ترحب عدن بالأجانب منذ أربعينيات القرن الماضي، وساهم هذا العامل في جعل عدن فريدة من نوعها بين المحافظات اليمنية، من حيث التنوع العرقي والثقافي. وقد أسس الهنود والإثيوبيون والإيرانيون والصوماليون وغيرهم مجتمعات هناك، حيث شكل هذا التنوع الحياة اليومية لسكان عدن، وزودها بثقافة التسامح تجاه الآخرين.
استمر هذا التقليد في الوقت الذي أدى فيه النمو الاقتصادي ثم توحيد شمال وجنوب اليمن، إلى زيادة الهجرة الداخلية للمدينة الساحلية بشكل كبير في الثمانينيات وأوائل التسعينيات.[1] ومع ذلك، ومنذ الحرب الأهلية عام 1994، كان للتطورات السياسية تأثير سلبي على ثقافة التسامح في عدن. يستمر هذا التأثير الضار حتى اليوم، مع تضرر عدن من القتال الحالي أكثر من أي وقت مضى في تاريخها. وربما كان أسوأ ضرر على الإطلاق هو ذلك الذي لحق بتماسكها الاجتماعي.
كما يوضح موجز السياسة هذا، ظهرت الانقسامات الاجتماعية والسياسية في السنوات الأخيرة بين سكان عدن والقادمين إلى المدينة، سواء كان هؤلاء الوافدون مهاجرين عاديين، أو نزحوا بسبب الحرب. وكما هو موضح أدناه، فقد تصاعد الخطاب العدائي الذي يستهدف الوافدين الجدد من المحافظات الشمالية، بينما كان هناك أيضًا عنف دوري ضد السكان من أصول شمالية، والذين تعرضوا لحملات ترحيل منظمة. كما تعرض أولئك الذين يقفون ضد مثل هذه الممارسات التمييزية للأعمال العدائية.
يهدف هذا الموجز إلى تسليط الضوء على هذا المستوى المتزايد من التمييز، موجة حولت مدينة معروفة منذ فترة طويلة بتسامحها واندماجها إلى مدينة تُجبر الناس على الخروج منها الآن. والغرض من التركيز على هذا التحول هو النظر في التدابير التي يمكن اتخاذها للتعامل مع هذا التمييز والحد من آثاره.
استُخدم المنهج الوصفي والتحليلي لغرض هذا البحث. وأُجريت عدة مقابلات مع السكان المحليين في عدن خلال شهري يونيو/حزيران ويوليو/تموز 2021، حيث سعت الباحثة إلى اكتشاف سبب إطلاق تعريفات جديدة للهوية العدنية، التي تستبعد الشماليين، فضلًا عن الأسباب الأوسع للتمييز بين أفراد المجتمع.
قُوبل ممثلون عن جهات تابعة للحكومة المعترف بها دوليًا لمعرفة المزيد عن دورها في السيطرة على التمييز والحد منه. كما سعت الباحثة إلى معرفة ما فعلته السلطات لضمان الحفاظ على حقوق المدنيين الذين تعرضوا لمثل هذه الانتهاكات، واكتشاف الخطط والتدابير التي وضعتها السلطات للحفاظ على الأمن والاستقرار في المدينة، ومواجهة مثل هذه الممارسات التمييزية.
وأُجريت المقابلات مع أفراد مرتبطين مباشرة بالمجلس الانتقالي الجنوبي؛ لمعرفة سبب ترحيل النظام الحالي في عدن، ممثلًا بالمجلس الانتقالي وجناحه العسكري، المدنيين القادمين من المحافظات الشمالية. وسعت الباحثة للتأكد من هي الجهة التي أصدرت الأوامر بإجبار الشماليين على الخروج من المدينة، وإلى أي مدى حققت حملات الترحيل أهدافها وتأثيرها على النسيج الاجتماعي في عدن.
