محمد العلائي *
يواجه التحالف السعودي الإماراتي في اليمن أكثر الامتحانات قسوة. في 29 آب/ أغسطس الماضي، شن الطيران الحربي الإماراتي سلسلة من الغارات لإيقاف تقدم الوحدات العسكرية التابعة للرئيس اليمني المعترف به دولياً عبدربه منصور هادي، المقيم حالياً في الرياض، عندما كانت هذه القوات على وشك أن تسترد مواقعها في العاصمة المؤقتة عدن.
الوقائع
تعرضت المعسكرات الموالية لهادي، خلال الفترة بين 7 و10 آب/ أغسطس، للتفكيك والطرد من عدن في هزيمة موجعة على يد قوات “المجلس الانتقالي” الانفصالي، المدعوم من الإمارات العربية المتحدة، العضو الثاني في التحالف العسكري الذي شكلته السعودية في آذار/ مارس 2015، بعد أشهر من استيلاء الحوثيين على العاصمة صنعاء.
في 20 آب/ أغسطس الماضي، وبعد مرور عشرة أيام على انتصارهم العسكري في عدن، قام الانفصاليون الجنوبيون بتحريك قواتهم للسيطرة على محافظة أبين، مسقط رأس هادي. لم تكلفهم معركة أبين إلا بعض الاشتباكات، لينطلقوا بعد ذلك إلى محافظة شبوة تمهيداً للزحف على حضرموت، وبالتالي وضع أيديهم على حقول النفط في المحافظتين.
كان من الواضح أن السعودية قد سارعت إلى تدارك الأمر في شبوة بإرسال تعزيزات عسكرية لقوات هادي. وفي عتق دارات معارك عنيفة، انتهت بدحر قوات المجلس الانتقالي ليس من عتق فحسب، بل من جميع مناطق شبوة. بحلول 26 و28 آب/ أغسطس، كانت القوات الموالية لهادي قد استعادت زمام المبادرة، وراحت، انطلاقاً من شبوة، تشن هجوماً مضاداً باتجاه أبين وصولاً إلى مداخل عدن، وتوغلت بالفعل في عدد من أحياء المدينة. وتحدثت معلومات في وقت لاحق عن تحذيرات سعودية صدرت لقوات هادي من دخول المدينة.
بدا للمتابعين، وكأن السعودية تردّ الضربة التي سددتها لها حليفتها الإمارات. لكن في اليوم التالي، 29 آب/ أغسطس، حدث ما لم يكن في الحسبان: غارات جوية إماراتية استهدفت تجمعات القوات الموالية لهادي على مداخل عدن، أودت بحياة العشرات!
وهكذا، اتخذت الأحداث مساراً معاكساً استعاد فيه الانتقالي الجنوبي سيطرته على ما كان قد خسره في عدن ومحيطها. في الأيام التالية، شرع الانفصاليون في هجوم ثانٍ لتحقيق انتصارات جزئية في أبين. وفي وقت لاحق، نشب قتال في مدينة عزان التابعة لمحافظة شبوة، حيث أعلنت قوات الانتقالي الجنوبي سيطرتها على المدينة، ما لبثت أن خسرتها بعد ساعات لصالح قوات هادي. استقر الحال مؤقّتاً عند هذا الحد، في كل الجبهات، بموجب تفاهمات سعودية – إماراتية لم يُكشَف عن فحواها، بغضّ النظر عن البيانات المعلنة التي تؤكد على العلاقة الاستراتيجية بين أبو ظبي والرياض، وعلى دعم الحكومة الشرعية…إلخ
حيرة الموقف السعودي
كانت الأحداث، في جانبٍ منها، تبدو وكأنّها مشهد حيّ لنزالٍ سعوديٍ إماراتي عبر وكلاء محليين. وقد كان أكثر ما يبعث على الحيرة هو ارتباك الموقف السعودي. وكان السؤال الذي يتردد بإلحاح هو: هل شنت الإمارات ضرباتها على مواقع قوات هادي – المدعومة سعودياً – بموافقة سعودية؟
وأما السؤال الآخر الذي أثارته تلك التطورات، فكان يتعلق بمدار الصراع هناك، وما هو موضوعه (الإخوانُ المسلمون، أم الانفصال، أم الشرعية، أم الإرهاب، أم النفوذ والمطامع بأنواعها). ثم ما معنى أن ينشب صراع كهذا، من منظور الحرب السعودية في اليمن؟
بالنسبة للسعودية، ليس من المؤكد أن الانفصال بحد ذاته هو المقلق في أنشطة الانتقالي الجنوبي، بل إن التوقيت الذي اختاره الانفصاليون للتصعيد، هو ما يثير حفيظة الرياض في المقام الأول.
