رغم أن الحرب في اليمن لا تزال توصف بأنها صراع سياسي بين الفصائل السياسية، إلا أنها منذ بداياتها شملت صدام ضمني بين هويتين رئيسيتين، القبائل الزيدية الشمالية في الهضبة، ويُشار إليها تاريخيًا باسم اليمن الأعلى، والتي سيطرت على معظم اليمن لقرون، والمجتمعات الزراعية الشافعية فيما يُعرف باليمن الأسفل، والتي كانت بمثابة خزان الضرائب للحكم الزيدي.
لقد ولى وقت الإنكار المتعمد لطبيعة حرب اليمن وحقيقة أنها صراع هويات، وعلينا نحن اليمنيون أن نواجه الحقائق حتى نتمكن من التعامل معها.
على الرغم من بنية جماعة الحوثيين المسلحة (أنصار الله) الحديثة وأيديولوجيتها وبُعدها الإقليمي الشيعي، إلا أنها ليست سوى أحدث نسخة للسلطة الشمالية القبلية الزيدية، إذ أن سيطرتها على صنعاء بسرعة خاطفة، بل في الحقيقة على معظم مناطق اليمن، إشارة واضحة على أنها الوريث الطبيعي لسلفها، النخبة الشمالية القبلية الزيدية القديمة بقيادة الرئيس السابق علي عبدالله صالح.
سرعة انكسار الحوثيين عندما توغلوا خارج المنطقة الشمالية الآمنة، نحو مأرب وجنوب اليمن، يكشف تواطؤ النخب التقليدية الشمالية القبلية الزيدية مع الحوثيين.
اعتقدت تلك النخب، كما اعتقد الرئيس عبدربه منصور هادي، أنه بالإمكان استخدام الحوثيين لإضعاف خصومها ثم استيعاب الحوثيين في الفصيل الأكبر من تلك النخبة، المتمركزة في صنعاء.
كشف قرار هذه النخب بدعم سيطرة الحوثيين عجزها في التعايش مع بقية الشعب اليمني على قدم المساواة، أي كأنهم يقولون للآخرين “إما أن نحكم أو ندمر وحدة هذا البلد”.
أما حزب الإصلاح فهو الوجه الآخر لجماعة الحوثيين من نواحٍ عدة، قد تكون هذه العبارة مفاجئة بالنظر إلى براعة الحوثيين العسكرية المثيرة للإعجاب ونجاحاتهم في ساحة المعركة والأداء السيء للقوات التي تُعد عمومًا جزءًا من الذراع العسكرية للإصلاح، ومع ذلك، فإن الإصلاح هو الممثل السياسي الأكثر تعبيرًا عن الديموغرافية اليمنية الكبيرة الأخرى، المزارعين الشوافع في اليمن الأوسط، على الرغم من أن موقف الإصلاح ضد الحزب الاشتراكي اليمني عام 1994 قد أضعف صفته التمثيلية لمحافظات عدن ولحج والضالع.[1]
تعبّر جماعة الحوثيين علانية عن الطبيعة الطائفية لنظامها السياسي، حيث تنتشر شعارات الولاية[2] وغيرها من المعتقدات الزيدية على جميع أنحاء المباني العامة وفي شوارع المدن ذات الأغلبية الشافعية مثل الحديدة، ما يعكس بوضوح أنهم ينظرون إلى السكان الشافعيين على أنهم رعاياهم، وفي هذا المناخ من الاستقطاب الطائفي، أصبح الإصلاح الخصم الرئيسي لجماعة الحوثيين.
يقع حزب الإصلاح في مرمى قوة إقليمية خطيرة وهي الإمارات، إذ أنه يُعد الفرع اليمني لجماعة الإخوان المسلمين التي صنفتها الإمارات منظمة إرهابية، وأقسمت على القضاء عليها؛ لذا سعت أبو ظبي إلى تمكين السلفيين في اليمن، لا سيما في الجنوب وتعز وعلى طول ساحل البحر الأحمر لمواجهة الإصلاح.
صحيح أن هذا الجهد قد حقق بعض النجاحات إلا أن بُنية حزب الإصلاح القوية ساعدته على البقاء ذو أهمية وفي بعض الحالات، كما هو الحال في تعز، صد مثل هذه الجماعات التي تدعمها الإمارات.
ومع ذلك فإن موقف الإمارات ليس سوى غيض من فيض العداء الإقليمي والعالمي ضد الأحزاب الإسلامية، وبالتالي فإن المعضلة بالنسبة للإصلاح هي أنه في وضع خاسر بكل الأحوال، سواء انتصر الحوثيون في هذه الحرب أو الحكومة المعترف بها دوليًا والمدعومة من التحالف الذي تقوده السعودية، وصار بقاء الإصلاح نفسه في خطر، وللخروج من هذا الوضع المحكوم بالفناء، لا يمكن أن يقتصر نهج الإصلاح على رد الفعل فقط، بل يجب عليه أن يكون مبادرًا.
مع اقتراب قوات الحوثيين من مأرب، المعقل الرئيسي للإصلاح، أصبح مسار الحرب واضحًا. سيصنع الحوثيون حقائق جديدة على الأرض، ويدفنوا المُسلّمة التي هيمنت على تفكير العديد من المراقبين اليمنيين والدوليين، وهي أن السلام سيكون مبني على قاعدة “لا غالب ولا مغلوب”؛ إذ سيملي الحوثيون شروط السلام القادم، وبطبيعة الحال سيختارون النموذج الذي جربه واختبره أجدادهم، تسوية بين النخب الشمالية القبلية الزيدية الحاكمة ورعاياها الشوافع.
