الملخص التنفيذي
أدى تنافس فرعي البنك المركزي اليمني المستمر منذ سبتمبر/أيلول 2016 إلى انقسام في السياسة النقدية وبالتالي تقويض استقرار العملة المحلية بشكل متزايد. ونتج عن هذا مؤخراً انهيار سريع وتام لنظام العملة اليمنية القائم على الريال واللجوء إلى استخدام العملات الصعبة في التعاملات المالية داخل البلاد مثل الريال السعودي والدولار الأمريكي بشكل رئيسي.
حافظ المقر الرئيسي للبنك المركزي اليمني والذي جرى نقله إلى العاصمة اليمنية المؤقتة عدن على الاعتراف الدولي بمؤسساته مما سمح له بطباعة العملة والوصول إلى الأسواق المالية الدولية، في حين حافظ فرعه الآخر في العاصمة صنعاء، وهي الموقع التاريخي للبنك المركزي والتي يسيطر عليها الحوثيون، على نطاق صلاحيته في أكبر الأسواق الاستهلاكية والمراكز المالية في البلاد.
دخلت المعركة بين البنكين المركزيين مرحلة جديدة خطيرة في 18 ديسمبر/كانون الأول 2019، عندما قام البنك المركزي في صنعاء بحظر التعامل بالطبعة الجديدة من الريال اليمني المطبوعة حديثًا والصادرة من منافسه البنك المركزي في عدن، ومنح البنك المركزي في صنعاء سكان المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون مهلة مدتها شهر واحد لاستبدال الطبعة الجديدة “غير القانونية” إما بطبعات قديمة، أي صادرة قبل سبتمبر/أيلول 2016، أو بالعملة الإلكترونية الجديدة التي تحاول سلطات الحوثيين تطبيقها؛ وهو القرار الذي تبعته حالة من الاضطراب.
تتعقب هذه الورقة بدايات حرب العملة اليمنية وكيف أصبحت السياسة النقدية منقسمة بين جانبي الصراع، وتبحث في تأثيرات الإدارة المقسمة للمعروض النقدي وكذلك محاولات الحوثيين لتقويض سياسات البنك المركزي في عدن والإبقاء على ارتباط المؤسسات المالية في البلاد بفرع البنك المركزي في صنعاء. مثل قرار الحوثيين في ديسمبر/كانون الأول 2019 تصعيدًا واضحًا في حرب العملة. تعرض هذه الورقة أيضاً تفاصيل حظر الطبعة الجديدة من الريال في المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون وكيف تباين تطبيق هذا الحظر حسب المنطقة، وتعرض أيضاً تفاصيل الريال الإلكتروني وعيوبه الخطيرة المحتملة.
أدى حظر الأوراق النقدية إلى ازدهار في تجارة العملات في السوق السوداء وتهريب العملات عبر خطوط المواجهة وظهور أسعار صرف متباينة بشكل متزايد في جميع أنحاء البلاد، حيث عادت الأوراق النقدية الجديدة إلى المناطق التي تسيطر عليها الحكومة المعترف بها دولياً. ونظراً لإضفاء الطابع المؤسسي على نظامين نقديين مختلفين في البلد، كان لقرار الحوثيين تأثير سياسي في زيادة نشوء دويلات مختلفة داخل حدود اليمن. رداً على الحظر، علقت الحكومة اليمنية الرواتب الحكومية والمعاشات التقاعدية التي يتلقاها المستفيدون في مناطق الشمال. هذا وتعاني الحكومة أيضاً من انخفاض احتياطيات النقد الأجنبي الآخذة بالتناقص، ويعتقد بعض المراقبين الاقتصاديين اليمنيين أن حظر الطبعة الجديدة من العملة هو في الواقع ذريعة ملائمة للحكومة لإيقاف المدفوعات في ظل المشاكل متعلقة بالسيولة التي تلوح في الأفق.
بالنظر إلى المستقبل، يبدو أن الآثار الأوسع نطاقًا لحظر العملة الجديدة تشمل اختلالات اقتصادية خطيرة تنبع من عوائق جديدة هائلة أمام العمليات التجارية في جميع أنحاء البلاد وأمام الحركة التجارية خارج المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون -وقد زادت هذه الأمور- بالإضافة إلى خطر الانخفاض السريع في قيمة العملة، من الضغط على الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً في لعبة حافة الهاوية الاقتصادية مع جماعة الحوثيين المسلحة. ولكن من سيستمر في دفع ثمناً باهظا هم المواطنون العاديون، حيث من المتوقع أن يتحمل السكان -الذين يعيش ملايين منهم بالفعل على حافة المجاعة- التكاليف المتزايدة؛ ما سيؤدي إلى تآكل القوة الشرائية وتدهور الوضع الإنساني بسبب حرب العملة المتصاعدة.
بداية حرب العملة اليمنية
انقسام السياسة النقدية بين الخطوط الأمامية للصراع
سيطرت جماعة الحوثيين المسلحة على العاصمة اليمنية صنعاء في سبتمبر/أيلول 2014 وبحلول شهر مارس/آذار من العام التالي، شنت الجماعة وحلفائها حملة عسكرية امتدت إلى مدينة عدن الساحلية الجنوبية، ما استدعى تدخل عسكري إقليمي بقيادة المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. حُررت عدن وأجزاء كبيرة من جنوب اليمن خلال صيف عام 2015، ما أدى إلى فتح جبهات حرب لا تزال قائمة حتى يومنا هذا في الشمال والجنوب.