والانقلاب على شرعية هادي في جنوب اليمن، ليس هو المشكلة في حد ذاتها بالنسبة للسعوديين، بل أن انقلاباً في هذا التوقيت معناه تجريد التدخل العسكري السعودي في اليمن من الأساس القانوني الذي يوفره موضوع “الشرعية”.
والسعودية بقيادتها الحالية، لا تضمر على الأرجح وبأيّة درجة، تعاطفاً مع حزب الإصلاح (الإخوانِ المسلمين) كما يوحي بذلك خطاب الانتقالي الجنوبي، الذي يتخذ من محاربة “الإرهاب” والإخوان ذريعة إعلامية لمعظم تحركاته ضد حكومة هادي، مُعتقِداً أنّه بهذا الادعاء يقدّم نغمة حاذقة يطرب لها الكبار في العالم.
فالحديث، في اليمن عن “ضرب الإخوان” لا يحمل بالنسبة للرياض، من الناحية السياسية والعملية، المعنى والحافز اللذين يمكن أن يحملهما حديث كهذا في مصر أو حتى في السعودية نفسها. ليس فقط لأن حزب الإصلاح الإسلامي جزء رئيسي في حكومة هادي، التي تتبناها الرياض وتخوض الحرب باسمها، وليس فقط لأن عناصر هذا الحزب وقياداته مندمجون في صميم التشكيلات المدنية والعسكرية للحكومة في مأرب وتعز ومناطق في شبوة وحضرموت، بل كذلك لأن الحديث عن “ضرب الإخوان” لن يكون في اليمن مغرياً ومعقولاً وممكناً، إلا لو تمّ في ظروف تاريخية مختلفة عن الظروف الحالية، كأن يتم في ظل وجود قوّة يمنية نظامية تتمتع بدرجة من الشرعية والانتشار الفعَّال على مستوى البلاد [كما الحال مع الجيش المصري]، وهو ما يجعلها (إن كان ذلك ضرورياً) قادرة على مواجهة كلٍّ من الإخوان وتنظيم القاعدة والحوثي في وقت واحد، وأن تضمن مصلحة اليمن ومصلحة السعودية معاً، على افتراض التوافق بين المصلحتين. وإن قوةً بهذه المواصفات لا وجود لها، وليس من المتوقع أن توجد على المدى المنظور.
ليس من المؤكد أن الانفصال بحد ذاته هو ما يقلق السعودية في أنشطة الانتقالي الجنوبي، بل ما يثير حفيظة الرياض في المقام الأول هو التوقيت الذي اختاره الانفصاليون للتصعيد. أن انقلاباً في هذا التوقيت معناه تجريد التدخل العسكري السعودي في اليمن من الأساس القانوني الذي يوفره موضوع “الشرعية”.
من جهة أخرى، لا يوجد ما يدل على أن أنشطة الإمارات المضادة لشرعية هادي، والمضادة لوحدة اليمن، قد تمت طوال الوقت بمباركة سعودية. ومع ذلك، فالرياض لا تستطيع مسايرة حكومة هادي، وحزب الإصلاح في إظهار السخط على الإمارات في هذا التوقيت. إنه بلا شك خيار مرير، ومجهول العواقب، بالنظر إلى أن المملكة العربية السعودية مثقلة بعدد من الملفات الساخنة، وتركيزها مشتت بين جبهات صراع إقليمية متزامنة.
