عند منتصف ليل يوم 26 أبريل/نيسان 2020، أصدر المجلس الانتقالي الجنوبي بياناً ندد بالمؤامرة على القضية الجنوبية ومعلناً الإدارة الذاتية وفرض حالة الطوارئ في جميع أنحاء اليمن الجنوبي سابقاً، ودعا الجماهير للالتفاف حول القيادة السياسية الجنوبية. بدأ المجلس الانتقالي بتنفيذ إعلانه عن الإدارة الذاتية في مقر البنك المركزي في عدن، وتولى السيطرة على مداخل البنك الخارجية وبقيت القوة السعودية المسؤولة عن حماية المرفق، داخل حرم البنك. بينما بقي الأمر على حاله تقريباً في المدينة. وبدا الأمر كما لو أن المجلس الانتقالي أعلن السيطرة على المُسيطِر عليه بالأساس.
صدر هذا البيان عن الجماعة الانفصالية بعد أشهر من الجهود الفاشلة لتنفيذ اتفاق لتقاسم السلطة بين المجلس الانتقالي والحكومة اليمنية، وعلى إثر الفيضانات العنيفة التي اجتاحت المدينة وأسفرت عن مقتل مواطنين وشل الخدمات العامة.
ولقي إعلان المجلس الانتقالي الإدارة الذاتية – وهو إعلان لا يُعرف تماماً ماذا يعني؟ وما هي حدود تعريفه القانونية والإدارية فعلياً؟ – رفضاً سريعا من قِبل معظم المحافظات الجنوبية. أصدرت كل من محافظات المهرة وسقطرى وشبوة بيانات رافضة للإعلان. كما رفعت القوات التابعة للحكومة اليمنية في شبوة جاهزيتها القتالية. أما البيان الأهم الذي رفض ذلك الإعلان، فهو بيان فرج البحسني، محافظ حضرموت، أكبر محافظة في جنوب اليمن وأكثرها غنىً بالموارد.
ستشهد حضرموت على الأرجح استقطابات أكثر من غيرها من المحافظات؛ نتيجة المواجهة المتجددة بين الحكومة والمجلس الانتقالي. لدى الإمارات – الداعم السياسي والعسكري الرئيسي السابق للمجلس الانتقالي الجنوبي قبل انسحاب قواتها من عدن في أكتوبر/تشرين الأول 2019 – نفوذ داخل حضرموت، ولديها تواجد على الأرض داخل المحافظة، حيث ما زالت هناك قوة إماراتية تسيطر على مطار الريان في المكلا. كما تدفع الإمارات أيضا رواتب قوات النخبة الحضرمية المسيطرة على الأمن في الجزء الساحلي من محافظة حضرموت، وبالتالي، ليس من السهل على البحسني تجاهل هذا النفوذ الإماراتي أو التصعيد تجاهه، ولدى كبار رجال الأعمال الحضارم وقادة القبائل في وادي حضرموت علاقات وثيقة بالسعودية.
لماذا أقدم المجلس الانتقالي على هذا التصعيد المفاجئ؟ تبدو مضامين البيان موجهة أغلبها نحو السعودية وتعكس تدهور العلاقات بين المجلس الانتقالي والرياض. تحدث نص البيان عن المؤامرات وعن عدم دفع المرتبات لقواته العسكرية والأمنية وعدم دعم الجبهات بالسلاح والذخيرة والتغذية وعدم رعاية الجرحى وأسر الشهداء. هذه الأمور تتولى مسؤوليتها السعودية منذ توليها السيطرة الكلية في عدن عقب انسحاب الإماراتيين من اليمن وتوقيع اتفاق الرياض.
يشير هذا الحديث عن مؤامراتٍ إلى شعور المجلس الانتقالي بأنه مستهدف من قِبل السعودية، رغم أنه من المفترض بأن الخلافات التي أدت إلى اشتباكات بينه وبين الحكومة اليمنية في أغسطس/آب 2019، قد تم حلها من خلال اتفاق الرياض. وفي الواقع، هناك أسباب وجيهة لهذا الشعور إذ عملت السعودية بصمت لتفكيك قوة المجلس الانتقالي على الأرض – تحديداً حول عدن – عبر مزيج من الخطوات التي شملت شراء ولاء القادة العسكريين المحسوبين عليه، وإنشاء قوات جنوبية جديدة يتزعمها قادة جدد موالين كلياً للرياض، وفرضهم لتولي السيطرة على الأرض في عدن وغيرها من المناطق المهمة خارج المدينة، مثل رأس العارة في لحج. كما أن حرمان القوات العسكرية التابعة للمجلس الانتقالي من مصادر دخلها يساعد في استقطاب المقاتلين لصالح تشكيلات عسكرية تُدفع رواتبها بشكل منتظم، ما يغير معادلة القوة والنفوذ في مناطق سيطرة المجلس الانتقالي.
صعّدت سلسلة من الأحداث على مدار الشهرين الماضيين التوترات بين السعودية والمجلس الانتقالي، إذ أُهين الأخير علناً في مارس/آذار، حين ضغطت السعودية على الأردن لمنع عودة عدد من قياداته إلى عدن من عمّان. كما أتت حادثة السيول في عدن لترفع مستوى الضغط الشعبي على المجلس الانتقالي، وحاولت السعودية استغلاله للدفع نحو عودة كامل الحكومة اليمنية إلى عدن، العاصمة المؤقتة، إلا أن المجلس رفض. ثم انفجرت المظاهرات الشعبية الغاضبة بسبب تردي الخدمات نتيجة السيول التي شهدتها عدن، ووجد المجلس الانتقالي نفسه في وضع غير مألوف في مواجهة السخط العام.
