بدت جماعة الحوثيين المسلحة قوة لا يستهان بها طوال عام 2021. فمع تقدم قواتها بلا هوادة صوب مدينة مأرب، بدا سقوط آخر معقل للحكومة اليمنية في شمال البلاد أمرًا لا مناص منه، وهو ما سيشكل الضربة القاضية للاقتصاد المتدهور وللشرعية السياسية للحكومة المعترف بها دوليًا باعتبار مأرب غنية بالنفط والغاز. على طول خطوط المواجهة في جميع أنحاء البلاد، حافظت قوات الحوثيين على مواقعها أو تقدمت وأظهرت تماسكًا وانضباطًا ونجاعة لا تضاهيها مختلف القوات المناهضة لها. كما حلّقت الطائرات المسيّرة والصواريخ الباليستية الحوثية عبر الحدود باتجاه السعودية، واستمرت حتى في ظل الغارات الجوية الانتقامية، لتفاقم من كلفة النزاع وتثقل كاهل التحالف.
تعززت الجهود العسكرية الحوثية بالتطورات التي جرت خلف الجبهات وخارج حدود اليمن. تجلى تهديد كبير ضد الجماعة لكن سرعان ما تلاشى دون أن يضطر الحوثيون حتى إلى الرد. فقد صنفت واشنطن الجماعة كمنظمة إرهابية أجنبية في يناير/ كانون الثاني 2021 كآخر قرارات إدارة ترامب، إلا أن القرار أُلغي بعد أقل من شهر واحد من قِبل الرئيس الأمريكي جو بايدن، إثر إفادة الأمم المتحدة ومنظمات الإغاثة بأن هذا التصنيف سيتسبب في شلل العمليات الإنسانية. بالنسبة للقادة الحوثيين، كان ذلك تأكيدًا على أن استراتيجيتهم المتمثلة في ارتهان حياة السكان المدنيين تؤتي ثمارها، حيث وضعت المجتمع الدولي أمام خيار مُرّ إما التخلي عن السكان المحتاجين أو دعم الدولة الحوثية. تمكنت الجماعة من حشد المساعدات الإنسانية لضمان سير النشاط الاقتصادي في المناطق الخاضعة لسيطرتها، ودعم إضفاء شرعية لحكمها وإتاحة المزيد من الموارد لجهودها الحربية. نجحت قوات الحوثيين في قمع المعارضة، ولقنت عددًا متزايدًا من الأطفال والبالغين أفكارها عبر إعادة كتابة المناهج الدراسية وإعادة صياغة التعاليم الدينية في المساجد. استقر الاقتصاد نسبيًا في مناطق سيطرة الحوثيين رغم استشراء التضخم في مناطق أخرى من البلاد، ويبدو أن نجاحها الواضح في ذلك عزز من تعصب الجماعة وإحساسها بالقدرة على الإفلات من العقاب، وهو ما تجلى في سبتمبر/أيلول مع الإعدام العلني لـ 8 رجال وقاصر في صنعاء. خلاصة القول، واصل المشروع الثيوقراطي لبناء الدولة الحوثية اكتساب الزخم خلال عام 2021.
مع مرور العام، بدا أن الأطراف الفاعلة غير اليمنية تفقد الأمل في وجود أي نية لدى القادة الحوثيين للانخراط بشكل هادف في محادثات السلام. فقد أمضت الرياض عدة سنوات حتى الآن في محاولة لتخليص نفسها من مأزق تدخلها العسكري في اليمن، لكن دون تمكنها من التفاوض على تسوية. وفي واشنطن، عيّن الرئيس بايدن مبعوثًا خاصًا لليمن في فبراير/شباط لقيادة الجهود الدبلوماسية الأمريكية لوقف النزاع، لكن دون الخروج بنتائج مرضية. وبعد أن شهد مبعوث الأمم المتحدة الخاص لليمن مارتن غريفيث فشل اقتراحه المتمثل بالإعلان المشترك لوقف إطلاق النار على مستوى البلاد، غادر منصبه ليُعيّن كوكيل الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية في مايو/أيار. خلفه هانز غروندبرغ كمبعوث خاص في سبتمبر/أيلول، والذي ما لبث أن قدم تقييمًا متشائمًا بأنه لا يتوقع “أي مكاسب سريعة”.
وردت أنباء فيما بعد، وتحديدًا أواخر نوفمبر/تشرين الثاني 2021، تفيد بإعادة تموضع القوات المشتركة من مواقعها التي تسيطر عليها منذ فترة طويلة جنوب مدينة الحديدة على ساحل البحر الأحمر في اليمن، وسرعان ما بدأت مجريات النزاع تتغير.
