إصدارات الأخبار تحليلات تقرير اليمن أرشيف الإصدارات

ضرورة بناء شرعية الدولة في اليمن

Read this in English

ملخص تنفيذي

تنزيل الورقة PDF

إن شرعية أية سلطة حاكمة ترتبط بشكل مباشر وبغض النظر عن الطريقة التي وصلت بها لموقع المسؤولية، بمستوى الخدمات العامة التي تكفلها وتوفرها هذه السلطة لمواطني الدولة، وقدرتها على ترسيخ الاستقرار وتعزيز الأمن وفرض سيادة القانون في البلد، وقد أدى الصراع المستمر في اليمن منذ أكثر من ثلاث سنوات إلى تراجع مستويات الخدمات العامة والاستقرار والأمن وفرض سيادة القانون بشكل كبير، وهذا يضع شرعية السلطة القائمة في مأزق حقيقي، فتراجع مستويات الخدمات العامة والأمن والاستقرار، المفترض أن تكون مسؤولية السلطة وفقا للعقد الاجتماعي بينها وبين الشعب صاحب المصلحة، يؤدي إلى تراجعها أيضا.

منذ نشأتها عام 1962 وحتى توحدها مع دولة اليمن الديمقراطية (اليمن الجنوبي) وإعلان الدولة اليمنية الموحدة (الجمهورية اليمنية) في مايو1990، شهدت الجمهورية العربية اليمنية (اليمن الشمالي) عدداً من الانقلابات والحروب الأهلية المتكررة، وفي جنوب اليمن مارست سلطات جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية حكما استبداديا من عام 1967 حتى اندلاع حربها الأهلية (يناير 1986) التي مثلت ذروة صراعات أجنحة السلطة والحزب (الاشتراكي) فيها.

بعد توحيد الشمال والجنوب في دولة واحدة عام 1990، ازداد التوتر بين قيادات الدولتين السابقتين حول كيفية تقسيم السلطة والموارد، مما أدى إلى نشوب حرب صيف 1994. تلى انتصار علي عبد الله صالح الحاسم في تلك الحرب سنوات من تجميعه/استحواذه على السلطة والقرار، وفي نهاية المطاف انتهاك أحكام الدستور اليمني. وبدأت المعارضة السياسية في عام 2000 تثير الأسئلة بشكل متزايد حول شرعية حكم صالح، وبلغت ذروة تلك التساؤلات في انتفاضة عام 2011، فالصراع على السلطة السياسية لا يمثل تطوراً جديداً في اليمن، بل هو صراع مستمر تتفاوت حدته وتختلف أساليبه بين مرحلة وأخرى.

في أعقاب انتفاضة 2011، حاولت مبادرة مجلس التعاون الخليجي التي ترعاها السعودية بدرجة أساسية دعم شرعية السلطة اليمنية الناتجة عنها، التي بموجبها صعد الرئيس عبد ربه منصور هادي للرئاسة خلفا لصالح، وتم الاعتراف الرسمي به من قبل المجتمع الدولي، ضمن إجراءات أخرى تضمنتها المرحلة الانتقالية المحددة في المبادرة، إلا أن العملية الانتقالية تراجعت، وتغيرت مساراتها بسيطرة قوات الحوثيين على صنعاء في سبتمبر عام 2014، وما نتج عنها من تطورات وتداعيات لا زالت مستمرة.

الآن، وبعد عدة سنوات من الصراع، خسرت حكومة هادي معظم الدعم السياسي الذي كانت تتمتع به في السابق. إلا أن بعض القادة السياسيين ما زالوا حلفاء لهادي شكليا للاستفادة من شرعية لا تزال تعلق على حكومته المعترف بها دولياً. ومع ذلك، ففي المناطق التي تدعي الحكومة المعترف بها دولياً السيطرة عليها، غالباً ما يتجاهل الزعماء المحليون سياساتها أو يتحدونها علانية. حيث لا تستطيع حكومة هادي ولا سلطة الأمر الواقع للحوثيين في صنعاء تقديم الخدمات الأساسية للشعب اليمني. أما في جنوب اليمن، فقد اكتسبت حركة الانفصال قوة مدعومة جزئياً من دولة الإمارات العربية المتحدة. ومع استمرار الصراع، تزداد أزمة شرعية السلطة في اليمن.

في حين لا يزال التساؤل حول وجود/عدم وجود موارد أو إرادة سياسية لمعالجة أزمة شرعية السلطة في اليمن قائما، فإن هناك العديد من السبل التي يمكن لأصحاب المصلحة الرئيسيين اتباعها لتحقيق هذه الغاية (تعزيز شرعية السلطة اليمنية المعترف بها)، يمكن تلخيصها في التوصيات التالية:

  • مع استمرار النزاع، يجب على الحكومة اليمنية:اتخاذ خطوات لحماية ما تبقى من مؤسسات الدولة، والبدء في العمل على احتكار القوة من خلال دمج جميع الوحدات العسكرية والأمنية تحت قيادة موحدة؛ وتمويل الخدمات الأساسية من خلال استئناف استخراج النفط؛ والعمل بشكل وثيق مع السلطات المحلية لمعالجة نقاط الضعف المؤسساتية على المستويين المركزي والمحلي؛ وإعادة الطاقم الحكومي المقيم في الخارج للعمل من داخل البلاد.
  • يجب على الحكومة اليمنية خلال العملية الانتقالية في مرحلة ما بعد الصراع الجاري:البدء بإصلاحات عبر مؤسسات الدولة لتعزيز المشاركة الواسعة والشفافية والمساءلة؛ وضمان أن تكون العملية الانتقالية في مرحلة ما بعد إقرار السلام مصممة لتكون شاملة ومعبرة عن الهياكل الاجتماعية والسياسية للبلد؛ والتأكيد على نهج “من الأسفل إلى الأعلى” في تصميم العملية الانتخابية والسياسية؛ وإدراك أن مركزية السلطة السابقة لم تعد قابلة للتطبيق؛ إضافة إلى الاعتراف بالحاجة إلى العدالة الانتقالية لمعالجة المظالم من النزاعات السابقة وسوء المعاملة.
  • يجب على أعضاء التحالف العسكري بقيادة السعودية أن:يغيروا عقليتهم التعامل مع اليمن كأمة بحد ذاتها بدلاً من اعتبارها ميدانا لمتابعة أجنداتهم الجيوسياسية والإقليمية. وهذا يستدعي الامتناع عن دعم الجماعات المسلحة الوكيلة غير التابعة للدولة اليمنية؛ وتبني آليات تعاونية وفعالة أكثر شفافية لتوفير الدعم الإنساني في اليمن؛ في حالة حدوث عملية انتقالية في مرحلة ما بعد الصراع، إضافة للامتناع عن التدخل في كيفية اختيار اليمنيين لطريقة إعادة بناء هياكلهم الاجتماعية والسياسية.
  • يجب على المجتمع الدولي:التأكيد على أن سيادة واستقلال الدولة اليمنية قضية أساسية في تصميم العمليات السياسية المستقبلية والحكومة الانتقالية. من خلال إدراك أن لليمن هيكل اجتماعي وسياسي معقد، وأن فهمه هو الخطوة الأولى نحو المساعدة في تشكيل عمليات السلام والعمليات السياسية المقبلة؛ والمساعدة في تأسيس عملية انتقالية شاملة تشارك فيها جهات خارج إطار الأحزاب السياسية التقليدية.

مقدمة

غالباً ما يشار إلى الحكومة اليمنية بقيادة الرئيس عبد ربه منصور هادي، اختصارا بأنها “الشرعية”. وعلى مدار السنوات الست الماضية، أكد المجتمع الدولي باستمرار أنه يعتبر هادي وحكومته السلطة الشرعية الوحيدة في اليمن. إلا أن المفارقة هي أن حكومة هادي – التي لم يكن لديها سوى قبضة هزيلة على السلطة لفترة طويلة – قد فقدت قدرتها على الحكم بشكل شبه كامل، ويعتبرها كثير من اليمنيين ذات سيادة اسمية فقط. فعلى سبيل المثال، في المناطق المفترض أن الحكومة المعترف بها دولياً تسيطر عليها، يتبع القادة المحليون علناً أجنداتهم الخاصة.

فقدت كل من حكومة هادي وخصمها اليمني الرئيسي في الصراع الدائر (الحوثيون)، ثقة الناس الذين يفترض أنهم يحكمونهم. كان هذا أساساً نتيجة لفشل الطرفين في تلبية الاحتياجات الأساسية للسكان. كما اكتسبت الجماعات الانفصالية في جنوب اليمن قوة وحضورا متزايدا، بينما أدى تدخل التحالف العسكري بقيادة السعودية لدعم الحكومة اليمنية في الوقت نفسه إلى تقويض سلطة هادي وشرعيتها على الأرض.