شهدت اليمن انهيار اقتصادي عام في بداية الحرب. وفي الوقت ذاته، دفع انخفاض الثقة في النظام المصرفي في البلاد اليمنيين الأثرياء والتجار على سحب أموالهم وتداولها في الأسواق غير الرسمية. ففي الأشهر الستة الأولى من عام 2016 فقط، سحب العملاء من حساباتهم نحو 300 مليار ريال يمني.[1] نقص الريال اليمني في البنوك يعني أن الأخيرة لم يكن لديها أموال لإيداعها في البنك المركزي في صنعاء. أما الحكومة المعترف بها دولياً والتي اختارت مدينة عدن الجنوبية كعاصمة مؤقتة بعد تحريرها من سيطرة الحوثيين فقد حافظت على قدر من السلطة على البنك المركزي اليمني ومنعت البنك المركزي في صنعاء من طباعة المزيد من النقد. وبحلول أغسطس/آب 2016، اضطر البنك إلى توقيف مدفوعات الرواتب لموظفي القطاع العام في جميع أنحاء البلاد لعدم وجود السيولة النقدية الكافية لديه.
كما علقت اليمن صادرات النفط عام 2015 ما جردها من أكبر مصدر للنقد الأجنبي. تعتمد اليمن بشكل كبير على الواردات من المواد الغذائية والوقود والسلع الأساسية الأخرى، وبالتالي استنزفت الحاجة إلى مواصلة تمويل هذه الواردات احتياطي النقد الأجنبي لدى البنك المركزي والتي انخفضت من 4.6 مليار دولار أمريكي في نهاية عام 2014 إلى 700 مليون دولار أمريكي بحلول شهر سبتمبر/أيلول 2016.[2]
في 18 سبتمبر/أيلول 2016، أمر الرئيس عبدربه منصور هادي الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً – بنقل مقر البنك المركزي من صنعاء إلى عدن. إنعكست هذه الخطوة سلباً على البنك المركزي كمؤسسة إذ انقسم بين جانبي الصراع وانخفضت القدرات المؤسسية لكلا الفرعين بشدة. حظي البنك المركزي الجديد الذي يتخذ من عدن مقراً بالاعتراف الدولي، ما منحه حق الوصول إلى النظم المالية العالمية وتلقي الدعم الدولي وطباعة عملة جديدة، بينما واصل فرع البنك المركزي الذي يتخذ من صنعاء مقراً له؛ العمل تحت سيطرة الحوثيين وظلت الغالبية العظمى من موظفيه تعمل فيه. واحتفظ فرع صنعاء بقاعدة البيانات وبصلاحياته في المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون والتي تشمل أكبر المراكز السكانية في البلاد والأسواق التجارية والأعمال التجارية ومراكز المال. شكلت هذه الميزات المتناقضة لكل فرع نقاط قوة استخدمها كل منهما ضد الآخر في الصراع الشديد والمتزايد من أجل الهيمنة. في السنوات التي انقضت منذ انقسام البنك المركزي، تنافس الفرعان على القدرة على تنظيم عرض النقد وتمويل الاستيراد وتنظيم البنوك ومحلات الصرافة، في حين أصبح من المستحيل على أي منهما تطبيق أي سياسة نقدية ومالية واقتصادية متسقة في جميع أنحاء البلاد.
السياسة النقدية التوسعية للحكومة اليمنية
في يناير/كانون الثاني 2017، تلقى البنك المركزي في عدن أول دفعة من الأوراق النقدية اليمنية الجديدة التي طلبها من شركة “جوزناك” الروسية، وبلغت قيمة الدفعة المستلمة 200 مليار ريال يمني. هدفت الحكومة اليمنية، التي لم تعد تتلقى إيرادات النفط وبالتالي تواجه عجزًا كبيرًا في ميزانيتها العامة، إلى سداد التزاماتها من خلال قيام بنكها المركزي بطباعة النقود التي تحتاجها. كما كانت تريد أيضاً استبدال الأوراق النقدية التالفة والمتداول بها – التي طُبع الكثير منها على ورق رديء النوعية ويقدر عمرها الافتراضي بعامين فقط – بالأوراق الجديدة. اتبعت الحكومة هذه السياسة النقدية التوسعية في السنوات التالية، وأشار البنك الدولي “لحجم الإصدار الهائل لكتلة نقدية كبيرة” عام 2018 وهو العام الذي شهد زيادة إجمالي العرض النقدي بنسبة 53%.[3] ووفقًا لمسؤول مصرفي يمني مطلع، طبع البنك المركزي في عدن ما تبلغ قيمته حوالي 1.7 تريليون ريال يمني من الطبعة الجديدة بحلول نهاية عام 2019، يُوجد 200 مليار ريال يمني منها كاحتياطي.
أدت محدودية توفر النقد الأجنبي وزيادة عرض النقد المحلي إلى عدم استقرار سعر الصرف وتراجع قيمة الريال اليمني، ففي عام 2014، كان سعر الصرف المحلي 215 ريال يمني للدولار الأمريكي الواحد، وبحلول نهاية عام 2018، بلغ سعر صرف الدولار الأمريكي 516 ريال يمني. كان لخسارة القوة الشرائية بهذا الشكل في اليمن، أحد أفقر بلدان العالم والذي يعتمد كلياً على الاستيراد، عواقب إنسانية وخيمة.[4]
متوسط سعر الصرف الشهري في السوق الموازية (ريال يمني/دولار أمريكي)
المصدر: البنك المركزي اليمني وبرنامج الأغذية العالمي ووحدة الدراسات الاقتصادية في مركز صنعاء
رد الحوثيين
في يونيو/حزيران 2017، ردت حكومة الإنقاذ الوطني بقيادة الحوثيين (غير معترف بها) بالدعوة إلى حظر إصدار الأوراق النقدية الجديدة الصادرة عن عدن لفئة 500 ريال يمني في المناطق التي يسيطرون عليها. كان هناك العديد من الدوافع المتقاطعة لهذا الإجراء. علناً قالت سلطات الحوثيين في صنعاء إنها تهدف إلى تخفيف الآثار التضخمية للسياسة النقدية التوسعية التي تبنتها حكومة هادي. أرادت أيضًا حماية سيطرتها على أكبر سوق للعملة في صنعاء – إذا سُمح باستخدام الطبعة الصادرة من عدن في المناطق الواقعة تحت سيطرة الحوثيين، قد تُستخدم لشراء العملة الأجنبية من صنعاء واستنزافها إلى عدن. وبالتالي، من شأن ضمان درجة من السيطرة على سوق المال أن يساعد على إبقاء النظامين المالي والمصرفي في البلاد مرتبطين بصنعاء ويقوض مصداقية وفعالية البنك المركزي في عدن.
