تعد الوديان الخصبة التي تتدفق من المناطق الجبلية على الساحل الغربي لليمن، بمثابة شريان حياة أساسي للسكان المعتمدين على المياه في الإنتاج الزراعي منذ آلاف السنين؛ إذ يزرعون في سهول تهامة -الممتدة على طول ساحل البحر الأحمر في شبه الجزيرة العربية -أنواعًا عديدة من الخضار والفواكه والحبوب مثل الذرة الرفيعة، كما يربون الماشية على طول الأودية التي تُستخدم مياهها في الري.
وأشجار النخيل هي أحد الأشجار المميزة التي تُزرع في هذه المنطقة من محافظة الحديدة، وكذلك محافظة حضرموت الواقعة شرقي اليمن. وبين عامي 2008 و2012، حصد اليمن حوالي 57 طنًا متريًا من التمور من نحو 4 ملايين نخلة، ما يجعل التمور محصولًا استراتيجيًا للأمن الغذائي.
لأشجار النخيل المعروفة بالاسم العلمي فينيكس داكتيليفيرا، عشرات الأصناف، وتتميز تمورها بقيمة غذائية عالية من الألياف والسكر، وتتطلب زراعتها والحفاظ عليها رعاية مكثفة وخبرة متخصصة في الوصول إلى المياه.
عانى مزارعو النخيل خلال السنوات العشر الماضية من تحديات عدة، إذ تفاقمت الآفات -مثل سوسة النخيل الحمراء والجراد -في المزارع، كما أثر زيادة التصحر الناجم عن أزمات المناخ والنباتات الغازية غير الواطنة على مصادر المياه، وتسببت الحرب بانخفاض حاد في الإنتاج، وتشير التقديرات إلى فقدان قرابة مليوني نخلة من أصل أربعة ملايين. وهي أرقام كبيرة للغاية بالنظر إلى أن انعدام الأمن الغذائي ساهم في دفع ملايين اليمنيين إلى حافة المجاعة.
فقدان مساحات من المزارع مرئي من الفضاء
أجرينا في موقع “بيلينغكات” – وهي مجموعة صحفية استقصائية مفتوحة المصدر – تحقيقًا في انخفاض مزارع النخيل، وباستخدام بيانات مفتوحة المصدر وصور الأقمار الصناعية، رأينا في الحقيقة تقلص الغطاء النباتي في ثلاث مناطق رئيسية معروفة بزراعة النخيل في سهل تهامة خلال السنوات الثلاث الماضية.
واستنادًا إلى مقال نشرته منظمة البيئة اليمنية (حلم أخضر) عام 2019، حددنا المواقع التي ورد في المقال أنها كانت الأكثر تضررًا عبر صور عالية الدقة من جوجل إيرث برو/ماكسار تكنولوجيز (Google Earth Pro/MAXAR)، وبتحليل التغيير الذي طرأ على الغطاء النباتي والمنطقة المغطاة بالشجيرات على مدى السنوات الثلاث الماضية باستخدام صور متوسطة الدقة من Planet Labs، (شركة تجارية)، ومن صور القمر الصناعي سينتينيل 2 (Sentinel-2) التابع لوكالة الفضاء الأوروبية، والمتوفرة مجانًا من خلال موقع Sentinel Hub. ظهر أن مئات المزارع في مناطق الدريهمي وبيت الفقيه والتحيتا بمحافظة الحديدة قد تضررت، إذ بدأ التغيير في الغطاء النباتي بمزارع التمور خلال السنوات الثلاث الماضية، في حين أكدت الصور عالية الدقة فقدان واختفاء الأشجار في مواقع محددة.
صورة قمر صناعي: الدريهمي، 22 حزيران/يونيو 2016
صورة قمر صناعي: الدريهمي، 23 مايو/أيار 2020
تُظهر صور عالية الدقة من جوجل إيرث برو/ماكسار تكنولوجيز فقدان الأشجار والغطاء النباتي من يونيو/حزيران 2016 (الصورة 1) إلى مايو/أيار 2020 (الصورة 2) في مزارع نخيل بالقرب من بلدة الدريهمي المعروفة بزراعة التمور والواقعة على بعد حوالي 20 كيلومترا جنوب مدينة الحديدة.
ثبت أن تحديد العوامل وراء التراجع السريع في إنتاج التمور هو مهمة معقدة ومثيرة للاهتمام، أبرزها الديناميكيات المربكة التي تشمل النزاع، والمناخ، والكوارث الطبيعية، والتوتر بين الممارسات الزراعية الحديثة والتقليدية، والعلاقة بين المياه والزراعة، واستخدام الأراضي في اليمن. ووفقًا للتحليلات العديدة التي أجرتها منظمة الأغذية والزراعة، وبرنامج الأغذية العالمي، وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، والبنك الدولي، وتقارير الحكومة اليمنية، والأدبيات الأكاديمية، فيمكن بسهولة أن يختل التوازن الدقيق بين استخدام المياه والزراعة. وبغض النظر عن المخاطر الطبيعية غير المتوقعة مثل الفيضانات (التي دمرت 500 ألف نخلة عام 2008)، فإنه من الممكن التعامل مع الأسباب الطبيعية مثل الآفات والجفاف.
