إصدارات الأخبار تحليلات تقرير اليمن أرشيف الإصدارات

مشاركة القطاع الخاص في مرحلة ما بعد النزاع في اليمن

Read this in English

أمضى اليمن معظم سنواته الستين الماضية غارقاً في نزاعات مسلحة وأزمات سياسية، حيث كانت الاضطرابات والقلاقل الأمنية من أبرز العوامل التي أعاقت نضج القطاع الخاص وقيام دولة قوية ذات مؤسسات عامة ناجعة. يتألف القطاع الخاص اليمني بغالبيته العظمى من شركات صغيرة أو صغيرة جداً، علماً أنها توفّر لما يقرب من 70% من اليمنيين العاملين مصادر أرزاقهم. بالمقابل توفر الزراعة الريفية تقليدياً مصدر عمل لأكثر من نصف سكان البلاد.

منذ اكتشاف حقول نفطية قابلة للبقاء تجارياً منتصف ثمانينات القرن الماضي، ومن ثم زيادة الإنتاج النفطي في اليمن خلال التسعينات، تأثر إجمالي الناتج المحلي السنوي للبلاد تأثراً كبيراً بمستويات إنتاج النفط وتقلب أسواق الطاقة العالمية. تخلق صادرات النفط حالة “المرض الهولندي” في اليمن، حيث تضخم قيمة العملة الأجنبية الناتجة عن مبيعات النفط من قيمة العملة المحلية، مما يعوق تطوير القطاع الخاص لحالة نمو موجه نحو التصدير. كما أن ارتفاع قيمة الريال اليمني جعل الاستيراد أرخص نسبياً، مما أعاق تطور الصناعة المحلية. تترك هذه العوامل مجتمعة اليمن معتمداً على الاستيراد بالنسبة لمعظم السلع.

ثمة العديد من التحديات الأخرى لتطوير القطاع الخاص، بما في ذلك العوائق البيروقراطية وضعف البنية التحتية وقلة مهارة القوى العاملة إلى حد كبير، بالإضافة إلى تردي المناخ الاستثماري والافتقار إلى التمويل، واعتماد الاقتصاد المفرط على النفط، وانتشار الفساد، وضعف الدولة، والنخبة الباحثة عن الريع وذات المصلحة الراسخة في خنق الإصلاحات.

وقد شهدت السنوات الـ25 الماضية بعض التقدم: فقد تمت إزالة بعض حواجز الاستيراد وجرى تبسيط الرسوم الجمركية؛ وأدت الإصلاحات في تسجيل الأعمال التجارية والقضاء على متطلبات الحد الأدنى لرأس المال إلى خفض الوقت والتكلفة اللازمة لبدء نشاط تجاري؛ وجرى تخفيض ضرائب الشركات بشكل كبير ومتناسق؛ كما حدث انخفاض ملحوظ في المنازعات المتعلقة بالعقارات؛ وافتُتحت سوق للخدمات البنكية الإسلامية؛ وأنشأت الحكومة سجلاً ائتمانياً وقدمت قانوناً بنكياً للتمويل الأصغر.

ومع ذلك، فإن آثار النزاع الجاري، والذي بدأ في عام 2014 واحتد بشكل كبير في عام 2015، كانت مدمرة. وقد تقلص الناتج الاقتصادي بنسبة تراكمية بلغت 40.5% منذ عام 2015. وأدى تعليق صادرات النفط إلى إضعاف الإيرادات العامة وقطع إمدادات البلاد الأساسية من العملات الأجنبية. بدوره أدى استنزاف الاحتياطيات وأزمة السيولة النقدية المحلية إلى قيام البنك المركزي اليمني بوقف معظم مرتبات القطاع العام في أغسطس / آب 2016 وإنهاء تمويل الواردات. إلى جانب نقل مقر البنك المركزي من صنعاء إلى عدن في سبتمبر / أيلول 2016، أعاقت هذه الأزمة قدرة البنك المركزي اليمني على حماية قيمة الريال اليمني. وبذلك انخفضت قيمة الريال من 215 ريالا مقابل الدولار الواحد في بداية النزاع إلى 490 ريالا مقابل الدولار عند كتابة هذه السطور.

