقابل أحرز تنظيم القاعدة نصراً ثميناً باستهداف خصمه الأيديولوجي الأول الذي جاء إلى عقر داره دون أن يتكبد مشقة الذهاب إليه. وهي النبرة التي تحدث بها زعيم التنظيم (قاسم الريمي) محتفياً بإحباطه “الإنزال الصليبي” وقتله ضباطا أمريكيين وتدميره طائرتين عسكريتين كما ادعى في آخر تسجيل صوتي له.

وبصرف النظر عن مدى دقة أرقام أي طرف، فقد أظهرت معركة “إنزال قيفة” جاهزية عسكرية وقدرات قتالية متقدمة للتنظيم الجهادي الذي نقل معظم وزنه البشري والعسكري إلى مرتفعات المناطق الوسطى بعد أن استعرت الحرب ضده جنوباً وشمالاً.

تعكس قائمة أسماء الضحايا وطبيعتهم تنوعاً لافتاً في الحضور القاعدي بالبيضاء يجمع بين الصبغة المحلية ذات الطابع القبلي، والحضور التنظيمي ذو الطابع الأممي المتمثل بالقيادات الأجنبية. كما أن حضور القيادات المستهدفة في مسرح العمليات لم يكن فردياً بل أسرياً، ما يعني انتقالها من طور التخفي إلى حالة الاستقرار الذي اختارت له أكثر البيئات اليمنية وعورة وعزلة.

لم تكن مناعة القاعدة في قيفة وليدة الصدفة، بل هي ابنة سياق طويل من أساليب التموضع و التكيف الذي ابتكره التنظيم طيلة فترة عمله باليمن. وبخلاف تكتيكات الانسحاب السريع التي آثر التنظيم اتباعها في المكلا وعدن وأبين ولحج، قرر الاستماتة في البيضاء ليضع بنفسه قواعد الاشتباك الجديدة مع الأمريكي وحلفائه، ويرسم خارطة نفوذه الجهادي يمنياً، بما سينضوي عليها من تحولات استراتيجية تراعي متغيرات الواقع اليمني المشتعل، وتجاري التحديات الوجودية التي يعيشها التنظيم العالمي لقاعدة الجهاد.

مرت اليمن خلال السنوات الأخيرة بمخاض سياسي واجتماعي تكلل أخيراً بحرب أهلية واسعة مثلت في شقها الأوسع فرصة ثمينة للتنظيمات الجهادية. لكنها في جزء منها مثلت نقمة غير مسبوقة على تنظيم القاعدة الذي اكتوى بنيرانها المباشرة وغير المباشرة. وبعد أن بلغت سطوة التنظيم أوجها في 2015، بإحكام قبضته على مدينة المكلا وأبين وجزء من محافظة شبوة إضافة إلى حضوره الوازن في عدن وتعز على خلفية ما اكتسبه من مقبولية جراء مواجهته لقوات الحوثي وصالح، شهد التنظيم تراجعاُ دراماتيكيا فقد على إثره كل مكاسبه المكانية حتى استقر أخيرا في مناطق جغرافية بعينها كانت البيضاء أهمها وأقواها. لذا فإن عملية “إنزال قيفة” تعد حدثاً مؤسسا لمسار جديد من المواجهة سيطال “القواعد الآمنة” للقاعدة بعد أن اكتفى سابقا بمناطق نفوذه المستجدة إلى أن اكتملت عملية تحريرها. إن قراءة دلالات وتداعيات هذه العملية يتطلب العودة إلى السياق الذي شكل قوة ونفوذ القاعدة لمعرفة أهدافها النهائية وخياراتها المتاحة في ضوء إمكاناتها الذاتية وممكناتها الموضوعية.

قاعدة اليمن.. أبرز التحولات والتحديات

منذ انطلاقة تنظيم قاعدة الجهاد في العالم على يد مؤسسه أسامة بن لادن، وفرع اليمن ينافس باعتباره الأكثر فاعلية وخطورة بعد مركزه الأم في أفغانستان. أتاحت الظروف الاجتماعية والأمنية للتنظيم اليمني مساحة أكبر للتحرك والتكيف، قابلها حيوية تنظيمية وفكرية بلغت أوجها مع تسلم ناصر الوحيشي (أبو بصير) مقاليد القيادة في العام 2006 بعد فراره من سجن الأمن السياسي في صنعاء.

المرحلة النضالية.. من 2006 الى 2011..