كما ستبين هذه الورقة، فإن أزمة شرعية الدولة الحالية، للأسف، لا تمثل انحرافاً تاريخياً في اليمن. فقبل الوحدة (1990)، افتقرت كل من الجمهورية العربية اليمنية (شمال اليمن) وجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية (جنوب اليمن) إلى عقد اجتماعي متين بين الدولة والشعب. ونتيجة لذلك، واجهتا بانتظام موجات من عدم الاستقرار والنزاعات. وبعد الوحدة استمرت التوترات حول الشرعية بين قيادات الدولتين السابقتين وداخلهما، واندلعت بسببها حرب صيف عام 1994. وفي السنوات التالية، توجت معارضة الهيمنة السياسية للرئيس علي عبد الله صالح في نهاية المطاف بانتفاضة عام 2011 وتبددت شرعية حكمه، وشهد العام التالي ترتيبات انتقالية عنوانها الأبرز تنحي صالح، وتولي هادي رئاسة الدولة. لكن، لم يكن هذا الترتيب الانتقالي أفضل بكثير في التأسيس لشرعية الدولة.

بشكل عام، تقيّم هذه الورقة جذور أزمة الشرعية هذه قبل وبعد الوحدة عام 1990، والعلاقة بين الدولة والمواطن وكيف تعكس، أو تفشل في تمثيل، الهياكل الاجتماعية للبلاد والتعبير عنها،[1] وجهود المجتمع الدولي التي سعت إلى تقوية شرعية الدولة في اليمن، ولكن في هذه العملية قوضتها في الواقع.[2] كما تعرض الورقة الخطوات التي يمكن أن تبدأ بها الدولة اليمنية في إعادة بناء عقداً اجتماعياً مع الشعب الذي تدعي حكمه.

شرعية الدولة في السياق اليمني

تعتبر “الشرعية” على نطاق واسع عنصراً أساسياً في سيادة الدولة. غير أن مفهوم الشرعية، كبنية وإدراك بشري، ينطوي على درجة من الغموض الذاتي. إذ ستقارب هذه الورقة شرعية الدولة بشكل عام بوصفها “العقد الاجتماعي”[3] بين الدولة والشعب ، حيث يوافق الناس، ضمناً أو صراحة، على الخضوع لسلطة الدولة مقابل الفوائد – مثل الخدمات والأمن – التي توفرها الدولة. وبالتالي فإن شرعية الدولة هي الاتفاق المفهوم حول كيفية ممارسة السلطة وتوزيع الموارد.[4] عادةً ما يُفهم احتكار الدولة للقوة على أنه ضروري لشرعنتها. كذلك، كلما شعرت المجموعات المتباينة المختلفة داخل المجتمع بأن مصالحها مشمولة وممثلة من قبل الدولة، ستكون شرعية الدولة أكبر. وهكذا، ما زال إرث اليمن الضعيف من شرعية الدولة عاملاً رئيسياً في عدم الاستقرار وغياب الأمن المزمنين في البلاد.

لم تتطور سلطة الدولة في اليمن على هيئة نموذجية (الدولة الوستفالية). فعلى مدار تاريخها، سعت القوى الحاكمة – أو الساعية للحكم – بشكل عام إلى ضمان موقفها ليس من خلال إبرام عقد اجتماعي مع السكان، بل من خلال إنشاء تحالفات متداخلة أساسها نخب اجتماعية وسياسية واقتصادية عسكرية وقبلية.[5] حينها تمارس هذه النخب تأثيراً على قاعدتها الشعبية بغرض فرض هيمنتها على المجتمع واخضاعه للسلطة الحاكمة، كما تستغل هذه النخب تمثيلها داخل مؤسسات الدولة والياتها بغرض تعزيز سلطتها على فئاتها الاجتماعية وقواعدها الشعبية.

أدت هذه الديناميات إلى إشاعة حالة من المنافسة بين هذه النخب على الاستئثار بالسلطة داخل المؤسسات الحكومية، الأمر الذي أدى إلى تقويض إمكانية تنمية وتفعيل هذه المؤسسات. فضلاً عن تقويض فكرة الدولة بوصفها كيان ينشد خدمة الناس ويعبر عنهم ، والغاءها من الوعي الجمعي للشعب، بل باعتبار الدولة الوسيلة التي تعزز فيها النخب مصالحها وتعزيز امنها. وعليه اسهمت كل هذه العوامل في منع الدولة اليمنية من مراكمة مستلزمات رأس المال الاجتماعي بغرض تعزيز شرعيتها وإظهارها بصورة أكثر تماسكاً.

مارس كثير من الفاعلين السياسيين المحليين في اليمن سياسات خاصة، وبشكل مستقل عن إملاءات الدولة اليمنية، وأحياناً بالتعارض معها، ويعود ذلك لعلاقاتهم المباشرة مع بعض القوى الإقليمية – وخاصة المملكة العربية السعودية – التي لطالما مارست ضروب من النفوذ التاريخي على السلطات الحاكمة في اليمن، إذ دأبت على نسج علاقات متينة مع العديد من القوى و الفاعليين المحليين خارج إطار الدولة. وهي المسألة التي سوف تناقش لاحقاً في ثنايا هذه الورقة، إذ أقامت دولة الإمارات العربية المتحدة ،خلال الصراع الدائر حالياً، العديد من العلاقات، هي السيدة فيها، مع جماعات يمنية في المحافظات الجنوبية، حيث استخدمت هذه الجماعات الدعم الإماراتي من أجل تعزيز جدول اعمال ومشاريع تتعارض بشكل صارخ مع أجندات الحكومة اليمنية الحالية.

أزمة شرعية الدولة في اليمن: لمحة تاريخية

شمال اليمن من إعلان الجمهورية، إلى إعلان الوحدة

في شمال اليمن، أُعلنت الجمهورية العربية اليمنية عام 1962، بعد ثورة قضت على النظام الملكي الذي حكم البلاد منذ انهيار الإمبراطورية العثمانية، اعتمدت الجمهورية الوليدة اغلب المبادئ التي قامت عليها دولة في مصر وشعارات القومية العربية، وذلك بفعل دعم مصر عبدالناصر لها. وكانت أول جمهورية معلنة رسمياً في شبه الجزيرة العربية.

اعتبرت المملكة السعودية الجمهورية الجديدة تهديداً مباشراً لها، وبدعم مباشراً منها، انخرط الملكيون في حرب أهلية مع الجمهوريين. وفي خضم الحرب الأهلية، كافحت الدولة الجديدة لبناء مؤسسات قوية وأسس قانونية، مع انشقاقات داخلية بين الجمهوريين أدت إلى انقلاب نوفمبر 1967 ضد أول رئيس جمهوري، عبد الله السلال، الذي كان مدعوماً من قبل اليسار.[6] ثم توحد الجمهوريون لتحقيق نصر على الملكيين المدعومين من السعودية في صنعاء في يناير 1968.[7] إلا أن نهاية الحرب الأهلية لم تجلب الاستقرار. حيث سمح الجمهوريون المحافظون فيما بعد للملكيين المنفيين المدعومين من السعودية بالانضمام إلى حكومة المصالحة الوطنية عام 1970.[8] [9] ورداً على ذلك، شكل الجمهوريون اليساريون ما بات يعرف ” بالجبهة الوطنية”، وهي جماعة مقاومة مسلحة مدعومة من اليمن الجنوبي، اعتمدت شكلاً من اشكال حروب العصابات ضد الحكومة في صنعاء لمدة تزيد عن عقد من الزمن.

وبين عامي 1973 و1977، أنشأ الرئيس إبراهيم الحمدي مؤسسات دولة تُعنى بتوفير الخدمات الأساسية للمواطنين، ومما أدى إلى تعزيز علاقة بين الدولة بالمواطنين وبالتالي تعزيز الشرعية العامة للدولة. إلا أنه اغتيل في عام 1977 في منزل نائبه أحمد الغشمي الذي تولى الرئاسة بعد الحمدي؛ والذي اغتيل بدوره بعد عدة أشهر. في يوليو 1978، تولى علي عبد الله صالح الرئاسة، ومطلع عهده أفشل انقلاباً عسكرياً وأنهى النزاع المسلح مع الجبهة الوطنية. وحكم شمال اليمن حتى الوحدة عام 1990، واستمر بعد ذلك رئيسا لليمن الموحد حتى عام 2011. وقد تمكن صالح من إقامة أول حزب سياسي، المؤتمر الشعبي العام، وإصدار الميثاق الوطني الذي كان بمثابة الدستور الشمالي قبل الوحدة.

