تحتل تهامة الواقعة على السهل الساحلي الممتد من ميدي في الشمال إلى باب المندب في الجنوب، موقعاً متناقضاً في المشهد اليمني، حيث تقع في قلب الصراع الراهن وعلى هامش العمل السياسي، ودفعت أرواح أبنائها ثمناً باهظاً للصراع دون أن تحصل على حقوق مواطنيها الأساسية، أو أي اهتمام حقيقي من الأطراف المتحاربة.
يمتد ساحل تهامة على طول 400 كيلومتر (حوالي 250 ميل) على البحر الأحمر، وبعمق من 25 إلى 50 كيلومتر (15-30 ميل) إلى الداخل بين البحر الأحمر والمرتفعات الغربية اليمنية، وهي أكثر بكثير من مجرد امتداد ساحلي، وتمثل شريان حياة للاقتصاد اليمني، حيث تتمتع المنطقة بالأراضي الزراعية الخصبة التي تجعلها سلة غذاء اليمن ومركزاً لتربية الماشية، وتزخر بالثروات البحرية، وتتمتع بموقع استراتيجي على أحد أهم الممرات البحرية في العالم. بحلول العام 2024، كان ميناء الحديدة وحده يستقبل حوالي 70 في المائة من الواردات التجارية للبلاد، و80 في المائة من المساعدات الإنسانية، وعلى الرغم من الانخفاض الملحوظ للواردات في الأشهر الأخيرة نتيجة الغارات الجوية الإسرائيلية وإعادة تصنيف الحوثيين كمنظمة إرهابية من قبل الإدارة الأمريكية، لا يزال الميناء يحتفظ بأهمية استراتيجية على المستويات الاقتصادية والإنسانية والسياسية والأمنية. يمنح موقع الميناء على البحر الأحمر ووصوله المباشر إلى أحد أهم الممرات البحرية في العالم من يسيطر عليه نفوذا جيوسياسيا كبيرا في البحر الأحمر وعلى تدفقات التجارة العالمية.
أضف إلى ذلك أن أي تعطيل للعمليات التجارية أو الإنسانية للميناء سيكون له تأثير فوري على سبل عيش الملايين، ويؤدي إلى تفاقم انعدام الأمن الغذائي والهشاشة الاقتصادية في اليمن، وذلك بسبب قربه من المناطق ذات الكثافة السكانية الأعلى في البلاد، كما أن الاعتماد على موانئ بديلة سيكون أكثر تكلفة وتعقيداً من الناحية اللوجستية بسبب المسافات الطويلة والتضاريس الوعرة والقيود التي يفرضها الحوثيون على دخول البضائع عبر تلك الطرق. بالإضافة إلى ذلك، تساهم الرسوم الجمركية المتعددة المفروضة على التجار في ارتفاع أسعار السلع الأساسية في الأسواق المحلية، مما يخلق عبئاً أكبر يثقل كاهل المواطنين العاديين.
لطالما كان موقع تهامة الإستراتيجي مطمعاً تاريخياً للقوى الأجنبية، من العثمانيين والبريطانيين إلى المصالح الإقليمية والدولية الحديثة، ولكن ثروتها الاستراتيجية والطبيعية لم تكن كافية لتحصل على تمثيل مناسب لها في دوائر السلطة، فما تزال تهامة على الهامش في خطط التنمية الحكومية وأجندات القوى السياسية.
عانت المنطقة من الحرب بشكل غير متناسب، حيث يشكل نازحو الحديدة 26 في المائة من النازحين في البلاد، وهي النسبة الأعلى بين جميع المحافظات، ويواجه سكان مساحات شاسعة فيها مستويات “حرجة للغاية” من سوء التغذية الحاد، كما أن الدمار الواسع للبنية التحتية فيها يعني أن المجاعة ليست بعيدة الحدوث. لم تحظ تهامة باهتمام يتناسب مع حجم المأساة التي تعاني منها، ويسلط تهميشها المتجذر لقرابة قرن كامل الضوء على العيوب الهيكلية العميقة في نموذج الحكم الذي يكرس التوزيع غير العادل للسلطة والثروة.
قرن من الإقصاء
يمكن تتبع تهميش تهامة إلى أوائل القرن العشرين، عندما قاومت تهامة الخضوع للمملكة المتوكلية في اليمن بعد سقوط دولة الإدريسي، التي يُنظر إليها غالباً كنموذج للحكم الذاتي في تهامة خلال العصر الحديث، وكانت دولة الإدريسي قد ظهرت في سياق تراجع النفوذ العثماني أوائل القرن العشرين، عندما قاد محمد الإدريسي تمرداً ضد العثمانيين وأسس كياناً سياسياً مركزه صبيا (التي تقع اليوم ضمن منطقة جازان في جنوب المملكة العربية السعودية)، وامتدت سلطته جنوباً حتى مدينة الحديدة، لكن هذا الكيان لم يدم طويلاً، وسقطت الحديدة في يد قوات الإمام يحيى عام 1925. استمرت المقاومة في تهامة بقيادة قبيلة الزرانيق حتى عام 1929، قبل أن تقمعها قوات الإمام يحيى. انتهت دولة الإدريسي فعليًا بتوقيع معاهدة الطائف في عام 1934 بين المملكة العربية السعودية والمملكة اليمنية المتوكلية التي قسمت أراضي الإدريسي السابقة بين الطرفين، بعد سنوات من وضعها تحت حماية بن سعود دون اعتراف يمني. منذ ذلك الوقت، ورثت الأنظمة المتعاقبة سياسات الإقصاء وتبنتها في مؤسساتها مهمشة تهامة في برامج التنمية والخطط الوطنية وهياكل الحكم، وعانت تهامة نتيجة لذلك من الفقر المزمن، وارتفاع معدلات البطالة، وانتشار الأمية، ونظام شبه إقطاعي يكرس التبعية والتهميش.