استطاع الوحيشي خلال هذه الفترة أن ييمنن الفرع الجهادي من خلال انفتاحه على أبناء القبائل، وتعديل الأدبيات الجهادية لتستوعب اللاعب الجديد عوضا عن اعتبار روابطه الاجتماعية نوعاً من العصبية الجاهلية، فتلك الروابط هي من ستوفر لهم الحماية الواسعة والقدرة على التخفي. كما وسع التنظيم انتشاره في المناطق الجغرافية التي تغيب عنها الدولة وتعاني حالة من التهميش الاقتصادي والسياسي. وكانت قدرة التنظيم على التكيف تدعمها استراتيجيته العسكرية القائمة على استهداف العدو البعيد وتحييد العدو القريب، حيث حيد التنظيم – باستثناء حالات معينة كالهجوم علي مستشفى العرضي في العام 2013 الذي اضطرت القاعدة على التبرؤ منه لاحقا – أي أهداف محلية مدنية أو عسكرية، واقتصر جهده على العمليات التي تستهدف المصالح الأجنبية والأمريكية على وجه التحديد كما حدث مع سفارتها في العام 2008.

من جهة أخرى تحولت قاعدة اليمن من مجرد فرع تنظيمي ثانوي إلى قطب جاذب استطاع أن يستوعب أعضاء التنظيم في السعودية وكذلك عددا من التنظيمات في أفريقيا ويوحدها تحت قيادته. وفي عام 2009 وسع الوحيشي إطاره التنظيمي ليتزعم تنظيم قاعدة الجهاد في شبه جزيرة العرب، ويغدو بذلك نداً للتنظيم الأم في أفغانستان والذي ظل متفوقا عليه بكاريزما وتاريخ زعيمه التاريخي أسامة بن لادن الذي كان الوحيشي مجرد سكرتيرا له حتى العام 2001.

مرحلة الموازنة بين المحلي والدولي.. من 2001 إلى 2015.

خلال هذه الفترة شهدت الساحة الجهادية حدثان جوهريان: مقتل أسامة بن لادن واندلاع الانتفاضات العربية. ومع انتقال قيادة التنظيم إلى الظواهري، طرأ تغير جوهري على بنية واستراتيجية القاعدة. تمثل التغير التنظيمي في نقل العمل الجهادي من طابعه النخبوي إلى طابعه الشعبوي من خلال ظاهرة “الأنصار”، وهي تكوينات محلية جرى تحفيزها وترتيبها على وقع انحسار الدولة وفي سياق المزاج الثوري الذي شجع نزعة التمرد عند الكثير من المكونات الاجتماعية المغبونة.

وقد كانت ظاهرة الأنصار فكرة يمنية خالصة من ابتكار أنور العولقي وتنفيذ ناصر الوحيشي الذي سارع إلى ترجمتها من خلال تنصيب الشاب “جلال بالعيدي (أبو حمزة الزنجباري) قائدا لأنصار الشريعة وهي المجاميع التي فرضت سيطرتها على عزان وأبين. ومؤخرا هي التي أدارت المكلا إبان وقوعها تحت سيطرة القاعدة. وشهدت هذه الفترة تحول القاعدة من مجرد تنظيم سري مغلق، إلى تنظيم شعبي واسع يفرض سلطته على مناطق جغرافية واسعة ومدن هامة ورئيسية.

استراتيجياً ؛ كان هذا التحول يعني المساواة بين العدو القريب والعدو البعيد، لذا أخذ تنظيم القاعدة يستهدف الجيش اليمني والقادة العسكرين حتى بلغ الأمر محاولة استهداف الرئيس هادي في مجمع العرضي، وذلك في ظل مسعى التنظيم إلى وراثة الفوضى. وفي هذا السياق حافظ التنظيم على خطابه الثوري الذي تركز على استهداف النظام السابق والجيش (المرتد)، قبل أن تتحول بشكل كامل نحو صراعات الهوية من خلال ثنائية السنة والروافض (الشيعة) بمجرد اصطدامه مع الحوثيين.

لكن التنظيم ظل يوازن بين نهجه الجديد ذو النزعة المحلية و بين ثوابته الجهادية المعادية لأمريكا حيث صنفته التقارير الاستخبارية الأمريكية باعتباره الفرع الأشد خطورة على الأمن القومي. وذلك بما أثبته التنظيم بقدرته على التكيف والتخطيط و ابتكاره المستمر لأنواع متفجرات يستعصي اكتشافها، ومن خلال عملياته النوعية ذات البعد الاستراتيجي أو حتى الطابع الأيديولوجي كعملية شارلي ابدو التي تبناها تنظيم قاعدة الجهاد في جزيرة العرب، وكانت تلك العملية آخر استهداف للعدو البعيد.

