أدى الصراع الأهلي الذي امتد على مدى خمسة أعوام في جنوب اليمن إلى ولادة مراكز قوى جنوبية، اختلفت في توجهاتها بين النزعة الاستقلالية الكاملة وبين الساعية إلى شبه الاستقلال الذاتي ضمن نظام اتحادي. اُحتويت وجهات نظرهم وقضاياهم حتى زادت ديناميكيات الحرب الحالية من الحكم الذاتي الجنوبي، ما شجع في نهاية المطاف بعض النخب السياسية الجنوبية من أن تقرر أن فرصها في الحكم قوية بما فيه الكفاية لإعلان الإدارة الذاتية.
تعود جذور القضية الجنوبية إلى العام 1994، أي بعد أربعة أعوام من توحيد الشمال والجنوب في دولة واحدة. حينها، سعت بعض الأطراف الجنوبية إلى الانفصال، ولكن محاولتهم أُخمدت بعنف بعد أسابيع من القتال. ومن بعدها، تعرض الجنوب إلى التهميش والإهمال بشكل عام من قِبل السلطات الحاكمة في صنعاء. وشهد الجنوب عام 2007 حالة تعبئة سياسية جنوبية متجددة بتشكيل الحراك السلمي الجنوبي، إلا أن لحظة التغيير الجوهري في الساحة الجنوبية بدأت منذ خمسة أعوام عندما أطلقت السعودية والإمارات عملية عاصفة الحزم.
أنهت المعارك التي اندلعت عام 2015 ما اعتبره العديد من الجنوبيين “الهيمنة الشمالية” على الجنوب بعد تحرير المحافظات الجنوبية من قوات الحوثيين والقوات الموالية للرئيس السابق علي عبدالله صالح. حينها اتحدت الفصائل الجنوبية لصد القوات الشمالية. انضم الرئيس عبدربه منصور هادي (وهو جنوبي من أبين) ومن يواليه من قادة عسكريين ومسؤولين مدنيين إلى الجنوبيين المعارضين، الذين يمثلهم شخصيات سياسية من الحراك الجنوبي وقوات المقاومة المسلحة المحلية.
تعاونت قيادات الحراك الجنوبي داخل الحكومة المعترف بها دولياً لملء فراغ السلطة الذي نتج عن استيلاء الحوثيين على صنعاء عام 2014، ما أدى إلى تحويل عدن (العاصمة المؤقتة حالياً) وحضرموت (أكبر محافظات البلاد) إلى مراكز ثقل سياسي واقتصادي وعسكري. تقاسم هادي والحراك الجنوبي السلطة بعد التحرير وتسلّمت قيادات محسوبة على الحراك مناصب في السلطة المحلية والسياسية. فعلى سبيل المثال، عُيّن عيدروس الزُبيدي محافظاً لعدن، وهو أعلى منصب سياسي محلي، وتسلم اللواء شلال علي شايع منصب مدير أمن المدينة. وعسكرياً، أسس هادي ألوية الحماية الرئاسية، وفي أكتوبر/ تشرين الأول 2016، أصدر قراراً جمهورياً بتأسيس ألوية الدعم والإسناد ومنح صلاحيات تشكيلها لقيادات الحراك.
ولكن شهر العسل الجنوبي لم يدم، إذ أقال الرئيس هادي عام 2017 وزراء ومحافظين جنوبيين في مقدمتهم اللواء عيدروس الزُبيدي والشيخ هاني بن بريك، وزير الدولة وقائد في قوات الحزام الأمني. ولاحقاً أصدر هادي حزمة إقالات شملت أحمد بن بريك، محافظ حضرموت، وحامد لملس، محافظ شبوة، بسبب استجابتهم لدعوة الزُبيدي بتأسيس كيان جنوبي جديد.
بعد إقصائهم من السلطة، أعاد “جنوبيو المعارضة” تنظيم أنفسهم في إطار “المجلس الانتقالي الجنوبي” بموجب إعلان عدن التاريخي في مايو/أيار 2017، وتسلم الزُبيدي رئاسة المجلس. يعد هذا ثاني تطور رئيسي على مستوى تمكين الجنوبيين بعد عاصفة الحزم. استمد المجلس الانتقالي قوته وشخصيته على المستوى القيادي من تجربة الحكم القصيرة إلى جانب هادي والتي أنتجت نخبة سياسية شابة، ورثت موقع القيادات التاريخية للدولة الجنوبية من رجال أصبحوا في الثمانينيات من عمرهم مثل رؤساء جنوب اليمن السابقين علي سالم البيض، وعلي ناصر محمد، ورئيس الوزراء السابق أبو بكر العطاس. وعلى المستوى الأيديولوجي، تبنى المجلس خطاب “التحرير والاستقلال”، الذي أمّن له قاعدة جماهيرية واسعة ومشروعية سياسية وأخلاقية قوية. والأهم من هذا فقد امتلك المجلس قوة مسلحة، وذلك إلى جانب الدعم السياسي والمالي المقدم من دولة الإمارات، التي تولت تدريب القوات التابعة له.