وفي هذا الجانب فإن النزاع المسلح أخل بالتوازن في تلك المنطقة؛ إذ تسبب بشكل مباشر بنزوح المزارعين من مناطق الخطوط الأمامية للمعارك، تاركين خلفهم مزارع النخيل ومحصول التمور، وأعاقت الألغام الأرضية وصول المزارعين لأراضيهم الزراعية، كما أدى النزاع إلى ارتفاع حاد في أسعار الوقود (الديزل) اللازم لتشغيل مضخات استخراج المياه الجوفية، وحد من قدرة المزارعين في الوصول للمبيدات الحشرية اللازمة لمكافحة الحشرات والأمراض.
في الوقت نفسه، ساهم تغير المناخ -لأسباب من صنع الإنسان -في تملّح المياه الجوفية وزيادة التصحر، وظهور المزيد من الكثبان الرملية في المناطق الساحلية. وفي ظل غياب أنظمة مناسبة وفعّالة لتقليل آثار هذه المشاكل؛ تعاني المناطق الزراعية من هذه العواقب بشكل متزايد.
وبحسب مقال نشر مؤخرًا على موقع حلم أخضر، فإن عدد أشجار النخيل في محافظة حضرموت انخفض بسبب الأمطار الغزيرة المتسببة في فيضان وادي حجر، ما أدى إلى اقتلاع المئات -إن لم يكن أكثر -من أشجار النخيل على ضفاف الوادي.
حرب ومياه وتضاءل المحاصيل
عانى اليمن تاريخيًا من استخدام المياه، وأدى النزاع المسلح مؤخرًا؛ إلى تفاقم المشاكل المتعلقة بالأمن المائي، وساهمت المياه في انتشار وباء الكوليرا وغيره من الأمراض المعدية الأخرى، كما ترك العنف المسلح آثارًا مدمرة على قطاع الإنتاج الزراعي مع انخفاض كبير في إنتاج المحاصيل.
ووفقًا لتحليل أجراه البنك الدولي فإن إنتاج الأراضي الزراعية انخفض بنسبة 76% ما بين عامي 2014 و2017. وبالإضافة إلى تهجير بعض المزارعين عن أراضيهم، كان للصراع تأثير مباشر على البنية التحتية الزراعية والمياه، مما أعاق زراعة المحاصيل وحصادها، وانعكس سلبًا على الأمن الغذائي العام.
سوف تُسمع أصداء الآثار البيئية للصراع لفترة طويلة، إذ حذر تقرير يمني -صدر عام 2019 ضمن إطار اتفاقية التنوع البيولوجي -من أن نقص الموارد يؤثر بشكل خطير على قدرة البلاد في “وقف الأضرار البيئية المستمرة والمتعلقة بالنزاع”، والتي تتجلى في “الفقدان المتسارع للتنوع البيولوجي والاستخراج المفرط للمياه الشحيحة بسبب تصاعد الحرب”.
كما تناول التقرير بالتفصيل ازدياد التلوث الشديد، وفقدان المناطق المحمية، وانتشار الأنواع الغازية من النباتات والحشرات، وفي حال لم يتم التعامل معها بشكل صحيح؛ سيكون لكل هذا عواقب وخيمة في تحليل ما بعد الصراع وبرامج إعادة الإعمار، والتي ينبغي أن تشمل إعادة التنمية المستدامة ونهج “إعادة البناء بشكل أفضل وأكثر اخضرارًا”.
توضح حالة اليمن مدى أهمية البيئة الطبيعية والبنية التحتية للبيئة، وبالتحديد فيما يخص الوصول إلى المياه النظيفة الصالحة للشرب والاغتسال، والمياه المستخدمة في الإنتاج الزراعي الذي يؤمّن الغذاء للمجتمعات، ويوفر مصدر دخل من خلال العمالة وتصدير المنتجات.
الجهود المستمرة التي تبذلها اللجنة الدولية للصليب الأحمر من خلال مبادئها التوجيهية المحدّثة لحماية البيئة في النزاعات المسلحة، وقرارات جمعية الأمم المتحدة للبيئة، والمناقشات في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بشأن البيئة والسلام والأمن، جميعها تساهم في البحث عن آلية لتحديد الأضرار البيئية المرتبطة بالنزاع والاستجابة لها والمساءلة حولها، وهو الأمر الضروري في نهاية المطاف للمساهمة في حماية البيئة على نطاق أوسع في النزاعات المسلحة وحماية المدنيين المعتمدين على البيئة.
مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية هو مركز أبحاث مستقل يسعى إلى إحداث فارق عبر الإنتاج المعرفي، مع تركيز خاص على اليمن والإقليم المجاور. تغطي إصدارات وبرامج المركز، المتوفرة باللغتين العربية والإنجليزية، التطورات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية، بهدف التأثير على السياسات المحلية والإقليمية والدولية.