غالبًا ما يشبه صانعو السياسات رفيعو المستوى الذين يعملون على الشأن اليمني رجال الإطفاء فهم ينتقلون من أزمة إلى أخرى، ونادراً ما يُمنحون الوقت الكافي لتقييم الصورة الأكبر. وبعد مرور خمس سنوات على إطلاق عملية عاصفة الحزم، لا يزال اللاعبون مأخوذون ومنهمكون بالتطورات السياسية والعسكرية على المدى القصير في اليمن، مثل تقدم الحوثيين مؤخراً في محافظة الجوف أو الركود في العملية السياسية. إن الأثر الكارثي للعنف المطول على المجتمع اليمني واضح من حيث الخسائر في الأرواح والنزوح والاضطرابات النفسية والدمار الذي لحق بالممتلكات والبنية التحتية الحيوية وأهمها نظام الرعاية الصحية الذي يعد الآن مشلولاً فعلاً. إن التركيز على الأزمات الحالية أمر مفهوم إلا أن هذا النهج يمكن أن يصرف الانتباه عن الاتجاهات المقلقة المستمرة منذ فترة طويلة والتي أغلبها ظهر قبل اندلاع الحرب. ويُعد الاقتصاد، الذي له تأثير عميق على حياة اليمنيين اليومية، إحدى أهم هذه القضايا التي يتم تجاهلها.
عمق الضمور البطيء للاقتصاد اليمني الذي يحدث على مر سنوات من حالة الفقر في البلاد إذ هناك حوالي 24 مليون يمني الآن بحاجة إلى شكل من أشكال المساعدة الإنسانية. على الرغم من الجهود المستمرة التي يبذلها اليمنيون في القطاعين العام والخاص لإعطاء أولوية أكبر للقضايا الاقتصادية، فما زالت الجهود المتضافرة لمعالجة العوامل الرئيسية التي تقف وراء الانهيار الاقتصادي العام في البلاد ضئيلة. هذا فضلاً عن انعدام الوعي بالمصالح المالية التي تحققها الأطراف المتحاربة عبر استمرار الحرب وعدم الإقرار بطبيعة ومدى هشاشة الاقتصاد اليمني. الوضع قاتم للغاية ومن المرجح أن يزداد سوءًا بغض النظر عن مدى صمود المجتمع اليمني وشبكات الدعم الاجتماعي للناس في مواجهة الأزمة.
يستمر التدهور الاقتصادي في اليمن في مفاقمة المعاناة الانسانية في البلاد، ويتجلى ذلك بوضوح في انخفاض القوة الشرائية، نتيجة انخفاض قيمة الريال اليمني وارتفاع مستويات البطالة والفقر، والانهيار الكبير في نظام تقديم الخدمات العامة والدفع غير المنتظم لرواتب موظفي القطاع العام وغيرها من الأمور. غالبًا ما يركز الاهتمام الدولي العابر بالتدهور الاقتصادي في اليمن على القطاع العام ويميل إلى التغاضي عن التحديات الضخمة التي يواجهها القطاع الخاص أيضًا، على الرغم من أن الأخير يوفر وظائف أكثر من القطاع العام في اليمن. البيانات الأساسية والمطلوبة لتحديد الاتجاهات وتوفير إحصاءات ضئيلة والمؤشرات المتوفرة لا تعطي صورة كاملة عن التكلفة الإنسانية لهذا الوضع.
هناك حاجة ماسة إلى تسوية سياسية، لكن المشكلة تكمن في أنه سيكون من الصعب التوصل إلى أي اتفاق طالما أن ما يقود الصراع هو المعارك التي تسعى إلى السيطرة على المنشآت الاقتصادية ومصادر الدخل. تستفيد الأطراف الفاعلة المنتشرة في جميع أنحاء البلاد كأفراد وجماعات من هذا الصراع سواء عبر أرباح واردات الوقود أو غاز البترول المسال أو المساعدات الإنسانية أو الضرائب أو الخيارات الوفيرة للرعاية الأجنبية المعروضة. وهناك الكثير من المخربين المحتملين الذين لديهم مصلحة خاصة في استمرار الوضع الراهن على ما هو عليه.
وبغض النظر عما تقوله الأطراف الرئيسية المتحاربة علناً – مثل تبادل الاتهامات حول من هو الطرف المسؤول عن الأزمة الإنسانية في اليمن فإن أهدافها الاقتصادية تطغى في نهاية المطاف على اهتمامها – إن وجد – بمعاناة الشعب اليمني. لقد ثبت أن الجهود الدبلوماسية الهادفة لإحداث التغيير من خلال حل إنساني قصير المدى (أي اتفاقية ستوكهولم) والتي تنظر إلى الشأن الإنساني كنقطة انطلاق لتحقيق انفراجة سياسية أكثر شمولاً هي جهود مضللة في أحسن الأحوال، وفي الواقع هي عقدت الوضع أكثر عند التوسط بين الأطراف الرئيسية المتحاربة. وقد ترك هذا النهج أيضًا وكالات الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية الدولية والأطراف الفاعلة في المجال الإنساني رهائن للأطراف المتحاربة سعياً لتحقيق أهداف سياسية واقتصادية أوسع.