أخيرًا، أُجريت أيضًا مقابلات مع مدنيين يمنيين تعرضوا للتمييز من أجل الاستماع إلى آرائهم حول ما حدث، والمبررات التي قدمتها لهم السلطات لهذه الأفعال، ومن في رأيهم المسؤول فعلًا عما حدث.
الممارسات التمييزية الحالية التي تُنفذ في عدن ليست وليدة اللحظة، ولا هي نتيجة لظروف الصراع الأكثر عمومية في اليمن أثناء القتال الحالي، بل تأتي نتيجة ما مرت به المدينة، إلى جانب مدن أخرى في الجنوب، منذ توحيد شمال وجنوب اليمن في 22 مايو/أيار 1990.
وفقًا لاتفاقية الوحدة، أصبح علي عبدالله صالح (رئيس اليمن الشمالي) رئيسًا للبلد الموحد، بينما أصبح علي سالم البيض (رئيس اليمن الجنوبي) نائبًا للرئيس. ومع ذلك، كانت هناك أوجه قصور في هذه الاتفاقية، بما في ذلك الافتقار إلى أحكام واضحة وقابلة للتنفيذ. أدى ذلك إلى تعطيل عمل كافة مؤسسات الدولة، نتيجة تضخم مفاجئ في عدد موظفي الدولة، إلى جانب اختلافات في أساليب التعامل مع القضايا الأساسية. ومع ذلك، كان التحدي الأكبر للجميع هو أن الجيش وقوات الأمن ظلت منقسمة هيكليًا.[2]
في ديسمبر/كانون الأول 1991، بدأت موجة اغتيالات استهدفت مسؤولين وشخصيات بارزة أخرى على خلفية محاولة اغتيال عمر الجاوي. كان الجاوي من أوائل المناصرين لتوحيد اليمن ومؤسس حزب التجمع الوحدوي اليمني وأمينه العام، على الرغم من انتقاده للاتجاه الذي تسير فيه الدولة الموحدة. نجا الجاوي من الهجوم، ولكن رفيقه حسن الحريبي لقي حتفه.
استمرت عمليات الاغتيال، حيث استُهدفت ما يقرب من مئة شخصية عام 1992 وحده.[3] استهدفت هذه العمليات بشكل أساسي أعضاء الحزب الاشتراكي اليمني الذي يتزعمه البيض، نائب الرئيس و”شريك الوحدة الجنوبي” في اتفاقية الوحدة.[4]
استمرت التوترات بين الشمال والجنوب في اليمن الموحد في التصاعد، مع محاولات للتخفيف من ذلك، مثل توقيع وثيقة العهد والاتفاق في الأردن في 20 فبراير/شباط 1994، [5] والتي باءت بالفشل إلى حد كبير. واندلعت الحرب بعد ذلك بين الفصائل الشمالية والجنوبية في صيف 1994. وصدرت فتاوى في الشمال تجيز قتل الجنوبيين، وأشهرها الفتوى التي أصدرها الشيخ عبدالوهاب بن لطف الديلمي وزير العدل اليمني الأسبق.[6]
انتصر الشمال في صراع لم يدم طويلًا. ودخلت قوات الرئيس صالح عدن وفي 7 يوليو/تموز 1994 أعلن النصر وانتهاء الحرب. وهذا يعني أيضًا نهاية “الوحدة” بالمعنى الطوعي، حيث أصبح الشمال يعاقب الجنوب المهزوم على محاولته الانفصال. دمرت القوات الشمالية بعض المؤسسات الجنوبية التي كانت مهمة للغاية قبل الوحدة، وهُدم ما لا يقل عن 17 مصنعًا ومبنى آخر. كما تم بيع الأصول، بما في ذلك العقارات، [7] مع سيطرة صنعاء على العديد من المنشآت في الجنوب.[8]
