مضت ثمانية أشهر منذ استهل السعوديون مفاوضات مباشرة مع جماعة الحوثيين، استُبعدت منها الحكومة المعترف بها دوليا والأطراف اليمنية الأخرى. بعد أشهر من المحادثات السرية، أفصحت السعودية علنًا عن المفاوضات الثنائية عبر استقبال وفد حوثي على أراضيها وإيفاد السفير السعودي لدى اليمن محمد آل جابر على رأس وفد إلى صنعاء، وهو ما اعتبره مراقبون تنازلًا كبيرًا من الجانب السعودي. رحبت وسائل الإعلام الناطقة باسم الحوثيين بوصول الوفد السعودي باعتباره دلالة على انتصارهم الحاسم، وكان غياب الحكومة المعترف بها دوليًا كطرف في المحادثات كافيًا لتشبّث الحوثيين بمَزاعمهم القائلة إن الصراع هو بين الدولة اليمنية -التي يدّعون تمثيلها -والدولة السعودية، وأن جميع الفصائل اليمنية الأخرى ما هي إلا مرتزقة مسخرة لخدمة التحالف الذي تقوده السعودية. قدّم السعوديون العديد من التنازلات الأخرى، بعضها كان منطقيًا، بل وضروريًا، كرَفع كل ما تبقى من قيود فرضها التحالف على دخول السفن إلى موانئ الحديدة (علمًا أن مهام آلية التحقق والتفتيش التابعة للأمم المتحدة في اليمن التي أُنشئت بغرض منع تدفق الأسلحة عبر الميناء ما تزال نافذة)، إلا أن التنازلات الأخرى التي قدمتها السعودية كانت بمثابة انتصار سياسي للحوثيين على حساب الحكومة، كالموافقة على مناقشة ملف دفع رواتب جميع الأفراد الموالين للحوثيين، بمن فيهم مقاتلو الجماعة. ورغم عدم التوصل بعد لصيغة اتفاق بشأن مصادر الإيرادات التي ستُستخدم لتمويل فاتورة الرواتب، تزعم الأذرع الدعائية للحوثيين حاليًا أنها ستُغطى من إيرادات مبيعات النفط والغاز (مع العلم أنها مصدر الإيرادات الرئيسي الوحيد الخاضع لسيطرة الحكومة، وقُدرت بنحو 1.2 مليار دولار أمريكي عام 2021). لم يرد أي ذكر لإيرادات الحوثيين، التي بلغت على أقل تقدير نحو 6 مليارات دولار أمريكي في العام نفسه، وفق دراسات الوحدة الاقتصادية لمركز صنعاء. يأتي هذا في ظل توقف عائدات الحكومة من صادرات النفط والغاز منذ استهداف الطائرات الحوثية المسيّرة موانئ تصدير النفط في خريف العام الماضي.
تعرّض الوفد السعودي خلال فترة وجوده في صنعاء لهجوم شرس من المتحدث باسم جماعة الحوثيين، على ضوء تغريدة للسفير آل جابر ادعى فيها توسطه بين الأطراف اليمنية. تطمح السعودية بلعب دور الوسيط لتعزيز صورتها، وهي التي كانت دائما تدعي أنها قادرة على هزيمة الحوثيين في غضون أيام إذا قررت خوض قتال حقيقي ضد الجماعة. ورغم شراسة هجوم الإعلام الحوثي على آل جابر، إلا أنه بقي في صنعاء لأسبوع آخر. معظم الدبلوماسيين كانوا ليَعمدوا إلى الانسحاب بهدوء والانتظار لحين تهيئة ظروف أكثر مواتاة.
لم يبادل الحوثيون التنازلات والمرونة التي أظهرها الجانب السعودي، حتى لو رمزيًا. على النقيض من ذلك، بدأت الجماعة برفع سقف المطالب، مُطالبة الحكومة بالكشف عن سجلاتها المالية والإفصاح عن مصير عائدات النفط في السنوات الماضية. في أوائل مايو/ أيار، حذر زعيم الجماعة عبدالملك الحوثي من أنهم لن يلتزموا بالهدنة غير الرسمية لفترة طويلة إن لم يتم البت قريبًا في القضايا المطروحة على طاولة المفاوضات. من جانبه، حذّر مهدي المشاط، رئيس المجلس السياسي الأعلى، من أن المعركة المقبلة ستكون أكثر ضراوة من أي وقت مضى.
بغض النظر عن استئناف المفاوضات على نفس الخطى من عدمه، كانت التطورات التي شَهِدناها حتى الآن سريالية، كما لو أن السعودية تتفاوض على شروط استسلامها. فهل السعودية بهذا الضعف حقًا؟
هناك تفسيران محتملان لهذا الوضع: التفسير الأول هو صدور أوامر للمسؤولين السعوديين بحلحلة المعضلة اليمنية من أجل التركيز على رؤية 2030 (خطة التحوّل الاقتصادي الطموحة للبلاد)، وهو ما يبذل السعوديون قصارى جهدهم لتحقيقه. هناك دروس مستفادة من الماضي، فالمُهمة الأصعب التي اختبرها المفاوضون اليمنيون خلال عشر سنوات من مفاوضات ترسيم الحدود مع الجانب السعودي هو إيصال نظرائهم السعوديين إلى طاولة الحوار، وما تلى ذلك كان يسيرًا. فَالُمفاوضون اليمنيون تمتعوا بالقدرة على التحاور مباشرة مع القيادات اليمنية، ولم يترددوا في استدعاء قادتهم في منتصف الليل لمناقشة مجرى المفاوضات تماشيًا مع ثقافة المساواة الراسخة في اليمن، بل ولم يترددوا في مخالفة رأي رئيس الجمهورية.