خلال الفترة بين يونيو/حزيران 2017 ويونيو/حزيران 2018، عقدت سلطات الحوثيين عدة اجتماعات مع البنوك ومحلات الصرافة اليمنية – معظمها مقرها الرئيسي يقع في صنعاء – لإعطائهم الأوامر مرارًا وتكرارًا بعدم التداول بالعملات المطبوعة حديثًا. في يونيو/حزيران 2018، أصدرت وزارة الصناعة والتجارة في حكومة الحوثيين تعميمًا لغرفة التجارة والصناعة يلزم المستوردين وتجار الجملة ومراكز التسوق ومحطات مشتقات النفط في المناطق الواقعة تحت سيطرة الحوثيين بعدم التعامل بالفئتين الجديدتين 500 ريال و1,000 ريال الصادرتين عن البنك المركزي في عدن. اشتدت حملات التفتيش والمتابعة عام 2019، ونسق البنك المركزي في صنعاء مع الجهات الأمنية ومكتب النائب العام لضمان عدم قبول الأسواق والمحلات التجارية والمطاعم والمؤسسات المالية الطبعات الجديدة من أي فئة. وحتى منتصف ديسمبر/كانون الأول 2019، بلغت قيمة الأوراق النقدية التي صادرتها سلطات الحوثيين أكثر من 600 مليون ريال يمني صادرة عن البنك المركزي في عدن وفقًا لمصرفي مقيم في صنعاء.
ساعد حظر الحوثيين على الطبعات النقدية الجديدة في الحد من العرض الإجمالي للريال في مناطق سيطرتهم مقارنة بالوضع في المناطق الواقعة تحت سيطرة الحكومة، ما أدى إلى اختلاف أسعار صرف العملات الأجنبية بين شمال اليمن وجنوبه. خلال الفترة من 2018 وحتى منتصف ديسمبر/كانون الأول 2019، تراوحت هذه الفروق بشكل عام ما بين 5 و15 ريال يمني، وكانت قيمة الريال أعلى قليلاً في المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون. ومع ذلك لم تطبق القيود التي فرضها الحوثيون على الطبعات الجديدة المطبوعة في عدن بشكل موحد. فأولاً وقبل كل شيء صب الحوثيون تركيزهم على البنوك اليمنية وأمروها بوضع الطبعات الجديدة من الريال على جنب لتُحصّل من قبل مكتب الأمن القومي الذي يديره الحوثيون.[5] سُحب جزء من هذه الأوراق النقدية من المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون وضُخت في المناطق الواقعة تحت سيطرة الحكومة من خلال شراء الوقود وغاز الطهي من محافظة مأرب الخاضعة لسيطرة الحكومة، وفقاً لمصدر مصرفي مقره صنعاء. فإن الحظر طُبق بشكل نسبي إلى حد ما سُمح باستخدام وتداول بعض الأوراق النقدية المطبوعة حديثًا بشكل منتظم خلال المعاملات اليومية العادية. وفقًا لمصادر مصرفية مستقلة، قُدرت الطبعات النقدية الجديدة الصادرة من عدن في المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون بمبلغ يتراوح بين 300 و350 مليار ريال، أو ما يقرب من ربع جميع طبعات الريال المتداولة في المناطق الشمالية.
الحوثيون يصعدون حرب العملة
حظر شامل للطبعات النقدية وترويج للريال الإلكتروني
في 18 ديسمبر/كانون الأول 2019، أصدر البنك المركزي في صنعاء توجيهًا يحظر رسميًا استخدام الأوراق النقدية اليمنية الجديدة الصادرة عن البنك المركزي في عدن في المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون. أمر القرار سكان المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون بتسليم أي طبعات عملة “غير قانونية” وتبديلها بنقد إلكتروني أو الأوراق النقدية المطبوعة قبل شهر سبتمبر/أيلول 2016. وحدد الحوثيون مهلة مدتها 30 يومًا لاستبدال العملات الجديدة انتهت في 17 يناير/كانون الثاني 2020. أما من يتم الإمساك به لحيازته طبعات العملة المحظورة بعد انتهاء المهلة، يواجه عقوبة السجن المحتملة بعد مصادرة العملات “غير القانونية”. وبالتالي وسع القرار نطاق الحظر على الطبعات النقدية الصادرة عن البنك المركزي في عدن ليشمل كل من الأعمال التجارية والأفراد كما أقر عقوبات أكثر شدة على المخالفين.
حدد البنك المركزي في صنعاء ثلاثة مزودي خدمات لاستبدال الطبعة الجديدة من الريال “غير القانونية” بالعملة الإلكترونية، أو “الريال الإلكتروني”: إم فلوس (مملوكة لبنك الكريمي للتمويل الأصغر الإسلامي) وموبايل موني (المملوكة لبنك التسليف التعاوني والزراعي)؛ وكوالتي كونكت (مملوكة بشكل مشترك من قبل بنك اليمن والكويت وشركة سويد وأولاده للصرافة وشركة الأكوع للصرافة). وكانت بعض البنوك ومحلات الصرافة الأخرى تقبل أيضًا مقايضة الأوراق النقدية المطبوعة حديثًا بمبلغ معادل من الريال الإلكتروني. أما اليمنيون الذين ليس لديهم حسابات لدى مزودي الخدمات المالية المعتمدين، بإمكانهم الحصول على تحويلات عينية (ائتمان/رصيد مالي عبر الهاتف) إلى أرقام هواتفهم المحمولة بدلاً من الريال الإلكتروني. على الرغم من أن المواطنين يستطيعون استبدال الطبعة الجديدة من الريال بطبعة قديمة في هذه المراكز الرسمية، إلا أن أقصى مبلغ يمكن للشخص استبداله هو 100,000 ريال يمني. كما أعلنت سلطات الحوثيين أن المبالغ المصادرة من الطبعة الجديدة في السابق ستُحول إلى الريال الإلكتروني.
