إصدارات الأخبار تحليلات تقرير اليمن أرشيف الإصدارات

وكلاء عفاريت: كيف يروّض الوكلاء اليمنيون رعاتهم الأجانب لمصالحهم الخاصة

هناك قصة طريفة يتداولها اليمنيون منذ زمن، مضمونها أنه مع بداية الاحتلال البريطاني لجنوب اليمن في منتصف القرن التاسع عشر، احتاجوا مترجما لمنشورات الدعاية والبروباغندا البريطانية إلى اللغة العربية، فتعاقدوا لهذه الغاية مع تاجر شاي يمني محلي يجيد اللغة الإنجليزية، وسرعان ما ارتفعت مبيعات التاجر من الشاي على غير العادة. مضت سنوات عديدة قبل أن يكتشف المسؤولون البريطانيون أن المترجم الذي تعاقدوا معه كان يدس إعلانات لترويج بضاعته بين سطور منشوراتهم الدعائية الرسمية، مثل: “اشتروا أجود أنواع الشاي من عند عمر باهبري.”

وسواء صحت هذه الحكاية أم لا، فهي تكثف بذكاء مصير الأطراف الخارجية التي تظن أنها تستطيع استخدام السكان المحليين لأهدافها وغاياتها الخاصة، ثم ما تلبث أن تتحطم آمالها هذه على صخور تحوير تلك الغايات لخدمة أهداف يمنية داخلية خالصة.

بعد أكثر من قرن من الزمن على ترجمة تاجر الشاي للإنجليز، ما زالت القوى الخارجية، تعتمد على الوكلاء اليمنيين المحليين لتحقيق أهدافها الاستراتيجية في خضم الحرب الدائرة في البلاد.

فالسعودية والإمارات وإيران والولايات المتحدة وبريطانيا جميعًا يستغلون الناس على الأرض في اليمن لتعزيز غاياتهم السياسية. ولكن، كما فعل تاجر الشاي، فإن لدى اليمنيين المنخرطين في الصراع قدرة مدهشة على تحوير الدعم الذي يتلقونه من تلك الأطراف الخارجية وتوجيهه لما يخدم مصالحهم الخاصة.

إن أغلب النقاش والتوصيف السياسي عن اليمن يدور حول “حرب بالوكالة”. فيفترض السامع عن غير معرفة أنه عندما تتصارع القوى الخارجية مع بعضها تقوم كل منها بدعم قوى محلية متناحرة، فإن الوكلاء المحليين هم الطرف الضعيف والفقير إلى دعم الخارج ورعايته. ومن هذا المنظور، يتوهم البعض أن القوى الخارجية تمسك بمفاتيح النفوذ والقوة، وما على وكلائها سوى السمع والطاعة ومماهاة أجنداتهم المحلية لصالح أهداف الداعمين الخارجيين.

وانطلاقاً من هذه الخلفية، يفترض التصور الشائع أيضا أن الوكلاء يسهل استهلاكهم ثم التضحية بهم عندما يعقد (الكبار) صفقاتهم وينهون القتال — مثلما رأينا في اقتراح دونالد ترامب الانسحاب من شمال سوريا على حساب الأكراد الذين هم حلفاء الولايات المتحدة هناك على الأرض.

إن الصراع في اليمن – وهو مزيج من حرب أهلية وحرب بالوكالة وخليط من أشكال مختلفة من الصراع – يقلب التصوّر النمطي حول العلاقة بين الداعم والوكيل رأسًا على عقب.

تتباين ديناميات العلاقة بين القوى اليمنية والداعمين الأجانب، من علاقة تكافلية حينًا عندما تتوازى المصالح المحلية والأجنبية لخدمة أهداف الطرفين، إلى علاقة تطفليّة أحيانًا عندما يكون اعتمادُ القوى المحلية على الدعم الخارجي بحد ذاته سبباً لتحييد القوةَ الشاملة للداعم وإلغاء تأثيرها.

ويمكننا أن نرى مثالًا واضحًا على تشابك هذه العلاقات خلال السنوات الأربع الماضية في القتال العنيف الذي جرى في شهر أغسطس / آب جنوب اليمن.