الممثل البيّن للرعايا الشوافع سيكون هو حزب الإصلاح المنكسر، وتجري حاليًا مفاوضات بين الإصلاح والحوثيين، وكان إطلاق الحوثيين سراح وزير التربية والتعليم والقيادي بحزب الإصلاح عبد الرزاق الأشول عام 2018 مؤشرًا على المحاولة الأولى لمثل هذه المفاوضات.
وفي أغسطس/آب، عاد النائب عن حزب الإصلاح فؤاد دحابة إلى صنعاء لينضم إلى العديد من نواب الإصلاح الآخرين الذين لم يغادروا صنعاء، وأغلب الظن أن الطرفين لا يتفاوضان الآن على مبدأ التوصل إلى اتفاق بل على الأرجح يناقشان شروط هذا الاتفاق.
يعرف الإصلاح جيدًا أن الوقت ليس في صالحه، فالصفقة التي يمكن أن يحصل عليها اليوم لن تكون مطروحة على الطاولة غدًا، كما أن الحزب على الأرجح قلق من حدث غريب هو إخلاء سبيل نجل اللواء علي محسن، وهو سجين ذو قيمة عالية، مقابل عالم الدين الزيدي يحيى الديلمي الذي ينتقد الحوثيين صراحة.
سيكون من الحماقة أن يقف الإصلاح متفرجًا بينما يبرم الآخرون الاتفاقات مع الحوثيين؛ لذا من المرجّح أن يعقد الإصلاح اتفاقًا مع الحوثيين، ولكن لسوء الحظ من المحتمل أن يكون ذلك بشروط لا تختلف كثيرًا عن الصفقات التي أبرمها أجدادهم مع الأئمة الزيود الذين خلوا.
وفي حين أن مثل هذا الاتفاق سيسهل إنهاء الحرب، فإن النظام السياسي الذي سينتج عنها سيكون حتمًا دولة ثيوقراطية ستحبط التنمية الاجتماعية والاقتصادية والديمقراطية لجيل قادم.
وعلى الرغم من قتامة المشهد، إلا أنه لا يزال هناك مخرجًا واحدًا ممكنًا، يتمثل في إعادة ترتيب خطوط المواجهة بحيث تؤدي إلى تسوية أكثر شمولًا وتشاركية وتقدمية.
تشكّل حزب الإصلاح عام 1991 من عدة قادة بارزين في حزب المؤتمر الشعبي العام، وعلى الرغم من الابتلاء والانقسام داخل حزب المؤتمر إلا أنه الحزب الذي يمتلك أكبر قاعدة شعبية في اليمن، بما في ذلك جزء كبير من النخب التكنوقراطية في البلاد.
وعلى الرغم من حالة حزب المؤتمر المؤسفة إلا أن المجتمع الدولي، ومبادرة مجلس التعاون الخليجي، وقرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، والمنطق، كلها تملي بضرورة أن يلعب حزب المؤتمر دورًا رائدًا في أي تسوية. وعلى الرغم من الماضي الفاسد للحزب المؤتمر إلا أن اعتداله التاريخي يطمئن المنطقة والعالم بأن اليمن يمكن ألّا يشكل مصدر قلق أمني للإقليم.
للإصلاح الخيار، إما أن يعقد صفقة مع الحوثيين ويأمل ألا يُغدر به في المستقبل، أو يعود إلى جذوره ويندمج مع حزب المؤتمر حيث يمكنه أن يدخل “السبات الشتوي” في انتظار مرور هذه الموجة الهائلة من العداء. والمُؤمّل أن يؤمّن اندماج الإصلاح مع المؤتمر ضمانات كافية للإمارات بأن الأول لن يتصرف ضد مصالحها، وبالتالي سيترك الإماراتيون الإصلاح وشأنه.
المؤتمر حزب بيروقراطي[3] غير محكم التنظيم، والعديد من قادته في السابق كانوا في حزب الإصلاح أو الحزب الاشتراكي أو بعثيين أو ناصريين سابقين، وبالتالي لن يكون قادة الإصلاح وحيدين.
هذا الخيار هو أحد السبل الممكنة لإنهاء الحرب وإعطاء اليمنيين فرصة لتسوية سياسية شاملة يُبنى على أساسها دولة مدنية.
ظهرت هذه المقالة في ” الوعد المتلاشي لاتفاق الرياض – تقرير اليمن – أكتوبر/تشرين الأول 2020“
الهوامش:
[1] يستخدم المؤلف مصطلح اليمن الأوسط لوصف المنطقة من سفوح الهضبة العليا إلى ساحل عدن وأبين، ومن سهل تهامة إلى المشرق، الصحراء الشرقية. هذه هي المنطقة التي سُميت خلال الثلاثة آلاف سنة الماضية “يمنت” ثم في العصر الإسلامي سميت اليمن. مصطلح اليمن الجنوبي هو من ابتكار القرن العشرين ويتناقض مع حقيقة أن حضرموت تمتد إلى الشمال أكثر من محافظة صعدة.
[2] ينص مفهوم الولاية في المذهب الشيعي الزيدي على أن السلطة الشرعية تقتصر على ذرية علي بن أبي طالب وإحدى زوجاته فاطمة بنت النبي محمد من خلال ابنيهما الحسن والحسين، ويشار إليهما غالبًا بالبطنين (العشيرتين).
[3] الخطاب الرسمي للمؤتمر الشعبي العام هو أنه حزب برامجي، ومع ذلك ونظرًا للطريقة التي استخدمها كل من صالح وهادي لتعزيز المصالح الشخصية والعائلية، فمن الأنسب وصف المؤتمر بأنه بيروقراطي.