” قالوا غَزَال وأمها سَرعه بنات الخُمس
ما بِه خُمس يا عباد الله ما بِه سُدس
سَوا سَوا يا عباد الله مِتساوية
ما احَّد وَلَد حُر والثاني وَلَد جَارية “
— غزال المقدشية[1]
مقدمة
في المناطق التي مزقتها الصراعات، غالبًا ما تؤطر عمليات بناء السلام بإطارات ثنائية للضحية والجاني. تركز عمليات السلام المستندة إلى هذه السردية على إبرام هُدن تُمدد بين الفينة والأخرى مثل ما يحدث في اليمن حاليًا[2]، أو وضع حد للحرب العسكرية، أو التوقيع على اتفاقية سلام بين الأطراف المتحاربة. في السياق اليمني، هناك توجه للمجتمع الدولي لحصر الصراع ضمن نطاق حدود البلد[3]، والتأكيد على أنها مجرد حرب أهلية[4] متجاهلين الأدوار التي تلعبها العديد من الدول المنخرطة في الصراع والمستفيدة بشكل مباشر أو غير مباشر من استمرار الحرب. وتميل العديد من الأطراف المحلية والدولية على حد سواء إلى تأطير الصراع كمواجهات مسلحة بين الأطراف[5]، ومثل هذه التوجهات لا تتجاهل الأبعاد التاريخية والعرقية للصراع فحسب، بل أيضًا الأشكال الأخرى للصراعات والحروب والمعاناة التي يواجهها الناس في حياتهم اليومية سواء داخل اليمن أو خارجه. أضف إلى ذلك أن هذه التصورات تتناسى التحديات التي تواجهها المرأة، والمجتمعات المهمشة، والمهاجرون، والنازحون.
في حالات النزاع المسلح، قد يُؤطر الوضع من منظور محدود أو انتقائي. مثلًا، كثير ما تُتجاهل الصراعات التاريخية التي عاشها اليمنيون كنضالهم ضد الاستعمار وضد الحُكم الاستعلائي للإمامة. تميل هذه التصورات على نفس المنوال إلى تجاهل الأرواح المهدرة والمعاناة الناجمة عن الهجمات التي تشنها الطائرات المسيّرة الامريكية على المجتمعات اليمنية تحت غطاء “الحرب على الإرهاب”، والتغاضي عن المصالح الذاتية لبعض الأطراف المستفيدة من إطالة أمد الحرب في اليمن. لا يقتصر التجاهل على هذا فحسب، بل أيضًا على منطق العُنف المعرفي المتجلي في هيئة أنظمة مالية وسياسية واجتماعية استغلالية[6]. بعبارة أخرى، عادةً ما يؤطر مفهوم الحرب والسلام من منظور العلاقات الدولية، وليس من التجارب الواقعية للأشخاص الذين غالبًا ما تُهمل قصصهم وتاريخ نضالهم منذ اللحظة الأولى لإعلان الحرب أو السعي لتحقيق السلام.
غالبًا ما تتجلى تحديات حقيقية أمام إجراء نقاشات هادفة لخلق مجتمع ينعم بالسلام والعدالة أو نقاشات تتناول عناصر بناء السلام كالعدالة الانتقالية. حين تركز فعاليات بناء السلام على الأبعاد المختزلة للصراع والسلام فإنها تعزز الشعور بأن عملية السلام قد تم الاستيلاء عليها[7]، وأنها أصبحت مجرد صناعة تتغذى من بؤس الناس ولا تلبي الاحتياجات والطموحات الملحة حقًا، عوضًا عن تسليط الضوء على جزء من الواقع الذي يعيشه الناس. لطالما شاركت المرأة -التي أُقصيت على مدى التاريخ من طاولات المفاوضات -في مبادرات بديلة وغير مباشرة لبناء السلام، ووجدت في الغالب قنوات غير رسمية فعالة من أجل تلبية احتياجات المجتمع متجاوزة أوجه عدم المساواة. ورغم اكتساء عمليات وآليات الإدماج التي توفرها مفاوضات السلام الرسمية بعض الأهمية، إلا أن الإدماج الهادف -المؤمل بأن يحقق سلامًا عادلًا -لن يأتي بالضرورة بمجرد الحصول على مقعد في الطاولة التي يتبع الجميع فيها نفس القواعد القديمة للُعبة. ما يغيب عن الأطر المهيمنة على المشهد هو الأوجه المتداخلة للتجارب التي تعكس الكيفية التي يؤثر بها النوع الاجتماعي، والعرق، والطبقة الاجتماعية، والجنسية، والدين، والهياكل الاجتماعية العامة الأخرى على بناء السلام الشامل[8]. إن الغوص في تلك الأبعاد وكسر حاجز الصمت الموجود فيها من أجل الإقرار بالمعاناة المُعاشة في التجارب الحقيقية سيساعد في تحقيق سلام مستدام.
