في عصور ما قبل الميلاد، كانت منطقة شبوة اليمنية عاصمة لثلاث ممالك يمنية قديمة: قتبان، وأوسان، وحضرموت. تتميز شبوة بتنوعها الجغرافي حيث تمتد فيها السلاسل الجبلية والمناطق الصحراوية وصولًا إلى سواحل بحر العرب الخلابة. تعتبر شبوة مركزًا لأقوى القبائل المحلية فضلًا عن أنها تنتج واحدًا من أجود أنواع العسل في العالم. خلال العقود الماضية، نادرًا ما حظيت محافظة شبوة النائية باهتمام وسائل الإعلام حيث لم تطرق إليها التقارير الإخبارية الدولية إلا حين سقطت بعض مدنها في أيدي تنظيم القاعدة، أو مع بروز فرصة ما تتعلق بإنتاج النفط والغاز.
ولكن خلال الصراع الحالي، أصبحت شبوة نموذجًا مكثفًا للصراع الإقليمي بالوكالة في اليمن. تتشابك مصالح وأجندات وصراعات القوى الخارجية في شبوة، بما في ذلك الصراع الإقليمي بين إيران والسعودية، والعمليات الخفية الرامية لكسب النفوذ التي تشمل قطر وعُمان، وحتى المعركة الرامية لكسب السيطرة في اليمن بين الحليفين الافتراضيين السعودية والإمارات. لا يمكن حسم أي مستقبل للجنوب أو لليمن ككل دون أخذ تأثير شبوة بعين الاعتبار، وهذا يستلزم فهم توجيه أو حتى تحييد المصالح الخارجية حيث أمكن.
التعامل مع الدخلاء ومصالحهم وأدواتهم المختلفة لتحقيق هذه المصالح ليس تجربة جديدة على الشبوانيين. كانت شبوة جزءًا من اتحاد الجنوب العربي المدعوم من بريطانيا قبل أن تُضم قسرًا إلى جنوب اليمن الماركسي المدعوم من الاتحاد السوفيتي. أما اليوم فإن التواجد الغربي الأساسي في المحافظة يتمثل بشركات النفط العالمية. توجد منشأة بلحاف لتصدير الغاز الطبيعي المسال، أكبر مشروع استثماري في البلاد، في شبوة، إحدى محافظات المثلث الأسود الغنية بالنفط إلى جانب حضرموت ومأرب. استأنفت الشركة النمساوية أو إم في (OMV) عمليات الإنتاج في حقل حبّان النفطي في شبوة عام 2018، في حين تمتلك شركة توتال الفرنسية وشركة هنت الأمريكية نصيب الأسد في منشأة بلحاف التي أوقفت عملياتها عام 2015 وأصبحت حاليًّا قاعدة للقوات الإماراتية.
جذبت المساحات الواسعة والسواحل الممتدة والحدود الصحراوية وضعف الرقابة الحكومية على مدى عقود الجهات الفاعلة غير الحكومية كتنظيم القاعدة في جزيرة العرب الذي نما بشكل كبير كفرع محلي لتنظيم القاعدة. كما سيطرت جماعة الحوثيين المسلحة على أجزاء كبيرة من شبوة منذ بداية عام 2015 إلى أن أُجبرت على الانسحاب بعد سنتين عقب هزيمة قواتها في المعارك مع القبائل المحلية والقوات المدعومة من السعودية والإمارات. بالنسبة للحوثيين، فإن السيطرة على شبوة تمنحهم ممرًا للتوسع جنوبًا وقدرة الوصول إلى خليج عدن وبحر العرب فضلًا عن المزيد من الممرات لتهريب السلاح والسيطرة على جزء من المثلث الأسود، مكاسب ستحرص السعودية والإمارات على التمسك بها.
