سلام الحربي
في مارس 2020، أصبحت مظاهر الدمار والحرب أكثر وضوحاً، وشملت مبانٍ حكومية وخاصة، نتيجة قصف مقاتلات التحالف المكثف في 2015، بشكل خاص، والقصف الأخف خلال سنوات الحرب اللاحقة. لم يعد القصر الجمهوري، ودار الرئاسة، وقيادة الجيش، ومنازل عائلة صالح وبعض قياداته معالماً جمالية ولا رسمية، بل أطلال مبانٍ بلا وظيفة. في ديسمبر 2017، انضمت شوارع بغداد ومحيط منزل صالح بمنطقة الثنية إلى لوحة لملامح الحرب العنيفة التي جرت بين الحوثيين وحليفهم السابق، وانتشرت نقاط التفتيش في كل شوارع المدينة، وإن استبدلت ملابسها المدنية التي سادت خلال بداية الحرب، بأخرى رسمية بعد أن سيطر الحوثيون على الأمن والجيش، وأصبح مقاتلوهم يرتدون أزياءها، وينتمون إليها أو إلى مشرفين حوثيين خارج الإطار الرسمي. لكن المسلحين بأزياء قبلية موجودون حيثما دار نظرك.
تحولت شوارع صنعاء تدريجياً إلى معرض حي لصور القتلى الحوثيين في الحرب مع التحالف والحكومة المعترف بها، أو مع حليفهم، صالح. اكتست الجدران والأسوار الحكومية في المدارس والمشافي والوزارات بشعارات الجماعة الدينية، وتحول ميدان السبعين ونصب الجندي المجهول، من رمز جمهوري وطني، إلى ضريح لصالح الصماد، رئيس المجلس السياسي، والقيادي الحوثي الأرفع الذي استهدفه التحالف حتى الآن. وكما تحول موقف السيارات المحيط بجامع الصالح (حوله الحوثيون إلى جامع الشعب)، إلى موقف للسيارات المحجوزة من قبل مصلحة الجمارك، ليقوم مالكوها بدفع رسوم جمركية إضافية لما تم دفعه في منافذ البلاد الخاضعة لحكومة هادي، وهذا يحدث لأول مرة في تاريخ البلاد.
ورغم ضعفها ورداءة خدماتها قبل 2015، اختفت أغلب الخدمات العامة بشكل شبه تام تحت سلطة الحوثيين. انقطعت الكهرباء والمياه، وأصيبت مؤسسات التعليم بالشلل عقب توقف المرتبات منذ سبتمبر 2016، باستثناءات قليلة، وأصبحت المستشفيات تعمل بموازنة تقدمها المنظمات الدولية. كما ارتفعت أسعار الوقود – التي كانت إحدى ذرائع الحوثيين للسيطرة على صنعاء – لتستقر على ضعف سعرها السائد عام 2015، بعد أن شهدت أزمات خانقة لفترات متقطعة، وأصبح الحصول على أسطوانة غاز، يستدعي دفع ضعف الثمن للحصول على نصف العبوة، وبعد المرور بإجراءات التسجيل، والوقوف في الطوابير أمام منازل عقال الحارات، الذين جمعوا كل بيانات السكان بهذه الذريعة. كما صار انتماؤك السياسي، أو موقفك من الصراع الراهن محدداً سبباً لحصولك على امتيازات الخدمة إن كنت حوثياً، أو عرقلتك والتضييق عليك إن لم تكن معه، وليس شرطاً أن تكون ضده.
بالمقابل، ظهرت على السطح استثمارات ضخمة ومفاجئة في هذه المجالات لتقدم الخدمة البديلة، بأسعار مضاعفة، وأغلبها من أتباع الحوثيين. فاستيراد النفط وتوزيع الغاز، وتوليد الكهرباء أصبحت مصادر للثراء الفاحش لقيادات الجماعة، بينما توسع التعليم الأهلي لعدم الثقة فيما تبقى من مظاهر التعليم الحكومي، بعد أن تم إقصاء أغلب مدراء المدارس السابقين، وإحلال أتباع الجماعة محلهم، وتوظيف متطوعين غير مؤهلين من أتباعها أيضا، بدلاً عن المعلمين الذين لم يقبلوا العمل بدون راتب، أو اتخذوا مواقف مناهضة للجماعة.