المرحلة الانتقالية بين الفرص والأزمات..2015 إلى 2017.

خلال هذه الفترة تعرض تنظيم القاعدة لأقسى ضربة له منذ مقتل أسامه بن لادن، وهي مقتل زعيم التنظيم في اليمن وجزيرة العرب ناصر الوحيشي. وكانت الدرونز الأمريكية قد نجحت قبل الوحيشي باستهداف أهم رجالات “الرعيل الأول” داخل التنظيم مثل الآنسي والنظاري والشهري. وتلى استهداف الوحيشي سلسلة من الغارات أودت بحياة الكثير من القيادات الوسطية وكذلك القيادات البارزة مثل جلال بلعيدي.

ومع تسلم قاسم الريمي للقيادة، بدا أن التنظيم اليمني يسير على خطى أفغانستان، وأن مقاربة الوحيشي المتوازنة القريبة من نهج بن لادن سيغلب عليها التوجه المحلي وصراعات الهوية التي اتسمت بها حقبة الظواهري.

وبفضل الحرب والفوضى، استطاع التنظيم مراكمة الكثير من المكاسب والنفوذ. لكن اتساع السيطرة المكانية للقاعدة وأنصار الشريعة قد جعلتها هدفاً سهل الاصطياد من الجو حيث قتل الوحيشي مثلا في المكلا وقتل بلعيدي في ابين بطائرات الدرونز، كما بات التنظيم أكثر عرضة للاختراق الأمني. ناهيك عن فشله في فرض نفسه كبديل وحيد للدولة كما فعلت جبهة النصرة في إدلب مثلا أو (داعش) في الرقة وذلك لموانع ذاتية وموضوعية.

وفيما انشغل التنظيم خلال النصف الأول من هذه الفترة بالصراع الداخلي ومراكمة استحقاقاته الجديدة من جغرافيا وسلاح ومجندين، انصرف في نصفها الثاني إلى ترتيب صفوفه وامتصاص الضربات وإعادة التموضع بعد أن خسر الكثير من المواقع. وبالتزامن مع ما تمر به الجهادية الدولية من انقسام داخلي على إثر ولادة تنظيم (داعش)، عاش التنظيم اليمني مصاعبا وجودية جعلته يعيش مرحلة انتقالية حادة ما تزال سارية المفعول. وعلاوة على ما يواجه التنظيم من مخاطر أمنية وعسكرية، بدا وأن عليه مواجهة الوقت أيضاً.

أهم التحديات التي تواجه التنظيم حالياً..

في الحالة اليمنية على وجه التحديد برز نوعان من التحديات التي تواجه القاعدة خلال مرحلتها الانتقالية.

أولاً: تحديات ذاتية

  1. التباس الرؤية الاستراتيجية بعد أن فشل التنظيم بالمواءمة بين المحلي والدولي، ودفعته الظروف إلى الانغماس في ديناميكيات الصراع المحلي بأدبيات هوياتية تاركاً أي بعد نضالي عالمي يستهدف عمليا أمريكا أو إسرائيل. وقد كان ذلك واحد من رأس ماله المهم الذي استقطب به العديد من المتطرفين ضد أمريكا.
  2. تقادم الأيديولوجيا الجهادية القاعدية لمصلحة عقيدة جهادية سلطوية تمثلها (داعش) وتتسق مع نهجها الاستراتيجي.
  3. رحيل معظم قياداتها النوعية عبر ما يصفه كتاب بسياسة “قطع الرأس” التي استهدفت كل قادة القاعدة من ذوي التوجه المناوئ للهيمنة الأمريكية، وبالتالي إبقاء القاعدة أوسع انتشاراً ولكن أقل فاعلية خارج محيطها الجغرافي. من قيادات الرعيل الأول البارزين لم يتبق سوى قاسم الريمي وخالد باطرفي، الأول يمثل العقل التنظيمي والعسكري والثاني هو العقل الاستراتيجي. لكن الخسارة البشرية ألقت بثقلها على ابتكارية ونجاعة القاعدة في استهداف الغرب منذ عامين.
  4. تداعي تنظيم القاعدة في اليمن كأيقونة جهادية ونموذج جاذب بعد خسائره المتتالية في المكلا وأبين. وكذلك تحاشيه إعلان دولته الإسلامية بعد أن سيطر على المكلا التي اعتبرها البعض “رقة يمنية”.
  5. نزيفه المستمر لقواعده ومنافسيه في الحقل الديني السلفي، سواء لجهة (داعش) التي ظلت تغرف من عناصر القاعدة منذ أن تبرع الفرع اليمني بدعوة النفير إلى سوريا للجهاد.. أو لجهة “السلفية المنضبطة” وهي كتلة سلفية موالية للشرعية والرياض وأبو ظبي وقد نجحت في قضم معظم الحاضنة الشعبية التي كونتها القاعدة إبان حربها على الحوثي لا سيما في المدن. وهي توظف ذات الثنائية الطائفية وبذات الحدة لتحشيد الشباب لكنها تعمل في إطار قنوات ومؤسسات الشرعية، وتلتزم بخطها السياسي.