العوامل المحلية قد تفوق المصالح السعودية والإماراتية وزنًا
تنافس اللاعبون الخارجيون على كسب ولاء القبائل والسلطات المحلية والتشكيلات المسلحة المختلفة في المحافظة. أمسى النزاع بين الحكومة اليمنية المدعومة سعوديًّا والمجلس الانتقالي الجنوبي المدعوم إماراتيًّا -الحليفين اللذين أصبحا خصومًا في التحالف المناهض للحوثيين- نقطة الانقسام السياسية الرئيسية في المحافظة خلال السنوات الأخيرة. في أغسطس/آب 2019، طردت قوات المجلس الانتقالي قوات الحكومة من العاصمة المؤقتة عدن، ثم وجه المجلس، الذي يسعى للسيطرة على جميع مناطق اليمن الجنوبي السابق، أنظاره إلى شبوة. توقّع المجلس إحراز انتصار سريع عقب نجاحه في عدن وأبين، واندلعت اشتباكات بين قوات النخبة الشبوانية، التي أنشأتها الإمارات عام 2016 لغرض مكافحة الإرهاب، وقوات موالية للحكومة اليمنية، كانت قد أخذت الضوء الأخضر من السعودية التي زودتها لاحقًا بالدعم العسكري والمادي للدفاع عن المحافظة. وعلى عكس التوقعات، انتهت المعركة في مدينة عتق، عاصمة شبوة، بانتصار سريع للقوات الموالية للسلطة المحلية بقيادة المحافظ محمد صالح بن عديو، ابن قبيلة لقموش والقيادي في حزب التجمع اليمني للإصلاح (حزب الإصلاح التابع أيديولوجيًّا جماعة الإخوان المسلمين). وبدلًا من أن تكون شبوة المكسب الأهم للمجلس في سعيه لإعادة تشكيل اليمن الجنوبي السابق، أصبحت حائط الصد ضد تمدد قوات المجلس الانتقالي الجنوبي باتجاه الشرق نحو محافظتي حضرموت والمهرة.
حُسمت معركة شبوة عام 2019 بعوامل محليّة حيث فاقت الاعتبارات القبلية الاعتبارات العسكرية وزنًا. يعكس هذا أهمية قدرات اللاعبين الأجانب على تأمين التحالفات القبلية. كما مثلت هذه المعركة بداية جولة جديدة من الصراع الإقليمي بالوكالة في المحافظة لا سيما بين السعودية والإمارات. تدعم السعودية المحافظ بن عديو، الذي تعتبر الإمارات أن الحزب الذي ينتمي إليه الأخير، أي حزب الإصلاح، فرعًا للإخوان المسلمين، جماعة الإسلام السياسي التي تعارضها أبو ظبي في منطقة الشرق الأوسط. ويُعتبر بن عديو المحافظ اليمني الوحيد الذي لجأ إلى خطاب شرس وهجومي ضد الإمارات؛ إذ دعا أكثر من مرة لانسحاب القوات الإماراتية من المحافظة والأهم من ذلك الانسحاب من منشأة بلحاف الغازية، حتى أنه قال في أواخر عام 2020 إنه لا يرى أي فرق بين الحوثيين والإمارات من ناحية ترتيبه لهما كخصوم.
وعلى مدار الاثني عشر شهرًا الماضية، عمل كل من حلفاء بن عديو وقوات المجلس الانتقالي الجنوبي في شبوة على بناء مخزونهم من السلاح، الذي يشمل صواريخ وسيارات دفع رباعي “لاندكروزر” مسلحة. وخلال شهر يونيو/حزيران، تفاقم التوتر بين الحكومة اليمنية والمجلس الانتقالي الجنوبي على خلفية مداهمة منازل العديد من مسؤولي المجلس البارزين في المحافظة واعتقال عدد منهم، ما دفع بالمجلس أواخر الشهر نفسه إلى تعليق تواصله، الضعيف أصلًا، مع المسؤولين السعوديين وعدة أطراف أخرى في الحكومة اليمنية، وتعليق انخراطه في تنفيذ اتفاق الرياض. هذا التوتر والاضطراب إلى جانب ضخ الأسلحة لن يسفر إلا عن زيادة احتمالات النتائج المتفجرة في حال أججت القوى الإقليمية الخصومات المحلية أكثر.
شبوة هي آخر محافظة في جنوب اليمن تحتفظ فيها قيادات حزب الإصلاح بنفوذ قوي، إذ يسيطر أفراد من الحزب على مناصب حساسة في السلطة المحلية والمنشآت العامة ووسائل الإعلام المحلية وشركة النفط المملوكة للدولة. يترأس بن عديو، كونه رئيس السلطة المحلية في شبوة، اللجنة الأمنية في المحافظة. كما أن قائد القوات الخاصة في شبوة مقرب من الإصلاح، وكذلك جحدل حنش العولقي قائد اللواء 21 ميكا الذي يحمي المناطق الغنية بالنفط في المحافظة والذي لعب دورًا أساسيًّا في حسم معركة عتق لصالح الحكومة. ومع هذا، من الضروري الإشارة إلى أن ما يفوق الولاءات السياسية الأوسع أو الانتماءات إلى الإخوان المسلمين وزناً في شبوة، هو الأهمية القبلية والسياسة المحلية، لا سيما في أوساط القيادة العسكرية والأمنية. على سبيل المثال، تراجع دور حزب المؤتمر الشعبي العام، الحزب الحاكم خلال عهد الرئيس السابق علي عبدالله صالح، بشكل كبير في شبوة منذ عام 2011 بعد أن كان حاضرًا بقوة في الأوساط القبلية هناك على مدى عقود.