جنوب اليمن من إعلان الاستقلال إلى إعلان الوحدة

منذ تشكيلها وحتى الوحدة، واجهت شرعية الدولة في جنوب اليمن العديد من الإشكاليات الناجمة عن نزاعات مستمرة على السلطة. حيث ابتدأت الجبهة القومية بمعية جبهة التحرير نضالاً ضد الاستعمار الإنجليزي منذ يوم 14 أكتوبر 1963م و حتى اعلان الاستقلال في 30 نوفمبر 1967م. غير أن الجبهة القومية، كونها تنظيم راديكالي، كانت قد تمكنت من إزاحة جبهة التحرير عن المشهد السياسي في جنوب اليمن، حيث قادت الجبهة القومية الوفد اليمني في مفاوضات خروج بريطانيا من جنوب اليمن. كان من ذلك التمهيد لتأسيس جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية في عام 1967، لكن الصراع في أوساط قيادة الجبهة القومية تركها في حالة اضطراب دائم الأمر الذي أثر على شرعيتها كسلطة حاكمة.

وفي عام 1969، قاد عبد الفتاح إسماعيل وسالم ربيع علي (سالمين) انقلاباً يسارياً راديكاليا أطاح بقحطان محمد الشعبي، أول رئيس لجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية. بعد ذلك أصبح سالمين رئيساً، ثم تم اعدامه لاحقاً على يد إسماعيل وعلي ناصر على خلفية نزاع سياسي في هرم السلطة الحاكمة في جنوب اليمن. وابتداء من هذه الفترة، حاولت حكومة جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية فرض شرعيتها من خلال ما يعرف بالتلقين الأيديولوجي.[10] بينما وحد الحزب الاشتراكي اليمني، الذي أُنشِئ في عام 1978، فصائل اليسار في جنوب اليمن في بنية حزب واحد. وتم تسيير الدولة من خلال نظام الحزب الواحد، مع السيطرة المركزية العامة على وسائل الإنتاج. حيث اعتمد أفراد المجتمع بالكامل على الدولة لتأمين الخدمات الأساسية.

وفي يناير 1986 اندلعت حرب أهلية، عرفت باسم أحداث 13 يناير 1986، بين تيارين مختلفين من قادة الحزب الاشتراكي اليمني بلغت ذروتها في اقتتال دامٍ استمر 10 أيام قتل فيه حوالي (11000) شخص، من بينهم أكثر من 50 من قادة حركة الاستقلال الوطني. ومع انتصار فصائل الحزب الاشتراكي في الجنوب بقيادة علي سالم في عام 1986، واصل مفاوضاته مع نظيره الشمالي لتوحيد الدولتين.

الوحدة اليمنية، والأزمات التي تلتها

في 22 مايو 1990 تم إعلان توحيد شطري اليمن (الشمال والجنوب) وتأسيس دولة الوحدة (الجمهورية اليمنية). وقد بدأت المناقشات المتعلقة بالوحدة في أوائل السبعينيات، حيث اعتبرها الطرفان من مصالحهم المباشرة. وقد تم استكشاف النفط لأول مرة في الشمال، والذي كان له أيضاً اقتصاد أكثر قوة واستقراراً، في حين كان الجنوب يمتلك مساحة أكبر مع سواحل شاسعة وموانئ كبيرة. حيث رأى كلا الشطرين أن حضورهم الإقليمي سيتعزز من خلال الوحدة، بوجود الروابط التاريخية والاجتماعية المشتركة التي تساعد أيضاً في تسهيل اندماجهم.

ومع ذلك، ومن البداية، كانت دولة الوحدة الجديدة تفتقر إلى خارطة طريق سياسية واضحة للسير قُدُماً أو بنية دولة متفق عليها. وهكذا استمرت التوترات بين قيادات دولتي الشمال والجنوب السابقين منذ الأيام الأولى لقيام الجمهورية اليمنية. واحتدمت تلك التوترات لتصل ذروتها باندلاع الحرب الأهلية عام 1994، التي قادها صالح تحت شعار “حماية شرعية الوحدة”، بينما وُضِع إطار الصراع في سياق ديني لحشد الدعم من حزب الإصلاح، ومجموعات أخرى. وفي نهاية المطاف، أعلنت قوات صالح النصر وأعطت صالح مظهر القائد القوي، مما دفع بدوره مجموعات اجتماعية وسياسية أخرى للتحالف معه. وهكذا أصبحت صورة القوة هذه متمركزة في شرعيته.

بعد انتصاره مباشرة عام 1994، اقدم صالح على اجراء العديد من التعديلات على دستور الوحدة بغية تعزيز سلطته و نفوذه سلطته. إذ كانت وثيقة الوحدة قد اقرت مواقع نائب الرئيس ورئيس الحكومة للجنوب، في حين يكون كرسي الرئاسة للشمال. ومن خلال التعديلات، اقصى صالح الجنوبين وكرس كافة الصلاحيات في يده كرئيس الجمهورية. ثم قام بتعديل رئيسي آخر هو تغيير الشريعة الإسلامية من كونها المصدر الرئيسي إلى المصدر الوحيد للتشريع. تلاه تعديل رئيسي ثالث هو تمديد فترة الرئاسة من 5 إلى 7 سنوات. وفي عام 1997، حقق حزب المؤتمر الشعبي العام (صالح) فوزاً ساحقاً في البرلمان. وقد منح ذلك صالح الهيمنة على السلطة التنفيذية والتشريعية وكذلك السلطة القضائية – وكأنها ديمقراطية الحزب الواحد.

وفي عام 2001، وافق صالح على تعديل دستوري آخر يسمح له ولحزبه بالسيطرة على مؤسسات الدولة.[11] وشملت التعديلات إزالة الحد المسموح به بالترشح للرئاسة والمحصور بولايتين فقط. وتم تمديد فترة عمل البرلمان من أربع إلى ست سنوات، وأُنشأ مجلس الشورى الذي تم تعيين أعضائه بموجب مرسوم رئاسي، وكانت آخر انتخابات برلمانية في إبريل من العام 2003، بعد ذلك رفضت أحزاب المعارضة المشاركة في الانتخابات إلى أن يتم إصلاح السجل الانتخابي – الذي تضمن العديد من “الناخبين الوهمين” – إضافة لتغيير القانون الانتخابي من نظام مجموع الأصوات إلى نظام القائمة النسبية، والذي كان من بين مطالب أخرى لجعل الانتخابات أوسع تمثيلاً.

كما عين صالح ابنه، أحمد علي، وغيره من أفراد الأسرة بمناصب عسكرية وأمنية رئيسية من أجل تأمين وجوده العسكري خاصة في الحرس الجمهوري.

وعلى الرغم من سيطرة حزب المؤتمر الشعبي العام على جميع مؤسسات الدولة، فقد خسر صالح ولاءات الأحزاب السياسية الأخرى مثل حزب الإصلاح، والحزب الاشتراكي اليمني والناصريين، وغيرهم. شكلت هذه الأحزاب السياسية المعارضة ائتلافاً تحت اسم أحزاب اللقاء المشترك في عام 2003. وقد شكل الائتلاف، المكون من أحزاب يمينية ويسارية على حد سواء، تعبئة سياسية غير مسبوقة في اليمن.[12] حيث بدأت الأحزاب السياسية بالتنظيم داخل المجتمعات المحلية، مما أدى إلى تعميق جذورها المحلية والمساعدة في توسيع الهياكل الاجتماعية خارج الديناميكيات القبلية والأشكال التقليدية الأخرى.

مع استمرار صالح في تعزيز السلطة حوله من خلال السيطرة على السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية والجيش، بدأت أحزاب المعارضة تشكك في شرعيته للحكم. وفي عام 2003، ظهرت حركة الحوثي وحاولت السيطرة على مؤسسات الدولة وعائداتها في محافظة صعدة الشمالية. رداً على ذلك، أطلقت الحكومة اليمنية في عام 2004 أول سلسلة من ستة حروب على مدى السنوات الست التالية للقضاء على الحوثيين. وفي عام 2007، ظهر الحراك الجنوبي في جنوب اليمن داعياً إلى الانفصال، مما أدى إلى نزاع سياسي وفي بعض الأحيان أعمال عنف. واستجابة لذلك، طرح اللقاء المشترك عدداً من الإصلاحات السياسية والانتخابية ووثيقة “الانقاذ الوطني”[13] عام 2009. ومع ذلك، فشل الحوار مع نظام صالح في التوصل إلى حل. وأخيراً في فبراير / شباط 2011، وبشكل مستوحاً جزئياً من الانتفاضات في تونس ومصر، خرج مئات الآلاف من اليمنيين إلى الشوارع مطالبين بالإطاحة بنظام صالح.