بعد توقف كلي لحركة البناء خلال العام الأول من الحرب، انتشرت بشكل غير مسبوق عمارات شديدة البذخ، تُشيّد في كل مكان خاصة أطراف المدينة، وأغلبها لأفراد من الحوثيين ظهرت عليهم علامات الثراء المفاجئ والفاحش. كما حلت مكاتب وشركات الصرافة وتحويل العملات التي انتشرت بشكل غير مسبوق تقريباً محل البنوك، التي أصبح التعامل معها محدوداً للغاية، ونفس الأمر في الانتشار، حدث مع محطات تعبئة الوقود، التي كان الحصول على ترخيص فتحها مسألة شديدة التعقيد في الماضي.
ازدهرت حركة البناء بصنعاء لأنها تحولت إلى مدينة جاذبة للنازحين من مناطق اليمن الأخرى التي تشهد اشتباكات مسلحة أو تقع على جبهات الحرب المفتوحة، وبالتالي ارتفع الطلب على مساكن للإيجار، وارتفعت الإيجارات أيضا. فبعد أن شهدت المدينة موجات نزوح واسعة بمغادرة السكان لها خلال 2014، و2015، وخلو أغلب المساكن من ساكنيها، ومع انتقال خطوط التماس ومصادر الخطر المسلح إلى غيرها، استقبلت مئات الآلاف من النازحين من تعز والحديدة وحجة، وقال مصدر رفيع بوزارة العمل لمركز صنعاء أن عدد سكان المدينة قد تضاعف منذ 2015، نتيجة هذه الموجات من النازحين.
صنعاء كمعتقل واسع، والحريات مفردة منقرضة
انقرضت المظاهرات بوظيفتها المعروفة من صنعاء، وصار التحشيد هو السائد، فلا أحد يفكر في القيام بالتظاهر لمطالب حقوقية أو احتجاجية، وكانت المحاولة اليتيمة في أكتوبر 2018، فتعرض من حاولوا ذلك للاعتقال والتعذيب حتى النساء. لكن الحوثيين حاليا يحشدون متى أرادوا ولأي سبب أرادوا، وتمتلئ بهم الساحات التي يدعون للاحتشاد فيها، في مناسبات دينية أو مواقف سياسية خاصة بالحوثيين. كانت آخر الحشود من خارج الجماعة هي حشود صالح وحزب المؤتمر في أغسطس 2017.
وأنت تسير بشوارع صنعاء، ستشاهد أحدث موديلات السيارات، لكنك لن تحصل على كتاب حديث في أية مكتبة، لأن الكتب لم تعد تصل إلى البلد، وأصحاب أغلب المكتبات أغلقوها واستبدلوها بأنشطة أخرى، فلم تتوقف الكتب فقط، بل اختفت الصحف من المشهد. وبدلاً من العشرات منها التي كانت تصدر يومياً أو أسبوعيا، صارت هناك قرابة خمس صحف فقط تصدر بصنعاء، كلها تابعة للحوثيين، ولا يقبل الناس على شرائها، فمنذ 2015 تعرضت الصحافة الورقية والالكترونية في اليمن لمذبحة حقيقية، وتعرض الصحفيون للاعتقال والملاحقة أو التضييق والبطالة، وصارت الإذاعات والقنوات الفضائية المحلية أيضاً موجهة للإعلام الحربي للجماعة، باستثناء إذاعتين تقريباً، وسبب بقائها خارج الجماعة أنها لا تتطرق للشأن العام.
في السياق، لم تعد هناك أنشطة سياسية بصنعاء، ولا أحد يدري متى تم عقد آخر اجتماع حزبي فيها، باستثناء لقاءات محصورة وضيقة لمن تبقى من أعضاء حزب المؤتمر بصنعاء، يخضعون لرقابة الجماعة وتوجيهاتها، بعد أن صادرت مقرات الحزب ووسائل إعلامه منذ ديسمبر 2017، عندما تخلصوا من حليفهم، صالح، رئيس المؤتمر، وإضافة إلى الخوف من الحوثيين، الذين فرضوا اللون السياسي الواحد على العاصمة ومناطق سيطرتهم، واعتقلوا كل حزبي يمكن أن يناهض سياساتهم لمجرد الشك، فقد غادرت أغلب القيادات الحزبية سواء إلى خارج اليمن، أو إلى مناطق خارج سيطرة الجماعة، وآخرهم أعضاء حزب المؤتمر.
