في 11 مايو/أيار، شنت القوات الموالية للرئيس عبدربه منصور هادي هجوماً عسكرياً واسعاً على قوات المجلس الانتقالي الجنوبي في محافظة أبين الجنوبية للسيطرة على مديرية زنجبار، مركز المحافظة، والتقدم نحو مدينة عدن، العاصمة المؤقتة.
يأتي هذا القتال المتجدد كجزء من جهد الحكومة تغيير المعادلة العسكرية في الجنوب، وتحسين موقعها التفاوضي فيما يخص اتفاق الرياض الذي وُقع في نوفمبر/تشرين الثاني 2019. كان الاتفاق قد أوقف الاشتباكات بين قوات الحكومة والمجلس الانتقالي، ولكن الترتيبات العسكرية والأمنية لتقاسم السلطة التي نص عليها الاتفاق تعثّر تنفيذها. كما يأتي عقب قرار المجلس الانتقالي إعلان “الإدارة الذاتية” في جنوب اليمن، الخطوة التي كان لها أثر عملي ضئيل خارج محافظة عدن ولكنها دفعت حكومة هادي للرد في أبين.
وفي الواقع، فإن مواجهات أبين هي جولة جديدة من الصراع المتكرر على السلطة السياسية بين أطراف المعسكر المناهض للحوثي والمدعوم من جهات إقليمية مختلفة. الطرف الأول هو الرئيس هادي وحزب الإصلاح الإسلامي المحتكرين للسلطة الشرعية، والطرف الثاني هم المقصيين من السلطة، المجلس الانتقالي الجنوبي، وبدرجة أقل، قوات المقاومة الوطنية بقيادة طارق صالح والتي أبدت تعاطفاً ضمنياً مع المجلس وإن لم تقدم له أي دعم عسكري. الفريق الأول هو حليف السعودية، بينما الثاني مدعوم من الإمارات.
ولكن من غير المرجّح، أن تُغير الاشتباكات الأخيرة ديناميكيات القوة في الساحة الجنوبية دون تدخل التحالف العربي لصالح طرف أو آخر -وهو الأمر المستبعد إذ لا الرياض ولا أبو ظبي تسعيان وراء المزيد من الاحتكاك -أو حشد الحكومة لأقصى مواردها العسكرية من أجل خوض معركة حاسمة. ولكن من شأن معركة من هذا النوع على مشارف عدن أن تشكل خطراً على مجرى القتال ضد الحوثيين وقد يؤدي إلى سحب القوات الحكومية بعيدًا عن الجبهات النشطة في مأرب والبيضاء ويجعلهم عرضة لهجمات الحوثيين. كما أن حشد المجلس الانتقالي المزيد من قواته في أبين قد يضع جبهات الضالع ولحج في خطر أمام قوات الحوثيين.
جاء هجوم الشرعية في أبين على محورين. الأول يقع غرباً على طول الخط الساحلي الرابط بين مدينة شقرة، الواقعة تحت سيطرة القوات الحكومية، ومدينة زنجبار، الواقعة تحت سيطرة المجلس الانتقالي (تتركز خطوط التماس الحالية في منطقة الشيخ سالم). أما المحور الثاني فشهد تقدم القوات الحكومية من مديرية خنفر مروراً بمنطقة الطرية وصولاً الى جعار، شمال مدينة زنجبار، حيث يتواجد معسكر 7 أكتوبر الذي يعد قاعدة للقوات الجنوبية الموالية للمجلس الانتقالي. ونظراً لموقعه الاستراتيجي، فإن من يسيطر على المعسكر يسيطر بشكل أساسي على مركز المحافظة.
لم يحقق الهجوم نتائجه المأمولة واصطدم تقدم الحكومة في الأيام الأولى بالتحصينات الدفاعية للمجلس الانتقالي في الشيخ سالم. لذا حولت الحكومة قواتها نحو المحور الثاني منجزة تقدماً محدوداً في منطقة “الطرية” قبل أن تتمكن قوات المجلس الانتقالي من استعادة مواقعها هناك.
