افتتاحية مركز صنعاء
لم يعد اليمن “على شفا الهاوية”، بل أصبح بالفعل يتدحرج في الهاوية ذاتها. بعد أربع سنوات من الحرب الداخلية، يعاني اليمن من دمار بنيته التحتية واقتصاده ونسيجة الاجتماعي، وأكثر من ذلك بكثير انسداد آفاق المستقبل أمام مواطنيه.
الآثار النفسية لفقدان الأهل والأقارب، تزامنا مع فقدان مصادر الغذاء والمعاناة من آلام الجوع، لا يمكن أن يتجاوزها اليمنيون بسهولة. في العام الماضي، أصبحت صور الأطفال المصابين بسوء التغذية مرادفة لكلمة اليمن في جميع أنحاء العالم. ومع ذلك، رغم ما تستحقه من كامل اهتمام وسائل الإعلام، طمست سردية أسوأ أزمة إنسانية في العالم في بعض الأحيان حقيقة أن ما يحدث ليس كارثة طبيعية حلت باليمن، بل تفجر للنزاعات الداخلية في البلاد، وتفاقما لها بفضل تدخل إقليمي أرعن مدعوم من قوى العالم الغربي.
تستعد منظمات الإغاثة الآن لعام آخر من المعاناة الإنسانية في اليمن، حيث أعلنت الأمم المتحدة عن خطط لحشد أموال تصل إلى أربعة مليارات دولار – أي أكثر من النداء المعلن عنه العام الماضي بما يقارب ال 3 مليارات دولار. وقد تكفلت السعودية والإمارات بتمويل نحو ثلث المبلغ المطلوب السنة الماضية، إلا أن المنظمات الإنسانية وصلت إلى أقصى حدود قدراتها، فيما النهب والمصادرة غير المسبوقين للإمدادات الإنسانية، واللذان تورطت فيهما الأطراف المتحاربة – بالأخص الحوثيين-، بما يعني أن المعونات نفسها تساعد أحيانًا في تمويل الحرب بدلاً من الوصول إلى المحتاجين.. لا يحق لسلطات التحالف والدول الغربية التي تدعمها أن تشعر بالرضى عن النفس لمنحها مساعدات لليمن، ذلك أن اليمن بحاجة ماسة لقرارات سياسية، وليس مجرد مساعدات إنسانية.
بنظرة متمعنة، أظهرت تطورات العام الماضي بوضوح أن الأزمة في اليمن سياسية في جوهرها، وينبغي معالجتها على هذا الأساس. لقد شجعت ديناميكيات جيوسياسية جديدة على اتخاذ قرارات لاحتواء السقوط المتمادي في اليمن أواخر 2018 – ولو أن هذه القرارات جاءت متأخرة، وبشكل غير متوقع، وأحياناً نتجت عن أحداث لا علاقة لها بالنزاع اليمني على المستوى المباشر.
كانت مدينة الحديدة والموانئ القريبة منها – آخر منافذ الحوثيين على البحر الأحمر – في قلب النزاع وديناميكياته المتغيرة. هذه الموانئ هي أيضاً نقط دخول معظم السلع الأساسية التي تغذي شعبا ينحدر نحو مجاعة جماعية. وقد دفع التحالف العسكري بقيادة السعودية منذ عامين باتجاه شن هجمة عسكرية على الحديدة، ومع ذلك، بقي القلق الدولي – من انقطاع شحنات البضائع والتسبب بكارثة إنسانية – مكثفاً، وكان التحالف في انتظار الضوء الأخضر من داعميه الرئيسيين، أي الولايات المتحدة وبريطانيا، قبل القيام بالهجوم. منتصف 2018، قدمت واشنطن ما يمكن وصفه بـ”الضوء الأصفر”، لمعركة الحديدة وفقاً لمسؤول حكومي أمريكي تحدث إلى مركز صنعاء حينها.