الانتقال السياسي والصراع المسلح: من 2011 حتى الآن

مبادرة دول مجلس التعاون الخليجي والعملية الانتقالية

نتيجة لانتفاضة 2011، توسطت المملكة العربية السعودية تحديدا ودول الخليج الأخرى فيما عرف لاحقا بمبادرة مجلس التعاون الخليجي، بين مختلف الأطراف السياسية الرئيسية في اليمن. وهدف الاتفاق إلى إنهاء النزاع القائم بين النظام والمعارضة، والسماح بانتقال سلمي للسلطة، وإقامة عملية انتقالية من شأنها إعادة بناء الدولة. ومع ذلك، فقد جمدت عدة مواد من الدستور اليمني. وشملت هذه الشروط الدستورية أن مرشحين اثنين على الأقل مطلوبان لإجراء انتخابات رئاسية، بينما اشترطت المبادرة انتخاب عبد ربه منصور هادي خلفاً لصالح في انتخابات بمرشح واحد بعد حصوله على ترشيح جميع الأحزاب السياسية الرئيسية وهو ما تم في فبراير 2012، بالإضافة إلى شرطها ضرورة الإجماع بدلاً من تصويت الأغلبية لتمرير التشريعات في البرلمان. ومن خلال مبادرة مجلس التعاون الخليجي قام صالح بالتنحي عن السلطة وتم انتخاب هادي بديلا عنه.

ووفقا للمبادرة تشكلت حكومة مصالحة وطنية انتقالية، جمعت بين أعضاء النظام السابق وأحزاب المعارضة وتم توزيع المناصب في الوزارات الحكومية بين أنصار هذه القوى السياسية. غير أن هذا خلق منافسة هائلة على السلطة داخل الوزارات، حيث قطعت الأحزاب السياسية الطريق على بعضها البعض سعياً للحصول على اليد الطولى، مما أدى إلى شلل واسع النطاق في الوظائف الحكومية وتدهور الخدمات العامة. كما وضعت مبادرة مجلس التعاون الخليجي مسؤوليات مفرطة على هادي لقيادة المرحلة الانتقالية، في حين أن ترتيبات تقاسم السلطة واستمرار وجود مسؤولين موالين لصالح في الوزارات والأجهزة الأمنية قد قوض قدرته على القيام بتلك المسؤوليات.[14]

كان عدم تمكين هادي يُعزى أيضاً إلى أن صالح بقي رئيساً للمؤتمر الشعبي العام، أكبر وأقوى حزب سياسي في البلاد. وفي نهاية المطاف بدأت اتهامات الفساد وسوء الإدارة ضد الرئيس هادي بالتصاعد. وفي الوقت نفسه، ووسط عدم الاستقرار، بدأت أسعار السلع الأساسية والوقود في الارتفاع. وهكذا بدأ التأييد الشعبي لعملية الانتقال السياسي يتآكل، حتى في الوقت الذي استمر فيه المجتمع الدولي – ممثلاً بالأمم المتحدة والدول الغربية والشرق أوسطية – بتقديم الدعم لهادي. وكان هذا واضحاً في مختلف قرارات مجلس الأمن، القرار 2051 و2140 [15] المؤكد على شرعية هادي، والقرار 2216 [16] المتضمن أن مجلس الأمن كان:

“يؤكد دعمه لشرعية الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي، ويكرر دعوته لجميع الأطراف والدول الأعضاء إلى الامتناع عن اتخاذ أي إجراءات تقوض وحدة وسيادة واستقلال أراضي اليمن وشرعية الرئيس اليمني”.

كما فشل الرئيس هادي في تطبيق العديد من إجراءات بناء الثقة المنصوص عليها في المبادرة الخليجية، والتي كان من المفترض أن تراعى في مؤتمر الحوار الوطني. وقد جمع مؤتمر الحوار الوطني (مارس 2013- يناير2014) مئات الممثلين عن الأحزاب السياسية وغيرها من الجماعات السياسية والاجتماعية. وعلى الرغم من أن الرئيس هادي والأحزاب السياسية الرئيسية قادوا العملية إسمياً، فقد كان للمجتمع الدولي الأثر الأكبر على عملية التخطيط والتنفيذ. وكان الهدف من مؤتمر الحوار الوطني هو إرساء الأسس لدستور جديد وشامل.

بعد إصدار مسودة الدستور، شن الحوثيون والقوات المتحالفة مع الرئيس السابق علي عبد الله صالح انقلاباً ضد حكومة هادي، مما أدى إلى إنهاء العملية الانتقالية. ومن بين الأسباب التي أدت إلى فشل العملية الانتقالية، أن الرئيس هادي كان قد تلاعب بإحدى المخرجات الأساسية لمؤتمر الحوار الوطني، تحديداً عبر إنشاء خارطة فدرالية جديدة لليمن.[17] وكان السبب الآخر هو أن الحكومة الانتقالية كانت تتجاهل الاحتياجات اليومية للمواطنين، مع التركيز فقط على العملية السياسية وتجاهل الأولويات كتحسين الخدمات الأساسية وضمان الأمن. وعندما قامت حكومة هادي برفع الدعم على المحروقات بناء على توصية صندوق النقد الدولي، تسبب ارتفاع أسعار الوقود والغذاء في غضب اليمنيين ضد الرئيس. هذا سمح للحوثيين بارتداء عباءة الشعبوية على أنهم يمثلون مصالح الشعب بعكس هادي. وعندما حاصرت ميليشيات الحوثي صنعاء في 2014، استخدمت رفع الدعم على الوقود كمبرر أساسي للاستيلاء على السلطة.

قوات الحوثي تستولي على السلطة

خلال النصف الأول من عام 2014، واصلت قوات الحوثي التوسع العسكري جنوباً من محافظة صعدة. وبحلول سبتمبر/أيلول من ذلك العام، كان المقاتلون الحوثيون والقوات الحليفة للرئيس السابق صالح تزحف باتجاه صنعاء. وقد أحاطوا بالعاصمة وحددوا ثلاثة مطالب للحكومة الانتقالية: مكافحة الفساد، وتنفيذ نتائج مؤتمر الحوار الوطني، وإعادة الدعم على الوقود. وفي 21 سبتمبر/أيلول دخلوا صنعاء، مع قيام معظم وحدات الجيش اليمني، وخاصة أولئك الذين ما زالوا متحالفين مع صالح، بالاستسلام دون مقاومة.

وفي فبراير / شباط 2015، أصدر الحوثيون مرسوماً دستورياً بتشكيل اللجنة الثورية العليا، وهي هيئة حاكمة غير مُلزَمة بأي سوابق في الدستور اليمني أو بمبادرة مجلس التعاون الخليجي. بعد أن وضعت قوات الحوثي وصالح الرئيس هادي تحت الإقامة الجبرية. وعندما هرب هادي فيما بعد إلى عدن، لاحقته قوات الحوثي وصالح وشنت غارة جوية على قصره.

أدى ذلك إلى بدء حملة التحالف العسكري بقيادة السعودية، والتي بدأت في مارس 2015، بمبرر إعادة هادي والحكومة المعترف بها دولياً إلى السلطة في اليمن. تمكنت الحكومة المعترف بها دولياً وحلفاؤها المحليون من دفع قوات الحوثي – صالح للخروج من جنوب اليمن. لكن منذ عام 2015، وصلت الحرب نوعاً ما إلى حالة من الجمود، حيث فشلت ثلاث جولات من محادثات السلام برعاية الأمم المتحدة في التوصل إلى وقف لإطلاق النار، وتم إلغاء جولة رابعة في سبتمبر/أيلول 2018. وقد أكد التحالف العسكري بقيادة السعودية أن تدخله في اليمن جاء بطلب من الرئيس هادي.[18] نظراً للحالات العديدة التي استهدفت فيها الغارات الجوية للتحالف المدنيين والأهداف المدنية في اليمن[19] ومع ذلك، يرى العديد من اليمنيين الرئيس هادي متواطئاً في جرائم حرب ضد شعبه.