توازن القوى العسكري الصلب في أبين -مسقط رأس الرئيس هادي -لم يتح لأي طرف فرض إرادته المطلقة. التزم المجلس الانتقالي باستراتيجيته الدفاعية مع شن هجمات مضادة بين الحين والآخر أسفرت عن أسر قائد اللواء 115 مشاة العميد سيف القفيش. ولكن قوات المجلس الانتقالي فضلت حرب الخنادق كي لا تكون مكشوفة أمام مدفعية الشرعية. وواظبت قوات الحكومة بشكل يومي على هجماتها البرية دون أي تقدم يذكر.
وخلال المواجهات، سارع الطرفان إلى حشد قواتهم على خطوط التماس لترجيح إحدى الكفتين. اعتمدت الشرعية على مزيج من القوات الجنوبية المطرودة من عدن خلال آخر جولات القتال عام 2019، وهي اللواء الأول والثالث والرابع حماية رئاسية واللواء 39 مدرع، إلى جانب القوات العسكرية من محور شقرة في أبين ومحور عتق في محافظة شبوة المجاورة. ساندت هذه القوات قوات عسكرية شمالية من الجيش اليمني جاءت من مأرب مثل اللواء 159 بقيادة سيف الشدادي وقوات أخرى بقيادة سعد بن معيلي.
كما استدعت الحكومة كتائب إضافية من المنطقة العسكرية الأولى في سيئون في محافظة حضرموت، ما وتر الوضع في أكبر محافظة جنوبية. ودفع إعادة الانتشار بقيادة المجلس الانتقالي في حضرموت، إلى التلويح بخيار “المقاومة الشعبية” لقطع خطوط الإمداد بين حضرموت وأبين، ما قرب المحافظ فرج البحسني من معسكر الرئيس هادي، وعلى إثر هذه الأحداث، أقال وزير الداخلية أحمد الميسري مدير أمن ساحل حضرموت المحسوب على الإمارات والمجلس الانتقالي.
وبعد اشتعال المعارك في أبين، دعا عيدروس الزبيدي، رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي، في خطاب متلفز إلى “النفير العام دفاعاً عن الجنوب”. وصلت تعزيزات المجلس الانتقالي من لحج وعدن والضالع، في مقدمتها اللواءين الثالث والخامس دعم وإسناد وألوية الصاعقة، إلى جانب اللواء الأول مشاة جبلي من عدن بقيادة أبو طاهر البيشي وألوية النخبة الشبوانية التي طُردت من شبوة خلال القتال مع القوات الموالية لهادي عام 2019. وفي وقت لاحق، انضمت وحدات عسكرية من ألوية العمالقة التي كان لها دور ريادي في الهجوم الساحلي عام 2018 والذي بلغ ذروته مع اندلاع معركة الحديدة. هذا القتال تحول إلى معركة سرديات: المجلس الانتقالي يصوّره على أنه صراع بين الشمال والجنوب، أما الحكومة فقالت إنه صراع قانوني ضد المتمردين الانفصاليين. وهناك تيار من الشرعية أصر على أن ما يحدث هو صراع “جنوبي/جنوبي”.
من جهة، كان هجوم الحكومة اليمنية على أبين مناورة تكتيكية في إطار اتفاق الرياض حيث حصلت على “ضوء أصفر” من السعودية لصد سعي المجلس الانتقالي وراء الإدارة الذاتية ومعاقبته على الضغط على الموالين للحكومة في سقطرى وحضرموت. وفي الوقت نفسه، تداولت أوساط متشددة في الحكومة بأن الاستيلاء على زنجبار والتقدم نحو عدن قد يفرض أمراً واقعاً جديداً ومفيداً في الجنوب من شأنه أن يشعل حرباً أوسع ويؤدي إلى انهيار اتفاق الرياض. خطوط سعودية حمراء يعتبر المتشددون أنه لا بأس من تجاوزها لوضع حد لمنافسة المجلس الانتقالي على السلطة.
أما بالنسبة للمجلس الانتقالي الجنوبي، كان لإعلان الإدارة الذاتية هدف تكتيكي وهو إجبار السعودية للضغط على الحكومة اليمنية للتعاون وتطبيق اتفاق الرياض. أما فيما يخص استراتيجيته على المدى الطويل، فقد يخدم هذا الإعلان أيضاً هدفه الأوسع لبناء دولة جنوبية مستقلة.