كل هذه التطورات أضافت إلى الشعور بالقمع بين الجنوبيين، الذين شعر الكثير منهم أن بلادهم ومواردها تُستغل من قِبل نظام الرئيس صالح الشمالي، بينما الجنوبيون يعيشون في القهر والإقصاء. ومع تصاعد الغضب، بدأ العديد من الجنوبيين ينظرون إلى انتصار الشمال على أنه غزو أجنبي.[9]
نتيجة لمزيد من السياسات التمييزية، أُحيل حوالي 100 ألف جندي وموظف مدني جنوبي[10] للتقاعد المبكر بعد عام 1994، مع تخفيض معاشاتهم التقاعدية. وأدى ذلك إلى تشكيل الحراك الجنوبي السلمي غير العنيف عام 2007، والذي دعا إما إلى إصلاحات جوهرية للدولة الموحدة، أو استقلال الجنوب.[11]
ومع ذلك، لم تستمع الحكومة إلى هذه المطالب واستخدمت بدلًا من ذلك قوات الأمن ضد من يطرحونها. وشملت إجراءات الحكومة انتهاكات لحقوق الإنسان، مثل القتل خارج نطاق القضاء، والاعتقالات التعسفية، والاعتداءات، وقمع حرية التجمع والتعبير، واحتجاز الصحفيين. لكن هذه الإجراءات أدت إلى زيادة محنة الجنوبيين، إلى جانب شعورهم بأنهم غرباء في أرضهم. وبالتالي، ازداد الدعم للمشاعر الانفصالية في الجنوب وتسبب في تعميق الرفض لأي شيء يتعلق بالشمال.[12]
وحتى بعد تنحي صالح من منصبه بعد انتفاضة عام 2011، لم يتوقف نمو هذه المشاعر. كما فشلت محاولات المصالحة من قِبل حكومة الرئيس عبدربه منصور هادي الجديدة، التي تضمنت اعتذارًا عن حرب 1994 وأعمال النظام السابق ضد الجنوبيين، في تهدئة الاحتجاجات. على العكس من ذلك، استمرت المظاهرات التي يقودها الحراك الجنوبي، حيث رفع المتظاهرون أعلام اليمن الجنوبي ورددوا رفضهم لاعتذار الحكومة. في عامي 2012 و2013، نُظمت مسيرات حاشدة للانفصاليين في عدن في ذكرى تأسيس جيش اليمن الجنوبي، بينما في 21 مايو/أيار 2014، نُظم تجمع كبير للاحتفال بالذكرى الـ12 لانفصال جنوب اليمن عام 1994. كما نُظمت الاعتصامات والاحتجاجات الأخرى في مناسبات أخرى مهمة في الجنوب، مثل 30 نوفمبر/تشرين الثاني، عندما استقل اليمن الجنوبي عن بريطانيا عام 1967.[13]
التمييز يأخذ مسارًا معاكسًا
في يوليو/تموز 2015، طردت قوات المقاومة الشعبية -وهي تحالف من المستقلين، والسلفيين وأنصار حزب الإصلاح وأعضاء الحراك الجنوبي -وقوات التحالف العسكري بقيادة السعودية قوات صالح والحوثيين من عدن؛ بعد أن تقدمت الأخيرة جنوبًا نحو المدينة الساحلية لتطارد الرئيس هادي الذي فر إليها من إقامته الجبرية بصنعاء.