غيرت الاستعدادات الاستراتيجية والعسكرية للحملة حسابات مختلف المجموعات المنضوية في التحالف المناهض للحوثيين، على سبيل المثال، قامت الإمارات خلال السنوات العديدة الماضية ببناء أذرعها المحلية من الميليشيات في مناطق يُفترض أن تسيطر عليها الحكومة اليمنية، فيما أخذت هذه الميليشيات تتحدى سلطة الحكومة، وبعضها يسعى إلى تقسيم البلاد.
خلال العام 2018، بدت الوحدة بين القوات البرية التي تقاتل الحوثيين ذات أهمية قصوى في معركة الحديدة. وبمبادرة إماراتية، رصت تلك الجماعات المتفرقة صفوفها وطرحت خلافاتها جانباً استعداداً للحملة العسكرية، وكان أبلغ تعبير عن ذلك قيام كل من الرئيس هادي وقادة الإصلاح بزيارات منفصلة إلى أبو ظبي خلال العام.
خلال النصف الثاني من عام 2018 أيضا، بدأت جهود التحالف الرامية لإخراج الحوثيين من الحديدة تلقى مقاومة بطيئة وشرسة على الحافة الجنوبية للمدينة، مما هدد بتحول المعركة إلى حرب استنزاف. في الوقت نفسه، كان الضغط الدولي يتكثف على السعودية، وقد كان ذلك أساسياً لتسهيل مشاورات السلام التي قادتها الأمم المتحدة في السويد والتوصل إلى اتفاق استكهولم الذي جمد معركة الحديدة. مع ذلك، لم تكن المجاعة الوشيكة لملايين اليمنيين هي ما خلق الزخم الدولي لمشاورات السلام ووقف إطلاق النار، بل الضجيج الإعلامي الذي ثار حول مقتل رجل واحد في قنصلية بلاده في اسطنبول، وهو الصحفي السعودي جمال خاشقجي.
أثارت حادثة خاشقجي احتجاجات دولية ودفعت واشنطن ولندن إلى كبح جماح الرياض. كان العديد من القادة الغربيين يشعرون بعدم ارتياح متزايد من تهور السياسة الخارجية للمملكة العربية السعودية، وكانوا محرجين من التقارير التي تتحدث عن جرائم حرب تورط فيها حلفاؤهم في اليمن، بما في ذلك قصف حافلات لأطفال مدارس وتكتيكات حصار ساهمت في دفع البلاد نحو مجاعة جماعية. قد يكون ذلك حدث لأن الدول الغربية، أساساً الولايات المتحدة وبريطانيا، التي ساهمت في دعم التدخل العسكري الذي تقوده السعودية في اليمن، لم يكن لها يد في مقتل خاشقجي، مما أتاح لها فرصة لانتقاد الرياض من أرضية أخلاقية فوقية.
جاء اتفاق ستوكهولم، الذي أقره مجلس الأمن الدولي، بفضل الضغوط الدولية، ونفوذ السعودية على الحكومة اليمنية، ورغبة الأطراف المتحاربة في تجنب تلقي اللوم على فشل عملية السلام. وفي الوقت نفسه كان كل طرف منهما يأمل في الحصول على الأفضلية. المبعوث الأممي الخاص لليمن مارتن غريفيث أمّن تنازلات الأطراف المتحاربة للتوصل على الاتفاق ليس عبر التنازلات، بل عبر تخفيف لغة الاتفاق إلى درجة أن ما التزمت به الأطراف فعلاً تُرك إلى حد كبير لتفسيرها الخاص، وخلال الفترة القصيرة التي مرت منذ انتهاء المحادثات، بدا من الواضح أن تفسير الأطراف لالتزاماتها كان مختلف تماماً. ولذلك، لا تعتبر المحادثات نقطة انطلاق لاتفاق أكبر، بل توليفة تخدير موضعية.
نظرياً، ما يزال الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي – “رئيساً انتقالياً” مع أنه كان من المفترض أن يغادر منصبه عام 2014 – وهو يدرك أن خروجه من السلطة شبه مؤكد في حال تم التوقيع على اتفاق سلام. غير أن إرسال وفد إلى السويد لم يكن خياراً لهادي، نظراً لأنه يدين بكل شيء لرعاته السعوديين، وفي الواقع فإن قيام هادي بحكم بلاده من الرياض منذ عام 2015 قد أفقده أي حضور شعبي أو تأثير سياسي.