في 2018، اضطلعت الإمارات بدور محوري في تنظيم وتسليح وتدريب وتمويل ثلاث جماعات مسلحة: قوات المقاومة الوطنية بقيادة طارق صالح، وألوية العمالقة التي تتألف في معظمها من الجنوبيين بقيادة سلفية، والمقاومة التهامية وهي جماعة مسلحة محلية من الساحل الغربي لليمن تشكلت في مرحلة مبكرة من الصراع. قادت هذه القوات، المعروفة مجتمعة باسم “القوات المشتركة”، هجومًا على ساحل البحر الأحمر لتحرير مدينة الحديدة التي يسيطر عليها الحوثيون، والتي تضم بعض أكثر موانئ البلاد ازدحامًا. شجبت الأمم المتحدة ووكالات الإغاثة الدولية هذا الهجوم، مؤكدة أن تعطل الإمدادات التجارية والإنسانية سيُفضي إلى مجاعة واسعة النطاق. رضخت السعودية للضغوط، مما أجبر القوات المدعومة إماراتيًا على وقف تقدمها في الضواحي الجنوبية للحديدة. في وقت لاحق، أُضفي الطابع الرسمي على هذه الهدنة المحلية بموجب اتفاق ستوكهولم المُبرم في ديسمبر/ كانون الأول 2018. وفي عام 2019، سحبت أبوظبي معظم قواتها العسكرية في اليمن، لكنها أبقت على دعمها للقوات المشتركة التي ظلت متمركزة على الساحل الغربي.
لم تتضح الدوافع الأولية لإعادة الانتشار المفاجئ وغير المتوقع للقوات المشتركة خلال شهر نوفمبر. لكن سرعان ما بدأت ألوية العمالقة في الاشتباك مع قوات الحوثيين في شبوة وجنوب مأرب أواخر ديسمبر/كانون الأول 2021 وأوائل يناير/كانون الثاني 2022، ما أحبط مساعي الحوثيين بالسيطرة الوشيكة على مدينة مأرب. حققت ألوية العمالقة، التي كانت أفضل تدريبًا وتسليحًا وتنسيقًا مقارنة بأي قوة واجهها الحوثيون خلال تقدمهم نحو المدينة على مدى عامين، سلسلة من الانتصارات السريعة حيث استعادت أراضي وقطعت خطوط إمداد الحوثيين. إلا أن إثبات القوات المدعومة إماراتيًا نجاعتها، لا سيما مقارنة بالجماعات المدعومة من السعودية، طعن كبرياء الرياض بقدر ما كان مصدر ارتياح لها. فقد قادت جارة المملكة، الأصغر بكثير، للمرة الأخرى الهجوم العسكري الأنجع ضد قوات الحوثيين منذ عام 2018. أما في العواصم الغربية، فقد أظهرت نتائج إعادة انتشار هذه القوات القدرات التنظيمية والعسكرية لكل من الدولتين الخليجيتين. وفضلًا عن قلب معادلة أهم تحرك عسكري للحوثيين خلال العامين الماضيين -والتي جندت فيه الجماعة وفقدت عشرات الآلاف من المقاتلين -قوّضت سلسلة انتصارات ألوية العمالقة البروباغندا المروّجة من قبل الجماعة بحقها في تولي الحُكم. بالتالي، لم يسعَ الهجوم الذي شنته الطائرات الحوثية المسيّرة على أبو ظبي أوائل يناير/ كانون الثاني 2022 إلى معاقبة الإمارات على إعادة انخراطها في الميدان فحسب، بل لإيصال رسالة إلى مناصري الجماعة المحليين تظهرها بصورة قوية بعد سلسلة من النكسات الموجعة.
رغم توقف تقدم الحوثيين، كان حزب الإصلاح أكثر طرف تراجعت مكانته ونفوذه عام 2021، لا سيما بعد عودة انخراط الإمارات في المشهد. باعتباره فرعًا يمنيًا لجماعة الإخوان المسلمين الإقليمية -التي تعدها أبوظبي منظمة إرهابية -كان الإصلاح هدفًا للإمارات خلال تدخل التحالف، رغم كونه ظاهريًا يقف معها في نفس الجانب. كان أحد شروط عودة انخراط أبوظبي هو أن تسهّل الرياض إقالة واستبدال محافظ شبوة الموالي للإصلاح، وهو الأمر الذي تحقق أواخر ديسمبر/كانون الأول. أكدت الانتصارات السريعة التي حققتها ألوية العمالقة في شبوة ضد قوات الحوثيين -مما أجبر الأخيرة على الانسحاب من المحافظة الجنوبية -للكثيرين انعدام الكفاءة والفساد اللذين حالا دون وجود مقاومة حقيقية من الإصلاح. بدا من الواضح تراجع مكانة الحليف الأقرب “للإصلاح” في الحكومة، نائب الرئيس علي محسن الأحمر، وباتت مسألة استبداله خطوة لا مفر منها عام 2022. كما بدا الرئيس اليمني عبدربه منصور هادي (في 7 أبريل/نيسان، أعفى هادي نائبه الأحمر وأعقب الخطوة نقل السلطة إلى مجلس رئاسي)، الحليف الآخر الأهم “للإصلاح” أضعف من أي وقت مضى في فترة النزاع، سواء على المستوى السياسي أو الصحي. ولعل الأنباء الحسنة الوحيدة التي تلقاها الحزب جاءت من الخارج، حين دفنت السعودية وقطر -الداعم الخليجي الرئيسي لجماعة الإخوان المسلمين -عداوتهما. في جميع الأحوال، لم يسبق أن بدا الإصلاح بهذا الضعف داخل اليمن، وباتت الآفاق المستقبلية للحزب قاتمة بصورة ملحوظة.