على الصعيدين السياسي والإداري، حُرم سكان تهامة من التمثيل الحقيقي في مؤسسات الدولة حتى تلك الواقعة في محافظتهم، حيث تولى إدارة محافظة الحديدة 13 محافظاً منذ الثورة الجمهورية عام 1962 وحتى انتفاضة الشباب عام 2011، وكان جميعهم من خارج المحافظة باستثناء أحمد سالم الجبلي (الذي عُيّن في عام 2008 وأُقيل بعد ثلاث سنوات)، ويمتد نمط الإقصاء هذا ليشمل مناصب إدارية وأمنية رئيسية أخرى كالشرطة والنيابة العامة وقوات الأمن والهيئات الرئيسية المولدة للإيرادات، ويعكس ذلك سياسة تهميش منهجية للمنطقة.
صحيح أن عدداً قليلاً من الشخصيات التهامية شغلت مناصب رمزية في مختلف الحكومات، إلا أن وجود تلك الشخصيات كان رمزياً وسطحياً إلى حد كبير، وما يزال التمثيل الفعال للمنطقة غائباً عن المناصب المهمة مثل نواب الوزراء ووكلاء الوزارات ورؤساء الهيئات أو القيادات العسكرية العليا، وحتى في ظل الترتيب الحالي لتقاسم السلطة، الذي يبدو أنه قائم على التوازن المناطقي والسياسي، لا تزال تهامة مستبعدة من مجلس القيادة الرئاسي ومن مجلس الوزراء.
ما يثير القلق أكثر هو أن هذا التهميش قد تجاوز الإهمال السياسي والتنموي ليصبح نمطاً راسخاً في الوعي الرسمي والشعبي، فقد صُوِّرت منطقة تهامة كهامش جغرافي وبشري، مما أدى إلى إغفالها في وسائل الإعلام الوطنية، والمناهج التعليمية، وغيابها عن المؤسسات المؤثرة. حتى الذاكرة الجماعية الوطنية فشلت إلى حد كبير في توثيق نضالات وتضحيات سكان تهامة، كما لو أن منطقة قد حُذفت عمداً من السردية الوطنية اليمنية.
السلام المستدام
لا يمكن لأي خطة لقيام دولة يمنية مستقرة أن تنجح دون معالجة الاختلالات في توزيع السلطة والموارد التي أصبحت مركزة في أيدي نخبة ضيقة وأدت إلى صراعات مستمرة، كانت الحرب الأخيرة مجرد حلقة من حلقاتها، وتقع منطقة تهامة في قلب هذا التحدي، كونها لا تمثل مجرد نموذج للتهميش، بل إنها تجسد العلاقة المشوهة بين المركز والأطراف، التي يتشابك فيها الإهمال التنموي مع الإقصاء السياسي والتي تشكل فيها المظالم المتراكمة من الماضي تهديداً ملموساً للوحدة الوطنية والاستقرار. بقيت تهامة على هامش السياسات العامة لعقود من الزمن، ليس بسبب نقص الموارد أو ضعف القدرات المؤسسية، بل كنتيجة مباشرة لنظام حكم يركز السلطة ويكرس التبعية من خلال إضعاف الأطراف في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
مع تفكك الدولة وتآكل سلطتها المركزية في السنوات الأخيرة، وصعود الهويات الإقليمية على حساب الهوية الوطنية الموحدة، لم يعد الأمر يقتصر على تصحيح الاختلالات التاريخية فقط، بل أصبح ضرورة وطنية لضمان الاستقرار. أدى الصراع إلى تفكك اليمن على مستوى المناطق تفككاً يتجاوز الانقسامات التقليدية بين الشمال والجنوب. لن تسفر أي تسوية تفاوضية تتجاهل الأسباب الجذرية للتهميش سوى عن هدنة هشة، معرضة للانهيار عند أول أزمة سياسية أو أمنية، وبالتالي ستقوض معاملة تهامة كقضية هامشية أو تأجيل معالجة مظالمها مصداقية أي مشروع وطني شامل.
يزداد هذا التحدي تعقيداً بسبب انضمام شرائح واسعة من السكان من بينهم شباب تهامة إلى الجماعات المسلحة في ظل انهيار الدولة خلال سنوات الحرب، وسيؤجج تجاهل مظالمهم المزيد من العنف ويؤدي إلى تفاقم الانقسامات. الأسوأ من ذلك أن الدولة غالباً ما تكافئ من يفرضون مطالبهم بالقوة المسلحة بدلاً من اللجوء إلى الحقوق والعدالة، مما شجع على عسكرة المطالب وأدى إلى تأجيج الاضطرابات والصراع.
بناءً على ما ذُكر، من الضروري وجود رؤية شاملة تعيد هيكلة العلاقة بين المركز والأطراف في إطار عقد اجتماعي جديد، ويجب أن يعالج هذا العقد المظالم التاريخية، ويضمن المشاركة الحقيقية في السلطة والثروة، ويؤسس نموذج تنمية متوازن يحول جميع اليمنيين إلى أطراف فاعلة في المشروع الوطني وفي تشكيل مستقبل البلاد.
أُعد هذا التحليل في إطار منتدى سلام اليمن وهو مبادرة من مركز صنعاء تهدف إلى تمكين الجيل القادم من الشباب ونشطاء المجتمع المدني اليمني، وإشراكهم في القضايا الوطنية الحرجة.