وبالمثل حضر الحوثيون إلى المحادثات تحت الضغط، إذ تدرك قيادتهم تمام الإدراك أن مجرد النجاة هو أعظم “نصر” يمكنها تحقيقه في هذه المرحلة، حيث أن الضربات التي تتعرض لها قوات الحوثيين في ساحة المعركة تركتها مثخنة الجراح ومستعدة لأية خطوة تخفف عنها الضغط.
ومع ذلك، تظل فرصة أن يتبرع الحوثيون بهزيمة عسكرية لصالح خصومهم ضئيلة أو منعدمة. فبينما كانوا يتعرضون لضغوط عسكرية، أخذ سلوكهم في المناطق التي يسيطرون عليها يشي بالمزيد من الهستيريا والتوجه نحو بناء دولتهم البوليسية الخاصة: اضطهاد الأقليات، وتنفيذ محاكمات صورية وإعدامات، وحظر منظمات المجتمع المدني، وإطلاق حملات اعتقال للتخلص من الأشخاص غير المرغوب فيهم – مثل الصحفيين المستقلين في أفكارهم ومناصري حقوق الإنسان وغيرهم – وصولاً إلى مأسسة حالات ابتزاز الشركات والعمال ومنظمات الإغاثة، وتجنيد الأطفال في أدوار قتالية، ونشر التطرف الديني بين مؤيديهم.
قبل سيطرة الحوثيين على صنعاء، كانت هناك أكثر من 20 صحيفة يومية وأسبوعية مستقلة تصدر في صنعاء. أما اليوم فليس هناك سوى منشورات حوثية. في غضون ذلك، دفعت الحرب المستمرة الحوثيين للتقرب من طهران بشكل أكبر، وفي ذلك مفارقة بالنظر إلى أن السعودية والإمارات تدخلتا عسكرياً في اليمن لمنع ما اعتبرتاه تعدي إيراني على فنائهما الخلفي.
هكذا تعقدت الحرب أكثر فأكثر مع توالي فصولها، مما أدى إلى ترسيخ نفوذ أمراء الحرب والجماعات المسلحة وإلى بلوغ مستويات متقدمة من تشظي البلاد. من المرجح أن يستمر هذا الاتجاه في ظل غياب تسوية أوسع لإنهاء النزاع، وقد تبدو التسوية السياسية بعيدة المنال، لكن ثمة بعض الخطوط العريضة الواضحة لإطارها العام.
من اللافت أن المشاورات التي تقودها الأمم المتحدة بدأت فقط بعد أن فرضت الولايات المتحدة وبريطانيا ضغوطهما على السعودية – وهما أبرز داعميها سياسياً وعسكرياً، وبالتالي فإن من المؤكد تقريباً أن التوصل إلى اتفاق سلام نهائي سيتطلب استمرار الضغوط الأمريكية والبريطانية والدولية على نطاق أوسع بقصد إبقاء الرياض وكل الأطراف الخارجية الأخرى في المسار الصحيح.
إن الانتعاش الاقتصادي واستقرار الأسعار – بما يمكّن السكان من إطعام أنفسهم – يشكلان أساساً للاستقرار السياسي والاجتماعي، كما أن إعادة التوحيد السريع لآليات عمل البنك المركزي اليمني – المنقسم حالياً بين مقرَّين رئيسيَّين يتنافسان على جانبي الجبهة – سيكون أولى خطوات احتواء التدهور الاقتصادي وإعادة الخدمات العامة الأساسية في جميع أنحاء البلاد.
على السعودية أيضاً أن توقف الطرد الجماعي الذين تقوم به حالياً للعمّال اليمنيين المغتربين، نظراً لأن تحويلاتهم المالية تساعد في دعم الملايين من أفراد أسرهم في اليمن.