يؤكد الموجز السياساتي هذا -المنبثق من ورشة عمل عقدت عن بُعد في ديسمبر/ كانون الأول 2021 تناولت مسألة الإدماج الهادف في عمليات صنع السلام -على الأهمية الحاسمة لبناء القدرة في إيجاد مساحة تسمح للفئات (في هذه الحالة المرأة) -غالبًا ما تُستبعد أو تُشرك بشكل انتقائي أو عنوة -بالفهم والاستماع دون أحكام مسبقة[9]. كما يستند على المفاهيم الواردة في كتاب “البقاء في خضم المتاعب” لدونا هاراواي، الباحثة الرائدة في النظرية النسوية[10]، ويضع في مقدمة اهتماماته مفهوم غاياتري شاكرافورتي سبيفاك للعنف المعرفي. يرى المفهوم أن الأيديولوجية المهيمنة تحجب المعرفة الحقيقية للأشخاص المهمشين، وأن من في السلطة يجب أن يتعلموا التخلي عن امتيازاتهم ويقفوا جنبًا إلى جنب مع المضطهدين لفهم احتياجاتهم جميعًا والتصرف على هذا الأساس[11]. الهدف من تطوير قدرات المشاركات في ورشة العمل من خلال الأنشطة الفنية؛ مساعدتهن على تحديد ما هو على المحك بالنسبة لهن، وليس فقط إعادة التباحث حول أوجه عدم المساواة في القوة كما هو معتاد بالعمليات التقليدية والرسمية لصنع السلام أو النُظم المتبعة في تمويل المساعدات الدولية.
استُلهمت عملية بناء القدرات الرامية لإيجاد مساحة لتلك الفئات من كتاب “تعليم المقهورين” للكاتب الفيلسوف باولو فريري، عبر سرد القصص والقصائد. تُعد أعمال فريري عن اختلال توازن القوى في الهياكل السياسية والاجتماعية أحد أسس مجال التربية النقدية (التفكير الناقد)، حيث تحدى المقاربات الأوروبية في بناء السلام مجادلًا بقدرة الأفراد على استعادة حقوقهم الإنسانية عبر المقاومة باستخدام أساليبهم الخاصة[12]. المقاربات الأوروبية في بناء السلام للعنف المعرفي تميل إلى النظر لحقوق الإنسان أو حقوق المرأة من منظور ضيق وتفترض أن كل النساء يطمحن للحصول على أدوار قيادية رسمية كتلك الموجودة في الآليات القائمة.
يتطلب استكشاف معنى الحرب أو السلام أو الإدماج بالنسبة لليمنيين -أو بالتحديد للنساء -استخدام لغتهن الخاصة المستنبطة من التجارب المُعاشة؛ أي رواية قصصنا وتعزيز إنتاجنا بغض النظر عن الانتقادات التي تدعي افتقار القصص المُعاشة إلى الموضوعية. إن التحدث والنقاش دون خوف يتطلب شاعرية لوضع إجراءات تحول لمخاوف المُعاشة بما يتيح تحقيق سلام محلي شامل، وهي مسألة غالبًا ما تُهمل في الأجندة الخاصة بالجهود الرسمية لبناء السلام.
المنهجية
بناء على الإطار النظري الموضح أعلاه، استخدمت جلسات ورشة العمل المنعقدة تحت عنوان “السلام والشعر” من الثاني وحتى الرابع من ديسمبر/ كانون الأول 2021، الممارسات الإبداعية والفنية لـ 27 مشاركة يمنية مقيمات داخل اليمن وخارجه، تراوحت أعمارهن بين 18 و64 عامًا. جميع المشاركات هن ناشطات في القطاعين العام والخاص والقطاع الأكاديمي، وبعضهن كُن منخرطات في مبادرات رسمية لبناء السلام وعملن مع منظمات ذات صلة، في مجالات كالتوثيق والتعليم والوساطة. تعتبر المشاركات خبيرات (كلا في مجالها)، غير أن انتماءاتهن السياسية والاجتماعية كانت متباينة إلى حد كبير. رُشح بعضهن من قِبل مُعدة هذا الموجز السياساتي، التي تولت أيضًا تنظيم ورشة العمل على أساس معرفتها بعملهن ونشاطهن، في حين رُشح البعض الآخر من قِبل مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية بناء على تعاون أو عمل مسبق معهن، فضلًا عن ترشيح مشاركات أخريات من قِبل باحثين عاملين مع منظمات المجتمع المدني. صُممت ورشة العمل لتتمحور حول مفاهيم الأمان والفرح وأيضًا الخوف، كون النهج المتبع في هذه الدراسة يهدف لمناقشة الروايات السائدة في سياق بناء السلام وتسليط الضوء على التجارب المُعاشة.