مع انخفاض قيمة العملة، ارتفعت أسعار الواردات وانخفضت القوة الشرائية للفرد. كما تأثر سعر الواردات بشدة بسبب الحصار البحري الذي فرضته قوات التحالف الذي تقوده السعودية – وحالياً العملية العسكرية المزمع القيام بها لاستعادة السيطرة – على الموانئ الغربية للبلاد (ولا سيما الحديدة والصليف) مما أدى لانخفاض كبير في النقل التجاري والإنساني عبر هذه الموانئ، وزيادة وقت وتكلفة نقل الواردات التي تمر عبرها. كل هذه العوامل سهّلت الوضع الحالي اليوم، حيث يعيش 8.4 مليون يمني على حافة المجاعة و22 مليون بحاجة ماسة إلى الدعم الإنساني، فيما وصفته الأمم المتحدة بأكبر كارثة إنسانية في العالم.

كان من أسباب تزايد التكاليف على الشركات انعدام الأمن وندرة مدخلات الأعمال، في حين تسببت خسارة قاعدة العملاء والطلب وانخفاض القوة الشرائية العامة بخسائر في الإيرادات المالية. كما أن التأذي المادي الذي لحق بالبنية التحتية العامة والخاصة أضر بشدة بقدرة الشركات على العمل. اعتباراً من عام 2017، أدت هذه الخسائر المرتبطة بالنزاع إلى قيام شركات القطاع الخاص ​​بخفض ساعات العمل إلى النصف وسطياً، في حين بلغت نسبة تسريح العمال 55% من إجمالي القوة العاملة، بينما أكثر من ربع شركات القطاع الخاص العاملة في الصناعة والتجارة والخدمات توقفت عن العمل. كما أن نقص العملات الأجنبية وأزمة السيولة بالعملة المحلية وضعت المستوردين أمام تحديات وتكاليف متزايدة. ولكن حتى في مواجهة هذه التحديات، لا يزال القطاع الخاص اليمني أحد العوامل الرئيسية التي تمنع تدهور الحالة الإنسانية الملحة في اليمن إلى وضع أسوأ بكثير، وذلك بسبب دوره في تسهيل استيراد الغالبية العظمى من الغذاء والوقود في البلاد.

في دراسات سابقة حول تأثير النزاع على القطاع الخاص في الدولة، تبين أن الحرب تميل إلى خلق فراغ في السلطة يتيح المجال للتجارة غير الشرعية وصعود “اقتصاد الحرب”، حيث يتلقى العاملون في السوق السوداء والرمادية مبالغ كبيرة من السيولة، ويخرجون بذلك من قطاعات الاقتصاد الرسمي. وحتى بعد تحقيق السلام، ستبقى الشكوك بشأن متانة هذا السلام تثني المستثمرين عن المغامرة في البلاد، كما جرى تقليدياً، ولا سيما فيما يتعلق بالاستثمارات في الأصول الثابتة وغير السائلة. لكن بدون تطوير القطاع الخاص سيبقى من المستبعد للغاية حدوث إعادة إعمار أو تحقيق أي استقرار اجتماعي واقتصادي واجتماعي بعد انتهاء النزاع.

لا يمكن أن يُتوقع من القطاع الخاص الأولي أن يعيد بحد ذاته تطوير النمو الاقتصادي ودفعه مباشرة بعد حل النزاع. وهكذا، تقدم هذه الورقة التوصيات التالية إلى الحكومة اليمنية وأصحاب المصلحة الدوليين بشأن التدخلات الاقتصادية اللازمة لتحفيز تطوير القطاع الخاص بعد النزاع في اليمن.