يجب إجراء محادثات أكثر جدية فيما يتعلق بالاقتصاد وبسرعة. ويجب قبل أي شيء آخر أن تلتفت هذه المحادثات إلى المؤشرات التي تحذر من خطورة هذا الوضع وتستعد لأسوأ سيناريو ممكن – وهو الانهيار التام للاقتصاد اليمني – بهدف حماية الشعب بشكل عام والفئات الضعيفة في المجتمع بشكل خاص.
بالنظر إلى المستقبل، يجب ألا تقتصر مناقشات السياسة الدولية المتعلقة بالاقتصاد اليمني على المواضيع المعتادة التي غالبًا ما تطرق فقط إلى الوضع الحالي للواردات وأسعار السلع ومدفوعات رواتب القطاع العام أو تسلط الضوء بإيجاز على المهمة الشاقة المنتظرة على مستوى إعادة الإعمار بدلاً من أن تستكشف السبل المحتملة للتنمية والاستثمار في رأس المال البشري لليمن والتي يمكن أن تبدأ بشكل جدي. أحد أبرز النقاط التي من الممكن الانطلاق منها لتعميق هذه المناقشات هي دراسة الطرق المختلفة لتحقيق التوازن بين المخاوف الاقتصادية الملحة من جهة والتخطيط طويل المدى بشأن الأمور الهامة، مثل الحاجة للتنويع الاقتصادي لتقليل الاعتماد على عائدات الهيدروكربونات والمساعدات المالية الخارجية، من جهة أخرى.
على الرغم من عودة عدد من قطاعات إنتاج النفط الخام إلى العمل وزيادة صادرات النفط الخام في السنوات الأخيرة، تبقى الحقيقة هي أن الاعتماد الاقتصادي على الهيدروكربونات يوفر مساعدة قصيرة الأجل وحسب وليس استقراراً طويل المدى. بلغ إنتاج اليمن من النفط الخام ذروته بشكل ملحوظ عام 2001 وأصبحت البلاد مستورداً صافياً للوقود عام 2013. ولم تستأنف صادرات الغاز الطبيعي المسال بعد، ومن غير المحتمل أن تستأنف في ظل الغياب الطويل للأمن النسبي من نقطة الإنتاج في مأرب إلى نقطة التصدير في محطة بلحاف في شبوة حيث لا تزال فرقة صغيرة من الجنود الإماراتيين تتمركز هناك على الرغم من اعتراضات الحكومة. انخفضت الإيرادات الحكومية من صادرات النفط الخام بسبب انخفاض أسعار النفط العالمية في السنوات الأخيرة، ويبدو أن هذه العوائد ستتلقى ضربة كبيرة هذا العام بعد قرار السعودية في وقت سابق من شهر مارس/آذار بخفض الأسعار وتعزيز الإنتاج والذي أدى إلى أكبر انخفاض في سعر خام برنت منذ عام 1991 خلال حرب الخليج الأولى.
يجب أن تعي المناقشات بشأن اليمن الواقع الموجود على الأرض، كواقع الانقسام السياسي والإقليمي والاقتصادي للبلاد، وترسم الخطط على هذا الأساس. كما عليها أن تأخذ بعين الاعتبار مستويات الحكم الذاتي المتزايدة التي تحققت في بعض المحافظات مثل مأرب وحضرموت والمهرة ليس فقط بسبب أهميتها الاقتصادية النسبية للبلد ولكن أيضًا كجزء من استكشاف أوسع لكيفية إعادة تشكيل العلاقة الاقتصادية بشكل أفضل بين الحكومة المركزية والحكومة المحلية في ظل أي شكل جديد من أشكال الحكم. يجب أن تتطرق هذه المناقشات إلى المسألة المعقدة المتمثلة في التوزيع الأكثر عدالة للإيرادات من المركز إلى الأطراف بما في ذلك إلى المحافظات التي تدر إيرادات أقل بكثير من غيرها بسبب عدم إنتاجها للهيدروكربونات و/أو ليس لديها مرافق تصدير وموانئ ومنافذ برية وصناعات.
