مركز صنعاء للدراسات الإستراتيجية
كتاب جمع مؤلفه أدوات صياغته من أطراف التاريخ والفكر والسياسة والسيرة الذاتية وحقوق الإنسان عندما تساءل “أيعقل أن يكون القتيل بلا قاتل؟ ولمصلحة من يا ترى تبييض الشناعات والفظاعات وتعويم الجريمة”. دارت تفاصيل الكتاب حول صراع الرفاق من “الطغمة” و “الزمرة” في أحداث 13 يناير 1986 كمحور أساسي، وكتبه أيضا في فترة صراع الفرقاء اليمنيين خلال الحرب الراهنة (2018)، كفصول قصيرة مبنية على مقالات مطولة فمؤلفه في الأساس صحفي من طراز رفيع، وصف كتابه بأنه “شهادات سياسية”، لكنه أكثر من ذلك بكثير.
عرف منصور هائل نفسه من خلال المقدمة، والفصل الأخير (هذيان الحطب)، ملخصا انتماءه الحالي بـ”لست من عدن أو من صنعاء، ولا أنتمي إلى أي جهة ولا جبهة في هذه البلاد المنخورة بحراب الجهات والجبهات”، “أعرف برسوخ انني أقف على مسافة واحدة من الغيم والقش، من السراب والتيه والمرايا، وأنني مترحل بحذر وسلطنة، وليس بمقدوري تعريف نفسي بغير هذه الصفة”. وحاليا لم يعد منصور يحس بالانتماء “إلى العالم، ولا إلى وكن ولا على قرية أو جماعة أو قبيلة”، وهو امتداد بما قاله في المقدمة: “لا رئيس لي سوى راسي”، وقد تأثر بأحداث يناير التي جرت وهو في العشرين من عمره، فحكمت عليه أطلال الجماجم والخرائب التي شاهدها يومها بـ “الهرم المبكر والشيخوخة المستعجلة”.
ألف منصور هذا الكتاب -الذي يعيد نشره مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية بالاتفاق مع الكاتب – بدافع الكشف عن أسرار يناير لتجاوزها وإقامة عدالة انتقالية تجعلها من الماضي “الذي لا يمضي”، وحتى لا يستمر المجرمون في الإفلات من العقاب. ولأن رفاقه رفضوا كشف ما لديهم من معلومات حول تلك الفترة الدموية، تحمل المسؤولية بشكل شخصي، وفقا لمبدأ “الدفاع عن النفس”، والهروب من “عقدة الناجي”، “سأكتب عن يناير حتى لا تتكرر التجربة”.
ينطلق الكاتب من أحداث 13 يناير 1986، ويدخلها من قصة رفيقه فاروق علي أحمد، الذي تم إعدامه على خلفية تلك الأحداث ضمن كوكبة من الكتاب والمثقفين أفقدت منصور معظم أصدقائه ورفاقه. وأعدم فاروق بتهمة الكتابة والتنظير كما قال المؤلف، فكان مرثية لفاروق أحمد، وكانت جغرافية الكتاب هي عدن، مدينة فاروق متتبعا مسارات تحولها وأطيافها من عهد الاستعمار الإنجليزي حتى اليوم. ومن سجن الفتح قبل الوحدة حتى سجن بير أحمد اليوم، ومن الميناء الثاني في العالم ومدينة التعايش والتنوع إلى مدينة تقاسمها الميليشيات والقراصنة، فكان مرثية لعدن، وتوسع في عرض المشهد ليشمل اليمن كلها وكيف أن السياسة فيها كانت وما زالت “ممارسة فتوحاتية وغنائمية وانتحارية” فكان مرثية لليمن. كان الحزب الاشتراكي اليمني الذي يتحدث عنه منصور بضمير الملكية (حزبنا) أبرز الأطراف اليمنية التي دار حولها معتبرا صراع يناير بين رفاق الحزب نشب من أجل السلطة و “قصم ظهورنا وأعمارنا وأهدر أحلامنا وآمالنا وفرصنا في الحصول على رخصة للإقامة في العصر والتاريخ”، فكان مرثية لمنصور هائل وحزبه الاشتراكي اليمني أيضا. وبمهارة عالية تناول كل ذلك في سياق واحد معتبرا صراع اليوم امتدادا لصراع الأمس عارضا معطياته لدعم هذه الفرضية بأسلوب لا يمتلكه إلى قلة قليلة من الكتاب.