استُخدمت طريقتان لتحليل الأوجه المتعددة للأعمال الفنية التي خرجت بها الجلسات، حيث هدفت الطريقة الأولى إلى كسر حاجز الصمت والثانية إلى الأرشفة:
- التعمّق في القصص والأشعار التي شاركتها النساء خلال ورشة العمل ومناقشتها معهن كممارسة تساعد على تفنيد التجارب ومعرفة ما يهم وما هو على المحك.
- تسجيل الجلسات وتدوين الملاحظات القائمة على رصد ديناميكيات التفاعل بين المشاركات، لتحليل مجرى النقاش بعد أن مُنحن المساحة اللازمة.
التحليل التجريبي
تعدد أدوار المرأة وقيادتها في حالات الاضطهاد
ركز أحد أنشطة ورشة العمل على قصة شهرزاد في كتاب ألف ليلة وليلة، وكيف استخدمت أسلوب رواية القصص للنجاة بحياتها[13]. ورغم تضارب التحليلات النسوية للقصة المشار إليها، استُخدمت القصة لبدء حوار مع المشاركات بعد أن طُلب منهن تخيل أنفسهن مكان شهرزاد. أظهرت ردود فعل المشاركات رؤى متعددة لدور المرأة وقيادتها، وسيتم تناول ذلك أدناه بمزيد من التفصيل.
رأت مجموعة من المشاركات أن أفعال شهرزاد تعكس تصرفًا نسويًا: فهي مثلت شخصية قيادية حمت نفسها والنساء الأخريات من خلال رواية القصص، وعلى حد تعبير إحدى المشاركات “أنقذت شهرزاد ألف امرأة[14]“. النضال ضد الاضطهاد وأوجه التمييز بالنسبة لهؤلاء النسوة لا يعني بالضرورة المواجهة المباشرة، بل أيضًا من خلال وسائل أخرى مثل رواية القصص، كما هو الحال في قصة شهرزاد التي كانت تجسيدًا لقدرة المرأة في توظيف اختلافاتها عن الرجل كوسيلة للتعبير عن الرأي والمجابهة بدلًا عن محاولة تجاهل تلك الاختلافات. بمعنى آخر، إن كان الرجال أقوياء جسديًا، فإن النساء يتصفن بالحيلة والذكاء. نظرت هؤلاء النسوة إلى نضال شهرزاد بأسلوب مشترك يرتبط بتجاربهن.
مجموعة أخرى من المشاركات، انتقدن تصرفات شهرزاد، مؤكدات أنهن غير قادرات على الانتظار لفترة طويلة كهذه -أي أكثر من عامين ونصف -للمجابهة. قالت إحداهن “لماذا يجب أن أروي ألف قصة؟”، في حين وصفت أخرى أسلوبها في مجابهة الاضطهاد قائلة “أنا هجومية، ويؤذيني ذلك للغاية”. على عكس المجموعة الأولى، ركزت النساء في هذه المجموعة بصورة أكبر على العنف القائم حاليًا وكيف يُعاش ويُقاوم بصورة فردية.
أشارت مجموعة ثالثة من المشاركات إلى موضع القوة التي يتمتع بها الراوي المجهول للقصة، قائلات إنه من الواضح كان رجلًا، كون السرد الذكوري لقصص المقاومة النسوية في هذه الرواية تعكس تصورات ذكورية عن نضال وكفاح النساء ومحدودية الخيارات أمام الشخصية الرئيسية.
يعكس التمرين أعلاه المواقف والردود المتعددة إزاء ما هو مُهم وكيف يتم تصوّر أوجه المقاومة والأدوار والقيادة التي يتم الاضطلاع بها في حالات الاضطهاد، لكنه أثار العديد من التساؤلات عند التركيز على قضايا بناء السلام وإدماج المرأة والقيادات النسوية في عمليات بناء السلام، على النحو التالي:
- من الذي يحدد سيناريو مشاركة النساء في عمليات بناء السلام؟
- إلى أي مدى يمكن رؤية النضال والكفاح اليومي في القيادة النسوية لعمليات بناء السلام؟
- هل هناك مساحة تستوعب الاختلافات في الرؤى بين كلا الجنسين فيما يتعلق بإنهاء أعمال العنف؟
من الأهمية بمكان النظر في ردود المشاركات كونها تعكس أوجه عدم تكافؤ القوة من حيث الوضع والمكان الذي تحدثت منه المشاركات. مثلًا، أيدت المشاركات المقيمات خارج اليمن الآراء الواردة في ردود المجموعة الثانية، حيث أكدن أنهن لا يرين أنفسهن قادرات على الصبر والتضحية مثل شهرزاد. على النقيض من ذلك، أيدت غالبية النساء المقيمات داخل اليمن الآراء الواردة في ردود المجموعة الأولى من المشاركات.
