عند رثائه سلفه وصديق عمره ناصر الوحيشي، الذي قتل في غارة أمريكية بطائرة دون طيار عام 2015، قال قاسم الريمي أن الولايات المتحدة حققت حلم الوحيشي، قائد القاعدة في جزيرة العرب، بالاستشهاد. قتل الريمي في عملية عسكرية أمريكية في اليمن في يناير/ كانون الثاني، وأثار مقتله جدلاً حول قدرة القاعدة في جزيرة العرب على البقاء من دون قائدها الكاريزمي والمتمكن، والذي كان آخر عضو مؤسس على قيد الحياة. رأي الوحيشي حول هذا الأمر كان واضحاً، إذ قال قبل خمس سنوات من وفاته: “تخطئ أمريكا حينما تظن أنها انتصرت بقتل القيادي فلان، فالجهاد ماض إلى يوم القيامة.” [1]
الاعتقاد بأن “الجهاد ماض إلى يوم القيامة” قد يبدو متفائلاً جدا، ولكن هذه الضربة الموجعة، المتمثلة بمقتل الريمي، ليست بالضرورة ضربة قاضية. خلف الريمي خالد باطرفي، الذي يلقب بـ”أبو المقداد الكندي”، وهو من “رجال الرعيل الأول” الذين قاتلوا في الجهاد الأفغاني مع أسامة بن لادن. من الجدير بالذكر أن باطرفي سعودي الجنسية، بينما الوحيشي والريمي يمنيان، ما ساعدهما خلال الأعوام الماضية في “يمننة” تنظيم القاعدة، وخلق حواضن اجتماعية وملاذات آمنة في البلاد، ما يعني أن افتقار القاعدة إلى هذه الميزة قد يؤزم علاقتها بالوسط القبلي الذي تتحرك فيه. أدار الريمي مرحلة انتقالية مفصلية داخل التنظيم، عبر إجراء سلسلة من التغييرات الحاسمة الاستراتيجية والعملياتية، ليحافظ على وحدة التنظيم ومرونته، ويحول دون انقسامه (على غرار الحالة السورية) أو تحلله (على غرار الحالة الداعشية). وبالتالي يستطيع التنظيم البناء على هذه الاستراتيجية للبقاء.
فقط بعد مقتل الريمي، بات ممكنا القول أن ناصر الوحيشي قد مات. فالرجلان تشاطرا مراحل التكوين الأيديولوجي منذ أن درسا سوياً في كلية الشريعة والقانون بجامعة صنعاء، ثم قررا النفير كشابين (مجاهدين) إلى أفغانستان مطلع التسعينات: حينها كان الوحيشي سكرتيرا لأسامة بن لادن، بينما لعب الريمي دورا محوريا في عمليات التجنيد والتدريب في معسكر الأنصار الموالي لطالبان[2]. افترق الرجلان بعد الاجتياح الأمريكي لأفغانستان عام 2001، وانتهى المطاف بهما في اليمن حيث التقيا مجددا في سجن الأمن السياسي بصنعاء. نجح الوحيشي والريمي بالفرار من السجن – بأسلوب درامي- عام 2006[3]، وعام 2007 أسسا ما سيعرف لاحقا “بتنظيم القاعدة جنوب جزيرة العرب”. وكان الريمي مسؤول التنظيم العسكري وناطقه الرسمي[4]. وبعد الاندماج مع فرع القاعدة في السعودية، ولد “تنظيم قاعدة الجهاد في جزيرة العرب.” .نجح الريمي في تجنيد العشرات من اليمنيين والعرب، وظهرت ثمار مجهوداته خلال العام 2011، حيث شن التنظيم عمليات واسعة ضد مواقع الجيش اليمني.[5]
عند توليه لمنصبه الجديد خلفاً للوحيشي، واجه الريمي أربعة تهديدات وجودية: أولا انقسام حاد داخل المجتمع الجهادي والذي أورث صراعا داميا مع فرع داعش في اليمن؛ ثانيا اختراقات المخابرات السعودية وعمليات الجيش الأمريكي؛ ثالثا صعود “الجنوبيين الانفصاليين” المدعومين من الإمارات كلاعبين سياسيين في الجنوب، وانتقال مؤسسات الدولة الشرعية إلى عدن ما أنهى فراغ السلطة في جنوب اليمن؛ وأخيرا استمرار التمدد الحوثي في مناطق حساسة وسط اليمن.[6]