وفي محاولة لإضفاء الشرعية في صنعاء، شكل تحالف الحوثي – صالح “حكومة الإنقاذ” في عام 2016. وقد ساعد هذا الحوثيين على تأمين قاعدة سياسية، حيث كان يحظى المؤتمر الشعبي العام بدعم صلب في المناطق التي سيطرت عليها قوات الحوثي حديثاً. وبالنسبة للمؤتمر الشعبي العام، فقد أتاح هذا التحالف فرصة للانضمام إلى المشهد السياسي وإعلان موقفه الرسمي ضد حكومة هادي والتحالف بقيادة السعودية. وشكّل هذا التحالف تهديداً وجودياً لشرعية هادي، والتي تفاقمت بسبب عوامل رئيسية: اكتساب الحوثيين والمؤتمر الشعبي العام معاً دعم شعبياً لكونهم “أقرب إلى الناس” داخل أراضيهم، لا سيما مع هجمات التحالف التي لا هوادة فيها ضد المدنيين. كما أن هادي بمقره في الرياض خلال ثلاث سنوات من الحرب كان يحظى بدعم شعبي أقل وقاعدة شعبية صغيرة داخل المناطق المحررة في الجنوب اليمني. وعندما بدأت السلطات في مناطق الحوثي – صالح بعدم دفع رواتب موظفي الخدمة المدنية بعد أغسطس / آب 2016، بدأ الدعم الشعبي لهم في الانحسار.

بالإضافة إلى القاعدة السياسية للمؤتمر الشعبي العام، فقد كان جزء كبير من قوة صالح أمام الحوثيين تكمن في قدرته على الحفاظ على ولاء جزء كبير من الجيش اليمني، بما في ذلك القوات الخاصة. لكن على مدار النزاع، تمكن قادة الحوثيين من بناء تحالفاتهم الخاصة مع القادة العسكريين، مما أضعف موقف صالح. وقد تفجرت العلاقة بين الحليفين (الحوثيون وصالح)، والتي كانت دائماً على درجة من التوتر، إلى حالة حرب شوارع واسعة النطاق في صنعاء في بداية ديسمبر/كانون الأول 2017. وبعد ثلاثة أيام من القتال العنيف، تمكنت قوات الحوثيين من التقدم وقتل صالح.

بمقتل صالح، فقد الحوثيون حليفاً سياسياً مؤثراً حظي بتأييد شعبي كبير. كما فقدوا دعامة مركزية في شرعيتهم أمام الشعب حيث لم يعد لديهم أي فاعل سياسي رئيسي آخر يدعم سلطتهم في المناطق التي يسيطرون عليها. وأصبح استخدام القمع بالقوة مصدر النفوذ الرئيسي للحوثيين في هذه المناطق. ويشمل هذا الاعتقال التعسفي والاختفاء القسري والتعذيب والتعدي على الممتلكات الخاصة. إضافة إلى فرض ضرائب إضافية على المواطنين والسلع التجارية والمشاريع الصغيرة والكبيرة. وبشكل عام، عندما يكون الإكراه هو أسلوب الحكم الأساسي لنظام ما، فالدعم الشعبي وشرعيته العامة تتآكلان.[20]

منذ توليهم للسلطة في شمال اليمن، قام الحوثيون بتشكيل ما يعرف بـ”المشرفين” و “اللجان الثورية” في المؤسسات الحكومية، وتتجاوز سلطة أفراد هذه اللجان سلطة أي أفراد آخرين داخل هذه المؤسسات. وفي الآونة الأخيرة، أنشأت سلطات الحوثي أيضاً (الهيئة الوطنية لإدارة وتنسيق الشؤون الإنسانية)[21]، التي حلت محل وزارة التخطيط والتعاون الدولي. كان ذلك جزئياً بسبب ممارسات الحوثيين المتمثلة في الاستيلاء على الأموال العامة بغرض دعم جهودهم الحربية، فضلاً عن التأزم الكبير التي تشهدها الخدمات العامة في المناطق الخاضعة لسيطرتهم

أزمة الشرعية اليوم

لا يزال استخدام مصطلح “الشرعية” في اليمن مرتبطاً بقوة بالرئيس هادي باعتباره رئيس الدولة المعترف به دولياً. ومع ذلك، كانت الحالة القانونية لشرعيته مبنية على مبادرة مجلس التعاون الخليجي. فقد تم انتخابه رئيساً عبر عملية انتقالية حددتها هذه المبادرة، وقد أصدر مجلس الأمن قرارات لدعم هذه العملية والاعتراف بالرئيس هادي. ومع ذلك، لم تتمكن حكومته إلى حد كبير من توفير الخدمات الأساسية المرجوة من قبل المواطنين، حتى في المناطق (المحررة) الواقعة تحت سلطتها. وقد ساعد هذا على إعطاء الزخم للحركة المطالبة بالانفصال في جنوب اليمن. وكان ذلك واضحاً في ظهور المجموعات السياسية التي تدعم الانفصال مثل المجلس الانتقالي الجنوبي، المدعوم جزئياً من قبل الإمارات، وتيار الحراك بقيادة حسن باعوم، وآخرين. ومع استمرار النزاع واستمرار تأثير هذه المجموعات في التزايد، تتداعى شرعية حكومة هادي بشكل متزايد.

لقد أدت شرعية هادي دولياً إلى نشوء تحالفات ظاهرية بين هادي وعدد من قادة الأحزاب السياسية. وعندما برر التحالف الذي تقوده السعودية بدء العمليات العسكرية في اليمن بالعمل على إعادة الحكومة الشرعية، انضم عدد من قادة حزب المؤتمر الشعبي العام إلى هادي – كالراحل عبد الكريم الأرياني، ورئيس الوزراء الحالي أحمد بن داغر، ورشاد العليمي.. كحيث كانت هذه القيادات المؤتمرية من بين الشخصيات السياسية والدبلوماسية المهمة التي اعتمد عليها صالح خلال حكمه.

بالنسبة للأحزاب السياسية اليمنية الأخرى، فإن تأييد شرعية هادي علناً هو وسيلة للوصول إلى دعم التحالف، من حيث الأسلحة والتمويل، في العمليات العسكرية ضد الحوثيين، وهو أيضاً وسيلة لحماية مواقعهم السياسية الخاصة. إلا أن هادي نفسه أثبت أنه زعيم ضعيف وغير فعال، ويبدو أن دعمه بين الأحزاب السياسية يتقلب تبعاً لتخصيص المناصب الوزارية والتعيينات الحكومية التي يقدمها هادي إليها. وقد وصف الأمين العام للحزب الاشتراكي اليمني في ديسمبر/كانون الأول من عام 2017 ممارسة هادي للسلطة التنفيذية بأنها “فاسدة”.[22]

على الرغم من أن هادي هو أعلى سلطة في الدولة، فهو لا يتمتع بدعم شعبي أو نفوذ كبير على المستوى المحلي. وفي الوقت الذي تطالب فيه الحكومة اليمنية بالسيطرة على غالبية جغرافيا البلاد، فالسلطات المحلية لا تلتزم بالضرورة بسياساتها أو أوامرها. وعلى الرغم من دعمه من قبل المجتمع الدولي، يفتقد هادي إلى احتكار استخدام القوة فضلاً عن عدم قدرته على فرض النظام فيما يسمى بالمناطق (المحررة). أما في عدن، المدينة التي أعلنها هادي عاصمة مؤقتة للبلاد، فقد نجح المجلس الانتقالي الجنوبي – الذي يتألف من عدة حلفاء سابقين لهادي – في شن هجمات على القوات الحكومية اليمنية في يناير/كانون الثاني من عام 2018، في أعقاب مطالبات لم تتم تلبيتها بإقالة رئيس الوزراء أحمد عبيد بن دغر، وبعد غياب دام عام ونصف العام، زار هادي عدن في صيف عام 2018 في محاولة لإبراز مظهر قيادة الدولة القوية وإعادة الاتصال مع المواطنين. ومع ذلك، تعتمد هذه الصورة بشكل كبير على قدرته على الاستجابة للتحديات اليومية – خاصةً الأمنية منها – التي يواجها مواطنو عدن.

فشل الدولة في تقديم الخدمات الأساسية

يجب أن يتوقع المواطنون اليمنيون الخدمات الأساسية والأمن، لكن يبدو أن أي من الحكومة المعترف بها دولياً وحكومة الأمر الواقع التي يقودها الحوثيون غير قادرة على ذلك. حيث لم تتمكن حكومة هادي من الاستجابة للاحتياجات اليومية للمواطنين اليمنيين، سواء في المناطق (المحررة) الواقعة تحت سلطتها، أو في المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين، حيث أن معظم موظفي الخدمة المدنية في اليمن البالغين 1.2 مليوناً يعيشون ويعملون في المناطق التي تسيطر عليها قوات الحوثيين، في المراكز السكانية الكبرى، ولم يتلقوا تقريباً أي رواتب لعامين باستثناءات قليلة جدا، في حين أن موظفي الخدمة المدنية في المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة اليمنية تلقوا رواتبهم بشكل متقطع خلال تلك الفترة.

