تقع محافظة مأرب، آخر معقل رئيسي للحكومة المعترف بها دوليًّا في شمال اليمن، على بعد 173 كيلومترًا شمال شرقي صنعاء، عاصمة البلاد الخاضعة لسيطرة جماعة الحوثيين المسلحة. تجددت المعارك القتالية في مأرب في يوليو/تموز 2020 وتصاعدت بشكل أكبر في سبتمبر/أيلول وأكتوبر/تشرين الأول 2021.
تصاعد حدة المعارك القتالية واتساعها جاء نتيجة حملة شنها الحوثيون بعد أن عززوا سيطرتهم على جنوب شرق مأرب، ومحافظة البيضاء المجاورة، والمديريات الثلاث في محافظة شبوة المتاخمة لمأرب، بيحان وعين وعسيلان. مكنت هذه السيطرة الحوثيين من تأمين طريق إمداد من صنعاء إلى مأرب، وانضم منذ ذلك الحين الآلاف من المقاتلين الحوثيين إلى خطوط المواجهة المشتعلة ليشقوا طريقهم نحو مدينة مأرب بعد سقوط المديريات الجنوبية للمحافظة.
مع استمرار فقدان الحكومة قبضتها على المحافظة، أصبح للمعارك القتالية الأخيرة آثارًا مدمرة بشكل متزايد على السكان المدنيين. عام 2004، قبل بداية الصراع الحالي، كان عدد سكان المحافظة يبلغ 238,522 نسمة.[1] ولكن بين عامي 2014 و2021، نزح نحو مليونين إلى ثلاثة ملايين شخص إلى مأرب.[2] ومع احتمال فرض قوات الحوثيين حصارًا على مدينة مأرب أو بسط سيطرتهم عليها، يستعد آلاف النازحين داخليًّا للنزوح للمرة الثانية أو الثالثة.
تاريخ من النزوح
بعد أن عززت قوات الحوثيين سيطرتها على صنعاء عام 2015، شهد اليمن موجة من النزوح حيث لاذ الناس بالفرار من مناطق المواجهة المشتعلة بحثًا عن الأمان والاستقرار، واستقروا في مديريات أكثر هدوءًا. وأصبحت محافظة مأرب وجهة رئيسية للنازحين داخليًّا، حيث كانت بمنأى عن الصراع نسبيًّا.[3] كما لجأ العديد من الشماليين إلى مأرب، سواء من الأسر أو أصحاب الأعمال التجارية الذين فروا من حكم الحوثيين والذين شعروا بعدم الترحيب في جنوب اليمن، بسبب العداوات التاريخية بين المنطقتين. كما استفادت المدينة من قربها من الحدود الشمالية اليمنية مع السعودية والعلاقات المنسجمة بين قبائلها. فر الآلاف من اليمنيين ذوي المؤهلات العالية من مناطق النزاع واستقروا في المدينة، حاملين معهم خبراتهم المهنية وساهموا بشكل مباشر في تحول المدينة. وبحلول عام 2018، طُورت مشاريع إنمائية، وزادت الاستثمارات وأسعار العقارات، وازدهرت الأعمال التجارية.