لقد لجأ الطرفان المحليان، ومعهم الرعاة الإقليميين، إلى إنضاج “التسوية الجنوبية” على نار مرتفعة. وهذا النمط من المناورات من قبل الأطراف المتنافسة تكرر مرتين في الجنوب منذ عام 2017 حيث تعقب كل مواجهة مسلحة انفراجة سياسية محدودة. في يناير/كانون الثاني 2018، اشتبكت قوات المجلس الانتقالي والشرعية في عدن مما أدى إلى طرد قوات الحكومة. ثم في أكتوبر/تشرين الأول من نفس العام خفّت حدة التوترات السياسية بإقالة رئيس الوزراء أحمد بن دغر -الذي اعتبر شخصية إشكالية -وتعيين معين عبدالملك سعيد، المقبول لدى قيادة الشرعية والمجلس الانتقالي وداعميهما السعودية والإمارات، بدلاً عنه. وفي أغسطس/آب 2019، اندلعت اشتباكات مسلحة بين المجلس الانتقالي والحكومة في عدن وصولاً إلى شبوة. وفي نوفمبر/تشرين الثاني، وقّع الطرفان اتفاق الرياض الذي أعاد ضبط العلاقة السياسية بينهما وبين حلفائهما الإقليميين. قد تسفر موجة التصعيد الجديدة عن تعديل سياسي إضافي على أساس اتفاق الرياض.
ولكن لم تقطع هذه الاشتباكات خطوط التواصل بين مؤيدي الحكومة في الرياض ومؤيدي المجلس الانتقالي الجنوبي في أبو ظبي.
وبعد تواصل رفيع المستوى بين قيادة البلدين، لبى رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي عيدروس الزبيدي، المقيم في الإمارات، دعوة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان لزيارة الرياض لعقد محادثات. وبالإضافة إلى وقف التصعيد العسكري الحالي في الجنوب، تسعى السعودية إلى إقناع الأطراف المتنافسة باستئناف عملهم في التفاوض على اتفاق الرياض. وأفادت وسائل إعلام محلية أن الرياض قدمت مؤخراً تعديلات تزامن بين الشقين السياسي والأمني من اتفاق الرياض. استقبلت قيادة المجلس الانتقالي و”حمائم الشرعية” بقيادة رئيس الوزراء وممثلي الحزب الاشتراكي والحزب الناصري دعوات وقف التصعيد بإيجابية، بحسب مصادر سياسية داخل الحكومة والمجلس الانتقالي، أما “صقور الشرعية” الذين شجعوا إعادة إشعال الصراع لإثبات قوتهم العسكرية على الأرض قبل إعادة التفاوض على أي شروط مع المجلس الانتقالي، فهم يبدون ضد أي توافق قبل تثبيت مكاسب على الأرض.
ولكن إذا استمر الوضع على ما هو عليه حتى ذهاب المجلس الانتقالي إلى الرياض لاستئناف المفاوضات، فإن هذا التعادل سيكون إيجابياً بالنسبة للمجلس الذي سيكون قد فرض أمر واقع جديد في عدن عبر قراره المتعلق بالإدارة الذاتية وقد ثبت معادلة ردع عسكري في أبين. وبالتالي، سيكون المجلس الانتقالي قد أكد هيمنته السياسية والعسكرية في جنوب غرب اليمن.
أما الشرعية، فهي تجد نفسها بين خيارين، إما محاولة التصعيد أكثر وحدها، أو المصالحة إذا تعثرت اندفاعاتها العسكرية، ولم تظهر السعودية أي إشارة توحي أنها مهتمة بتنفيذ أو دعم معركة حاسمة في زنجبار- معركة هي على الأرجح الطريقة الوحيدة لزعزعة سيطرة المجلس على عدن. وإذا اختارت وقف التصعيد، على حكومة هادي الاستعداد لتقديم تنازلات سياسية حاولت مراراً التنصل منها للمجلس الانتقالي تتعلق بالمراكز الحكومية والشراكة في مفاوضات السلام النهائية، وهو المسار الذي نص عليه اتفاق الرياض.
مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية هو مركز أبحاث مستقل يسعى إلى إحداث فارق عبر الإنتاج المعرفي، مع تركيز خاص على اليمن والإقليم المجاور. تغطي إصدارات وبرامج المركز، المتوفرة باللغتين العربية والإنجليزية، التطورات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية، بهدف التأثير على السياسات المحلية والإقليمية والدولية.