فقد قام المجلس الانتقالي الجنوبي المدعوم إماراتياً، والذي يسعى إلى إعادة إحياء فكرة اليمن الجنوبي المستقل، بالترتيب لانقلاب في مدينة عدن ذات الميناء الاستراتيجي ضد الحكومة المدعومة من السعودية، حليفة المجلس الانتقالي في الحرب ضد جماعة الحوثيين المسلحة. وكان استكمال سيطرة المتمردين الحوثيين على اليمن في 2015 قد دفع حينها السعودية والإمارات لقيادة تحالف عسكري للتدخل بهدف صريح ومعلن وهو استعادة سلطة الحكومة اليمنية على كامل التراب اليمني. ولكن هذا الموقف المبدئي الصريح غدا ملتبسًا ولا يمكن تمييزه في مستنقع الارتباك الذي تشهده الساحة اليمنية اليوم، وأصبح الانتقالي المدعوم من التحالف يعمل ضد أهداف التحالف المعلنة.

نظام صالح

لطالما كان اليمن اختبارا صعبا للنوايا الأجنبية، يعكسها في مصفوفات متداخلة من العواقب العرضية غير المقصودة.

وربما كان الرئيس الراحل علي عبد الله صالح أبرع من احترف لعبة التحالف وفقا لاتجاه واحد من المصلحة، ففي أعقاب هجمات 11 سبتمبر / أيلول 2001، عقد عزمه الانضمام للتحالف العالمي للحرب على الإرهاب بقيادة واشنطن، واستطاع نظام صالح بالتالي توجيه معظم الدعم الأمريكي نحو بناء إمبراطورية صالح العسكرية وإثراء حسابه المصرفي الخاص، فأصبح الحرس الجمهوري وجهاز الأمن القومي اللذان تأسسا بدعم من الولايات المتحدة لمكافحة الإرهاب من بين المؤسسات التي أعاد الرئيس اليمني هيكلتها لتخدم أهدافه الخاصة في العالم المتوحش للسياسة اليمنية الداخلية. واستطاع صالح بالفعل، تحت راية مكافحة الإرهاب، أن يحترف فن استغلال الدعم الأمريكي ويبرع فيه. ففي إحدى المبادرات المدعومة أمريكيًّا للتخلص من خطر الأسلحة المضادة للطائرات مثلًا، كان صالح يدفع مبلغ عشرة ألف دولار لرجال القبائل اليمنية لقاء تسليم صاروخ واحد من صواريخ أرض-جو، ثم يطالب [واشنطن] بفاتورة تبلغ مائة وعشرون ألف دولار لقاء كل صاروخ. وكان صالح يعيد بيع تلك الصواريخ ذاتها للقبائل مرة أخرى كي يشتريها منهم مجدّدًا على حساب الأمريكيين.

كما اتُّهم نظام صالح في الوقت عينه بالتغاضي عن عمليات تنظيم القاعدة والسماح لقادة التنظيم بالهرب من السجون في 2006، لزيادة التهديد الإرهابي في المنطقة وابتزاز الولايات المتحدة لتقديم المزيد من المال والسلاح. وقد أثار سؤالي لأحد كبار مسؤولي نظام صالح قبل أعوام عن هذا الأمر ضحكة ساخرة لديه، تبعها بقوله: “كانت هناك دولة تدفع لنا 1$ مليون دولار لقتل إرهابي واحد، ودولة أخرى تدفع لنا 2$ مليون دولار لصناعة إرهابي جديد. ونحن تاجرنا على الحبلين — وقد عملنا الأمرين بكفاءة”.