تراكم الضغط على المجلس الانتقالي الجنوبي؛ فجنوده لا يتلقون الرواتب، وعدد من كبار مسؤوليه ممنوعون من العودة إلى عدن، والجبهات بلا دعم، وولاءات بعض قياداته العسكرية تتغير، بالإضافة إلى أن قوات منافسة تتعدى على أراضيه، والآن جماهيره في مواجهة معه بسبب تردي الخدمات العامة. بالتالي يبدو أن المجلس الانتقالي حاول امتصاص كل ذلك عبر القفز نحو المجهول وجر الجميع معه.
هذه القفزة لم تكن بالضرورة خطة مدروسة جيداً. وما زالت الأسئلة مفتوحة عن مصير المؤسسات العامة في المناطق الواقعة تحت سيطرة المجلس الانتقالي، وأهمها الميناء والبنك المركزي الذي يموّل استيراد كافة السلع الأساسية، وعملية شراء النفط مستخدماً الوديعة السعودية، وهذا ما يضع المجلس الانتقالي في وضع صعب فعلاً. فكيف سيدير هذه التحديات إذا أغلق البنك المركزي أبوابه؟ وماذا تعني كلفة تحمل المسؤولية العامة، إضافة إلى المسؤولية العسكرية في مناطق سيطرته؟ وإذا كان المجلس الانتقالي عاجزاً عن دفع رواتب جنوده، فكيف سيموّل شؤون الجنوب اليومية، ويؤمّن خدمات ضخمة ومُكلِفة وصعبة تعاني بالأساس من تدهور جدي، وخصوصاً أن موارد حضرموت النفطية خارج نطاق سيطرته، وعائدات الميناء التي يسيطر عليها محدودة؟
من الممكن أن يتدهور الوضع أكثر وينزلق نحو مواجهة عسكرية بين الحكومة والمجلس الانتقالي، وخصوصاً في محافظة أبين، حيث ما تزال فيها خطوط تماس بين الطرفين منذ آخر جولات القتال. ولكن الوضع معقد أكثر الآن بالنسبة للمجلس الانتقالي، إذ ليس هناك معلومات واضحة حول، أين أصبح ولاء عبداللطيف السيد، قائد الحزام الأمني في أبين؟ فإذا استطاعت السعودية استمالته لصالحها، سيتعيّن على المجلس الانتقالي أن يقاتل القوات التي ساعدته بتحقيق انتصار رئيسي خلال المعارك في أغسطس/آب 2019 للسيطرة على زنجبار، مركز المحافظة.
لا يُتوقع أن تنخرط السعودية بشكل مباشر في المواجهات العسكرية بين المجلس الانتقالي وحكومة هادي في حال نشوبها. هناك قوات سعودية متواجدة في المناطق التي يسيطر عليها المجلس الانتقالي، وخصوصاً في عدن، وبالتالي من غير المرجّح أن تخاطر الرياض بجنودها وتعرضهم لخطر القتل أو الإصابة، أو أن يُؤسروا كرهائن.
وبالإضافة إلى ولاءات شركائه المشكوك فيها في أبين، فإن علاقة المجلس الانتقالي مع العديد من الأطراف الجنوبية معقدة. فعلى سبيل المثال، تزايدت حدة التوترات بين المجلس الانتقالي وحمدي شكري، القائد البارز في قوات العمالقة، وهي مجموعة تتشكل من السلفيين الجنوبيين بشكل رئيسي، وانتهت باشتباكات في لحج. كما أن علاقات المجلس الانتقالي معقدة أيضاً مع قبائل الصبيحة التي استثمرت السعودية في علاقة معهم وقامت بتجنيد أفرادهم بكثرة. خلقت الخلافات بين القبائل والقوات التابعة للمجلس الانتقالي عداءً بين الطرفين. ما يزال المجلس الانتقالي الجنوبي يمثل قوة عسكرية قوية ولكنه لا يحبذ الانخراط في أي معركة الآن. ويعود ذلك بشكل كبير إلى الارتباك، إذ ليس واضحاً من الحليف ومن العدو في أي مواجهة تلوح في الأفق.
يعد الوضع معقداً أيضاً بالنسبة للسعودية. أحد الأمور الملحة يتعلق بما يجب فعله بقواتها في عدن. فبقائها في المدينة في ظل إصرار المجلس الانتقالي على الإدارة الذاتية يعني إما موافقة السعودية على ما يقوم به المجلس، أو العجز أمام تحدٍ من وكيل من المفترض أن يكون مطيعاً، أو الانجرار إلى مواجهة مسلحة. النتيجة النهائية غير مضمونة، ما يضع السعودية في وضع لا تحسد عليه. هناك صعوبات في العلاقة بين السعودية والمجلس الانتقالي منذ أربعة أشهر، وبيان المجلس الأخير سيجعل الأمور تزداد سوءاً، إذا اعتبرته المملكة – التي بثت قدراً كبيراً من التفاؤل حول اتفاق الرياض – إهانة. ولكن من غير المرجّح أن ترد الرياض علناً، إذ أن ذلك يتعارض مع طبيعتها ورغبتها بالحفاظ على صورة الوسيط بدلاً عن الطرف.
ماجد المذحجي هو مؤسس مشارك والمدير التنفيذي لمركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية ويغرّد على @MAlmadhaji