أعمل في شركة للحجز “أونلاين” في الفنادق، وبصفتي خط مباشر مع الفندق، يجب علي أن أبني الفندق من الصفر على موقعنا الإلكتروني، العمل جيد وغير ممل وأنا ودودة ولطيفة مع الشركاء، لكن في كل مرة يطلب فيها الفندق أن تكون خدمة الإنترنت مدفوعة في الغرف، تثور ثائرتي، لأن هذا يذكرني بالفنادق التي سكنتها في الدار البيضاء يوم اندلعت الحرب وكيف تلقيت –متأخرة- نبأ الحرب صباح السادس والعشرين من مارس، بينما أدلف خارجة من المصعد باتجاه الاستقبال حيث الإنترنت المجاني، ثم مرة أخرى في نفس اليوم في بهو فندق آخر، حين تلقيت – أيضا متأخرة- نبأ العثور على ابن خالي ميتا في غرفته في عدن. كان ميتا منذ أيام ولم تكن الحرب حينها تمنح رفاهية الزيارات لإكتشاف الجثث وهي لا تزال طازجة.
رحلتُ في ذلك التاريخِ أذكرُهُ كأنّها ساعةٌ يا (سعدُ) لم تَزِد (البردوني)
كنت أعرف آنذاك أن حربا حقيقية تدق طبولها، لكن ليس بالطريقة التي أصبحت عليها. غادرت مع ابنة عمي ورفيقة ثالثة في يوم الحادي والعشرين من مارس، أكلتُ جزءا من حلوى عيد ميلادي في المطار، كنا نبتسم على إستحياء، فسماء صنعاء وأرضها ملطخان بدماء تفجيرات مسجدي بدر والحشوش، وعدن تستعد لتكون منكوبة. لكنها رحلة قصيرة، أربعة أيام فحسب، وسأعود لليمن، و مثل كل الملايين، لم يكن ما حدث بعد ذلك ليخطر على بالي. الآن وبعد خمس سنوات من الغياب أسأل نفسي باتهام واضح: هل كنت سترحلين لو عرفت أن الحرب ستندلع؟ أم كنت لتبقين تشاركين المصير كل الذين تحبينهم وكنت لتحضرين كل تلك العزاءات التي تمت في غيابك ولم يكن بيدك غير عدّ الجنازات خلال خمس سنوات؟ هل كنتِ لتحملين ملابس أكثر وألبومات صور وربما قطعة فيها رائحة أمك؟ أم أنك كنت لتبصقين في وجه النجاة الجسدية إن كانت روحك ستظل موبوءة بالذنب والحنين وبالعار في خامس ذكرى كأنه اليوم الأول للحرب؟
في كل ذكرى جديدة للحرب، أتذكر ضاحكة، كيف بثقة شرحت للرجل الذي سيؤجر لنا بيته في الدار البيضاء، أن الحرب لن تدوم لأكثر من أيام، لذا لا داعي لأن ندفع إيجار شهر كامل، لم يقبل العرض، لأن العسيري لم يستطع خداعه كما فعل بنا، لذا تحصّل الإيجار كاملا، وأصبحنا نحن رسميا نعرّف ب”العالقين”. أحصى الرجل عدد الملاعق والسكاكين وكل حاجيات المنزل بدفتر ملاحظاته الصغير، شكك في رواية الحرب وغرض الإيجار وغادر على وعد أن يزورنا ليتفقد المنزل ويتأكد من صدق حكايتنا. تركنا في منزله المضيء بأثاثه القذر، المنزل الذي كان من المفترض أن نظل فيه فقط لأيام. لكن في ذلك البيت ذاته أحصينا معا أيام وليالي الحرب الأولى، من تلفزيونه شاهدت انفجار فج عطان بعد وقت قصير من حدوثه، ومن ذات الباب فوجئنا في صباحات أحد الأيام من أبريل 2015 بالأمن المغربي يدق الباب ويأمرنا الرجل مستعجلا أن نرتدي ملابسنا ونتبعه -إلى حيث لا ندري- بسيارة أجرة ندفع نحن أتعابها، وحتى اللحظة لا واحدة منا تعرف لماذا بالضبط استجوبنا الأمن المغربي، ولا لماذا تحصل أسماء كل فرد في عائلاتنا وتواريخ ميلادهم واتجاهاتهم السياسية، ثم حساباتنا على فيسبوك وبريدنا الإلكتروني، وطلب منا نقف للصور تماما كما في السجون، ثم لماذا في اليوم التالي بعث لنا بعناصر أمن جديدة.
والحرب هي الحرب، هي الجنازات غير المرتب لها و أمل المنقذين في حياة تحت الأنقاض، الحرب هي السجن في نشرات الأخبار و الكراهية، هي انقطاع التواصل وخسارة الكلام، هي الذنب والنقمة، اليأس الذي يقتلع جذور الحياة من كل روح، هي الدموع جاهزة في المآقي لكل مأساة جديدة وما أكثر ما مآسي الحرب وما أشد تنوعها! و هي الخنجر الذي تتجول به مغروسا في جبينك حتى يقتلك، هي الدموع لمئات الأسباب التي هي في النهاية سبب وحيد: الحرب.