البراغماتية قيد التنفيذ

إن الحرب في اليمن كارثة إنسانية، بلغت حصيلتها ما يقارب 100,000 قتيل، ونتج عنها بلد في حالة من التفكك. وفي خضم فوضى الحرب ومعمعتها، سعت العديد من الجماعات اليمنية إلى تأمين المساعدة الخارجية، معيدة تموضعاتها السياسية بما يتوافق مع خدمة أهدافها الآنية وبعيدة الأجل على حد سواء. فعندما شكلت السعودية تحالفها للحرب، جمعت فيه وكلاء من مصالح متباينة ومتباعدة، بل أحيانًا بين فرقاء يظهرون عداوة صريحة بعضهم لبعض؛ وكان الجمع بينها تلبية لحاجة ملحّة في مواجهة الحوثيين.

أبرز مثال على هذا القيادي الجنوبي الذي يتبنى فكرة انفصال الجنوب، عيدروس الزبيدي الذي انضم عام 2015 إلى التحالف العسكري بقيادة السعودية والحكومة اليمنية ضد المتمردين الحوثيين، وحقق للتحالف انتصارات سهلة وسريعة في محافظات جنوب اليمن كعدن والضالع ولحج.

لم يولد هذا التحالف بدافع الولاء للحكومة اليمنية ولا للسعودية. فقد كان الزبيدي مدعومًا في السابق من إيران، لكن مطالبة طهران له بالتخلي عن طموحاته في استقلال الجنوب والعمل تحت مظلة الحوثيين استفزته، فانضم للتحالف السعودي، ووظف قواته التي دربها ومولها حلفاء الحوثيين (إيران وحزب الله)، لهدف طرد الحوثيين من الضالع بدلًا من التعاون معهم. وكان الزبيدي واضحًا وصريحًا منذ البداية، وحتى قبل أن يشكل المجلس الانتقالي الجنوبي في 2017، أن غاية جهوده لطرد الحوثيين من عدن تعزيز إقامة دولة مستقلة في الجنوب، دولة اليمن الجنوبي التي كانت موجودةً على الخارطة قبل الاتحاد مع الشمال في 1990.

وقد قال سابقًا في 2013، عندما كان مدعومًا من إيران، أنه “مستعدٌّ للتحالف مع الشيطان” إذا كان ذلك يساعد على تحقيق هدفه في الانفصال، لهذا كان الزبيدي مستعدًا للتعاون مع السعوديين في 2015 لبعض الوقت، مع أنه لم يتوافق مع أهداف الرياض في إعادة فرض سيطرة الحكومة على البلاد بأكملها، ووجد في الإمارات راعيًا أكثر استعدادًا للتعاون فيما يخص طموحاته الانفصالية؛ وقد عزز الدعم الإماراتي بالمال والسلاح والتدريب قدرة قواته المسلحة في قتالها ضد الحوثيين، كما غذّى جرأتها في الوقت ذاته للانقلاب على الداعم السعودي والسعي لتحقيق أهدافها الخاصة.

وعلى النقيض، فإن حزب الإصلاح الذي تربطه صلات وثيقة بالإخوان المسلمين وطالما كان حليفًا تقليديًّا للسعودية، انتقل للتقرّب من قطر في السنوات الأخيرة، لكنه عاد ليتحالف مرة أخرى مع الجهود السعودية لصد تمدد الحوثيين. وقد عنى ذلك بالضرورة الانضمام لجبهة الإمارات التي تصنف جماعة الإخوان المسلمين جماعةً إرهابية، وكانت تلك وصفة جاهزة للسخط والاختلاف بين الحليفين السعودي والإماراتي.

في الأثناء، تزداد السعودية تعثرًا بعبدربه منصور هادي، وهو من تقاتل السعودية الحوثيين لإعادة تنصيبه رئيسًا في صنعاء، فاستكانة هادي في منفاه في الرياض وضعت داعميه السعوديين في موقف حرج غير مرة بسبب فشله وافتقاره للحسم في قراراته، ولا تستطيع السعودية أن تفعل الكثير بخصوص هادي فهو الرئيس المعترف به دوليًّا، والورقة التي تعطيهم المشروعية في حربهم ضد الحوثيين في اليمن، وبالتالي وجدت السعودية نفسها تغرق في المستنقع اليمني نتيجة لتخبط حلفائها أكثر من مقاومة أعدائها.