كما استفادت المحافظة من القرار الذي اتُخذ عام 2015 بقطع العلاقات مع البنك المركزي اليمني في صنعاء، الأمر الذي سمح للمحافظة بالاحتفاظ بسيطرتها على العائدات المحلية من موارد مأرب النفطية والغازية الهائلة. في وقت لاحق، أبرم محافظ مأرب سلطان العرادة اتفاقًا مع الحكومة المعترف بها دوليًّا يسمح للمحافظة بالاحتفاظ بـ20% من عائدات النفط والغاز المحلية. وفي منتصف عام 2021، قدرت قيمة صادرات مأرب من النفط الخام بنحو 19.5 مليون دولار أمريكي شهريًّا.[4]
قبل تصاعد المعارك القتالية في سبتمبر/أيلول 2021، استضافت مدينة مأرب 602 ألف نازح، ومديرية الجوبة 9.300 نازح، ومديرية مأرب الوادي 101 ألف نازح، في حين استضافت مديرية العبدية 16,800 نازح.[5] شكل النساء والأطفال 80% من النازحين الذين أشارت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين إلى معاناتهم أكثر من غيرهم نتيجة التزاحم ونقص الخدمات الأساسية في المخيمات المكتظة بالسكان.[6] بالإضافة إلى ذلك، 4 آلاف نازح كانوا من المهاجرين الأفارقة الذين تقطعت بهم السبل في المحافظة أثناء محاولتهم العبور إلى السعودية، ويكافح معظمهم للحصول على الوظائف والخدمات الأساسية، ويواجهون أشكالًا مختلفة من سوء المعاملة.[7]
ووفقًا للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين،[8] رُحل ما يقرب من 172 ألف فرد قسرًا في اليمن عام 2020، وهو ما ساهم في تصنيف اليمن كرابع أكبر دولة على مستوى العالم من حيث عدد النازحين داخليًّا بعد سوريا وكولومبيا وجمهورية الكونغو الديمقراطية. واحدة من كل أربع أسر يمنية نازحة تعولها امرأة أو فتاة؛ 20% منهم تقل أعمارهم عن 18 عامًا. وعام 2021، قدرت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف) وجود حوالي 1.6 مليون طفل بين النازحين داخليًّا في محافظتي الحديدة ومأرب.[9]
طريق طويل إلى بر الأمان
أجبر تصاعد حدة الصراع في مأرب خلال شهر سبتمبر/أيلول آلاف المدنيين على التماس الأمان بعيدًا عن خطوط المواجهة المشتعلة في مأرب، وأدى ذلك إلى ارتفاع مقلق في عدد النازحين. تقول المنظمة الدولية للهجرة إن مأرب تحتضن الآن أكثر من 125 مخيمًا للنازحين داخليًّا، أي بزيادة 19 مخيمًا عما كانت عليه عام 2020.[10] يوجد حوالي 70% من النازحين داخل مدينة مأرب، بما في ذلك أكبر مخيم، وهو مخيم الجفينة، الذي يضم الآن ما يصل إلى 10 آلاف نازح.[11] ارتفع عدد النازحين في المدينة بسبب التقدم العسكري الذي أحرزه الحوثيون مؤخرًا في محافظة شبوة المجاورة. ومع تزايد موجة النزوح، يقع عبء هائل ومتزايد على الموارد المتاحة والعاملين في مجال الإغاثة.[12]
نزح أكثر من 10 آلاف شخص من منطقة لأخرى داخل محافظة مأرب في شهر سبتمبر/أيلول، وهو أعلى رقم مسجل في أي شهر خلال عام 2021.[13] تدهور الوضع الإنساني منذ ذلك الحين بعد اندلاع معارك قتالية في مديريات العبدية والجوبة وجبل مراد الجنوبية. من الصعب الحصول على تقديرات دقيقة بسبب صعوبات الاتصال في المناطق المتنازع عليها، غير أن المنظمة الدولية للهجرة تقول إن أكثر من 4,700 شخص[14] فروا من الصراع باتجاه مديريتي الجوبة ومأرب الوادي ومدينة مأرب. وبذلك يصل العدد الإجمالي للأشخاص الذين يلتمسون اللجوء في مدينة مأرب إلى حوالي 170 ألف منذ يناير/كانون الثاني 2020، مع الأخذ بالاعتبار أن العديد منهم نزحوا عدة مرات في السابق.[15] انتقل بعضهم إلى مخيمات قائمة، مما أدى إلى تفاقم ظروف الاكتظاظ ونقص الموارد، ولكن معظمهم لا يزالون محرومين من المأوى المناسب، ويلجأون للعيش في أماكن مثل المباني المهجورة والكهوف وتحت الجسور بحثًا عن ملاذ آمن.[16]
في أعقاب المكاسب التي حققوها في البيضاء وشبوة، حاصر المقاتلون الحوثيون مديرية العبدية جنوب محافظة مأرب في 23 سبتمبر/أيلول، ومنعوا المدنيين من الدخول إليها والخروج منها وأعاقوا وصول العاملين في مجال الإغاثة الإنسانية إليها. وبعد ثلاثة أيام وبذل جهود وساطة قبلية، سُمح للسكان بشراء السلع والخدمات اللازمة من مديرية ماهلية المجاورة.[17] فرت مئات الأسر متجهة إلى مدينة مأرب بعد أن عززت قوات الحوثيين سيطرتها على العبدية.