وفي حين وجد الحراك الجنوبي وحكومة الرئيس هادي المعترف بها دوليًا نفسيهما في نفس الجانب في الحرب ضد الحوثيين، لم تنحسر دعوات الجنوبيين للانفصال. وفي الواقع، تعززت هذه الدعوات لاحقًا بسبب الغياب العام للحكومة عن عدن، التي أعلنها هادي -ومقره الرياض -كعاصمة مؤقتة لليمن في مارس/آذار 2015.[14] كما تعززت المشاعر الانفصالية من خلال دعم الإمارات العربية المتحدة، الشريك الرئيسي في التحالف الذي تقوده السعودية، للمجلس الانتقالي الجنوبي بعد تشكيله عام 2017.[15]
في مايو/أيار 2016، بدأت حملة الترحيل الأولى ضد المدنيين الذين ينحدرون من المحافظات الشمالية من عدن. نُقل أكثر من 800 شخص من الأسواق وأماكن العمل، وتم تجميعهم في شاحنات تستخدم لنقل البضائع ونُقلوا إلى الحدود بين محافظتي لحج وتعز -الحدود القديمة بين شمال وجنوب اليمن.[16]
بررت السلطات في عدن هذه الإجراءات بقولها إنها تستهدف فقط الأشخاص الذين ليس لديهم أوراق هوية أو وثائق رسمية توضح مكان إقامتهم. وزعموا أن هذا الإجراء اتُخذ أيضًا من أجل الكشف عن “خلايا نائمة” تهدد أمن المدينة. ومع ذلك، فقد ثبت أن هذا التبرير كان كاذبًا، حيث تبيّن لاحقًا أن معظم المرحلين لديهم أوراق ثبوتية.[17] ووثق نشطاء حقوق الإنسان أيضا مصادرة ممتلكات الشماليين المرحّلين وإغلاق أعمالهم.[18]
وزعم قادة داخل الحكومة أنهم غير مسؤولين عن هذه الأعمال وأدانوا طرد المدنيين الشماليين من عدن. ووصف الرئيس هادي عمليات الترحيل بأنها “غير مقبولة”، فيما وصفها رئيس الوزراء -حينذاك -أحمد بن دغر بأنها غير قانونية وتعسفية، ودعا إلى عودة المطرودين.[19] وذكرت وزارة الداخلية أن هذه الحوادث حدثت بسبب العلاقة غير المنظمة بين الحكومة والتحالف العسكري بقيادة السعودية. وأضافت أن التحالف بقيادة السعودية أنشأ العديد من قوات الأمن المختلفة، بعضها مسؤول عن هذه الانتهاكات، لكن أيًا منها لم يكن مرتبطًا بوزارة الداخلية.[20]
ومع ذلك، في أغسطس/آب 2019، نُفذت حملة ترحيل ثانية. جاء ذلك بعد هجوم صاروخي للحوثيين في 1 أغسطس/آب على قاعدة عسكرية تديرها قوات الحزام الأمني، الذراع المسلح للمجلس الانتقالي الجنوبي التي دربتها الإمارات إلى حد كبير.[21] أسفر الهجوم عن مقتل وإصابة العشرات من مقاتلي الحزام الأمني، من بينهم قائد اللواء الأول دعم وإسناد التابع للحزام الأمني منير اليافعي المعروف باسم أبو اليمامة.[22] بعد جنازة أبو اليمامة، شن المجلس الانتقالي الجنوبي هجومًا مسلحًا على القوات الحكومية المعترف بها دوليًا، وأخرجها من عدن.[23]
وبحسب ما ورد، استهدف مقاتلو الحزام الأمني الشماليين المقيمين في عدن في انتقام واضح لهجمات الحوثيين، حيث تعرض “المئات” للاحتجاز والاعتداء والمضايقة والطرد قسرًا، وفقًا للأمم المتحدة.[24] وشن رجال مسلحون يرتدون الزي العسكري والمدنيون العاديون الذين تجمعوا للبحث عن الشماليين مداهمات. كل من عُثر عليه جُمع ورُحّل إلى طور الباحة الواقعة على الحدود بين لحج وتعز.[25]
أ.ك، [26] أحد الذين طُردوا عام 2019، قال للباحثة إن المسلحين الذين احتجزوه هددوه بقتله إذا لم يسلّم كل أمواله وهاتفه الخلوي. ثم اُقتيد مع المرحّلين الآخرين إلى مديرية يافع بمحافظة لحج، حيث تعرّضوا للضرب بأعقاب البنادق والطعن في القدمين والتهديد بالحرق وقطع رؤوسهم ودفنهم أحياء. أ.ك قال إنه في النهاية، أُطلق سراحهم بالقرب من الحدود مع محافظة البيضاء. وهناك، قال آسروه إنهم سيطلقون النار على نقطة تفتيش قريبة تابعة للحوثيين، وبالتالي عندما يرد الحوثيون، سيقتلون المرحّلين في إطلاق النار. وأضاف أن المرحلين تمكنوا، مع ذلك، من الوصول إلى أقرب منطقة آمنة، حيث رحب بهم الحوثيون.