إلى جانب أنه، وفي العلاقات الخليجية الخليجية، هناك ما يشبه العرف يقضي بإبقاء الخلافات طي الكتمان، مع الاحتفاظ بمظاهر الصداقة والإجلال. فكل شيء في السياسة الخليجية يؤخذ على محمل شخصي داخل الدائرة الضيقة للطبقات الحاكمة. وحين تتسرب الخلافات إلى العلن، يصبح من الصعوبة بمكان معالجتها بالطرق الدبلوماسية (يتجلى قصور الدبلوماسية الخليجية في الأزمة مع قطر). وفي العلاقة مع العالم، يمتلك الخليجيون خبرة دبلوماسية أنضج وأكثر كفاءة، على مستوى الأساليب والخطاب، وخصوصاً مع الدول الغربية، بالمقارنة مع الطابع التقليدي للعلاقات الدبلوماسية الخليجية الخليجية، فالمفهوم الحديث للسياسة اللاشخصية لا يزال غريباً على قادة هذه الممالك الغنية.
الانتقالي الجنوبي من منظور يمني داخلي
ما الذي تعنيه تحركات الانتقالي الجنوبي من منظور السياسة اليمنية الداخلية؟ ولماذا بدا أن الغضب في اليمن انصب على الإمارات؟
فلو تخيلنا أن الفصيل اليمني الذي تدعمه الإمارات يخوض تمرداً وانشقاقاً على شرعية الرئيس عبدربه منصور هادي، باسم اليمن، كل اليمن، وليس باسم “الجنوب العربي” ولا أي جنوب آخر. فهل كان الأمر سيكون أقل سوءاً؟ نعم، بالتأكيد، على الأقل بالنسبة للكثير من اليمنيين الذين أيدوا التحالف بقيادة السعودية، ليس لقناعتهم التامة بشرعية هادي، أو بقدرته على الاضطلاع بمقتضيات هذه الشرعية، بل لأن الحوثي لم يوفر لهم خياراً آخر. بل وسيكون الأمر أقل مدعاة للحرج بالنسبة للسعودية في مواجهة الجموع التي استنصرت بها، والمتوجسة من أيّة علامة خذلانٍ أو تَخلٍّ!
من أيّة زاوية سيكون الأمر أقل سوءاً، وأقل مدعاة للحرج؟
أولاً، من زاوية أن فصيلاً يتحرك باسم اليمن الجمهوري، وباسم الوطنية اليمنية، حتى ولو كان انقلابياً (ومن الأفضل ألا يكون كذلك!) يمكنه أن يضمن تهيئة المدن والجهات التي يسيطر عليها لتكون صالحة كمأوى مضياف لليمنيين، بصرف النظر عن انتمائهم المناطقي. وثانياً، من زاوية أن فصيلاً يتحرك باسم اليمن، وعبر أي شكل من الوطنية اليمنية، سيكتسب بذلك قوة دفع معنوية وأخلاقية يحتاجها بشدة في حربه مع الحوثي، لتغطية الثلمة التي تعتري الصورة الوطنية لأي جهد محلي مسنود مباشرة من دول أجنبية.
غير أن العنصر المثير في اللعبة الإماراتية يتمثل في كونها راحت، بعيداً عن الهدف المعلن للتحالف، تموّل وترعى جماعة انفصالية متنمرة وخطرة على اليمن وعلى المنطقة من كل الجوانب. إن المسألة في جنوب اليمن أبعد من مجرد انقلاب ثانٍ على شرعية ضعيفة يعرف الجميع أن المساس بها، لا يستثير من عواطف الغضب ما يمكن أن يستثيره التعرُّض الصريح للوحدة اليمنية بالطريقة المستفزة التي يتعرَّض بها الانتقالي الجنوبي لهذه المسألة.
وليست المواقف المنفعلة التي تصاعدت مؤخراً ضد الإمارات على صفحات التواصل الاجتماعي، ناجمة فقط عن حالة من التضامن مع حزب الإصلاح، أو مع الإرهاب كما يقول الإماراتيون، ولا مع قطر (العدو المشترك للسعودية والإمارات)، ولا حتى مع الحكومة الشرعية، وإن كانت بعض هذه الأبعاد موجودة بشكل أو آخر، وتزداد باضطراد، لكنها ليست الأساس. المصدر الأهم لهذه المواقف هو أن الانتقالي الجنوبي، المدعوم إماراتياً، قدَّم نفسه في صورة المنظَّمة سيئة السمعة، بسلوكه الفظ المدفوع بنزعة انفصالية صاخبة يسعى من خلالها إلى احتكار تمثيل الجنوب مع فيض من الطفولية السياسية والتبجح.