وبعد انحسار تهديد الحوثيين المباشر، عادت الانقسامات السياسية المتعلقة بجنوب اليمن والمتواجدة منذ فترة طويلة إلى الواجهة. تتعلق إحدى نقاط الخلاف الرئيسية بتركيبة البلاد المستقبلية. فلقد تبنى الجنوبيون الموالون لهادي خيار الأقاليم الستة والذي اُقترح في شباط/فبراير 2014 ورفضته حينها معظم فصائل الحراك الجنوبي. أما المجلس الانتقالي الجنوبي فتمسك بخيار الانفصال. العامل الثاني وراء هذه التوترات يرتبط بظلال التاريخ والتنافس الحاد بين مجموعتين سياسيتين اجتماعيتين: “الزمرة”، التي يتركّز نفوذها بشكل أساسي في محافظة أبين، مسقط رأس الرئيس هادي، والتي استفادت تاريخياً مع محافظة شبوة من الولاء للأنظمة الحاكمة السابقة، و”الطغمة”، التي يتركّز نفوذها في محافظتي الضالع ولحج، والتي أدى تهميشهما في السابق إلى تحويلهما لأرض خصبة للعمل الثوري ضد السلطات الحاكمة، سواء للمجلس الانتقالي الجنوبي أو الحراك الجنوبي قبله أو لأطراف أخرى في الستينيات خلال التمرد ضد عدن التي كانت مستعمرة بريطانية حينها. أما العامل الأخير فتمثل بالدعم الإقليمي: تموضع جنوبيو المعارضة في دائرة النفوذ الإماراتية، بينما تماهى الجنوبيون الموالون للحكومة إما مع توجهات الرياض، اللاعب الإقليمي المهيمن، وإما مع توجهات الدوحة الراغبة بالتواجد في عدن بدلاً عن أبوظبي.
استفاد المجلس الانتقالي الجنوبي عام 2017 من زخم القضية الجنوبية لتثبيت نفسه سياسياً وتوسيع نفوذه الجغرافي وبناء هياكله الداخلية ليعمل كحزب ويحاكي الدولة ومضاعفة قوته المسلحة. ولكنه، حتى هذه المرحلة، ظل يراوح مكانة “كقوة أمر واقع” ولم يحاول الاستفادة من قوته ليتحول إلى “سلطة أمر واقع” على غرار ما فعله الحوثيون في شمال اليمن، أو يتنافس على النفوذ داخل حكومة هادي على غرار حزب الإصلاح. ركزت إستراتيجية الانتقالي المرحلية على تعريف المجلس كبديل للجنوبيين داخل الحكومة وعلى تأمين مقعد على طاولة التفاوض الأممي في المستقبل كممثل عن القضية الجنوبية.
اندلعت اشتباكات بين قوات الحكومة والقوات التابعة للمجلس الانتقالي الجنوبي في عدن في يناير/كانون الثاني 2018، ولكن عدة كوابح منعت الانقسام “الجنوبي-الجنوبي” من الذهاب إلى نقطة اللاعودة منها تشارك الطرفين في مواجهة الحوثيين لاسيما في معارك الساحل الغربي كجزء من الهجوم نحو الحديدة. كما كان كلا الطرفين لا يزالان منهمكين بتعزيز قوتيهما. ونجح هادي في احتكار التمثيل الجنوبي داخل حكومته وتقاسم السلطة بالمناصفة مع حلفائه الشماليين فقط بقيادة علي محسن وحزب الإصلاح، ولكنه فشل في إضعاف المجلس الانتقالي على الأرض. وعلى الرغم من التوترات المتصاعدة، تمكنت الجهات الفاعلة الرئيسية في التحالف، أي السعودية، الداعم الرئيسي للحكومة اليمنية، والإمارات الداعم الرئيسي للمجلس الانتقالي الجنوبي، من إبقاء حلفائهم تحت السيطرة.
ولكن نزاع مفتوح اندلع في أغسطس/ آب 2019 بين القوات الحكومية والقوات التابعة للمجلس الانتقالي في عدن، واتسع ليشمل أبين وشبوة. وأدت هذه التطورات إلى دفع المصالح الجنوبية نحو موقع قوي استراتيجيًا.