في نفس الوقت يتلاشى حضور خدمات الكهرباء والماء، وتعمل مؤسسات الصحة والتعليم بدون ميزانية تشغيلية خلال السنوات الثلاث الأخيرة. وقد عانت غالبية المناطق اليمنية من انقطاع التيار الكهربائي، ولم يكن ملايين اليمنيين يحصلون على مياه شرب آمنة.[23] ويظهر غياب مؤسسات الدولة في الاعتماد على المنظمات الدولية غير الحكومية (INGOs) لتوفير الخدمات الصحية والتعليمية والإنسانية في ظل فشل مؤسسات الدولة في العمل، وتتفاقم الأزمات الاقتصادية والإنسانية في اليمن: ففي عام 2017، أعلنت الأمم المتحدة أن الأزمة في اليمن تعد أكبر أزمة إنسانية في العالم.[24]

ومع فشل مؤسسات الدولة في توفير الخدمات الأساسية، لعبت المنظمات الإنسانية الدولية دور الدولة، لا سيما في المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون. وعلى الرغم من أن المنظمات الدولية تلعب دوراً رئيسياً في تلبية الاحتياجات الأساسية مثل الصحة والتعليم والمياه، فإن استبدال مؤسسات الدولة يعني إضعاف الثقة بين المواطن والدولة.

تعتبر حضرموت ومأرب والمهرة إلى حد ما استثناءات نسبية، حيث تعمل هذه المناطق بمستوى عالٍ من الاستقلالية، وتعتمد هذه المناطق على عائداتها المحلية من النفط والغاز وتتلقى الدعم الخارجي دون الحاجة إلى التنسيق مع حكومة هادي المركزية. وتمكنت هذه المناطق من توفير الأمن والحفاظ على الخدمات الأساسية. وعادة ما يحظى القادة المحليون في هذه المناطق باحترام ودعم سكان محافظاتهم. ويُدفع للموظفين المدنيين رواتبهم في الغالب، وبناء البنية التحتية آخذ في الازدياد ومؤسسات الدولة فاعلة، وإن كان ذلك بقدرات محدودة.

الانفصاليون في جنوب اليمن

في جنوب اليمن، عزز عدم قدرة الدولة على توفير الخدمات الأساسية والتهميش المستمر من قبل الحكومة المركزية للفصائل السياسية الجنوبية الدعوات إلى استقلال الجنوب. وقد تركز هذا في الأصل حول الحراك الجنوبي، والتي ظهر عام 2007. وقد حاول المجلس الانتقالي الجنوبي، منذ تشكيله في ربيع عام 2017، أن يرتدي عباءة استقلال الجنوب. توسع المجلس الانتقالي الجنوبي بدعم إماراتي وبسرعة بدأ يحاول ممارسة وظائف الدولة بالتوازي مع حكومة هادي.. هذه الجهود، حتى كتابة هذا النص، كانت متعثرة إلى حد كبير، بينما غالباً ما ينظر إلى أنشطة المجلس على أنها تعيق عمل السلطات المحلية. وفي الوقت نفسه، تراجع الدعم العام للمجلس. لكن بفضل الدعم الإماراتي، فإن القوة العسكرية له في مختلف المجالات – وخاصة في عدن – تتجاوز قوة الحكومة اليمنية، حيث تعمل القوات التابعة للمجلس بشكل مستقل عن القوات المسلحة اليمنية الرسمية، وكثيراً ما تكون معارضة لها.

هناك مجموعات عديدة في جنوب اليمن تدّعي أنها تناصر قضية الجنوب، ومع ذلك، فإن دعم المجلس الانتقالي الجنوبي في المحافظات الجنوبية. وأحد أبرز المنافسين هو مجلس الحراك الثوري بقيادة أحد أهم القادة التاريخيين في الجنوب، حسن باعوم. حيث ألقى بياناً متلفزاً في مايو / أيار 2017 وصف فيه الوجود الإماراتي في جنوب اليمن بـ”الاحتلال الوحشي” ودعا الناس إلى التمرد وطرد القوات الإماراتية. واتهم البيان زعماء الجنوب بمحاولة “إضفاء الشرعية” على انتهاكات الإمارات في أرخبيل سقطرى وجنوب اليمن.[25]

كما ظهرت كيانات جديدة على خارطة القوى السياسية النشطة في المناطق الجنوبية لليمن مثل “مؤتمر حضرموت الجامع” الذي ظهر مؤخراً. في إشارة واضحة إلى الانقسامات العميقة داخل المناطق الجنوبية، وحددت اللجنة التنسيقية العليا أجندتها السياسية فقط داخل حضرموت واستبعدت بقية جنوب اليمن. بالإضافة إلى ذلك، فإن القادة السياسيين التاريخيين في الجنوب، مثل نائب الرئيس الأسبق علي سالم البيض والرئيس الأسبق للجنوب علي ناصر محمد يقودون فصائل جنوبية أخرى، رغم وجودهم المحدود على الأرض.

الجهات الإقليمية التي تقوض شرعية الدولة

دخلت القوى السياسية الإقليمية، وأبرزها المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، رسمياً في النزاع اليمني دعماً لرئاسة هادي ولإعادة الحكومة اليمنية “الشرعية” إلى الحكم في صنعاء. التحالف الذي تقوده بصورة أساسية المملكة العربية السعودية، كان في الواقع يدعم حكومة هادي، فلولا الدعم العسكري والمالي واللوجستي من الرياض، فمن المرجح جداً أن حكومة هادي كانت قد تلاشت تماماً منذ سنوات. لكن في الوقت نفسه، يقوض التحالف شرعية الحكومة اليمنية نفسها الذي يدعي دعمها.

لقد أقامت كل من الرياض وأبوظبي علاقات مباشرة مع/ و وتقديم الدعم لمجموعات في اليمن تعمل خارج إطار الحكومة اليمنية. وقد كانت هذه مشكلة خاصة للحكومة اليمنية فيما يتعلق بدعم الإمارات للعناصر الفاعلة العسكرية والسياسية – من بينها المجلس الانتقالي الجنوبي – الذي يعارض علانية الرئيس هادي. وكانت المملكة العربية السعودية تمارس قدراً كبيراً من النفوذ على حكومات اليمن تاريخياً، ومن المرجح أن تسعى إلى الحفاظ على ذلك في أي سيناريوهات مستقبلية في مرحلة ما بعد الصراع. وبالفعل، فإن النقد الشعبي لهادي يرتكز على أن حلفاء التحالف يستخدمون ما يسمى بـ “الشرعية” كغطاء لمتابعة نشاطاتهم العسكرية والتجارية على الأرض.[26]

وقد ساعدت المصالح المتباينة للقوى الإقليمية، ونزاعها المتأصل مع طموحات بناء الدولة اليمنية، في تقويض شرعية الدولة في اليمن ومحاولات إعادة تأسيس عقد اجتماعي دائم بين اليمنيين وحكومتهم. لذلك ومن أجل تحقيق بناء فعلي للدولة في اليمن، سيكون من الضروري أن يقوم مؤيدو الحكومة اليمنية الإقليميون بإعادة تقييم تدخّلهم في البلاد.

التطلع إلى المستقبل: التوصيات

تقليديا، مثلت شرعية مؤسسات الدولة اليمنية أزمة على الدوام، وكانت من محركات النزاع المستمر في البلد، فقد فشلت الدولة في تنظيم العلاقات الاجتماعية والسياسية المعقدة للبلاد أو التحكم بها، وخلال الصراع الحالي، أدى مأزق شرعية الدولة إلى ظهور عدة جهات غير حكومية تتنافس على موارد السلطة والسيطرة داخل اليمن. وإن مساعدة مؤسسات الدولة على ترسيخ جذورها أمر حاسم في إعادة بناء الدولة والسلام والاستقرار في المستقبل.

إلا أن تأسيس بيئة مواتية لشرعية الدولة يتطلب إرادة سياسية من مجموعة واسعة من الجهات الفاعلة المحلية والإقليمية. فلدى اليمن بنية سياسية واجتماعية معقدة، ويجب على الدولة أن تعكس التنوع ومصالح مجتمعاتها المختلفة بدلاً من مصالح نخب قليلة مختارة.