ثانياً: تحديات على المستوى الموضوعي

  1. ساعد الإجماع الدولي حول الملف اليمني من تقليل من فرص استثمار الإرهاب في ظل أي نزاع، كما أن الموقع المهم لليمن حافظ على مستوى الفوضى دون أن تنزلق إلى الوضع السوري من حيث تقوية الجماعات الإرهابية.
  2. مرحلية تحالف الضرورة بين التحالف والقاعدة، إذ سرعان ما انقلبت حالة المساكنة التي حكمتها وحدة العدو إلى مواجهة عسكرية وأمنية تجلت في المحافظات الجنوبية المحررة. وفي حالة توقف الصراع اليمني المستعر في مناطق الوسط، فإن القاعدة ستدخل بمواجهة مباشرة مع قائدة التحالف العربي بعد أن واجهت الإمارات سابقاً.
  3. صعود قوى سياسية إجتماعية جديد تنافس على ملء فراغ السلطة والدولة وتحظى بتأييد شعبي وحيثية اجتماعية وغطاء إقليمي ودولي، بخلاف منافسيها القدامى من ذوي الطابع الدولاتي سيئ الصيت، والذي أتاح مراراً للتنظيم فرصة الكمون والتموضع داخل المجتمع.

على وقع هذه التحديات، أعاد تنظيم القاعدة قراءة المشهد اليمني مفضلاً الانسحاب من مناطق نفوذه الجديدة والعودة مجددا إلى ملاذاته الآمنة في مناطق الوسط الجبلية والقبلية والتي مازال القتال فيها دائراً.

البيضاء.. نقطة الارتكاز المثالية..

لم يبالِ تنظيم القاعدة كثيراً بخسارته مناطق النفوذ الجديدة في المكلا وأبين ولحج، إذ أن هذه الخسارة وإن نالته معنوياً فإن آثارها العملية لا تتجاوز تفرعاته المحلية المتمثلة بتنظيم الأنصار. لكن التهديد الوجودي إنما يمس بنية تنظيم القاعدة الذي ظل متواجدا بثقله في ملاذاته الآمنة، حيث تتوافر الجبال الوعرة والبنية القبلية والصراع المستمر.

كانت مناطق الوسط (تعز, يافع, البيضاء وجزء من شبوة) هي الخيار الأمثل للتنظيم منذ لحظات ولادته، وها هو يعود إليها في مرحلته الانتقالية. لكن البيضاء على وجه التحديد لا تمثل للتنظيم ملاذا وحسب، بل و”قاعدة آمنه” يمكن أن يعيد انطلاقه من خلالها. إذ أنها تلبي ثلاثية (الجبال والقبيلة والحرب). كما أن عناصر التنظيم في البيضاء تشمل وجاهات قبلية وأسرية مثل عائلة الذهب، التي لم يكتف بعضها بمهادنة القاعدة بل أنها بايعت التنظيم وصعدت في سلمه لتتبوأ مناصبا قيادية.

كما اعتادت المجتمعات شبه المعزولة، كالبيضاء، العيش خارج نفوذ الدولة. لذا فإن لها ديناميتها الخاصة في إدارة شأنها العام من خلال بناها التقليدية. كما أنها محصنة ضد أي اجتياح عسكري أو مواجهة نظامية وهذا يعني أن تنظيم القاعدة سيكون معفياً من اعتبارات الحوكمة والتحول إلى سلطة، ويمكنه التمدد مكانياً في التضاريس الوعرة دون أن يصبح مسؤولاً أو مكشوفاً مثلما حدث في المكلا مثلاً.