أحد الأمثلة هي المعارضة الشديدة التي أبدتها اللجنة العليا لشؤون الحدود للتَنازلات المقدمة من الرئيس آنذاك علي عبدالله صالح خلال مفاوضات ترسيم الحدود بين اليمن الجنوبي والسعودية (حيث سبق وترسيم الحدود بين اليمن الشمالي والسعودية بموجب معاهدة الطائف لعَام 1934). رأت اللجنة أن خط كومو (سُمّي نسبة إلى بحيرة كومو في إيطاليا حيث كان يقضي الأمير سلطان آل سعود عطلته ودعا صالح للقاء من أجل إغلاق ملف الحدود) تسوية غير منصفة لليمن حيث تم التنازل عن مساحة كبيرة من الأراضي رغم أن الجانب اليمني كان يمتلك فرصة للنجاح في المطالبة بها. على هذا الأساس، عارضت اللجنة خط كومو وأعلن رئيسها بطلانه في عدة مناسبات، إلا أن صالح كان يُصر على إعلان التزام الدولة اليمنية بالمعاهدة. في نهاية المطاف، أعلن رئيس اللجنة في شهادته أمام البرلمان، بأنها (أي اللجنة) تخلي مسؤوليتها من مهام ترسيم الحدود بعد أخذ صالح سلطة اتخاذ القرار في متناول يده معتبرًا إياه المسؤول الوحيد عن عواقب ذلك.
على الجانب الآخر، تتسم الثقافة السعودية بتسلسل هرمي صارم وبيروقراطية ومركزية شديدة في صنع القرار، حيث تتمتع الأسرة الحاكمة بسلطة مُطلقة، الأمر الذي يخلق ثغرة تواصل بين القيادة والمسؤولين على المستوى التنفيذي ويُقيّد الوصول إلى أصحاب القرار. كان التواصل خلال مفاوضات ترسيم الحدود صعبًا وبطيئًا، ولذلك، وهو ما خدم موقف الرجال الشرفاء القلائل في فريق التفاوض اليمني (الذي للأسف لم يضم أي نساء) لاستنباط استراتيجية رابحة رغم الموقف القوي الذي تمتع به المفاوضون السعوديون على ضوء اعتماد فاتورة رواتب العديد من القادة اليمنيين على الأموال السعودية. استخدم أعضاء الفريق اليمني “متلازمة الضفدع المغلي”، حيث استمروا في التمسك بموقفهم لانتزاع تنازلات صغيرة من نظرائهم السعوديين. في كثير من الأحيان، كان المفاوضون السعوديون يرون أن تقديم تلك التنازلات أسهل من العودة إلى قادتهم وإبلاغهم أن المحادثات وصلت إلى طريق مسدود. مع مرور الوقت، تراكمت التنازلات، لا سيما في ترسيم حدود الخط الغربي لمعاهدة الطائف القديمة.
نشهد متلازمة الضفدع المغلي اليوم في المحادثات السعودية – الحوثية، حيث يعمد الحوثيون إلى تنازلات صغيرة مرة تلو الأخرى. لن يُمثل ذلك مشكلة لو كان لديهم استعداد للدخول في مفاوضات بحسن نية مع أشقائهم اليمنيين من أجل التوصل إلى اتفاق معقول لتقاسم السلطة. لكن للأسف، لم يُبدِ الحوثيون نيتهم القيام بذلك، فالاختلال الكبير في توازن القدرات العسكرية والمؤسسية بينهم وخصومهم يجعل من شبه المستحيل التوصل إلى اتفاق قابل للتطبيق لتقاسم السلطة. نجح الحوثيون العام الماضي في إحكام قبضتهم على مؤسسات الدولة وفرضوا رؤيتهم لتأسيس “دولة طالبان الزيدية” شديدة المركزية. من هذا المنطلق، سيكون نجاح المفاوضات السعودية – الحوثية بمثابة دق المسمار الأخير في نعش الدولة اليمنية، فالمكونات الجنوبية ومعظم الشمال السني لن يقبلوا بالعيش تحت سيطرة الحوثيين، وهو ما يعني تشرذم اليمن لا محالة.
هناك تفسير آخر محتمل للمَشهد السريالي للمفاوضات السعودية – الحوثية: ربما أن السعوديين -وبعد مفاوضات سرية طويلة وغير مثمرة -قرروا التعاطي مباشرة مع العقبة الرئيسية التي حالت دون إرساء سلام قابل للاستمرار، ألا وهي اختلال ميزان القوى. لم يدخر السعوديون جهدًا في معالجة هذا الاختلال عبر تزويد حلفائهم بأسلحة ثقيلة استعدادًا لجولة أخرى من المعارك، لكن مع إدانة المجتمع الدولي لضُلوع السعودية في واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في العالم تحول الاهتمام نحو إثبات أنها (أي السعودية) حاولت كل ما في وسعها لطي صفحة الصراع سلميًا، إلا أن الحوثيين قابلوا ذلك بمزيد من التعنت. وهو ما قد تستخدمه السعودية لتبرير لجوئها إلى دخول معركة حقيقية لإجبار الحوثيين على قبول سلام ندي وجاد مع بقية المكونات اليمنية.