لم يكن إصدار العملة الإلكترونية المحاولة الأولى لسلطات الحوثيين لتوسيع خيارات السيولة والانفصال عن أوراق العملة الجديدة الصادرة من عدن، ففي أبريل/نيسان 2017، استحدثت سلطات الحوثيين نظام قسائم لتغطية المواد الغذائية الأساسية لموظفي القطاع العام الذين لم يتلقوا رواتبهم بسبب نقص الأوراق النقدية. بدأت هذه الخطة في الانهيار عندما عجزت سلطات الحوثيين عن الدفع للتجار الذين أرادوا الحصول على قيمة القسائم نقدًا لإعادة شراء المنتجات وتوفير المخزون. تسبب ذلك في انخفاض قيمة تلك القسائم وفي تشكل نظام سعرين مختلفين للمستهلكين: سعر لمن يدفع نقداً وسعر لمن يدفع باستخدام القسائم.[6]
وفي النهاية، فشل نظام القسائم.
جربت سلطات الحوثيين نظامًا للعملة الإلكترونية في مارس/آذار 2018، وبدأت في أبريل/نيسان 2019 بتطبيق برنامج تجريبي أكبر لدفع رواتب العاملين في شركة النفط اليمنية التي يديرها الحوثيون باستخدام الريال الإلكتروني.[7] اُختيرت شركة النفط اليمنية بعد أن اعترضت مؤسسات أخرى تديرها الدولة – مثل المؤسسة اليمنية للاتصالات – على فكرة استلام مدفوعات الرواتب عن طريق النظام الإلكتروني. هذا ونظم موظفو شركة النفط اليمنية مظاهرات في صنعاء للاحتجاج على هذه الخطة. بعد مرور تسعة أشهر، لا يزال استخدام الريال الإلكتروني يقتصر على دفع نفقات محدودة مثل فواتير المياه والكهرباء وخدمات الهاتف المحمول. ولا يوجد حاليًا أي آلية لاستخدام الريال الإلكتروني في الأنشطة الاقتصادية اليومية العادية. وحتى لو تم تطبيق آلية معينة، فمن المؤكد أن التجار سيواجهون صعوبات في استبدال الريال الإلكتروني بالعملة الصعبة لشراء الواردات وإعادة تخزين البضائع وذلك لأسباب مشابهة للخطأ القاتل في نظام القسائم. هناك تحدي آخر ملازم لتبني العملة الإلكترونية وهو أن الاقتصاد في اليمن يعتمد اعتماداً كبيراً على النقد – قبل النزاع الحالي بلغ إجمالي اليمنيين الذين يمتلكون حسابات بنكية 6% فقط وفقًا لبيانات البنك المركزي. بالتالي، نسبة نجاح الريال الإلكتروني غير مؤكدة بشكل كبير، هذا إن لم يكن مقدر لها الفشل بالفعل.
اختلاف تطبيق الحظر حسب المنطقة
تباين تطبيق سلطات الحوثيين للحظر حسب المنطقة، وبدت الاستجابة لهذه التوجيهات الجديدة ملحوظة بشكل كبير في صنعاء والمحافظات المحيطة بها. أما في المناطق الأخرى الخاضعة لسيطرة الحوثيين، لا سيما في المحافظات القريبة من المناطق التي تسيطر عليها الحكومة أو المحافظات التي تتقاسم السيطرة عليها مع الأخيرة، فالتداول بالأوراق النقدية المطبوعة حديثًا كان أكثر شيوعاً، وفقًا لم قاله مسؤولون مصرفيون لمركز صنعاء للدراسات.
في المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون وذات الكثافة السكانية العالية، تواجه الشركات انكماشًا في المعروض النقدي ونقص في السيولة المادية ضمن اقتصاد يعتمد اعتماداً كبيراً على السيولة النقدية. وفي صنعاء، حيث توجد معظم البنوك والشركات ومحلات الصرافة ومؤسسات الدولة والبنية التحتية الاقتصادية، لم تعد الشركات المحلية تقبل الأوراق النقدية الجديدة. تزايد عجز سكان العاصمة على تنفيذ معاملات مالية أساسية وبسيطة، مثل شراء الطعام والوقود والأدوية. ووفقًا لمصادر في صنعاء؛ فإن تجار القات الذين يزورهم ملايين اليمنيين يوميًا للحصول على القات (نبتة ذات خصائص منشطة خفيفة) يرفضون الأوراق النقدية الجديدة الصادرة من عدن. توجد حالة مماثلة في المحافظات المجاورة الخاضعة لسيطرة الحوثيين مثل ذمار حيث لم تعد أوراق الريال الجديدة مقبولة في المعاملات التجارية والمحلات والشركات ومقدمي الخدمات المالية.
في المحافظات التي يخضع أجزاء منها لسيطرة الحوثيين وأجزاء أخرى لسيطرة الحكومة المعترف بها دولياً، أو الواقعة قرب خطوط القتال النشطة، توجد كمية أكبر من الأوراق النقدية المطبوعة حديثًا ولا تزال قيد الاستخدام ويُتداول بها على نطاق واسع بالمقارنة مع صنعاء، وفقاً لمسؤول مصرفي كبير.
وتشمل تلك المناطق محافظات إب وتعز والضالع والحديدة والجوف. ففي محافظة إب، على سبيل المثال، تمثل الأوراق النقدية الجديدة 60% إلى 70% من إجمالي الأوراق النقدية المتداولة في المحافظة. لم تقم سلطات الحوثيين بعد بفرض حظر كامل على تداول الأوراق النقدية الجديدة في هذه المناطق، كما أعفى الحوثيون مقاتليهم المتمركزون هناك من الحظر.