في المقابل، تضع السعودية كامل ثقلها ونفوذها لدعم المحافظ بن عديو الذي يعتبر الرياض حليفًا مهمًّا. كما توجد فرقة صغيرة من القوات السعودية في مطار عتق الذي كان مطارًا مدنيًّا، ويعمل الآن فقط كقاعدة عسكرية جوية للسعودية.
قورنت مواقف وولاءات بن عديو السياسية بمواقف وولاءات محافظ مأرب سلطان العرادة -مقارنة دقيقة إلى حد ما، ولكنها تبالغ في تبسيط الديناميكيات. كلا الرجلين محاطان بعدد لا يستهان به من الموالين للإصلاح، ولكن الفرق الأساسي بينهما هو أن العرادة، الذي ينحدر من إحدى أهم قبائل مأرب، امتلك الموارد والأدوات والدعم المحلي لتكييف الإصلاح لخدمة أهدافه بدلًا عن العكس. وبالتالي، تجنّب العرادة النزاعات الإقليمية بالوكالة ونجح في تحييد وحماية صورة مأرب لكي لا يُنظر إليها كمعقل حصري للإصلاح، على الرغم من تصدر الأخير المشهد في المحافظة. ولكن بن عديو ما يزال في مرحلة بناء أدوات قوته المستقلة ولا يمتلك -أقله حتى الآن- نفس المساحة والقدرة على التصرف بشكل مستقل كالعرادة. وقد يعود هذا جزئيًّا إلى حقيقة أن الإمارات ليس لها حضور يذكر في مأرب باستثناء الولاءات الصامتة لبعض شيوخ القبائل، بينما حضورها في شبوة نشط ولا يقتصر على الولاءات فقط.
وعلى الرغم من هزيمة حلفائها المحليين في أغسطس/آب 2019 وانسحاب معظم قوات الإمارات من جنوب اليمن في نوفمبر/تشرين الثاني من العام نفسه، ما تزال هناك قوات عسكرية إماراتية في عدة مناطق بشبوة، من بينها منشأة بلحاف على بحر العرب ومعسكر العلم، شمال مدينة عتق. كما أن الامارات مستمرة بدفع رواتب أكثر من سبعة آلاف فرد من قوات النخبة الشبوانية الذي حارب بعضهم ضد قوات الحكومة في معارك السيطرة على المحافظة في أغسطس/آب. ولكن معظم جنود قوات النخبة الشبوانية أُرسلوا إلى منازلهم وليس هناك سوى عدد قليل نسبيًّا منهم متمركز في المعسكرات التي تديرها الإمارات.
قطر وعُمان: البحث عن فرص
بدأت جهات أخرى فاعلة من الدول مثل قطر وعُمان استكشاف فرصها في المحافظة. تدعم سلطنة عمان وتستضيف زعماء قبائل وشخصيات اجتماعية وسياسية شبوانية، من بينهم حتى الآن، عوض محمد فريد العولقي قائد الشرطة العسكرية السابق الذي سهّل دخول الحوثيين إلى المحافظة عام 2015. عاد العولقي إلى صنعاء عبر شبوة في أبريل/نيسان 2021، وعيّنته سلطات الحوثيين محافظًا لشبوة. أما قطر، فهي تمد الكثير من زعماء القبائل المقيمين في عُمان بالمال مقابل مناهضة الإمارات، عبر مجرد البقاء على الحياد وعدم الانخراط في المعارك ضد الحوثيين، أو اعتراض وتحدي المصالح السعودية والإماراتية. عام 2020، موّل صالح الجبواني، وزير النقل السابق المنحدر من شبوة والمقرّب من قطر، إنشاء كتيبة الشهيد سالم قطن تحت مظلة محور عتق العسكري. تتمركز قوات هذه الكتيبة حاليًّا على بعد أقل من 1.5 كيلومتر عن القوات السعودية الموجودة في المدينة. عندما سأل مركز صنعاء الجبواني في يناير/كانون الثاني 2021 ما إذا كانت الكتيبة ممولة من قِبل رجل الأعمال اليمني الثري أحمد العيسي أو قطر، ضحك ولم يبدِ استعداده للكشف عن مصدر التمويل، غير أنه أكد أن الكتيبة اشترت السلاح من السوق اليمني خلال العامين الماضيين.