أبرز التوصيات

  • يجب أن تكون التدخلات حساسة للنزاعات. لقد أدى النزاع المتعدد الأوجه والمتواصل في اليمن إلى إضعاف الدولة الرسمية ونشاط القطاع الخاص الرسمي، مما سمح بظهور لاعبين جدد في اقتصاد الحرب. لذا يجب التحقق من التدخلات المبكرة لضمان عدم تمكينها الجهات المنخرطة في النزاع والمفسدين المحتملين للسلام من الحد من تطوير القطاع الخاص الرسمي وتهديد الاستقرار الاقتصادي الاجتماعي الشامل. ينبغي على الأطراف الفاعلة الدولية التي تتدخل على أرض الواقع إنشاء آلية شاملة تشارك فيها الجهات الفاعلة التجارية المحلية بشكل هادف من أجل توفير دعم قوي في تعزيز بناء السلام وتمكين البيئات التجارية الملائمة.
  • بناء قدرات الأعمال المحلية لتنفيذ البرامج وخلق فرص العمل. يجب أن يعمل أصحاب المصلحة لضمان امتلاك الشركات المحلية للأدوات والمهارات اللازمة للاستفادة من التدخلات الدولية. وينبغي أن يشمل ذلك تسهيل نقل المعرفة، وخاصة المعرفة المتعلقة باستخدام التكنولوجيا في الأعمال التجارية، من خلال توفير برامج تعليم وتدريب للقوى العاملة في اليمن.
  • ينبغي أن يكون القطاع الزراعي هدفاً لأي تدخل مبكر. فالزراعة، التي كانت توظف الجزء الأكبر من القوى العاملة اليمنية قبل النزاع، تأثرت بشكل خاص بديناميكيات الحرب في اليمن، ويجب أن تكون هدفاً لأي تدخل مبكر لتعزيز الاقتصاد. على سبيل المثال، يمكن إنشاء برامج لدعم الأعمال التجارية الصغيرة في الزراعة وتقديم التدريب والمساعدة الفنية للمزارعين وكل من يأمل في إنشاء مشاريع صغيرة ومستدامة ذاتياً.
  • استهداف الشركات الصغيرة والمتوسطة ورواد الأعمال. على الجهات الفاعلة الخاصة مساعدة الحكومة والمانحين الدوليين في تطوير آليات مالية مشتركة لتمويل المشروعات الصغيرة والمتوسطة (SMEs) وحاضنات الأعمال. كما ينبغي أن تستهدف هذه الإجراءات النساء والشباب على وجه التحديد، وأن تساعدهم على بدء الأعمال التجارية، نظراً لضعف تمثيل هذه المجموعات في أنشطة القطاع الخاص.
  • ضمان وصول القطاع الخاص إلى التمويل. على المدى القصير، ينبغي للحكومة اليمنية وجميع أصحاب المصلحة المعنيين دعم العودة الكاملة للقطاع المالي الفعال، بما في ذلك تثبيت البنك المركزي اليمني. على المدى الطويل، ينبغي توجيه الجهود لقيادة الإصلاحات في اللوائح البنكية وضمان وجود منصة مناسبة للمستثمرين الأجانب لإنشاء بنوك في البلاد، فضلاً عن تأمين تدفق التحويلات. وفي هذا الصدد، ينبغي على الحكومة اليمنية إنشاء آلية لضمانات الاستثمار لجذب تحويلات المغتربين اليمنيين للمساهمة في الانتعاش الاقتصادي الوطني.
  • يجب أن تكون مؤسسات التمويل الأصغر ذات الخبرة في اليمن هدفاً رئيسياً لجميع أصحاب المصلحة لدفع المزيد من الشمول المالي في جميع أنحاء اليمن. كما ينبغي تمكين البنوك وشركات التمويل الأصغر من تقديم خدمات مالية للأفراد وخدمات إدارة النقد للشركات الصغيرة. علاوة على ذلك، ينبغي تعزيز الخدمات البنكية عبر الهاتف المحمول في اليمن لتوسيع نطاق الوصول إلى المقترضين ذوي الدخل المنخفض.
  • إصلاح بيئة الأعمال. يجب على الحكومة إنشاء نظام ضريبي مناسب للأعمال، ومؤسسات مكافحة الفساد، وتشجيع الاستثمارات عبر تخفيف بعض اللوائح التي تقيد الاستثمارات الأجنبية وتثبط الشركات الناشئة. على وجه الخصوص، على الحكومة التعامل والاستثمار في القطاعات التحويلية مثل النقل والخدمات المالية والاتصالات والسياحة وإنتاج الطاقة وتجهيز الأغذية وتوزيعها.
تحميل الملف كاملاً
مشاركة