في نهاية المطاف، أظهر النشاط قدرة المشاركات على الاستماع لبعضهن دون إسكات صوت من لم يعبرن عن آرائهن بعد، ووافقن على الوجود في نفس المكان رغم اختلافاتهن وانتماءاتهن السياسية المختلفة، وراجعن إجاباتهن ذاتيًا لضمان تشاطر المساحة المخصصة على أساس مُنصف. يمثل ذلك أحد أشكال “تجاهل الامتيازات” كما تطلق عليه الباحثة “سبيفاك” وهو ما بدأ يظهر خلال ورشة العمل، ويؤكد على ضرورة توفير مساحات لا تعتمد أجندات أكبر من الاستماع لبعضنا، وتحديد مسار المناقشات على أساس الاختلافات بين المشاركين والأخذ بعين الاعتبار أوجه عدم تكافؤ القوة.
خواطر شعرية عن الحرب والخوف والسلام والأمن
يمنحنا الشعر قدرة على إدراك عواطفنا والتفكير من خلالها، ويقربنا من التجارب المُعاشة ويدفعنا للاستجابة لها، كما يسمح لنا بإطلاق العنان لمخيلتنا والتفكير بصورة أعمق من الطبيعة المتعاكسة لمعاني الكلمات. وصفت “أودري لورد”، الشاعرة النسوية الراحلة ذات الأصول الأفريقية وأستاذة اللغة الإنجليزية في كلية جون جاي للعدالة الجنائية في نيويورك الشعر كأداة ضرورية للنساء وتجاربهن قائلة:
“ بالنسبة لنا نحن النساء، الشعر ليس رفاهية، بل ضرورة محضة لوجودنا. الشعر يشكل جودة الضوء الموجه نحو آمالنا وطموحاتنا للنجاة والتغيير. يبدأ بلغة، ثم فكرة، ثم أفعال ملموسة. هو الوسيلة لتسمية اللامسمى ليكون فكرة. القصيدة هي رتق لآفاق آمالنا ومخاوفنا البعيدة التي نحتتها تجاربنا الصلدة في الحياة اليومية.[15]“
في اليوم الثالث من ورشة العمل، طُلب من المشاركات تكوين ارتباطات من معانٍ ومرادفات لمفردتي “حرب وخوف”، أظهرت اللغة المستخدمة لوصف الحرب والخوف ارتباطًا مباشرًا بالحياة اليومية، حيث التخيلات السائدة عن المفردتين تمثلها كلمات مثل الموت، والمجاعة، والصراع، والنزوح، التي تنعكس على المعاناة اليومية غير المحكية: الألم، والمرض، والانتظار.
بينما عكست ارتباطات مفردات “سلام وأمن وأمان” اللغة الجيوسياسية المهيمنة لصنع السلام: الوطنية، والوطن، والتنمية، والبنية التحتية. مع هذا، استُخدمت هذه المرادفات برفقة كلمات تعكس المشاعر “الخاصة” والاحتياجات الأكثر فقدًا: مثل الجمال، والفرح، والمغامرة، والرفاهية، ولم الشمل، والكرامة، والاستقرار، والأمل، والطموح، والنمو، والحلم، والمعرفة.
طُلب بعد ذلك من المشاركات ربط الخواطر المتعلقة بالمفهومين (الخوف-الحرب؛ السلام -الأمن/الأمان) لصياغة قصائدهن ثم قراءتها لبعضهن. كتبت إحدى النساء “ننتظر حياة ستعود، فروح اليمني نضالية!”، بينما كتبت أخرى “أنا اليمني ولي شخصيتي الحرة.. لا اليأس ثوبي ولا الأحزان تقتلني”. كتبت مشاركة ثالثة “لطالما آثرت الحرب على الكراهية، وأنشدت مع أوجاع الثكالى.. أغنيات تراتيلية، ورسمت صور الأطفال الضحايا، في لعبة الألوان وأنشوطة الحرية[16].” أتاح التمرين مساحةً للتشافي، تتعاون فيها النساء لا تتنافسن. خلت التمارين من مناقشات حول أي قضايا أو مساعي للبحث عن حلول، بل ركز على سماع المشاركات لآراء بعضهن وفهم وجهات نظر الطرف الآخر.