تفتقر الحكومة اليمنية إلى وجود حقيقي على الأرض. ومع مرور الوقت، فقدت الدعم السياسي الواسع الذي كانت تتمتع به في السابق. فانقساماتها الداخلية وانحدار تمثيلها الشعبي وفشلها في تطوير نموذج حكم جيد في المناطق الخاضعة لسيطرتها (باستثناء نسبي لمأرب وحضرموت) كان يعني تراجعا في شعبيتها. كما فشلت في توفير الخدمات والأمن أو حتى إعادة التأسيس لوجودها على الأرض. فلكي تستعيد شرعيتها، تحتاج الحكومة اليمنية إلى إعادة التأسيس لعلاقة الدولة مع المواطن. وهذا يستدعي الرغبة السياسية والاستعداد لإعادة تنشيط دور مؤسسات الدولة وضمان وجودها في حياة المواطنين. ويعني توفير الخدمات الأساسية ومعالجة التحديات اليومية التي يواجها المواطنون فضلاً عن توفير الأمن.

بالنظر إلى ما سبق، فإن التوصيات التالية موجهة للحكومة اليمنية، والتحالف السعودي والمجتمع الدولي، وإذا تم تنفيذها، فسوف يساعد ذلك في استعادة شرعية الدولة في اليمن. والأهم من ذلك أن ما لم يرد أدناه هو اقتراحات متعلقة بكيفية القيام بخطوات باتجاه الشرعية وتنفيذها. في حين أن المؤلفين يعترفون بالأهمية الحاسمة لتحديد وسائل تحقيق الغايات، فإن هذا يتجاوز نطاق هذه الورقة ويتطلب المزيد من البحث.

توصيات للحكومة اليمنية:

خلال فترة الصراع:

  • الحفاظ على ما تبقى من الدولة: يجب على الحكومة اليمنية حماية ما تبقى من مؤسسات الدولة وإبعادها عن الصراعات السياسية. كما يجب الامتناع عن تقسيم الكعكة داخل مؤسسات الدولة لتجنب ظهور نزاع جديد. ويشمل هذا أيضاً معالجة التوترات السياسية داخل الأحزاب السياسية ضمن تشكيلة الحكومة اليمنية.
  • توفير الأمن: على الحكومة اليمنية أن تبدأ في ترسيخ نفسها كسلطة في البلاد مع احتكار استخدام القوة. وهذا يتطلب دمج جميع الوحدات العسكرية والأمنية تحت قيادة موحدة، بحيث تكون وزارتا الدفاع والداخلية هما الوحيدتان المعنيتان بالأمن في البلاد.
  • توفير الخدمات الأساسية: يجب على الحكومة اليمنية إنشاء آلية لعملية جمع وإعادة توزيع إيرادات الدولة بالإضافة إلى استئناف إنتاج النفط. ما من شأنه أن يساعد الحكومة على دفع رواتب الموظفين الحكوميين وإعادة تشغيل الخدمات العامة الأساسية. كما أن الإيرادات الجديدة ستخلق مواردا يستطيع البنك المركزي اليمني من خلالها دعم استقرار قيمة الريال اليمني، ودعم استيراد السلع الأساسية، وتحقيق الاستقرار في أسعار المواد الغذائية، وكل ذلك من شأنه أن يُظهر للمواطنين الدور الإيجابي الذي تلعبه الحكومة في حياتهم، مما يزيد شرعية الدولة.
  • تعزيز العلاقات مع السلطات المحلية: تحتاج الحكومة اليمنية إلى العمل بشكل وثيق مع السلطات المحلية لمعالجة نقاط الضعف المؤسساتية على المستويين المركزي والمحلي. وهذا من شأنه المساعدة في توفير الخدمات الأساسية مثل الصحة والتعليم والكهرباء والمياه والأمن، وبذلك ستساعد الحكومة المركزية في معالجة القضايا الملحة التي تواجه كل محافظة. كما يجب منع الأحزاب السياسية من التنافس على الهيمنة داخل مؤسسات الدولة، بالتوازي مع منع الجماعات المسلحة التابعة لها من التدخل في عملالسلطات المحلية.
  • متابعة الوساطة والمصالحة مع القوى المحلية:يجب على الحكومة اليمنية معالجة التوترات مع الجماعات المحلية مثل المجلس الانتقالي الجنوبي. ويمكن القيام بذلك من خلال دعم المجتمع الدولي لعملية مصمّمة بشكل جيد تجمع المختلفين من أجل التوصل إلى تسوية.
  • التواجد الواضح على الأرض: ينبغي نقل جميع الموظفين الحكوميين اليمنيين إلى اليمن من الرياض. كما ينبغي على الحكومة بعد ذلك إطلاق حملة إعلامية لإعلام المواطنين بالتزاماتها تجاه البلاد.

خلال العملية الانتقالية في مرحلة ما بعد الصراع:

  • تشكيل حكومة انتقالية فاعلة تستجيب لاحتياجات المواطنين. ويجب أن يتم تجنب خطأ حكومة 2011-2014، حيث تم التركيز على العملية السياسية حتى عندما كانت مؤسسات الدولة تنهار. ويجب إدخال الإصلاحات عبر مؤسسات الدولة لتعزيز المشاركة والشفافية والمساءلة الواسعة في كل مستوى إداري وكذلك على الصعيد المركزي والمحلي.
  • ضمان أن تكون العملية الانتقالية في مرحلة (السلام) ما بعد الصراع، مصممة لتكون شاملة وتعكس الهياكل الاجتماعية والسياسية للبلاد. ويمكن تحقيق ذلك من خلال تصميم عملية متعددة المستويات تتناول القضايا الوطنية والمحلية المتعلقة بإعادة بناء الدولة وتحسين مستوى معيشة الشعب اليمني في جميع أنحاء البلاد. ومع ذلك، ستواجه العملية الانتقالية مجموعة واسعة من القضايا والتحديات، وبالتالي يجب أن يكون لها مستويات مختلفة من الحوار، ويجب أن يتم عقدها في وقت واحد بدءاً من المستوى المحلي، ومن ثم تعزيز الحوار على المستوى الوطني. حيث سيتيح ذلك فصل القضايا عن بعضها على مختلف الأصعدة، وإتاحة المزيد من الوقت لمعالجتها والسماح للمجتمعات المحلية بالمشاركة في العملية وتمثيل أولوياتها واحتياجاتها. وهذا من شأنه أن يساعد على زيادة الشرعية العامة وفعالية العملية الانتقالية أكثر من الجهود السابقة.
  • التأكيد على نهج “من أسفل إلى أعلى” في تصميم العملية الانتخابية والسياسية. ينبغي أن تكون هناك عملية تشاورية لمناقشة وتصميم النظم الانتخابية والسياسية المقبلة. ويجب أن تعطى هذه المناقشات ما يكفي من الوقت والمساحة للسماح بالمداخلات والمفاوضات العميقة بين مختلف المجموعات السياسية والاجتماعية في البلاد، بهدف الوصول إلى الأنظمة المتفق عليها التي ترضي جميع الأطراف إضافة لضمان الشمولية والمشاركة في الدولة الجديدة التي سيتم بناؤها.
  • الادراك بأن مستوى المركزية السابقة في الحكم لم يعد قابل للتطبيق. ستكون هناك حاجة إلى دولة أكثر لامركزية للتعامل مع الظروف السياسية والاجتماعية الجديدة التي ولدها النزاع. وأن يتم تحديد شكل اللامركزية من خلال العملية السياسية القادمة.
  • تشجيع الأحزاب السياسية على إعادة التفكير في نهجها في التعامل مع قواعدها الشعبية بغية استعادة ثقة المواطنين، ولكن أيضا لإضفاء الثقة المواطنين في الدولة والعملية السياسية، مع التركيز على أهمية دور الدولة. ويمكن تحقيق جزء كبير من ذلك عبر الامتناع عن ممارسة القوة خارج إطار مؤسسات الدولة.
  • الاعتراف بالحاجة إلى العدالة الانتقاليةعن طريق إنشاء آلية وطنية لمعالجة المظالم الناتجة عن النزاعات السابقة وسوء المعاملة. كما يجب أن تكون هذه العملية حساسة جداً للواقع في السياق اليمني، لا أن تكون عملية انتقال جاهزة بسياقات خارجية.