إلى ذلك فإن الشعبية التي اكتسبها التنظيم في عدن، و يكتسبها في تعز، بفضل مواجهته للحوثيين، تحضر أيضاً في البيضاء التي تعيش كخط تماس مع الحوثيين منذ العام 2014. لذا فإن التنظيم سيمنح أولويته لمجابهة الخطر المحلي المتمثل بجماعة الحوثي، إذ أنها المرر الإلزامي لتعويمه اجتماعياً وقبلياً كما أنها التهديد الأخطر على” قواعده الآمنة”،فهي الكيان العسكري الوحيد الذي يمتلك القدرة والاستعداد على مجاراته بنمط حرب العصابات في أي بيئة وعرة. وسيؤجل التنظيم -مرحلياً على الأقل- طموحات العودة العالمية كنموذج جهادي ملهم، إذ ستقتصر المرحلة المقبلة على استراتيجية الحفاظ على الذات وإعادة بناء القدرات سيما بعد الضربات الموجعة التي تلقاها.

عملية الإنزال.. وصهر المتناقضات..

في المرحلة المقبلة سيتحتم على القاعدة بلورة مقاربة توائم بين ديناميكات القبيلة والتنظيم. فالقبيلة تقوم على القرابة والتنظيم يقوم على الولاء الاختياري للفكرة، والعقيدة هي بالضرورة من تحرك عناصر التنظيم فيما الحمية هي من تحرك أفراد القبيلة. وأخيراً فبينما أهداف التنظيم استراتيجية، فأن أهداف القبيلة غنائمية وبرجماتية. تلك ثلاثة مستويات من التناقض البنيوي قد يبدو حلها شبه مستحيل في ضوء الظروف العادية، إلا أن عنصراً دخيلاً على الأحداث مكن “قاسم الريمي” من بلورة خطاب جديد ينهي حالة الصراع.

لقد قارب الدم المسال في قيفة كل المسافة الفاصلة بين الحميّة والأيديولوجيا، فأضحت أمريكا عدوا مباشراً بحسابات القبيلة التقليدية كما هي بأدبيات القاعدة العقائدية وحساباتها الاستراتيجية. ولعل الكلمة التي ألقاها الريمي بعيد الحادثة دليلا كافيا على حجم التماهي بين طرفي المعادلة، حيث افتتح الريمي كلمته بالثناء على قبائل قيفة الذين وصفهم بـ”فرسان المرحلة”، ولم يتردد في نسب “الانتصار” إليهم. وأبعد من ذلك نحت الريمي مصطلحه الجديد لتوصيف الجهة التي سيتموضعون من خلالها، لمواجهة الحوثي أو بقية خصومهم، وهي “قبائل أهل السنة”.

استراتيجياً فإن تدخل الأمريكان أنهى حالة التناقض المضطرد في أولويات التنظيم القريبة والبعيدة، والتي تشكل جوهر الالتباس في الرؤية القاعدية. وفي خطابه تجنب الريمي الوعيد بأي رد مزلزل كما فعل بخصوص مقتل الوحيشي، والراجح أنه تواضع هذه المرة للحفاظ على مصداقيته المخدوشة منذ 2015. كما أن نبرة الانتصار لم تكن لتتناسب مع لهجة الوعيد الانتقامي. لكن الريمي لم يتغافل عن توجيه رسالته إلى كل مقاتليه قائلاً ” ها هي أمريكا نزلت في أراضيكم تسير على وتر غرورها وكبريائها، فذكروها صولات مقديشو وانتصارات قندهار وصمود الفلوجة… أحرقوا الأرض من تحت أقدامها.. أعيدوا جنودها إلى أهلهم قتلى وجرحى ومشوهين”.

وباستثناء الردع العسكري الفعّال، لا تملك القاعدة حالياً القدرة على بلوغ أهداف أمريكية هامة في الداخل أو الخارج. وفيما لو قررت الانتقام، فإن الطريق السالك الوحيد يقودها صوب شركاء واشنطن الإقليميين (دولة الإمارات) أو حلفائها المحليين (الحراك الجنوبي والحكومة الشرعية).

في جميع الأحوال يسهل التنبؤ بكارثية الخيارات الأمريكية لمكافحة الإرهاب وما تؤديه من نتائج عكسية، في حال انضوت على مزيد من التدخل العسكري المباشر. وهو ما يتضح من إنعكاسات “إنزال قيفة” الذي أعاد ترميم القاعدة رمزياً كما عمق من حضورها الاجتماعي. على المدى المنظور فإن المقاربة الأمريكية لمكافحة الإرهاب تعزز من تناقضات الحالة اليمنية طالما اقتصرت على الجانب العسكري والعملياتي دون استيعاب الجانب السياسي والحكوماتي والخدماتي، ما يضمن استمرار الحرب التي تشكل جوهر المشكلة الأمنية في اليمن.

مشاركة