من جانب آخر، كان أداء المنافس المحلي الرئيسي للإصلاح، أي المجلس الانتقالي الجنوبي، أفضل عام 2021. كفصيل انفصالي اعتاد أن يكون في صف المعارضة، بعثت مشاركته في حكومة الوحدة الوطنية موجة من عدم الارتياح كما كان متوقعًا. اضطر المجلس إلى إبداء النفاق عبر حضور جلسات مجلس الوزراء في الوقت الذي كان يحشد فيه أنصاره للاحتجاج على الحكومة والمطالبة بدولة منفصلة في جنوب اليمن. لكن في النصف الأخير من عام 2021، تعرّض المجلس الانتقالي المدعوم إماراتيًا، الذي يسيطر بحكم الأمر الواقع على عدن ومناطق جنوبية أخرى، لغضب شعبي متزايد مع انهيار قيمة العملة في المناطق الواقعة خارج سيطرة الحوثيين. استفاد المجلس من عودة انخراط الإماراتيين ومن إقالة محافظ شبوة الموالي للإصلاح، وهي المحافظة التي شهدت هزيمته على يد القوات الموالية للحكومة عام 2019. بحلول نهاية العام، لقي المجلس ترحيبًا من الرياض وأبو ظبي، وتمكن من زيادة مخزونه من المال والأسلحة والدعم السياسي.
بعيدًا عن ساحة المعركة، شكل الانهيار السريع للريال اليمني في المناطق الواقعة خارج سيطرة الحوثيين تهديدًا وجوديًا للحكومة. باتت آخر أسس شرعية الحكومة تتداعى مع انهيار قيمة العملة، الأمر الذي أدى إلى اندلاع احتجاجات هددت بزعزعة ما تبقى من النظام الاجتماعي والسياسي. إلا أن قرار الحكومة بإقالة الإدارة العليا للبنك المركزي اليمني في عدن ساهم في إعادة تشكيل واقع الصراع، تمامًا كما فعلت عودة انخراط الإماراتيين. لطالما واجه البنك اتهامات بسوء الإدارة والفساد المستشري -بما في ذلك من جانب فريق خبراء الأمم المتحدة المعني باليمن في يناير/كانون الثاني -وباتت الإجراءات الترقيعية تشكل تهديدًا وعقبة رئيسيين أمام تأمين مزيد من الدعم المالي الخارجي الذي تشتد الحاجة إليه. بدأ الريال اليمني يشهد انتعاشًا ملحوظًا في أعقاب الإعلان عن الإدارة الجديدة للبنك أوائل ديسمبر/كانون الأول، وما صاحب ذلك من تقارير تفيد بأن السعودية تدرس تجديد دعمها المالي للبنك. وفي حين ظل سعر صرف العملة غير مستقر، إلا أنه حافظ بداية عام 2022 على معظم تحسنه المشهود في شهر ديسمبر/كانون الأول، مع تداول السوق بأسعار تدعم بوضوح الإدارة الجديدة للبنك وتُعزز فرص الحصول على مساعدات مالية خارجية جديدة. وإذا ما استمر انتعاش الريال، سيمثل ذلك خطوة هائلة في الاتجاه الصحيح بالنسبة للاستقرار الاقتصادي والوضع الإنساني وشرعية الحكومة.
لو أن الحوثيين نجحوا في السيطرة على مأرب، إلى جانب مواردها النفطية والغازية، لضمنوا قاعدة من الموارد الاقتصادية تؤهلهم لإقامة دولة فعلية وأظهروا حافزًا أقل للتفاوض. ستظل هناك تحديات تكتنف المسار الدبلوماسي على المدى القصير، حيث إن إعادة تموضع القوات المشتركة يزيد من احتمال عودة اشتعال خطوط المواجهة الأخرى التي ظلت هادئة لفترة طويلة، وتقويض محادثات السلام. كما تهدد الهجمات الحوثية بالطائرات المسيّرة والصواريخ ضد الإمارات بأقلمة حرب اليمن على نحو أكبر.
إلا أن الباب ما يزال مفتوحًا لإيجاد أرضية مشتركة والتوصل إلى تسوية تعالج الأزمة الاقتصادية الحرجة التي تواجهها البلاد، والتي تؤثر سلبًا على عدد أكبر من اليمنيين مقارنة بالعنف المباشر. حتى الآن، لم تكتسب الجهود الدبلوماسية لحل النزاع الزخم المطلوب، حيث لم يظهر حافز كبير من جانب الحوثيين للجلوس على طاولة المفاوضات في ظل استمرار نجاحاتهم العسكرية. ومع دخول الحرب عامها الثامن، قد يتيح احتمال وجود حكومة يمنية معززة اقتصاديًا، وربما قيادة حوثية معتدلة، سُبلًا جديدة للوساطة يمكن أن ينتهجها المبعوث الخاص للأمم المتحدة والجهات الفاعلة الدولية الأخرى.