منذ سبتمبر/أيلول هذا العام، أُجبر ما يقرب من 40 ألف شخص -أي ما يقرب من 70% -من النازحين جنوبي محافظة مأرب على الفرار. ووفقًا لما ذكرته الوحدة التنفيذية لمخيمات النازحين في مأرب،[18] فإن ما مجموعه 8,088 أسرة، أي حوالي 54,502 نازح، قد شُردوا داخل المحافظة بحلول نهاية أكتوبر/تشرين الأول. تفيد تقارير بأن حوالي 287 أسرة نزحت من موقع إلى آخر داخل مديريتي الجوبة ورحبة. تستضيف مدينة مأرب حوالي 5 آلاف أسرة نازحة، بينما تستضيف مديرية مأرب الوادي 2,799 أسرة من المديريات الجنوبية في المحافظة ومن مديريات عين وبيحان وعسيلان في شبوة. في الوقت الراهن، يتعرض آلاف المدنيين لتهديد مباشر من جراء القتال أو الهجمات الصاروخية المستهدفة. في 31 أكتوبر/تشرين الأول، أصاب صاروخان باليستيان أطلقهما الحوثيون مركز دار الحديث السلفي في قرية العمود بمديرية الجوبة.[19] كان المرفق، الذي يضم مدرسة دينية ومسجدًا، يستضيف العديد من الأسر السلفية النازحة من منطقة دماج في محافظة صعدة، في أعقاب المعارك القتالية التي اندلعت مع قوات الحوثيين هناك بين عامي 2011 و2014. قُتل ما لا يقل عن 26 مدنيًّا وجُرح كثيرون آخرون في الغارات الصاروخية.[20] وتشير التقديرات إلى احتمال نزوح حوالي 500 ألف شخص إذا سيطرت قوات الحوثيين على مدينة مأرب ومديرية مأرب الوادي.[21]
استشراف المستقبل
تفاقمت الأزمة الإنسانية اليمنية مع استمرار احتدام الصراع، وارتفاع حدة المعارك القتالية باطراد منذ عام 2020. وأدت الفيضانات وجائحة كورونا إلى تفاقم الظروف الصحية وتدهور شروط السلامة في مخيمات النازحين. لا يقتصر تأثير النزوح الداخلي على أمن الأفراد وسبل كسب عيشهم، بل يؤثر أيضًا وبشكل مباشر على صحتهم وتعليمهم وفرصتهم في العيش حياة طبيعية في المستقبل. وبسبب الاتجاه المتزايد للنزوح المتكرر، بات النازحون داخليًّا في وضع غير مؤات على الإطلاق. أظهرت البحوث أن النزوح المطوّل يزيد من خطر الإصابة بالاضطرابات النفسية.[22] ومع استمرار الحرب وزيادة حدة الاشتباكات، سيواصل اليمنيون سعيهم في البحث عن المأوى والأمان. ويبقى النازحون داخليًّا تبعات منسية للصراع العنيف على السلطة الذي تشهده البلاد. وبقدر ما يعد حجم الوفيات الناجمة عن الحرب مأساوي في حد ذاته، يجب ألا يمر مصير النازحين مرور الكرام.
- “محافظة مأرب”، المركز الوطني للمعلومات باليمن، https://yemen-nic.info/contents/Brief/detail.php?ID=7611&print=Y
- سعد حزام علي، ” تحسين مهارات السلطات في مأرب وقدراتها على التعامل مع تدفق النازحين”، مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية، 5 سبتمبر/ أيلول 2020، https://sanaacenter.org/ar/publications-all/main-publications-ar/11482
- سعد حزام علي، ” تحسين مهارات السلطات في مأرب وقدراتها على التعامل مع تدفق النازحين”، مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية، 5 سبتمبر/ أيلول 2020، https://sanaacenter.org/ar/publications-all/main-publications-ar/11482
- “تصاعد الصراع في مأرب والآثار الإنسانية والاقتصادية المحتملة: السيناريو”، مشروع تقييم القدرات، 26 يوليو/تموز 2021، https://reliefweb.int/report/yemen/conflict-escalation-marib-and-potential-humanitarian-and-economic-impacts-scenario
- “مستجدات الأوضاع في اليمن – الأثر الإنساني في مأرب وشبوة والبيضاء، مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية، 13 أكتوبر/تشرين الأول 2021، https://bit.ly/3pXxH91
- “ارتفاع احتياجات المأوى لدى النازحين في منطقة مأرب باليمن”، المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، 24 أغسطس/آب 2021، https://www.unhcr.org/uk/news/briefing/2021/8/61249d4b4/shelter-needs-soar-newly-displaced-yemens-marib.html
- المرجع نفسه.