على إثر هذه التحديات، اتخذ الريمي جملة من القرارات الحاسمة: أولها إعادة التموضع الاستراتيجي في اليمن، فلقد انسحب التنظيم من المكلا، عاصمة حضرموت، وخامس أكبر مدينة في اليمن، في أبريل/نيسان 2016، أي بعد عام من سيطرته عليها، على وقع الحملة العسكرية بقيادة الإمارات لتحرير المدينة. كما انسحب أيضاً من مناطق حضرية أخرى على وقع حملة التحالف العسكري بقيادة السعودية والإمارات لتحرير محافظات شبوة ولحج وأبين وعدن من قوات الحوثيين. كما قام الريمي بعملية هيكلية واسعة داخل التنظيم لإنهاء الاختراقات الأمنية عبر التخلص من المشتبه بهم كجواسيس. كما أعاد الريمي ترتيب أولوياته الجهادية، مقررا الانتقال من وضعية “الإمارة الإسلامية” إلى وضعية ” التنظيم الثوري” (بالقاموس الجهادي يعبر عن هذا التحول بالانتقال العكسي من “التمكين” إلى “النكاية”).[7] كما استفاد الريمي من افتقار داعش للمرونة الأيديولوجية وعدم فهمه للمجتمعات المحلية، ما سمح للقاعدة في جزيرة العرب بالاستحواذ على المشهد الجهادي في اليمن.
بالإضافة إلى هذه الإجراءات، تستمد القاعدة في جزيرة العرب مرونتها من تماسك مرجعيتها الأيديولوجية. بالنسبة للقاعدة تظل الخلافة مجرد غاية لم يحن وقتها بعد، ويجب التهيئة لها عبر “الجهاد”، النضال المسلح، وإصلاح المجتمع عبر تطبيق “الشريعة”. بالتالي، فإن سقوط “الأمير” أو “الإمارة” لا يمثل نكبة للأيديولوجيا القاعدية، لأن جوهر التنظيم يكمن في مشروعه “الجهادي-الثوري”، (خلق مجتمع مخلص وعادل من خلال تطهيره من غير المؤمنين). وهذا بخلاف تنظيم داعش الذي يستمد مشروعيته الدينية وجاذبيته الأيديولوجية من تنصيب “الخليفة” وقيام “الخلافة” بل وتمددها أيضاً، ومتى ما انتهى نفوذه السلطوي على الأرض، انتهت الخلافة.
كما تبنى الريمي نهجاً استراتيجياً يوفر مصدرا آخر لاستقرار التنظيم، ويمكن إجمال هذا التوجه بجملة نقاط: أولاً، سلامة التنظيم أهم من مكاسب الأرض أو السلطة أو المال؛ ثانياً، من شأن “الكمون الاستراتيجي” في اليمن أن يجعل طبيعة العمليات داخل اليمن ذات أهداف “دفاعية”، مثلاً لحماية مواقع التنظيم في البيضاء ضد الحوثيين، ويجب أن يقابله تمدد عملياتي خارج اليمن. فمثلاً يستطيع التنظيم تكثيف التعاون التنظيمي مع فروع القاعدة في الصومال وأفغانستان، والهجوم على أهداف غربية حتى من خلال عمليات الذئاب المنفردة طالما لم يتسنَ للتنظيم شن هجمات ذات ثقل استراتيجي؛ ثالثاً، تخفيض وتائر التجنيد، وتقليص نطاق التحركات للقيادات الرفيعة، ورفع مستوى العمل السري لتجنب الاختراقات السعودية الأمريكية. ولكن لعل هذا النهج لم يكن فعالاً بشكل تام، إذ بحسب النيويورك تايمز، فإن (سي آي إيه) علمت بموقع الريمي من أحد المخبرين في اليمن، وبدأت تتعقبه بواسطة طائرة استطلاع.[8]
تحظى هياكل القاعدة التنظيمية بالاستقلالية، وتعتبر روابط التنظيم راسخة الجذور كما يتسم التنظيم بدرجة مقبولة من المؤسسية، ما يعني أنه من غير المرجح أن تؤدي خسارة الأمير إلى انهيار بنية التنظيم، وإن قلصت هذه الخسارة من انسيابية المعلومات والأوامر، وأثرت سلبا على الحالة المعنوية للأعضاء. هذا وقد ساعد تخلخل البيئة الأمنية في المحافظات الجنوبية، إثر مواجهات أغسطس/آب 2019 بين فصائل التحالف المناهض للحوثيين، إلى تخفيف الضغط على التنظيم. انتهت هذه التطورات بإضعاف قوات الحزام الأمني في أبين، وهزيمة وتفريق قوات النخبة الشبوانية (وتعتبر قوات الحزام والنخبة أهم رافعات محلية في جهود مكافحة الإرهاب) ما ساعد في خلق بيئة مثالية لعودة التنظيمات الجهادية، ووفرت ملاذات آمنة كما منحت حرية حركة أكبر لقيادات وخلايا التنظيم في أبين والبيضاء وشبوة ومأرب.