غياب المساحات الآمنة والخوف من الإقصاء
أقرت العديد من المشاركات -حتى حاملات الشهادات العليا ورئيسات منظمات بارزة -أنهن لا يعبّرن دومًا عما يرغبن قوله في العديد من المنتديات التي تضم جلسات حول السلام وإدماج المرأة. عوضًا عن ذلك، يطرحن ما يُتوقع منهن قوله؛ بسبب الخوف من الإقصاء أو السخرية أو أن يُنظر إليهن كساذجات. وصفت إحدى الناشطات الشابات الأمر قائلة “إن قلت ما أرغب حقًا في قوله، سيسخرون مني أو سيستبعدونني من الفعاليات المستقبلية”[17]، مضيفة أن السلام والأمن بالنسبة لها يعني الاستيقاظ كل صباح والاستمتاع بفنجان قهوة في هدوء دون الشعور بضرورة الكفاح من أجل الحصول على حقوقها الأساسية[18]. عبرت مشاركة أخرى عن معنى السلام والأمن أنه القدرة على عيش حياتها بالطريقة التي ترغب بها دون خوف من أحكام المجتمع عليها[19]. بالنسبة للنساء، فالسلام والأمن يعني الكرامة، وتكافؤ الفرص، والتنقل بحرية داخل اليمن أو السفر إلى الخارج، وكذلك “العيش” بكل بساطة على حد تعبير إحداهن، “هو أن نعيش -أنا وأنت -معًا دون خوف من اللحظة أو من الغد أو من بعضنا البعض”[20].
إحدى النقاط المهمة التي أقرت بها بعض المشاركات، أنهن يبنين مشاريعهن الخاصة ببناء السلام على أساس أجندة الجهة الراعية لها وليس على أساس الاحتياجات الأساسية لمجتمعاتهن. يفعل البعض ذلك للحصول على التمويل. أشارت كولار أبارنا (باحثة ما بعد الدكتوراه) إلى أهمية فهم العلاقات المبنية على الاحتياجات التمويلية عند تقييم آراء وتوصيات المشاركين في عمليات صنع السلام[21]. من جانب آخر، حذرت الباحثة اليمنية والخبيرة في مجال السياسات العامة “سوسن الرفاعي” المشاركات من أن المجتمع الدولي والمنظمات الدولية يفشلون في التمييز بين سياقات الصراع، ويفرضون -عوضًا عن ذلك -أجنداتهم للتعامل مع فجوة اللامساواة القائمة في اليمن بناءً على دراسات سابقة أُجريت على مجتمعات أخرى كأفغانستان أو رواندا أو العراق، متغاضين عن الواقع الفريد الذي يعيشه سكان اليمن[22].
أشارت أخريات -كالناشطة الشابة المُشار إليها أعلاه -إلى معايرة الرجال النساء المنخرطات في مجال السلام أو اللاتي تطورت مفاهيمهن عن السلام بعيدًا عن السرديات المهيمنة في هذا الشأن. مثلًا، تحدثت امرأة من صنعاء كيف تُوصم حملات المناصرة الداعية إلى إنهاء الحرب في شمال اليمن باعتبارها موالاة للتحالف العسكري بقيادة السعودية، مما يعرض النساء في هذه الحالة إلى عنف مزدوج. يُعايرن محليًا بسبب التعبير عن آرائهن والمطالبة بحقوقهن واحتياجاتهن، ويتعرضن للسخرية والإقصاء على المستوى الدولي لعدم التزامهن بالسرديات المهيمنة على عملية بناء السلام وأجندات الإدماج. على هذا الأساس، تنتهي أجندات السلام بنوع من ممارسة العنف عند حدوث مثل هذا الأمر، سواء عن قصد أو دون قصد.
التخلي عن الامتيازات: حين لا تكون أجندة المرأة نسوية بالضرورة
جادلت بعض المشاركات والمتحدثات أن الأجندات النسوية -سواء التابعة للمنظمات الأجنبية العاملة في اليمن أو للمنظمات النسوية اليمنية -تركز غالبًا على السردية المهيمنة لإنهاء الحرب أو السردية النسوية في العالم الغربي[23] المتمثلة في تكافؤ الفرص.
قالت إحدى المتحدثات في ورشة العمل، وهي مستشارة الجندر في مركز صنعاء للدراسات بلقيس اللهبي، إن كثير من نساء محيطها الاجتماعي غير مهتمات كثيرًا بإنهاء الحرب في هذه المرحلة ناهيك عن الاهتمام بتكافؤ الفرص. وأضافت “تهتم النساء بتوفير مصدر دخل ثابت يساعدهن على إطعام أسرهن”[24]. تسلط وجهات النظر هذه الضوء على تعدد أوجه العنف الذي تعرضت له هؤلاء النسوة، وكيف أدى ذلك لتقليل رغباتهن واحتياجاتهن لأبسط الحقوق مثل: النجاة من مجاعة صنعها الإنسان[25]، وضمان سلامتهن الذاتية في منازلهن وداخل مجتمعاتهن. ذكرت ناشطة في حقوق الإنسان أن عدد كبير من النساء والفتيات تعرضن خلال السنوات الأخيرة للعنف الأسري والاتجار بهن لأغراض جنسية[26]، بالتالي سيسهم معالجة العوامل الاقتصادية الكامنة وراء هذه القضايا في منح هؤلاء النسوة قدرًا كبيرًا من السلام والأمان بغض النظر عن توقف المعارك القتالية.