ومن المثير للاهتمام أن قطر التي تدعم بشكل عام الجماعات التابعة للإخوان المسلمين في المنطقة، لم تستطع -على الأقل حتى الآن- بناء أي علاقة مباشرة مع المحافظ بن عديو. تجنّب بن عديو بشكل عام أي ارتباط بالدوحة، خاصة خلال الأزمة السعودية-القطرية التي استمرت منذ عام 2017 حتى أوائل العام الحالي؛ لأن علاقته بالسعودية في غاية الأهمية ولا بديل عنها. بالرغم من هذا، يبدو أن قطر تدعم ضمنيًّا العديد من الأفراد في مكتب بن عديو، من بينهم أعضاء من فصيل الإصلاح القريب من جماعة الإخوان المسلمين. هذا الدعم القطري لابن عديو وفريقه يظهر عبر وسائل إعلامها التي تبرز الإمارات بطريقة سلبية في محاولة واضحة لإحراج أو لحشد المشاعر الشعبية ضد الإماراتيين.[1]
ومن بين القوى الخارجية، تمتلك السعودية النفوذ الأكبر على قبائل شبوة لدرجة أن العديد من شيوخ القبائل وكبار رجال الأعمال في المحافظة لديهم الجنسيتان اليمنية والسعودية. وقد حاولت الإمارات مرارًا وتكرارًا استقطاب زعماء قبائل في جنوب شبوة، مثل حمير ولقموش ونعمان، الذي شكلت منهم أول لواءين عسكريين للنخبة الشبوانية. ولكن، حتى لو استمالت الإمارات هذه القبائل، الأقرب للساحل، لن تنجح في كسب أي تأثير يُذكر إذ أن نفوذ هذه القبائل السياسي أقل من نفوذ القبائل في الجبال والتضاريس الوعرة. إن فقر هذه القبائل الساحلية غالبًا ما جعل أراضيها مركز تمرد وعداء ضد كل أشكال السلطة، على سبيل المثال، ظلت موالية بإخلاص للحراك الجنوبي في زمن حكم علي عبدالله صالح. وعلى عكس ذلك، لطالما كان لقبائل شبوة الداخلية كالعوالق وبلحارث وبني هلال علاقات تجارية وأسرية طويلة الأمد مع السعودية.
وبناء على ما سبق، تجد شبوة نفسها الآن أحدث ساحة في اليمن للحروب الإقليمية بالوكالة. أثبتت الأحزاب السياسية والقبائل المحلية أنها أكثر قدرة على تخفيف حدة التنافس الإقليمي وتقليص نطاق التدخل الخارجي. ولكن على الرغم من الاستقرار النسبي الذي حافظت عليه شبوة منذ أواخر 2019، فإن هذه الحروب بالوكالة قابلة للتفاقم والانتشار خارج حدود المحافظة.
مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية هو مركز أبحاث مستقل يسعى إلى إحداث فارق عبر الإنتاج المعرفي، مع تركيز خاص على اليمن والإقليم المجاور. تغطي إصدارات وبرامج المركز، المتوفرة باللغتين العربية والإنجليزية، التطورات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية، بهدف التأثير على السياسات المحلية والإقليمية والدولية.
هذا المقال هو جزء من سلسلة إصدارات لمركز صنعاء تسلّط الضوء على أدوار الجهات الحكومية وغير الحكومية الأجنبية الفاعلة في اليمن.
- في نوفمبر/تشرين الثاني 2020، على سبيل المثال، نشرت وسائل إعلام مملوكة لقطر ومموّلة منها، من بينها قناة الجزيرة وقناة بلقيس، تقارير تفيد أن القوات الإماراتية منعت وفد صحافة دولية من الدخول إلى بلحاف. علم مركز صنعاء أن الوفد، الذي نظم المركز زيارته إلى شبوة، مُنع من دخول بلحاف لأن مكتب المحافظ لم يُعلِم القوات الإماراتية. وحتى أثناء انتظار الصحفيين ردًا ما إذا كان بوسعهم الدخول إلى بلحاف، كانت قناة الجزيرة تبث تقارير أن الوفد مُنع من الدخول. لاحقًا، نفى بن عديو التنسيق مع الإعلام القطري في محاولة لإحراج الإمارات.