لا يمكن التنبؤ بنوع وحجم التداعيات التي سيتركها مقتل الريمي على التنظيم، ولكن نستطيع القول أن هذه التداعيات لا تشمل الزوال السريع. قد لا يتمتع باطرفي بالحماية المحلية التلقائية التي تمتع بها سلفه اليمني، ولكن الأخير ترك القاعدة في جزيرة العرب في وضع يسمح لها بالبقاء على قيد الحياة كمؤسسة.
- ناصر الوحيشي، “سلسلة مفاهيم”، واحدة من الإصدارات الداخلية لتنظيم القاعدة في جزيرة العرب، نشرت عام 2019، ص 12.
- عطوان، عبدالباري. “ما بعد بن لادن: القاعدة، الجيل الثاني“، (بيروت: دار الساقي، 2013)، https://books.google.com.cy/books?id=uVppDgAAQBAJ&pg=PA1910&lpg=PA1910&dq=%D9%83%D9%8A%D9%81+%D9%87%D8%B1%D8%A8+%D8%A7%D9%84%D8%B1%D9%8A%D9%85%D9%8A+%D9%88%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%AD%D9%8A%D8%B4%D9%8A+%D9%85%D9%86+%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%AC%D9%86&source=bl&ots=aWQ2REYNOQ&sig=ACfU3U2_aL9C_ZJ9hRc3p6GzPVgCVKjM4Q&hl=ar&sa=X&redir_esc=y#v=onepage&q=%D9%83%D9%8A%D9%81%20%D9%87%D8%B1%D8%A8%20%D8%A7%D9%84%D8%B1%D9%8A%D9%85%D9%8A%20%D9%88%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%AD%D9%8A%D8%B4%D9%8A%20%D9%85%D9%86%20%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%AC%D9%86&f=false
- المصدر نفسه.
- ”قاسم الريمي.. قصة سقوط «رجل القاعدة القوي» في اليمن”، بوابة الحركات الاسلامية، 8 فبراير/شباط 2020، https://www.islamist-movements.com/52060
- ”«الريمي».. صاحب الطرود المفخخة ونظرية «القتل الناعم»”، مركز البينة للدراسات والابحاث الوهابية، 15 سبتمبر/أيلول 2019، http://elwahabiya.com/
- للمزيد من التفاصيل انظر “حصاد الجهاد 2017: عام اعادة البناء”، حسام ردمان، مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية، 28 يناير/كانون الثاني 2018، https://sanaacenter.org/ar/publications-all/analysis-ar/5292?fbclid=IwAR1MPU6rYxiNOTeQ2OpYeiM1YjxHjKRkp1aD7fIO3QWZ-TQhnumH496xzFY
- ناجي، أبي بكر، إدارة التوحش، نشر على الشبكة العنكبوتية، 2004.
- روكميني كاليماشي وإيريك شميت وجوليان بارنس، “الولايات المتحدة توجه ضربة ضد زعيم تنظيم القاعدة في اليمن”، نيويورك تايمز، 31 يناير/كانون الثاني 2020، https://www.nytimes.com/2020/01/31/world/middleeast/qaeda-yemen-alrimi.html