رد فعل السوق: تداول غير مشروع وأسعار صرف متعددة
تفاوتت درجة الالتزام والامتثال لقرار حظر الأوراق النقدية الجديدة عبر المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون. وبدا اليمنيون مترددين عمومًا في تسليم الأوراق النقدية المادية المطبوعة حديثًا التي بحوزتهم إلى الوكلاء المعينين مقابل عملات إلكترونية. يقدر مسؤول مصرفي رفيع المستوى نسبة الأوراق النقدية الجديدة التي سُلمت حسب توجيهات الحوثيين بأقل من 10% بحلول 17 يناير/كانون الثاني.
بما أن الحد الأقصى للمبلغ الممكن استبداله هو 100,000 ريال يمني في المراكز المعتمدة، تشير الأدلة القولية إلى أن الكثير من الناس لجأوا إلى السوق السوداء حيث استبدلوا الأوراق النقدية الجديدة بأخرى قديمة ولكن ليس بقيمة مماثلة. ففي محافظة الحديدة، على سبيل المثال، يستبدل مبلغ 10 آلاف ريال يمني من الأوراق النقدية الجديدة بمبلغ 9,000 ريال يمني من الأوراق النقدية القديمة وفقًا لما ذكرته وكالات الأمم المتحدة، وهو ما يمثل فرقًا بنسبة 10%. بدا هذا التباين في الأسعار بين الريال القديم والجديد واضحًا أيضًا في المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة، وفي محافظة الضالع، أفاد التجار أن البضائع تُقيم وفقًا للعملة التي يتم شراؤها بها، حيث ارتفعت قيمة الأوراق النقدية القديمة بمقدار 1.10 إلى 1.12 مرة أكثر من الأوراق النقدية الجديدة. وما عقد الوضع أكثر هنا هو أن ما يقرب من 90% من الأوراق النقدية القديمة الصادرة قبل عام 2016 والتي ما زالت متداولة اليوم تالفة وغير صالحة للتداول من الناحية الفنية، وفقًا لمسؤول مصرفي كبير. إذا طال أمد الحظر على الأوراق النقدية الجديدة، فإن الرسوم التي تدفع لاستبدال الأوراق النقدية الجديدة بالقديمة ستزداد حتماً مع تزايد كمية الأوراق النقدية القديمة التي أصبحت غير صالحة للاستعمال بالكامل وخارج التداول.
أدى التسعير المختلف للأوراق النقدية الجديدة مقابل العملات القديمة إلى زيادة أسعار الصرف المتباينة لتحويل الريال إلى عملات أجنبية بين المناطق الواقعة تحت سيطرة الحوثيين والمناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة. ففي 31 ديسمبر/كانون الأول 2019، بلغ سعر الصرف 582 ريال يمني لكل دولار أمريكي في صنعاء فيما بلغ 612 ريال لكل دولار أمريكي في عدن، أي بفارق قدره حوالي 5%. ازداد هذا التباين نتيجة حركة هذه السيولة الجديدة من صنعاء نحو عدن، ففي 14 يناير/كانون الثاني 2020، قفز سعر الصرف في عدن إلى 655 ريال يمني لكل دولار واحد مقارنة بـ 590 ريال لكل دولار في صنعاء، أي بفارق قدره حوالي 11%. رداً على ذلك، رفع المصرفيون رسوم التحويلات المالية من المناطق التي تسيطر عليها الحكومة إلى المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون بشكل كبير – كانت قيمة الرسوم تبلغ أقل من 1% من المبلغ الذي يتم تحويله قبل صدور قرار الحظر وارتفع إلى حوالي 12% اعتبارًا من منتصف شهر يناير/كانون الثاني وفقًا لم قاله مصرفيون في صنعاء وعدن لمركز صنعاء.
اختلاف سعر الصرف بين صنعاء وعدن (ريال يمني/دولار أمريكي)
المصدر: وحدة الدراسات الاقتصادية في مركز صنعاء
هناك العديد من المحددات حالياً لقيمة الريال؛ ما إذا كان يتم تداوله في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة أو المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون، وما إذا كان هذا الريال هو من الأوراق النقدية القديمة أو الأوراق النقدية الجديدة أو أن الريال موجود مادي أصلاً. ويعود المحدد الأخير عن توفر العملة مادياً إلى تمييز الحسابات المصرفية التي فتحت قبل النزاع بتلك التي فتحت بعده إذ لا يمكن سحب الأموال من الأولى إلا عبر شيك بينما يمكن سحب الأموال نقداً من الثانية. يمكن توقع مزيد من التباين في التسعير بين أدوات الدفع النقدية وغير النقدية المختلفة إذا استمر الحظر على الأوراق النقدية المطبوعة في عدن وبدء تشغيل مخطط نظام الدفع بالعملة الإلكترونية. من المحتمل أن يؤدي هذا إلى قيمة متباينة للريال الإلكتروني مقابل الأوراق النقدية المادية وذلك لمحدودية القدرة على استخدام الريال الإلكتروني في عمليات الشراء اليومية. في ظل غياب نظام موحد لصرافة العملات الأجنبية، فإن الريال سيكون أكثر عرضة للصدمات الاقتصادية، ويؤدي إلى المزيد من تقلب الأسعار.
ساعدت ظروف السوق الجديدة إلى زيادة إمكانية الربح من تجارة العملات، كما نشط تهريب العملات عبر خطوط المواجهة. على سبيل المثال، يمكن بيع العملات الأجنبية المشتراة في المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة من أجل الكسب المادي. أفادت مصادر مصرفية مستقلة أن شبكات التهريب المتحالفة مع الحوثيين شجعت على جلب الأوراق النقدية القديمة من المناطق التي تسيطر عليها الحكومة كجزء من جهود سلطات الحوثيين الحثيثة في صنعاء لتجميع احتياطات أكبر من الأوراق النقدية.