توصيات للتحالف بقيادة السعودية:

  • احترام سيادة اليمن على أرضه: فحتى الآن، تعتبر القوى الإقليمية إلى حد كبير أن اليمن ساحة لعب يمكن من خلالها متابعة أجندتها الجيوسياسية والإقليمية. وحتى يتسنى للدولة اليمنية أن تنجح في الخروج من الصراع الحالي، يجب على القوى الإقليمية أن تبدأ في تغيير عقليتها والتعامل مع اليمن باعتبارها أمة في حد ذاتها.
  • الامتناع عن دعم الجماعات التي تعمل بالوكالة: يجب على دول التحالف تجنب دعم الجماعات التي تقوض أركان الدولة في اليمن، وتضعف مؤسساتها وتؤثر على سيادتها وتضعف قدرتها على العمل. حيث سيتم تحقيق الاستقرار في اليمن من خلال بناء دولة شاملة، لا من خلال إنشاء مجموعات وكيلة موالية.
  • عدم التدخل في كيفيةاختيار اليمنيين لطريقة إعادة بناء هياكلهم الاجتماعية والسياسية: فمن الضروري إدراك أنه من أجل الحصول على قبول شعبي، يجب إنشاء النظام السياسي اليمني الجديد من خلال عملية يقودها اليمنيون، دون تأثير واضح للمصالح الإقليمية.
  • تبني آليات فاعلة ومتعاونة أكثر شفافية لتوفير الدعم الإنساني في اليمن: يجب أيضاً توجيه دعم التحالف عبر القنوات الرسمية.

توصيات للمجتمع الدولي:

  • التأكد من أن شرعية الدولة اليمنية هي مسألة أساسية في صياغة العمليات السياسية المستقبلية والحكومة الانتقالية.وهذا يستدعي الحاجة لمساعدة الحكومة الانتقالية في الاستجابة لاحتياجات المواطنين ومعالجة الأزمة الإنسانية في البلاد.
  • إدراك أن لليمن هيكل اجتماعي وسياسي معقد، وأن فهمه هو الخطوة الأولى نحو المساعدة في صياغة عمليات السلام والعمليات السياسية المقبلة. وأن الأطراف الرئيسية المتحاربة لا تعكس غالبية التركيبة السياسية والاجتماعية في اليمن وبالتالي فإنه يجب المساعدة على انخراط ممثلي الأحزاب السياسية غير المشاركين في الصراع، والقوى المحلية خاصة النساء والشباب، في عملية سياسية موازية للتعبير عن مواقفهم. وهذا سيضمن عملية سلام شاملة ويعطي قوة ضغط باتجاه السلام.
  • المساعدة في تأسيسعملية انتقالية شاملة تنخرط فيها الجهات الفاعلة خارج إطار الأحزاب السياسية التقليدية: يجب أن تصوغ هذه العملية المستقبل السياسي لليمن بطريقة تشجع انضمام أوسع شريحة ممكنة من المواطنين اليمنيين. كما يجب تضمين المجموعات المحلية في هذه العملية بشكل مباشر أو غير مباشر. وهذا سيساعد على ضمان شرعية أي عملية انتقالية في المستقبل، على عكس ما حدث في العملية الانتقالية عام 2012.

الهوامش

[1] Al-Nageeb, Khaldoon. Hemogenic Power in the Modern Middle East, A structural comparative study, Arab Unity Center for Studies, 1991), page 64-69.

[2] Galyoun Burhan The Arab Crisis: The State against Nation, (Arabic Center for Policy Analysis and Studies, 2015,) page 248.

[3] Alina Rocha Menocal, “State Building for Peace: A New Paradigm for International Engagement in Post-conflict Fragile States?” Third World Quarterly 32, no. 10 (2011): 1715-1736, https://doi.org/10.1080/01436597.2011.610567.

[4] K. Papagianni, “Participation and State Legitimation,” in Building States to Build Peace, ed. Charles T. Call and Vanessa Wyeth (Boulder: Lynne Rienner Publishers, 2008).

[5] Abdulelah Belgiz, The crisis of political legitimacy in the Arabic political system, The Future Magazine, issue 378. August 2010. Page 86.

[6] Elina Julufakia, The Political Evolution of the Yemen Arab Republic, trans. Mohammed Al-Bahri (Sana’a: Yemen Center for Research and Studies, 1993), page 62, http://www.alyemeny.com/library/AlYemeny7322.pdf.

[7] Omar Al-Jawai, Sana’a Siege: Press Report, Labour Voices Press, Aden, 1975.

[8] Edgar Opelance, The Revolution, and the War until 1970, trans. Abdul Khaliq Mohammed Lashid, Cairo: Madbouli Library, 1990., page 313-333.

[9] وقضى الاتفاق حصول القوى الملكية العائدة إلى صنعاء على مقعد في المجلس الجمهوري ،الهيئة الأعلى لجمهورية نوفمبر، و 12 مقعداً في المجلس الوطني بما في ذلك نيابة رئاسة المجلس و اربع حقائب وزارية، علاوة عن التمثيل العالي في السلك الديبلوماسي.

[10] Andrew Heywood, Political Theory: An Introduction (Basingstoke: Palgrave Macmillan, 2015), Page 253.

[11] تضمنت التعديلات الدستورية الإعلان عن المجالس المحلية خلال أول انتخابات محلية.

[12] ضم تكتل أحزاب اللقاء المشترك أحزاب المعارضة السبعة. وكان حزب الإصلاح، الفرع اليمني من الإخوان المسلمون، الطرف المهيمن في التكتل، إضافة إلى الحزب الاشتراكي اليمني (شريك الوحدة اليمنية) والتنظيم الناصري.

[13] رابط للبيان الصحفي لوثيقة الانقاذ الوطني الصادرة عن تكتل أحزاب اللقاء المشترك: http://www.alwahdawi.net/articles.php?id=40

[14] Maged al-Madhaji, How Yemen’s post-2011 transitional phase ended in war, Sana’a Center for Strategic Studies, May 19, 2016. Accessed September 15, 2018, available at https://sanaacenter.org/publications/main-publications/39

[15] The UN resolution 2140: https://www.un.org/press/en/2014/sc11296.doc.htm

[16] The UN resolution 2260: https://www.un.org/press/en/2015/sc11859.doc.htm

[17] Babak Ghafarzade, “Yemen: Post-conflict Federalism to Avoid Disintegration,” Journal of International Law and Politics 48, no. 933 (2016): 934-1006.

[18] فيديو للبيان الرسمي الذي أصدره السفير السعودي في الولايات المتحدة معلناً السبب وراء الضربات التي قادتها السعودية والعملية العسكرية الجارية في اليمن: https://www.skynewsarabia.com/video/733456-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%81%D9%8A%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%B9%D9%88%D8%AF%D9%8A-%D9%8A%D8%B9%D9%84%D9%86-%D8%A8%D8%AF%D8%A1-%D8%B9%D8%A7%D8%B5%D9%81%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B2%D9%85 (Accessed on September 16, 2018).

[19] A report of the Human Rights Watch on Saudi-led Coalition Violation against civilians in Yemen, https://www.hrw.org/world-report/2018/country-chapters/yemen

[20] مرجع سابق:Andrew Heywood, Political Theory: An Introduction (Basingstoke: Palgrave Macmillan, 2015.

[21] رابط للبيان الصحفي حول المرسوم الحوثي المؤسس للسلطة الوطنية لإدارة وتنسيق الشؤون الإنسانية:http://www.althawranews.net/archives/501354

[22] Secretary General of the Yemeni Socialist Party: We are against War and Coup, and Legitimacy has Suffered Many Barbarities, Sana’a Center for Strategic Studies, December 29, 2017, accessed August 13, 2018, https://sanaacenter.org/ar/publications-all/analysis-ar/5222.

[23] http://ye.one.un.org/content/unct/yemen/en/home/publications/country-specific/2018-Yemen-Humanitarian-Response-Plan-YHRP/.

[24] “Yemen at the UN – January 2017 Review,” Sana’a Center for Strategic Studies, Februrary 21, 2017, accessed on August 13, 2018, https://sanaacenter.org/publications/yemen-at-the-un/74.

[25] Southern Leader Baum Describes the Presence of the UAE in Socotra as ‘Occupation,’ Al-Masdar Online, May 7, 2018, accessed August 13, 2018, http://almasdaronline.com/article/98765.

[26] News Interview with the deputy General Secretary of the YSP: http://aleshteraky.com/fhajac/item/17930-falb-adaeif-adrae-adcrdj-ai-alcrahq-adhhdq-blbb-rhe-hehh-olcjacieiq-ehfhq-cred-ef-oed-ofga%D8%A1-adofbdab

مشاركة