- “الأزمة الإنسانية في اليمن”، المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، صفحة ويب غير مؤرخة، https://www.unrefugees.org/emergencies/yemen/
- “كلمة هنرييتا فور، المديرة التنفيذية لليونيسف، أمام الاجتماع الـ 8840 لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة حول الوضع في اليمن”، اليونيسف، 26 أغسطس/آب 2021، https://www.unicef.org/yemen/press-releases/remarks-situation-yemen-unicef-executive-director-henrietta-fore-8840th-meeting-un
- “النزوح في مأرب”، المنظمة الدولية للهجرة في اليمن، 3-9 مارس/آذار 2021، https://bit.ly/3jUw4VL
- المرجع نفسه.
- على النقيض من ذلك، تسبب انسحاب القوات المتحالفة مع الحكومة المعترف بها دوليًّا من محافظة الحديدة في نوفمبر/تشرين الثاني 2021 في موجة نزوح بسبب الخوف من انتقام قوات الحوثيين. ووفقًا للوحدة التنفيذية للنازحين التابعة للحكومة، توجهت 700 أسرة على الأقل، أو نحو 4900 شخص، إلى مدينة الخوخة، في حين توجهت 184 أسرة، تضم نحو 1300 شخص، جنوبًا إلى مديرية المخا.
- “اليمن: تحديث الوضع – الأثر الإنساني في مأرب وشبوة والبيضاء”، مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية، 13 أكتوبر/تشرين الأول 2021، https://bit.ly/3pXxH91
- “آلاف الأشخاص يجبرون على الفرار من الأعمال العدائية المتصاعدة في مأرب باليمن”، المنظمة الدولية للهجرة، 7 أكتوبر/تشرين الأول 2021، https://www.iom.int/news/thousands-people-forced-flee-escalating-hostilities-yemens-marib
- المرجع نفسه.
- وفقًا لمصادر محلية تحدثت إلى مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية، أكتوبر/تشرين الأول 2021.
- وفقًا لمصادر محلية تحدثت إلى مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية، سبتمبر/ أيلول 2021.
- “تطورات الوضع الجديد للتهجير في محافظة مأرب”، وزارة الخارجية وشؤون المغتربين، الجمهورية اليمنية، 1 نوفمبر/تشرين الثاني 2021، https://www.mofa-ye.org/Pages/15257/
- “هجوم صاروخي للحوثيين على مسجد ومدرسة دينية يسفر عن مقتل وإصابة 29 مدنيًّا في اليمن – وزير”، رويترز، 1 نوفمبر/تشرين الثاني 2021، https://www.reuters.com/world/middle-east/official-houthi-missile-attack-kills-injures-29-civilians-yemens-marib-minister-2021-11-01/
- وفقًا لمصادر محلية تحدثت إلى مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية، أكتوبر/تشرين الأول 2021.
- “تصاعد الصراع في مأرب والآثار الإنسانية والاقتصادية المحتملة: السيناريو”، مشروع تقييم القدرات، 26 يوليو/تموز 2021، https://reliefweb.int/report/yemen/conflict-escalation-marib-and-potential-humanitarian-and-economic-impacts-scenario
- سي سيريواردهانا ور. ستيوارت، “الهجرة القسرية والصحة النفسية: النزوح الداخلي المطوّل، وعودة المهاجرين والقدرة على التأقلم”، إنترناشيونال هيلث، 5/1 (مارس/آذار 2013)، 19-23، https://doi.org/10.1093/inthealth/ihs014