رد عدن
وردا على قرار الحوثيين، أصدر البنك المركزي في عدن بيانًا في 22 ديسمبر/كانون الأول رفض فيه سلطة البنك المركزي في صنعاء وأصر على الالتزام التام بالسياسات النقدية والمالية للحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا. وحث البيان البنوك والشركات وشركات الصرافة على الاستمرار في استخدام الأوراق النقدية الجديدة الصادرة بعد سبتمبر/أيلول 2016. والأهم من ذلك أن البنك المركزي في عدن منع البنوك التجارية في البلاد من إصدار أكثر من 15% من إجمالي رأس مالها بالريال الإلكتروني، وهو ما من شأنه أن يجعل السقف الأعلى لإصدار الريال الإلكتروني 5 مليارات ريال يمني وفقًا لمسؤول مصرفي.
وفي 30 ديسمبر/كانون الأول، أصدرت وزارة المالية في الحكومة المعترف بها دولياً بيانًا أعلنت فيه أنها ليست قادرة على تحويل الأموال لدفع رواتب موظفي القطاع العام والمتقاعدين في المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون لأن البنوك وشركات الصرافة رفضت تلقي الأوراق النقدية الجديدة. ومنذ أواخر عام 2016، لم يحصل الكثير من موظفي القطاع العام في اليمن، والذين يقدر عددهم بنحو 1.25 مليون موظف، على رواتبهم كاملة أو بشكل منتظم بسبب أزمة السيولة. ولكن بعض العاملين في قطاعات الصحة والقضاء والتعليم العالي إلى جانب حوالي 40,000 من المتقاعدين،[8] تلقوا ما يقارب 12 مليار ريال إجمالاً من الحكومة اليمنية على أساس شهري وذلك على مدى السنوات الثلاث الماضية.
أجرت الحكومة اليمنية عادة هذه التحويلات عبر بنك الكريمي للتمويل الأصغر الإسلامي. وقال مسؤول مصرفي مقيم في صنعاء إن الحكومة اليمنية بحاجة إلى تأمين الأوراق النقدية القديمة اللازمة للدفع في المناطق الشمالية حيث أن الكريمي لم يتمكن من تأمينها. وأضاف أن الحكومة أوقفت التحويلات إلى المناطق الشمالية في 18 ديسمبر/كانون الأول، وهو نفس اليوم الذي أعلنت فيه سلطات الحوثيين حظر الأوراق النقدية الجديدة. وأشار مسؤول مصرفي في عدن أنه سيتعين على الحكومة اليمنية دفع رسوم تحويل قدرها 10% على أي رواتب ومعاشات تقاعدية سترسلها إلى المستفيدين في المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين.
قالت عدة مصادر في القطاع المصرفي اليمني لمركز صنعاء إن الحكومة اليمنية تواجه مشاكل سيولة ترتبط بالوديعة السعودية البالغة ملياري دولار– قدمتها الرياض إلى البنك المركزي في عدن عام 2018 لتسهيل تمويل الاستيراد ودعم العملة اليمنية – التي أوشكت على النفاد. وبالتالي، قرار الحوثيين جاء في الوقت المناسب لاستخدامه كذريعة لوقف دفع الرواتب إلى الموظفين في المناطق الشمالية.
التطلع قدماً
الركود الاقتصادي والانتقال التجاري والعقبات أمام الأعمال التجارية
إذا استمرت سلطات الحوثيين بحظر التداول بالأوراق النقدية الصادرة في عدن في المناطق الشمالية، فقد ينخفض الأداء الاقتصادي والتجاري بشكل كبير عبر البلاد بأكمله. فمن ناحية، سحب الأوراق النقدية الجديدة ومنع تداولها في المناطق الشمالية قد يقلص العرض النقدي المتوفر، وبالتالي يحد من قدرة المستهلك على سد الفجوة بين قيمة الريال اليمني مقابل الدولار الأمريكي – علماً بأن الفجوة بينهما تزايدت منذ بدء النزاع. بعبارة أخرى، المنتج الذي كان سعره 4,000 ريال عام 2014، أصبح سعره اليوم ما لا يقل عن 10 آلاف ريال وفقًا لمتوسط معدل التضخم.
يجب أن تزداد كمية الأوراق النقدية من العملة المحلية المتداولة لتعويض هذه الخسارة في القوة الشرائية للمستهلكين خشية حدوث ركود اقتصادي. وكما هو الحال، فإن انخفاض العرض النقدي في المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون ساهم بالتأكيد في انخفاض المبيعات التجارية منذ ديسمبر/كانون الأول كما أوضح أحد المصرفيين في صنعاء. بما أن المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون تمثل أكبر أسواق المستهلكين، فإن الركود هناك سيؤثر على التجارة في جميع أنحاء البلاد. إن حظر الحوثيين للأوراق النقدية الجديدة الصادرة من عدن يقوّض الاستبدال الضروري لأكثر من تريليون ريال من الأوراق النقدية القديمة التالفة أو المدمرة المتداولة حالياً في الاقتصاد اليمني. أصبحت الأوراق النقدية القديمة ذات الفئات الصغيرة (100 ريال و200 ريال) نادرة أيضًا في المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون لأن العديد منها صادرة قبل عام 2017 وبالتالي أصبحت تالفة جدًا وغير صالحة للاستعمال، وهو الأمر الذي أصبح يمثل عقبة رئيسية أمام إتمام عمليات الشراء البسيطة واليومية.
يعتمد الاقتصاد اليمني، سواء في المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون او التي تسيطر عليها حكومة هادي، اعتمادًا كبيرًا على الواردات، ويقوم المستوردون الرئيسيون في المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون بتوزيع السلع في جميع أنحاء البلاد. ولكن أصبحت التجارة بين المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين وتلك الخاضعة لسيطرة الحكومة أكثر صعوبة وخطورة وتكلفة بسبب نظام العملة المنقسم بين الطرفين. تشير الأدلة القولية إلى أنه قد تم بالفعل نقل بعض الأنشطة التجارية من المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون إلى المناطق التي تسيطر عليها الحكومة. في الماضي، كان التجار والمستوردون يحتفظون بمخزونهم من البضائع في صنعاء ويوزعونها على المناطق الأخرى، لكن في الآونة الأخيرة بدأ بعض التجار بتخزين البضائع في محافظتي عدن أو مأرب وتوزيعها من هناك على صنعاء وغيرها من المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون. يتيح ذلك للتجار تجنب التكاليف الإضافية الناتجة عن توجيهات الحوثيين مثل تأمين الأوراق النقدية القديمة أو نقل السيولة بين المناطق التي تسيطر عليها الحكومة والمناطق التي يسيطر عليها الحوثيون.