على الجانب الآخر، نجد جماعة الحوثيين رافضة توصيفها التقليدي كقوة تقاتل لصالح إيران بالوكالة في المنطقة، فالحوثيون في ذات الوقت يعدون إيران وكيلًا دوليًّا لهم، بدلًا من أن يكونوا هم وكلاء محليين لطهران، وعلى الرغم من قبولهم التمويل الإيراني، لكن هناك فارق أيديولوجي مهم بين الطرفين، فبينما يعتبر الحوثيون من أتباع المذهب الشيعي كالإيرانيين، إلا أنهم يبايعون قائدهم عبد الملك الحوثي (أي يعطونه الحق الحصري في الحكم الديني والاجتهاد ضمن المعتقد الإسلامي الشيعي التقليدي الذي يقوم عليه خطاب الولاية). هذا فارق مهم يفصل الحوثيين عن غيرهم من الجماعات المدعومة إيرانيًّا كحزب الله مثلًا، الذي يعلن بصراحة الولاء لآية الله علي خامنئي تحت شعار ولاية الفقيه، الولاية التي تمنح القائد الإيراني الأعلى وصاية على القضايا جميعها، من الأمور الدينية إلى أمور الحكم والسياسة.

وفي خضم هذا الصراع المدعوم إقليميًّا، تمثل القبائل اليمنية نموذجاً مثاليًّا للبراغماتية المفرطة — فهي تقاتل لمصالحها الآنية بغض النظر عن مخططات الداعمين وأجنداتهم. فقبل سنتين، وقع على مسامعي حديث شيخ موالٍ للسعودية لصديقه الموالي للحوثيين، وهو شيخ أيضًا، يخبره برغبته في العودة من السعودية إلى صنعاء لو أعطي الضمانات الكافية من الحوثيين؛ فاعترض الزعيم القبلي عليه صارخاً: “لا! لا ينبغي أن تعود إلى صنعاء أبدًا، ابقَ في الرياض واقبض حصتك من المال وأرسل لي حصتي منه. هذه السعودية خلقها الله لكي تدفع “.

تبرز هذه المحادثة التي وقعت في بلد ثالث الملكة البديهية لدى الشيخ القبلي في إبقاء مصالحه نصب عينيه مهما تبدل أعداؤه. وتكشف عن قانون شفهي غير مكتوب بينه وبين خصمه، بأن يقاتل كل منهما لصالح حليفه، ثم يتقاسمان المال ساخرين من سذاجة داعميهم.

سراب أهداف الحرب

هناك حروب بالوكالة تحدث في اليمن، وهذه حقيقة مؤكدة. لكن مع غياب الغاية الواحدة، فمن الصعب تحقيق أي خطوات ملموسة نحو تسوية للنزاع حتى، وليس فقط عن تحقيق النصر فيه، فالتضارب الواقع بين أهداف القوى المحلية ومصالح داعميها الأجانب قاد إلى تمويه الخطوط الأمامية الواضحة التي تحدد جبهات المتصارعين.

كانت السعودية الطرف الأقوى عند بداية الحرب، ولكن دعمها للرئيس اليمني ترك ظهرها مكشوفًا. أما الإمارات على الكفة الثانية، فقد صنعت المجلس الانتقالي الجنوبي، وهو الحصان الذي تراهن عليه بطريقة تناسبها، والذي سرعان ما تحول إلى قوة محورية في الصراع. والحرب بين الرئيس اليمني والمجلس الانتقالي الجنوبي وضعت التحالف بين الرياض وأبو ظبي على المحك.

أما الإيرانيون الذين كانوا قد نصحوا الحوثيين سابقًا بتجنب التوسع العسكري في البلد، فهم يجدون في الحوثيين اليوم وفي الحرب القائمة هدية مجانية، وفرصة لمناوشة عدوهم السعودي اللدود بقليل من العناء. وهكذا هي مآلات القوى الأجنبية التي تتحالف مع تجار الشاي في اليمن.


ظهرت هذه المادة للمرة الأولى في مجلة العالم اليوم التابعة للمعهد الملكي للشؤون الدولية ، تشاتوم هاوس.

مشاركة