كان الاقتصاد اليمني يترنح لسنوات قبل تصاعد النزاع وإضفاء الطابع الإقليمي عليه في مارس/آذار 2015، وذلك بسبب استيلاء النخبة على الموارد وضعف شرعية وسلطة وقدرة الدولة والاختلالات الاقتصادية الهيكلية وغياب المساواة الاجتماعية والإقصاء السياسي. وبعد مرور خمس سنوات وعلى الرغم من عمليات الإنقاذ والإجراءات الداخلية لإبقاء الاقتصاد اليمني على قيد الحياة، فلقد أصبح في حالة أسوأ من أي وقت مضى. وتشمل العوامل التي ساهمت في ذلك: انخفاض القدرة التصديرية للهيدروكربونات واستنزاف احتياطات النقد الأجنبي للدولة وتزايد العجز التجاري وتدهور مناخ الاستثمار وانقسام البنك المركزي اليمني وتفكك النظام المصرفي الرسمي اليمني وتصاعد الحرب الاقتصادية بين الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا وجماعة الحوثيين، والتي تجلت في شكل سياسات نقدية ومالية واقتصادية متضاربة، فضلاً عن الجهود المتنافسة لتنظيم الواردات الأساسية والتجارة والأعمال التجارية الأخرى وكسب الدخل منها. كانت النتيجة النهائية للحرب الاقتصادية هي إنشاء مؤسسات اقتصادية موازية ومتنافسة وتضييق المساحة التي يمكن للبنوك والشركات ومحلات الصرافة والمواطنين العاديين العمل فيها وتنفيذ التعاملات الأساسية اليومية دون تدخلات سياسية. أما التكاليف الإضافية لممارسة الأعمال التجارية وتحويل الأموال في اليمن فتضاف في نهاية المطاف على كاهل المستهلك الذي يواجه أيضًا نقصًا دوريًا في الوقود وارتفاعًا في أسعار السلع الأساسية وانقطاعاً في التيار الكهربائي ويعاني من سوء الخدمات العامة.
إن ما يبقي الاقتصاد اليمني واقفاً على قدميه هو فقط الأموال القادمة من الخارج. فالمصدر الرئيسي للنقد الأجنبي خلال هذا الصراع يأتي من التحويلات المالية التي يرسلها اليمنيون الذين يعملون خارج بلادهم. المصدر الثاني هو المساعدات الإنسانية التي تصل إما من خلال خطة الاستجابة الإنسانية للأمم المتحدة أو تُقدم بشكل مستقل، وتُعد السعودية واحدة من أكبر الجهات المانحة. يقول العديد من الناقدين – وهم محقون – إنه يترتب على الرياض التزام أخلاقي بتقديم دعم مالي مستمر لليمن نظرًا لدورها النشط في الصراع الذي دفع الاقتصاد اليمني إلى حافة الهاوية. والحقيقة هنا هو أنه لولا الدعم المالي السعودي لكان الاقتصاد اليمني قد انهار بالفعل.
جميع مصادر المساعدة المالية الخارجية الثلاثة معرضة للتهديد ومن المحتمل أن تنخفض عام 2020. فقد طلبت السعودية من الوكالات الحكومية في وقت سابق من مارس/آذار التخطيط لتخفيضات كبيرة في الميزانية بعد الانخفاض الحاد في أسعار النفط نتيجة قرارها بزيادة الإنتاج، بينما أعلنت الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية أنها ستعلق الأنشطة في شمال اليمن رداً على القيود التي يفرضها الحوثيون. كما أدت التداعيات الاقتصادية المشؤومة لفيروس كورونا إلى انخفاض كبير في النشاط الاقتصادي في جميع أنحاء العالم وأجبرت الدول على أن تركز أكثر على وضعها الداخلي. في السعودية، على سبيل المثال، أدت إجراءات مكافحة انتشار الفيروس إلى بقاء المزيد من العمال اليمنيين في منازلهم غير قادرين على كسب المال الذي يعتمد عليه الكثير من الناس في اليمن.
وعلى المدى القصير، من غير المحتمل أن توافق الحكومة أو جماعة الحوثيين على هدنة اقتصادية. والواقع الصارخ هو أن كليهما لا يستطيعان تفادي التدهور الاقتصادي في اليمن بمفردهما. لا يزال خفض التصعيد ضروريًا. وفيما يخص المضي قدماً، لا يمكن لليمن أن يعلق كل آماله في الانتعاش الاقتصادي على عائدات الهيدروكربونات أو على الافتراض – الذي قد يكون في غير محله – بأن السعودية ستواصل إنقاذ الوضع إلى الأبد. أما صناع السياسات الدوليين فيحتاجون إلى قراءة التحذيرات والمؤشرات المتعلقة بالاقتصاد الكلي والموجودة منذ سنوات ومعرفة جذور ما يمكن وصفه بصراع كان، ولعله لا يزال، مدفوعاً بالديناميكيات المحلية – صراع تكمن معركة الوصول والسيطرة على مصادر الإيرادات المختلفة في صميمه.
مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية، هو مركز أبحاث مستقل، يسعى إلى إحداث فارق عبر الإنتاج المعرفي، مع تركيز خاص على اليمن والإقليم المجاور. تغطي إصدارات وبرامج المركز، المتوفرة باللغتين العربية والإنجليزية، التطورات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية، بهدف التأثير على السياسات المحلية والإقليمية والدولية.