لا تستطيع الرياض مسايرة حكومة هادي وحزب الإصلاح في إظهار السخط على الإمارات في هذا التوقيت. إنه بلا شك خيار مرير ومجهول العواقب، بالنظر إلى أن السعودية مثقلة بعدد من الملفات الساخنة، وتركيزها مشتت بين جبهات صراع إقليمية متزامنة.
وقد تضرر من هذا السلوك مواطنون شماليون وجنوبيون. ومن السهل ملاحظة كيف تحولت مشاعر السكان في مناطق يمنية، مثل تعز، كان يغلب عليها في موقفها من انفصال الجنوب، أو ما يسميه البعض “فك الارتباط”، التفهم، وأحياناً كانت أقرب إلى المناصرة لمطالب الحراك الجنوبي الذي تعود بداياته إلى العام 2007 – تحول هذا الموقف، في الآونة الأخيرة، إلى موجة رفض شديدة للانفصال والتقسيم.
أكثر ما يساعد على تفسير هذا التغير في المزاج الشعبي من قضية الوحدة، كامن في نوع الممارسات التي اشتهرت عن الانتقالي الجنوبي في عدن ضد اليمنيين من أصول شمالية، وربما نال المواطنون من تعز (القريبة من عدن) بالذات أعظم الضرر.
إذاً، ليس كل ما يتصاعد هذه الأيام ضد الإمارات والانتقالي الجنوبي مصدره حزب الإصلاح حصرياً، كما تفضِّل أن تقول رواية الانتقالي الجنوبي وناشطو أبو ظبي.
جدل الوحدة والانفصال
برهنَتْ الأحداث الأخيرة في جنوب اليمن، أنه إذا كان “الانفصال” قضية سياسية قادرة على تعبئة وتجييش المشاعر في الجنوب، فـ”الوحدة” بالمقابل لم تصبح قضية ميتة، كما كان يتصور البعض، ولا فاقدة كليّاً لهذه المقدرة على التعبئة الشعبية، شمالاً وجنوباً. ومثلما يعود شعار “الانفصال” بالربح السياسي والمعنوي على مستخدميه في جنوب اليمن، ف”الوحدة” لا تزال شعاراً عريقاً ينطوي على قوّة شحن سياسية وأخلاقية مجرَّبة تاريخياً، وأرباحه المعنوية لا يستهان بها.
أما إذا كانت الحرب على “الإرهاب”، أو الحرب على الإخوان، ادّعاءً كافياً لإضفاء الشرعية على الكيانات والمنظمات المسلحة، مهما كانت أهدافها السياسية وخطابها وأساليبها، فالحوثي حائز بالطبع على كل شروط الشرعية التي منحتها الإمارات للانتقالي الجنوبي.
برهنَتْ الأحداث الأخيرة في جنوب اليمن، أنه إذا كان “الانفصال” قضية سياسية قادرة على تعبئة وتجييش المشاعر في الجنوب، فـ”الوحدة” بالمقابل لم تصبح قضية ميتة كما كان يتصور البعض، ولا فاقدة كليّاً لهذه المقدرة على التعبئة الشعبية، شمالاً وجنوباً.
الحوثي والمجلس الانتقالي الجنوبي، كلاهما انقلب على هادي، وكلاهما ضد الإخوان، وكلاهما يُسوِّقُ نفسه للخارج، وخصوصاً الولايات المتحدة الأمريكية، على أنه شريك موثوق في مكافحة الإرهاب، وكلاهما انفصاليان من حيث الخطاب والمشروع السياسي، وإن اختلفت الوسائل والتكتيكات المتّبعة. وأخيراً، فالمؤكد أن تعقيدات الملف اليمني تمتحن العلاقة السعودية – الإماراتية بأكثر مما يعترف به الجانبان.
* كاتب وباحث يمني
ينشر مركز صنعاء هذا النص بالتزامن مع “السفير العربي“.