في الظاهر كانت شرارة الانفجار ناجمة عن اغتيال العميد منير أبو اليمامة، قائد اللواء الأول دعم وإسناد في عدن، والقيادي الأيقوني في الحراك والمقاومة الجنوبية. أشعل اغتيال أبو اليمامة بهجوم صاروخي، واتهامات شخصيات من المجلس الانتقالي الجنوبي لحزب الإصلاح بتعاونه مع الحوثيين، سلسلة من الأحداث أدت في نهاية المطاف إلى طرد القوات الحكومية من المدينة عقب اشتباكات مع القوات الموالية للمجلس الانتقالي. أما في العمق فقد كان قرار الانسحاب الإماراتي في وقت سابق من العام هو المحفز الجوهري لتسارع الأحداث. أراد خصوم المجلس الانتقالي ومؤيدوهم الإقليميين – الحوثيون وإيران، وهادي والسعودية، وحزب الإصلاح وقطر وتركيا – استباق حالة الفراغ المحتمل جنوباً، وقطع الطريق أمام سياسة أبو ظبي لتمكين الحلفاء المحليين، والتي أدت إلى مضاعفة قدرات المجلس الانتقالي العسكرية خلال السنوات الماضية. وبالمقابل ضغطت قيادة المجلس بقوة رداً على استهداف قياداتها، محاولة السيطرة على أراضِ، قبل أن يختل التوازن الإستراتيجي الهش في الجنوب.
في المحصلة، نجح الحوثيون بتأليب خصومهم ضد بعضهم البعض. ونجح المجلس الانتقالي في فرض إرادته في عدن بينما فرضت حكومة هادي إرادتها في شبوة. وفي نهاية المطاف، فرضت السعودية الهدوء عبر “اتفاق الرياض” الذي منح السعودية شكلياً كل ما تريده بالتفرد والهيمنة على الفضاء الجنوبي من محافظة المهرة في الشرق إلى عدن في الجنوب. وفي الضفة الأخرى حقق المجلس الانتقالي – على الأقل نظرياً – جميع أهدافه المرحلية في مقاعد بالحكومة ومقعد على طاولة المشاورات مع الحوثيين حين يحين الوقت، وفي المقابل وافق على دمج قواته في قوات الشرعية. أما الإمارات، داعمة المجلس، خرجت كلياً من الحلبة العدنية في أكتوبر/تشرين الأول 2019 تاركة المجال للسعودية.
عندما وُقع اتفاق الرياض في نوفمبر/ تشرين الثاني 2019، قدمته السعودية كوصفة مثالية للحفاظ على السلام وتطبيق حكم موحد في الجنوب. ولكن بنود الاتفاق لم تبصر النور حتى الآن. تعثر تنفيذ الاتفاق بسبب غموض النص وغياب آلية تنفيذية صارمة. هذا بالإضافة إلى ازدواجية الدور السعودي كطرف في التسوية، وكوسيط في الاتفاق. كما تصطدم مصالح الرياض الإستراتيجية بالعديد من أهداف الجنوبيين الانفصالية. أما المجلس الانتقالي فيفتقر إلى أدوات الضغط السياسي التي تمكنه من تعديل السلوك السعودي بحيث يغلب دوره “كوسيط” على حساب دوره “كطرف”. كما عرقل هادي ونائبه، علي محسن الأحمر، إجراءات تطبيق الاتفاق خشية تقديم تنازلات سياسية ورغبة في استنزاف المجلس الانتقالي عسكرياً وشعبياً وسياسياً.
بطبيعة الحال، فإن تزامن الإجراءات السياسية مع الأمنية يمثل “الحل السحري” لإنجاح اتفاق الرياض. لكن الجانب السعودي عجز حتى الآن على تفعيل مكونات الاتفاق السياسية، مركزاً جهوده على الترتيبات الأمنية، وهو ما اعتبره المجلس الانتقالي استهدافاً مباشراً له وتمكيناً لخصومه.
التغير الجذري في ميزان القوى جنوباً لمصلحة الرياض وحلفائها حرم الانتقالي من مساحة المناورة التي كانت متاحة إبان التواجد الإماراتي، وقوّض قدرته السياسية على كبح سلوك الشرعية التعطيلي. لكنه وعوضاً عن قبول “التآكل الذاتي”، قام بخطوة دراماتيكية وأعلن الإدارة الذاتية في جنوب اليمن. لم تلقَ دعوة الانتقالي أصداء إيجابية في أغلب المحافظات الجنوبية، لكنها نجحت في تحريك الجمود السياسي الذي يحيط باتفاق الرياض.
يمتلك الجانب السعودي مصلحة حقيقية في تطبيق اتفاق الرياض وهذا ما يجعله صامداً رغم تصعيد الانتقالي والتعطيل الذي تمارسه حكومة هادي. وتقاسم السلطة ضمن الإطار المتفق، قد يساعد بتجنب الانزلاق نحو عنف مفتوح كالذي شهدناه في أغسطس/آب من العام الماضي. وبالتالي يبدو أن اتفاق الرياض قد تحول الى “ستوكهولم جنوبي” يحتوي ويسكّن الأزمة السياسية بدلاً من حلها.