الخاتمة
إعادة تصور هياكل القوة وإعادة كتابة القصة
إن إعادة التفكير جذريًا بهياكل القوة -من حيث العرق والنوع الاجتماعي والطبقة الاجتماعية -عند تناول مسألة إدماج المرأة وتمثيلها يمهد الطريق لتحديد الجهة الممثلة للمرأة اليمنية والشخصيات النسوية التي يجب إشراكها في المفاوضات الرسمية. يضمن ذلك التركيز على تحقيق سلام شامل يستمد جذوره من مبدأ المساواة للجميع، لكنه يتطلب إقرارًا بأن الأفكار المبنية على أساس النوع الاجتماعي أو العرق أو الطبقة الاجتماعية لا تستند إلى حقائق مجردة، بل تأثرت بتجارب تاريخية وممارسات اجتماعية محددة.
ذكرت عدد من المشاركات في ورشة العمل -ممن انتقدن غياب التواصل بشكل عام بين المجموعات النسوية -ميل النساء للتنافس فيما بينهن عوضًا عن التعاون داخل المجتمع المدني وفي المجالات السياسية التي تنخرط غالبيتهن فيها. على النقيض، اعتبرن ورشة عمل “السلام والشعر” مساحة للتشافي شاركن فيها على قدم المساواة رغم اختلافاتهن. وفي مثل هذه المساحات التي تتساوى فيها ديناميكيات القوة، يُمكن بلورة قصص جديدة عن الإدماج والمصداقية.
إن توسيع مفهوم الصراع بهدف إعادة تصور مفهوم الإدماج والسلام يقتضي على تحفيز الممارسات الفنية وتعزيز المعرفة المحلية. بهذا الشكل، يصبح من الممكن التفكير جذريًا فيما يعنيه التمتع بحقوق الإنسان وتوثيق الكفاح اليومي للأشخاص الذين عادة ما يُستبعدون من القرارات المتعلقة بالحرب والسلام. على هذا الأساس، يمكن بلورة قصة جديدة تضمن التفاهم المشترك، وتقدر الاختلافات، وتعكس بيئة تتسم بالمساواة والمصداقية والعدالة، بدلًا عن حل وجهات النظر المتعارضة وتصنيف الناس إما كضحايا أو أعداء.
التوصيات:
توصيات للمجتمع المدني اليمني:
- تضمين الممارسات الفنية في أنشطة المناصرة كورش العمل والندوات التدريبية والتدخلات السياسية الصغيرة الأخرى. يجب أن تُصمم هذه المبادرات تحديدًا كمساحات للتشافي يمكن من خلالها التعبير عن وجهات النظر المختلفة والابتعاد عن السرديات المهيمنة، دون خوف أو أحكام مسبقة.
- تحسين فرص التشبيك حتى تتمكن النساء داخل اليمن وخارجه من تبادل الخبرات ودعم بعضهن، سواء في منابر صنع السلام الرسمية أو غير الرسمية أو في حياتهن وأنشطتهن اليومية.
- استيعاب الكيفية التي تحجب بها السرديات المهيمنة أو المتجاهلة لاحتياجات الأشخاص الذين تسعى منظمات المجتمع المدني إلى مساعدتهم، وتوجيه البرامج نحو الاستجابة للاحتياجات القائمة بناء على التجارب التي يعيشها الناس.
توصيات للمنظمات الدولية العاملة في المجالات الإنسانية والسياسية والتنموية في اليمن:
- تنظيم دورات تدريبية خصوصًا للأشخاص المشاركين في التخطيط الاستراتيجي والبرامج، بحيث يكون التدريب موجهًا نحو التخلي عن الامتيازات وفهم الضرر والتعطيل الذي قد يحدث للأنشطة على المستوى المحلي بسبب عدم التكافؤ المعرفي.
- تضمين آلية لفهم تجارب الأفراد المُعاشة في جهود صنع السلام، بدلًا من الاعتماد على السرديات المهيمنة، وذلك من أجل ضمان تحسّن حقيقي في حياة مختلف فئات المجتمع بالبلاد في مرحلة ما بعد الحرب.