مؤسسات الدولة، الهيمنة الحوثية المطلقة
تدرج الحوثيون في سيطرتهم على العاصمة ومؤسسات الدولة فيها، منذ ابتكارهم للجان الشعبية عند سيطرتهم على العاصمة، وفرض سلطة مشرفيها على هذه المؤسسات بشكل غير رسمي. ثم عملوا على تكريس الشراكة مع حزب المؤتمر بقيادة صالح، للاستفادة من كوادره وعلاقاته وغطائه الشعبي، وفرض رجالهم في المؤسسات المدنية والعسكرية بالتدريج، بالتوازي مع طرد وإقصاء الكوادر الأخرى من الأحزاب المعارضة للجماعة وصالح، كحزب الإصلاح. ثم وصل الدور إلى أعضاء المؤتمر، لنزع أذرعه من تلك المؤسسات دون تعطيلها عن العمل، واستقطاب من أمكن منهم للجماعة، حتى وصلت علاقتهم بصالح وحزبه إلى درجة الصدام المباشر والاشتباك المسلح، ومقتل صالح، وتحول أنصاره وأعضاء حزبه إلى هدف رئيسي للاعتقال والتصفية والإقصاء، حتى توطيد السلطة والانفراد بها كليا، منذ أواخر 2017. وخلال العامين الأخيرين صارت قيادات الجماعة المقربة من زعيمها تحديدا، هي المهيمنة على القرار، سواء من داخل هذه المؤسسات أو من خارجها، ومن اكتشفت الجماعة أن ولاءه لها لم يصل درجة التسليم الكامل، وللتخلص الآمن منه، يمكن اتهامه بالخيانة والتعاون مع التحالف أو (العدوان) كما تصفه، كما حدث مؤخرا مع عدد من الضباط في أجهزة المخابرات.
ولأن من الصعب للغاية السيطرة على كل الوظائف والمناصب، خاصة تلك المحتاجة لكوادر متخصصة لا يمكن الاستغناء عنها حاليا، تقوم الجماعة بإلحاق موظفي القطاع العام عبر خطة ممنهجة بما تسميه “الدورات الثقافية”، وهي دورات تعقد بحسب درجة الشخص وطبيعة عمله، في أماكن مغلقة ومعزولة ولا يعرف أولئك الذاهبون إليها مقراتها، فقبل ذلك يتم التخلص من جميع مستلزماتهم حتى ساعات اليد والهواتف، وينقلون إليها في سيارات معتمة، ليتلقوا محاضرات دينية من شخصيات حوثية، لعدة أيام أو أسابيع، وفي نفس الوقت تتم مراقبة استجابتهم، وتقييم درجة إخلاصهم، وبناء عليه قد يحصلون على الثقة والمناصب، أو تعاد لهم الدورات عدة مرات، وتقليص صلاحياتهم في أماكن عملهم.
في السنوات الأخيرة، خاصة بعد إقصاء المؤتمر ورئيسه، صارت الجماعة تعبر عن سياساتها بشكل أوضح، فقد فرضت عدم الاختلاط في الأماكن العامة والمدارس والجامعات، وحتى المطاعم، ومضايقة النساء حسب أزيائهن، وعندما يجدون أن قبول هذه الممارسات لا زال صعباً، يقولون أنها تصرفات فردية ويتراجعون عنها مؤقتاً، ثم يعودون للمحاولة لاحقاً.
تضاعفت الإيرادات عبر الأجهزة الرسمية بحكم سياسات الجماعة القمعية، كما تحول التجار بعيداً عن الأجهزة الرسمية، إلى هدف للابتزاز في أية مناسبة تخص الجماعة، أو أية رغبة لقيادي حوثي، وأصبح ثراء أفرادها غير المشروع علامة للمرحلة، بالمقابل تخلت الجماعة عن كل التزاماتها للمواطنين كسلطة أمر واقع، بما فيها عدم دفع المرتبات للموظفين، وارتفعت نسبة الفقر ومعاناة الضعفاء، وأصبح التعبير عن الرأي أقرب الطرق إلى المعتقل، وتحولت المدارس والمساجد والإذاعات والقنوات والصحف والجامعات مُسخرة لنشر معتقدات الجماعة، ومحاربة كل شيء سواها، فالدعاية والترهيب أهم أدوات الجماعة لفرض قبضتها على اليمنيين القابعين تحت قبضتهم.
سلام الحربي مواطن يمني مقيم في صنعاء، حُجبت هويته لأسباب أمنية.
مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية هو مركز أبحاث مستقل يسعى إلى إحداث فارق عبر الإنتاج المعرفي، مع تركيز خاص على اليمن والإقليم المجاور. تغطي إصدارات وبرامج المركز، المتوفرة باللغتين العربية والإنجليزية، التطورات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية، بهدف التأثير على السياسات المحلية والإقليمية والدولية.