في الذكرى الخامسة، أحاول أن أنظر للحرب بمعزل عن تجربتي الشخصية، عن ذكرياتي المتعلقة بها، بعد خمس سنوات أخبر نفسي أنه آن الآوان لأصدق أن اليمن مثلها مثل كل البلاد، قد تخوض حربا أهلية وقد يشن عليها الآخرون حربا، قد يموت فيها الملايين من الجوع والمرض دون أن يلتفت إليهم أحد لأن البقاء للأقوى، في الذكرى الخامسة، أود أن أقنع نفسي بأني مثل كل البشر عبر التاريخ، هجّرتني الحرب وغرّبتني، لكني على عكس ملايين، الحرب لم تقتلني ولم تجّوعني لذا يجب أن أصدّق أني أكثر حظا، وأني مثل كل الذين تركوا أحباءهم عنوة، يجب أن أقبل فكرة أنه بعد خمس سنوات من الحرب والحزن والفقد، فإن أحبائي لم يعودوا هم الذين تركتهم، خطت وجوههم التجاعيد وذبلت أرواحهم، وأني مثل المنفيين لن يكون سهلا عليّ أن أعود لأطبع القبلات المؤجلة على وجوههم، رغم أحلام القيلولة والشوق المؤلم، وأنه قد فات الأوان لأظهر المحبة لكثيرين ممن كان الموت أسرع إليهم مني، وأريد بعد خمس سنوات أن أتحدث عن تجربتي الشخصية دون أن تخنقني العبرات وتتدفق الدموع دون إرادة، الدموع التي إكتشفت ذات مرة أنها أكثر ما تكون دموع الرثاء الذاتي: كثير من شفقة للفتاة التي وجدت نفسها فجأة في مواجهة العالم الخبيث، في مواجهة الألم المتدفق دفعة واحدة مثل ضريبة مؤجلة، في موقع اتخاذ القرارات التي أحلاها يطعن في القلب.
بعد خمس سنوات من الحرب، وحيث أعيش في إحدى أكثر دول العالم أمنا، أعمل من المنزل ولا ينقطع الإنترنت، أسأل نفسي ما الذي يجعلني- أينما ارتحلت وكيفما تبدلت حياتي للأفضل- أحمل وسم الحرب في قلبي وعينيّ؟ هل هي النظرة التي تحدث عنها البردوني؟ تاريخ من الرمد لا مناص منه؟ أم أنها “مع السلامة” التي لم أقلها حين تسللت خارجة كيلا أوقظ النائمين؟ أحيانا أعود للإجابة التي منحتني هي شابة كوبية في صف اللغة التشيكية، حين سألتنا الأستاذة ما الذي دفعنا لإختيار التشيك كدولة نلجأ إليها؟ حين حان دوري بعد كثير من المزاح والضحك، وقبل أن أفكر، انفجرت باكية، لم يكن اكتشافا لحظيا أني لم أحظى برفاهية الإختيار من الأساس، لكني أعيد اكتشاف تلك الحقيقة بنفس الألم كل مرة، الفتاة الكوبية ربتت على ظهري قائلة للجمهور بثقة: نوستالجيا.
اليوم، وحيث البشرية تستعد لإمتحان رهيب، أظل أستقبل الرسائل والتعليقات الضاحكة بأن كورونا لا يخيف اليمنيين، فاليمنيين في إمتحانهم الرهيب منذ زمن، وأنه إن كان كورونا يعني الموت، فهذا ليس بجديد علي أية حال، توسل قبل هذا بزمن الطفل “فريد” بألا نقبره، لكننا فعلنا، وصرخ الرجل يوم تفجير عطان قائلا: إن هدم الكعبة حجرا حجرا أهون عند الله من هدر دم إمرئ مسلم، لكن الوطن كله هُدِم حجرا حجرا وهُدِرت الدماء في كل مكان بلا حرمة، وبينما يمكن لأشخاص مثلي، نجوا بأجسادهم وأرواحهم وأحلام مناماتهم، أن ينظروا – أو على الأقل يحاولون أن ينظروا كما في حالتي – للحرب من زواياها كلها، توقف الناس هناك عن العد، ولم تعد السنين تعني شيئا، وصفتها ابنة عمتي قائلة: كأن هذه السنين اُجتزِئت من أعمارنا وأرواحنا بالنيابة عن كل العالم، نحن ندفع عن نجس العالم كله.
في الذكرى الخامسة، ومثل كل شخص آخر على الأرض حاليا، أكافح لأجل البقاء، ومثل كل اليمنيين الناجين أظل أسخر من الوضع الحالي، حيث أننا ناجون لا محالة، نجونا من الملاريا والتيفوئيد وحمى الضنك والكوليرا وانفلونزا الخنازير و”المكرفس”، ونجونا من الرصاص الطائش في الأفراح والمعارك والاختطافات في المدن، من التجنيد الإجباري و اعتقالات الحوثي، نجونا من انحدار الطريق في سمارة، من الأخطاء الطبية ومن عدم توفر أسرّة شاغرة في العنايات المركزة، نجونا من الموت كمدا، والأهم أننا نجونا من الحرب! من قصف الطيران الذي لم يترك حتى متاحفنا وتاريخنا، من رصاص القناصين الذين يتسلون باصطياد الأطفال في الحارات، من الحصار، من غدر إخوة الدم والإنتماء، من المرتزقة، من الاتهامات الجاهزة، من الاستقطاب، من الإشاعات والصحافة المشتراة، و بعد خمس سنوات من الجهاد لأن نكون “ناجون” حقيقيون وممتنون للفرصة “المعجزة” التي مُنِحت لنا، سيكون من المخجل أن نموت بالفيروس المستجد!