أُصدر هذا الموجز السياساتي في إطار مشروع دعم المرأة العربية على طاولة المفاوضات، الذي ينفذه مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية بالشراكة مع مبادرة الإصلاح العربي وبتمويل من الاتحاد الأوروبي.
- بقولها الخُمس، ما تعنيه الشاعرة اليمنية غزال المقدشية التي رأت النور وسط القرن التاسع العشر هو بني خُمُس وهي أدنى فئة اجتماعية شمالي اليمن آنذاك. شعر غزال المقدشية عارض الظلم المجتمعي. فلاج ميلر، “الكلمات العامة وسياسة الجسد: تأملات في استراتيجيات النساء شاعرات الريف اليمني”، مجلة Journal of Women’s History، مطبعة جامعة إنديانا، المجلد 14، رقم 1، معرف الغرض الرقمي (DOI): 10.1353/jowh.2002.0024، ربيه 2002، ص. 110-111.
- هانز غروندبرغ، “بيان صحفي للمبعوث الأممي الخاص إلى اليمن هانس غروندبرغ حول تجديد الهدنة المبرَمة بوساطة أممية”، مكتب المبعوث الخاص للأمين العام لليمن، 2 أغسطس 2022، https://osesgy.unmissions.org/ar/بيان-صحفي-للمبعوث-الأممي-الخاص-إلى-اليمن-هانس-غروندبرغ-حول-تجديد-الهدنة-المبرَمة-بوساطة-أممية
- انظر على سبيل المثال، “تعليقات المبعوث الأمريكي الخاص لليمن تيموثي ليندركينغ: “الصراع في اليمن -اليوم الأول -الجلسة الافتتاحية”، من مؤتمر الصراع في اليمن: المشهد الحالي وسبر المستقبل، المركز العربي، واشنطن دي سي (العاصمة)، 14 فبراير 2022، https://www.youtube.com/watch?v=KLOgD7T6Tjc&t=540s
- ” مسؤول كبير في الأمم المتحدة يطلع مجلس الأمن “لا نهاية في الأفق للحرب الأهلية في اليمن”، أخبار الأمم المتحدة، 23 أغسطس 2021، https://news.un.org/en/story/2021/08/1098272
- أيمن نبيل، “مداخلة حول التفكير بالسلام في اليمن”، المدنية، 15 فبراير 2021، https://almadaniyamag.com/ar/2021/02/15/peace-in-yemen/
- قدمت غاياتري شاكرافورتي سبيفاك وهي واحدة من أكثر علماء دراسات ما بعد الاستعمار تأثيرًا مصطلح “العنف المعرفي” في مقالتها عام 1988، “هل يمكن للتابع أن يتكلم؟”، لوصف التقويض الفكري ومحو المعرفة غير الغربية. انظر: غاياتري شاكرافورتي سبيفاك، “هل يمكن للتابع أن يتكلم؟” في الماركسية وتفسير الثقافة، المحرر: كاري نيلسون ولورانس جروسبرج (باسينجستوك: ماكميلان، 1988)، ص. 271-313.
- انظر على سبيل المثال، هديل الموفق، “المشاركة الحقيقية للمجتمع المدني يمكن أن تعيد الثقة في عملية السلام”، المركز اليمني للسياسات، يناير 2022، https://www.yemenpolicy.org/ar/المشاركة-الحقيقية-للمجتمع-المدني-يمك/
- صاغت الأستاذ بكلية الحقوق بجامعة كولومبيا كيمبرلي كرينشو مصطلح “التقاطعية” في “إلغاء تهميش التقاطع بين العرق والجنس: نقد نسوي أسود للعقيدة المناهضة للتمييز، والنظرية النسوية، والسياسات المناهضة العنصرية”، منتدى جامعة شيكاغو القانوني: المجلد. 1989: العدد 1، المادة 8، https://chicagounbound.uchicago.edu/uclf/vol1989/iss1/8/. التقاطعية تنظر في أنظمة القمع المتداخلة وتأخذ في الاعتبار جوانب الهوية السياسية والاجتماعية ومنها الجنس والطبقة والعرق، إلخ.
- من أجل الحصول على فهم أفضل للتطبيقات العملية لفكرة الحضور، راجع عمل عالمة النفس والأنثروبولوجيا أميناتا كايرو التي تنظر إلى الإدماج على أنه صياغة جماعية لقصة جديدة من أجل خلق بيئة من المساواة والتقدير: أميناتا كايرو، “الحضور: نهج رواية القصص للتعامل مع التنوع والادماج (أمستردام: أميناتا كايرو للاستشارات، 2021).