مع تصاعد حرب العملات، سعى التجار والجهات الفاعلة التجارية في المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون إلى تبني آليات أخرى لتجنب العقوبات وتفادي خطر مصادرة أموالهم. وفقًا لمصادر تعمل في الصرافة، بدأ بعض التجار بشراء الذهب أو البضائع الأخرى من المناطق الجنوبية التي تسيطر عليها الحكومة بالأوراق النقدية الجديدة لبيعها في المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين مقابل العملة القديمة المسموح بها. وهذا يتيح لهم فعليًا استبدال الأوراق النقدية الجديدة الصادرة عن عدن بالأوراق النقدية القديمة دون دفع العمولة البالغة 10% أو أكثر في السوق السوداء. كما ازداد استخدام التجار للعملات الصعبة – الريال السعودي والدولار الأمريكي – لإجراء المعاملات المالية وتبادل السلع بين مختلف المناطق.
خطر الانخفاض السريع لقيمة العملة يزيد الضغط على الحكومة اليمنية
في المناطق الجنوبية، كما ذكرنا سابقاً، كان لتدفق الأوراق النقدية الجديدة آثار تضخمية كبيرة، فضلاً عن إختلاف أسعار الصرف مقارنة بالمناطق الشمالية. فمنذ أن بدأ انقسام نظام العملة في منتصف ديسمبر/كانون الأول 2019، انخفض سعر الريال من حوالي 580 ريال إلى أكثر من 650 ريال يمني مقابل كل دولار أمريكي في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة حيث تدفقت كميات كبيرة من الأوراق النقدية الجديدة الصادرة عن عدن خارج المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون. أما المناطق التي تسيطر عليها الحكومة فهي ذات كثافة سكانية أقل وأنشطتها الاقتصادية اليومية أقل بكثير من الأنشطة في المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون. مما يعني أن الأوراق النقدية الجديدة المتداولة هناك لها تأثير تضخم أكبر نسبيًا.
يأتي ذلك في نفس الوقت الذي يواجه فيه البنك المركزي في عدن خطر نفاد احتياطاته من النقد الأجنبي. زودت السعودية منذ عام 2018 البنك المركزي في عدن بحوالي 2.4 مليار دولار أمريكي كدعم بالعملات الأجنبية، وذلك من خلال وديعة قيمتها ملياري دولار أمريكي لصالح البنك المركزي لضمان القدرة على حصول البلد على الواردات الأساسية بالإضافة إلى 380 مليون دولار كمنح بالنقد الأجنبي ولشراء الوقود لدعم توليد الطاقة. وفي منتصف 2019، توصل البنك المركزي في عدن إلى اتفاقية مع الحكومة السعودية لتحويل نحو 370 مليون ريال سعودي رواتب القوات المشتركة (ما يقرب من 100 مليون دولار أمريكي) عبر حسابات البنك المركزي في عدن شهرياً. سبق أن دُفع هذا المبلغ مباشرة إلى القوات المحلية التي تقاتل نيابة عن الحكومة اليمنية.[9] ومع بداية عام 2020، لم يعد لدى البنك في عدن سوى 300 مليون دولار من الوديعة السعودية.
من المحتمل أن تتطلب حماية العملة المحلية من ضغوط الانكماش التي تواجهها حاليا أن يستنفد البنك المركزي في عدن احتياطاته المتبقية من النقد الأجنبي قبل نهاية الربع الأول من هذا العام وفقًا لمسؤول مصرفي كبير (أي أواخر شهر مارس 2020). وبالنظر إلى الموجودات الحالية من النقد الأجنبي المتوفر في البنك المركزي في عدن وتزايد عدم الاستقرار في العملة بسبب الحرب المتصاعدة بين فرعي البنك المركزي، يواجه الريال الخطر الوشيك المتمثل بالمزيد من الانخفاض السريع في قيمته.
من المحتمل أن يكون توقيت قرار الحوثيين بحظر الأوراق النقدية الجديدة الصادرة من عدن -مصحوباً بالذعر المتوقع والتداعيات الاقتصادية السلبية التي أثارها في اليمن- يهدف إلى ممارسة أقصى ضغط على البنك المركزي في عدن ليخفف من السياسات التي تقوّض مصالح الحوثيين الاقتصادية. يمنح هذا التصعيد الحوثيين نقاط قوة للحصول على تنازلات في مجالات مختلفة مثل المفاوضات الجارية بقيادة الأمم المتحدة بشأن تنفيذ القرار الحكومي رقم 49 الذي ينظم واردات الوقود. ففي الوقت الذي يقوم مستوردو الوقود بدفع ضرائب الاستيراد والرسوم الجمركية إلى حساب خاص في فرع البنك المركزي في الحديدة، لم يتم التوصل بعد إلى اتفاق حول حصول موظفي القطاع العام في المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون على رواتبهم الشهرية من هذه الأموال إذ أن الحكومة تصر على أن الرواتب يجب أن تدفع فقط للأسماء في كشوف الرواتب في القطاع الحكومي حتى عام 2014 فيما يرغب الحوثيون بأن تدفع الرواتب أيضاً للأشخاص الذين قاموا بتوظيفهم منذ فرض سيطرتهم.