اختزل المؤلف وصف أحداث يناير بأنها “كانت أكبر عملية انتحار جماعي وعلامة فارقة وصارخة على الإخفاق في إدارة الخلاف والاختلاف”، ووصف الاغتيالات والتصفيات التي شهدتها تلك الحقبة بين رفاق الحزب الاشتراكي اليمني، وكان المتهم رقم (1) فيها هو “المثقف في ذلك التاريخ والسياق وحتى يوم الناس هذا”، مستعرضا الإخفاقات السياسية التي جعلت اليمنيين شمالا وجنوبا يتوحدون “بقتل رؤسائهم السابقين وتشريدهم حد التطابق” معتبرا أن صراع يناير نتج عن ضغوط موروث الانقسام بين الأقوام والجماعات المحلية، وامتدادا للاكتفاء بالكفاح المسلح وتمجيده، منذ صراع الجبهة القومية وجبهة التحرير قبل جلاء الإنجليز، وأنها استهدفت (الرمز) ابتداء بقحطان الشعبي، ثم قادة التجربة الثورية الذين كان مصيرهم “القتل، الاعتقال، أو النفي”.
سرد المؤلف دور الكثير من الأسماء والجهات والدول، وتحدث بإعجاب كبير عن دور عبدالله باذيب التنويري والثقافي في جنوب اليمن كرائد للنهضة الثقافية والتعليمية، وكيف أن غيابه المحفوف بالغموض، قد سهل للهواة والطارئين على اليسار دخول ملاعب السياسة باعتبارهم قيادات تاريخية “متهافتة في معظمها” كما قال، حيث أدت وصفاتهم إلى تحويل عدن إلى “أرض محروقة” بدلا من تنظيرهم عن تحويلها إلى “جنة للاشتراكية”.
عن تفاصيل أحداث يناير، سرد المؤلف بكثافة تأثير الأحزاب اليسارية العربية التي لعبت دور الوساطة بين أطراف الصراع وأبرزها علي عنتر وعلي ناصر محمد باعتبارها جهود قال بأنها “حميدة وغير حميدة”، وتعامل قادة الحزب معهم بنوايا حسنة، وموقف موسكو، وكيف جرى إعدام كوكبة المثقفين والكتاب بمشاركة أبناء القتلى من الطرف المنتصر في صراع يناير، أو أبناء “الشهداء الاستراتيجيين المثيرين للكثير من الريبة”، وتحول شعارات المرحلة من “لا صوت يعلو فوق صوت الحزب” إلى “لا صوت يعلو فوق صوت الحرب”، وكيف تم الغدر بعبدالفتاح إسماعيل وقتله “على يد واحد من أعضاء فريقه المعارض” في اليوم الخامس من “الفوضى العظيمة”، لأن بقاءه حيا كان سيمنع بروز شخصية أخرى منافسة له.
رأى المؤلف أن الكتل الاجتماعية في اليمن لم تنصهر بما فيه الكفاية لتشكيل قوى اجتماعية متجانسة نسبيا، كسمة للمجتمعات المتخلفة، معيدا تكرار الصراعات إلى خلفيات قبلية ونفعية، بدليل اندلاع أحداث 28 يناير 2018 في عدن بين قوى تشكل امتدادا لأطراف صراع يناير 1986 كنسخة مكررة منها.
يربط المؤلف ببراعة بين ظهور النفط قبل الوحدة على حدود الشطرين، وبين مساعي إعلان الوحدة بين شطري اليمن، وبين اكتشافات النفط بعد الوحدة في مناطق محددة وحرب صيف 1994، ليعيد تسمية اتفاقية الوحدة بـ “صفقة الوحدة بين عدن وصنعاء”، عارضا رأيه في قضية الفيدرالية التي ظهرت في خضم الصراع والتفكك في اليمن والعراق وليبيا، وأهداف التحالف من التدخل في اليمن، بالإشارة إلى موقع اليمن وأهميتها وتركيبتها الديمغرافية، ودورها في الصراع الراهن.
في الفصول الأخيرة ربط منصور هائل أحداث اليوم وتدخل التحالف العربي، وانقلاب الحوثيين على السلطة، واغتيال شباب التنوير وأئمة المساجد في عدن، بما سبقها من أحداث، وبدور سياسيي تلك المرحلة المستمر بعد عملية “تبييض” أعادتهم إلى الواجهة كدعاة سلام، وهم جزء من عمليات الصراع التي سهلت للجماعات المسلحة والإرهابيين التحكم بمصير البلد ومدينة عدن على وجه التحديد، لدرجة حولت الشرعية إلى رهينة لسطوة الميليشيات المسلحة.