سيكون الاستقرار السياسي والاجتماعي هشاً في حال استمرت الجهات الفاعلة المسلحة المختلفة في تحدي سلطة الحكومة، وبالتالي فإن كبح هذه الجهات شرط مسبق لتحقيق السلام. وفي هذا الصدد، ينبغي تقوية الآليات المحلية للوساطة والتفاوض على الإجراءات “التعليماتية” للأمم المتحدة. من الناحية العملية، ستحتاج الإمارات إلى الكف عن تسليح الجماعات ذات النزعة الاستقلالية في المحافظات الجنوبية ومباشرة تسريح أجهزتها المسلحة.
في الشمال، سيتطلب الأمر انسحاب قوات الحوثيين من المدن وتسليم أسلحتها الثقيلة إلى طرف ثالث. في الواقع، سيتعين على جميع الأطراف غير الدولتية في البلاد التخلي عن نفوذها العسكري، إذ لا بد للدولة اليمنية – مهما كان الشكل الذي ستتخذه في نهاية المطاف – من احتكار استخدام القوة.
لن توافق أي من هذه الجماعات على نزع سلاحها ما لم تتأكد بشكل معقول من أن مظالمها القديمة والسابقة على الحرب ستعالَج ضمن الترتيب السياسي الذي سيلي النزاع، وبالتالي يجب أن يكون التخطيط لكيفية إعادة بناء الدولة مستوعبا لكل ذلك، مع ضرورة الإستفادة من إخفاقات مؤتمر الحوار الوطني عامي 2013 و2014 التي أدت إلى اندلاع النزاع الحالي.
من هذه الدروس المستفادة: يجب تنفيذ جميع التدابير لبناء ثقة متفق عليها بالكامل قبل المحادثات. وفي حين ينبغي ممارسة ضغط دولي على جميع الأطراف إلى حين التوصل إلى اتفاق وكبح محاولات المعرقلين، يجب أن يتضمن ذلك تنازلات حقيقية فيما يتعلق بنقاط الخلاف.
إن تمييع الالتزامات وجعلها غامضة بما يكفي لتلائم مختلف الأطراف المتصارعة ليس أكثر من وصفة مؤكدة لعودة الحرب. كما أن الحصانة غير المشروطة عن الملاحقة القضائية لمرتكبي جرائم الحرب من قبل أي طرف أيضاً مسألة لا يمكن أن تؤسس لانتقال جدي. بدلاً من ذلك، يجب أن تكون أية عملية عدالة انتقالية مشروطة بتنفيذ كل طرف من الأطراف لالتزاماته.
لقد رأت معظم الأطراف المشاركة في مؤتمر الحوار الوطني الأصلي ضرورة التحول إلى شكل من أشكال الفيدرالية لمعالجة المظالم الوطنية – مع وجوب الاتفاق على الشكل النهائي الذي ستكون عليه هذه الفيدرالية خلال المفاوضات. سيتطلب ذلك بالضرورة ترتيبات لإعادة توزيع الإيرادات بين مختلف المناطق بما يسمح بتقديم الخدمات العامة الأساسية على الصعيد الوطني.
يعتمد نجاح أي ترتيب سياسي على عوامل خارجية أيضاً. من المرجح – للأسف – أن يستمر الفقر في اليمن على المدى المتوسط، وكذلك هو حال الخصومات السياسية القائمة منذ فترة طويلة بين مختلف اللاعبين المحليين. هذه العوامل ستجعل اليمن هشاً حيال النفوذ الأجنبي وأرضاً خصبة للحروب بالوكالة بين مراكز القوة المستقطبة في المنطقة، ولا سيما السعودية وإيران.
وهكذا، على غرار البلدان الأخرى التي تعاني من نزاع أهلي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بالإمكان تحقيق سلام واستقرار نسبيين في اليمن، لكنهما سيظلان تحت التهديد المستمر للعوامل الخارجية في ظل التصعيد الإقليمي.
يجب أن يدرك اللاعبون الدوليون ذلك، وأن يروا الفرصة التي يتيحها إنهاء النزاع في اليمن بهذا الصدد: حصيلة موضعية قابلة للتحقيق وقادرة على إطلاق تحولات جغرافية سياسية أوسع نطاقاً في جميع أنحاء المنطقة.
هذه افتتاحية ظهرت في: جوع، دبلوماسية، وأصدقاء لدودون: تقرير اليمن السنوي 2018