- “الخوض في المتاعب” تنطوي على أن يتعلم ويتجاهل الفرد كيفية التعامل مع أموره المهمة. إضافة إلى رواية القصص والتحدث ينطوي هذا الأمر على الاستماع من أجل فهم وجهات النظر المختلفة والتوصل لكيفية التعايش دون الاتفاق أو التعارض بالضرورة. دونا هاراواي، كتاب “الخوض في المتاعب: التقارب في كثولوسين” (دورهام: مطبعة جامعة ديوك، 2016). تقول هاراواي إن المعرفة يمكن أن تكون أكثر موضوعية عندما يفهم من يشكلها مواقفهم بدلًا من ادعاء منظور محايد: دونا هاراواي، “المعرفة القائمة: الأسئلة العلمية في النسوية ومزايا المنظور الجزئي”، الدراسات النسوية، خريف 1988، المجلد 14، رقم 3، ص. 575-599.
- سبيفاك، “هل يمكن للتابع أن يتكلم؟”
- باولو فريري، كتاب تعليم المقهورين، إصدار الذكرى الثلاثين، الطبعة الثالثة، (نيويورك: بلومزبري أكاديمي، 2000).
- في كتاب ألف ليلة وليلة التي جُمعت خلال العصر الإسلامي الذهبي، يقتل الملك شهريار زوجته الخائنة ومن ثم قرر الانتقام بأن يتزوج كل يوم من عذراء ويقتلها في اليوم التالي. تستخدم بطلة الرواية شهرزاد رواية القصص لإقناعه للنجاة بحياتها وذلك بأن تحكي للملك شهريار كل ليلة قصة وتجعله يرغب في سماع المزيد. بعد 1,000 حكاية تخبر شهرزاد الملك أنه لم يعد في جعبتها المزيد من القصص، لكنه كان قد وقع في حبها وأبقى على حياتها.
- مشاركة بورشة السلام والشعر بمركز صنعاء بتأريخ 3 ديسمبر 2021.
- أودري لورد وروكسان جاي، الأعمال المختارة لأودري لورد، (نيويورك: نورتون وشركاه، 2020)، ص. 24.
- عمل المشاركات بورشة السلام والشعر بمركز صنعاء بتأريخ 4 ديسمبر 2021.
- ناشطة شابة بورشة السلام والشعر بمركز صنعاء بتأريخ 3 ديسمبر 2021.
- مشاركة بورشة السلام والشعر بمركز صنعاء بتأريخ 3 ديسمبر 2021.
- مشاركة بورشة السلام والشعر بمركز صنعاء بتأريخ 3 ديسمبر 2021.
- وجهات نظر عبرت عنها العديد من المشاركات المقيمات في اليمن وخارجه بورشة السلام والشعر بمركز صنعاء بتأريخ 3 ديسمبر 2021.
- تحدثت باحثة ما بعد الدكتوراه في قسم الثقافات بجامعة هلسنكي أبارنا عن الروايات الرئيسية المزعزعة للاستقرار خلال ورشة عمل السلام والشعر بتأريخ 2 ديسمبر 2021.
- تحدثت خبيرة السياسة العامة في مساواة النوع الاجتماعي والإدماج سوسن الرفاعي عن الأمن الإنساني كإطار لتطوير حلول محددة السياق لضمان سلامة الناس وسبل عيشهم بورشة السلام والشعر بمركز صنعاء بتأريخ 3 ديسمبر 2021.
- في كتاب نسوية من أجل 99، يقول المؤلفون إن الحركة النسوية اليوم تركز على مجموعة صغيرة من النساء ومتطلباتهن المتمثلة في تأمين مناصب قوية مساوية لتلك التي يشغلها الرجال المهيمنون على العالم، ويتساءل المؤلفون “هل سنواصل السعي وراء” هيمنة تكافؤ الفرص” والكوكب يحترق؟ أم سنعيد إعادة تصور عدالة النوع الاجتماعي في شكل مضاد للرأسمالية، تصور يقودنا إلى مجتمع جديد بعد الأزمة الحالية؟”. سينزيا اروزا وتيثي بهاتاشاريا ونانسي فريزر، نسوية من أجل 99٪: مانفيستو. (لندن: فيرسو، 2019)، ص 4-5.
- اللهبي في تعليق للمؤلفة خلال ورش العمل المنظمة في 2 ديسمبر 2021. خاطبت اللهبي المشاركين في ورشة العمل المعقودة في 2 ديسمبر 2021 حول روايات الحرب والسلام السائدة في اليمن وكيفية التعامل معها.
- “اليمن يتجه نحو مجاعة من صنع الإنسان”، أوكسفام، 23 مارس 2017
- ناشط حقوقي، ورشة عمل السلام والشعر، عبر الإنترنت، مركز صنعاء، 2 ديسمبر 2021