التداعيات على حياة اليمنيين وسبل عيشهم والجهود الإنسانية
يحتاج حوالي 24 مليون شخص في اليمن أي 80% من إجمالي عدد السكان إلى المساعدات الإنسانية، ويواجه 7.4 مليون شخص منهم خطر المجاعة.[10] ستواجه الجهات الفاعلة الإنسانية التي تحاول تلبية هذه الاحتياجات عقبات كبيرة جديدة بسبب حظر الأوراق النقدية الجديدة. تُوزع أجزاء كبيرة من مساعدات الإغاثة التي تبلغ قيمتها مليارات الدولارات في اليمن كتحويلات نقدية باستخدام أوراق العملة الجديدة الصادرة من عدن – والتي لم تعد مقبولة في المناطق الشمالية التي يوجد فيها معظم المستفيدين من تلك المساعدات. من أجل توزيع الأموال في المناطق الشمالية، ستواجه المنظمات التي تقدم المساعدات رسوماً متزايدة، وبالتالي سيكون لكل دولار من المساعدات تأثير أقل. وفي الوقت نفسه فقد الآلاف من موظفي القطاع العام والمتقاعدين في المناطق الشمالية رواتبهم بعد إعلان الحكومة اليمنية وقفها لدفع الرواتب في ديسمبر/كانون الأول، مع العلم أن الأساس المنطقي لقرار الحكومة لا يزال غير واضح.
كما غادر مئات الآلاف من اليمنيين المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين بحثًا عن مصادر دخل في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة، فعلى سبيل المثال زاد عدد السكان في مأرب من حوالي 300,000 قبل الصراع إلى أكثر من مليوني شخص اليوم. والعديد من هؤلاء الأشخاص لديهم عائلات بقيت في المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين وتعتمد على التحويلات المالية منهم للبقاء على قيد الحياة. ولكن حظر العملة أعاق قدرة هؤلاء الأشخاص على تحويل هذه الأموال إلى أقاربهم. وكما ذكر أعلاه، أصبح من الشائع دفع نسبة 10% على الأقل؛ على التحويلات من المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة إلى المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين لاستبدال الأوراق النقدية الجديدة بأوراق قديمة.
بالتالي، وبالنظر إلى المستقبل، سيظل المواطنون العاديون الضحية الأكبر إذا استمرت حرب العملات هذه؛ كون التكاليف ترتفع وأموالهم تخسر قيمتها واقتصادهم يتفكك.
تحرير: ريان بيلي وسبنسر أوسبرغ
النشرة الاقتصادية اليمنية هي نشرة إخبارية اقتصادية دورية يصدرها مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية وتقدم تحليلاً معمقاً وآراء واستجابات تحليله ومقترحات سياسات اقتصادية.
مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية، هو مركز أبحاث مستقل، يسعى إلى إحداث فارق عبر الإنتاج المعرفي، مع تركيز خاص على اليمن والإقليم المجاور. تغطي إصدارات وبرامج المركز، المتوفرة باللغتين العربية والإنجليزية، التطورات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية، بهدف التأثير على السياسات المحلية والإقليمية والدولية.
المراجع:
[1] منصور راجح وأمل ناصر وفارع المسلمي، “اليمن بلا بنك مركزي: فقدان أساسيات الاستقرار الاقتصادي وتسريع المجاعة”، مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية، 2 نوفمبر/تشرين الثاني 2016، https://sanaacenter.org/ar/publications-all/main-publications-ar/59
[2] المرجع نفسه.
[3] “تقرير يرصد الأوضاع الاقتصادية في اليمن”، مجموعة البنك الدولي، شتاء 2019، صفحة 8، http://documents.worldbank.org/curated/en/174341552490494446/pdf/135266-YemEconDevBrief-Winter-2019-Arabic-12-Mar-19.pdf
[4] “اليمن: نظرة عامة على الاحتياجات الإنسانية لعام 2019 [انجليزي / عربي]”، مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة عبر موقع ريليف ويب، 14 فبراير/شباط 2019، https://reliefweb.int/report/yemen/yemen-2019-humanitarian-needs-overview-enar
[5] باستثناء البنك الأهلي اليمني ومنافسة بنك التسليف التعاوني الزراعي (كاك بنك) الذي أنشئ في نوفمبر/تشرين الثاني 2018، فإن البنوك الـ 17 المتبقية التي تعمل حاليًا في صنعاء مقرها أيضاً في العاصمة صنعاء.
[6] “إصدار قسائم الغذاء، اليمن في الأمم المتحدة، أبريل/نيسان 2017″، مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية، 8 مايو/أيار 2017، https://sanaacenter.org/ar/publications-all/yemen-at-the-un-ar/100
[7] “سلطات الحوثيين تجرب نظام الدفع الإلكتروني بالريال مرة أخرى، صراع البرلمانات – تقرير اليمن، أبريل / نيسان 2019″، مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية، 7 مايو/أيار 2019،https://sanaacenter.org/ar/publications-all/the-yemen-review-ar/7407#section_3_3_11
[8] يشمل الموظفون الحكوميون الذين يتلقون رواتبهم من عدن الموظفين العاملين في المؤسسات غير العسكرية والأمنية مثل السلطة القضائية والجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة والهيئة العامة للتأمين والمعاشات والجامعات الحكومية وقطاع الصحة العامة، كما تدفع الحكومة اليمنية بعض رواتب للعاملين في القطاع العام في المناطق الفاصلة بين الطرفين في محافظات الحديدة والضالع والبيضاء وتعز.
[9] يستخدم البنك المركزي في عدن هذا التدفق المنتظم للنقد الأجنبي لتغطية استيراد جميع السلع الغذائية بسعر الصرف التفضيلي البالغ 570 ريال يمني لكل دولار أمريكي. من ناحية أخرى يتم تغطية مشتقات النفط باستخدام سعر صرف متوسط أقل بنسبة 10% من سعر الصرف السائد في السوق الموازية.
[10] “اليمن: نظرة عامة على الاحتياجات الإنسانية لعام 2019 [انجليزي / عربي]”، مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة عبر موقع ريليف ويب، 14 فبراير/شباط 2019، https://reliefweb.int/report/yemen/yemen-2019-humanitarian-needs-overview-enar