نفت كتائب الدعم والإسناد وقوات الحزام الأمني فيما بعد مسؤوليتها عن الطرد القسري للأشخاص الذين ينحدرون من المحافظات الشمالية وإغلاق أعمالهم التجارية.[27] وبالرغم من إدانة الحكومة لطرد الشماليين عندما حدث أول مرة عام 2016، [28] تكررت حملة الترحيل عام 2019، كما تكررت مضايقة أفراد من المحافظات الشمالية، بالرغم من أن عائلاتهم تعيش في عدن منذ ثلاثة أو أربعة أجيال.
لم تقتصر الإجراءات التمييزية على الترحيل الجماعي لليمنيين من أصول شمالية، بل تضمنت عمليات الاحتجاز غير المبررة والاختفاء القسري. تؤثر هذه القضايا على كل من المنحدرين من أصول جنوبية وشمالية، مما يشير إلى تفكك أوسع لسيادة القانون والنسيج الاجتماعي في عدن.
وفقًا لجمعية رابطة أمهات المختطفين، وهي منظمة مجتمع مدني تقودها نساء ومقرها اليمن، فقد اُعتقل بعض سكان عدن الذين تعود أصولهم إلى محافظات أخرى من قِبل قوات الحزام الأمني وغيرها من الجماعات التابعة للمجلس الانتقالي الجنوبي و”اختفوا”.[29] وهذا يعني أنه لا يوجد سجل لاعتقالهم، ولم توجه أي تهم ضدهم على الإطلاق، ومكانهم غير معروف.[30]
بينما لم يكن لدى المتحدثة باسم الجمعية، أمة السلام الحاج، أرقام عن عدد الشماليين الذين تعرضوا لهذه المعاملة، قالت إن 43 شخصًا من عدن ومحافظات جنوبية أخرى اختفوا بهذه الطريقة. بالإضافة إلى ذلك، كان لدى الجمعية سجل يفيد أن 40 شخصًا احتُجزوا لأكثر من أربع سنوات، في حين أن 12 منهم فقط متهمون بجريمة محددة.[31]
رافقت كل موجة من عمليات الترحيل خطاب تمييزي صريح من قِبل قيادة المجلس الانتقالي الجنوبي. ففي عامي 2016 و2019، أدلى هاني بن بريك، قائد الحزام الأمني ونائب رئيس المجلس، بتصريحات واضحة مفادها أن المواطنين الشماليين غير مرحب بهم في عدن، وطالبهم بعدم القدوم إلى المدينة.[32]
كما انتشر خطاب التقسيم والتمييز هذا في دوائر ومؤسسات الدولة. أحد الأمثلة على ذلك قدمه الفنان التشكيلي علي الذرحاني، الذي قال إنه لم يُسمح له بالدخول إلى مبنى مكاتب محافظة عدن لطلب تصريح معرض لعمله. كان التبرير الذي قدمه له ضابط الأمن عند الباب: “أنت دحباشي ولا يُسمح لك بالدخول إلى هنا”.[33] “الدحباشي” مصطلح ازدرائي يستخدم للسخرية من شخص من محافظة شمالية.[34]
كما ساهمت وسائل الإعلام في زيادة الانقسام داخل عدن. وقالت أسمهان العلس، التي تشغل منصب الأمين العام للجمعية اليمنية للتاريخ والآثار، إنه نظرًا لعدم وجود مصدر إخباري وطني ورسمي، أدى الخطاب الإعلامي إلى المزيد من الانقسامات والكراهية. في الواقع، حاولت جميع الأطراف في الصراع الحالي استغلال الفراغ في السلطة والأمن الذي خلفته الحكومة ومؤسساتها غير الفعالة، [35] حيث أصبحت المنصات الإعلامية غالبًا أدوات دعائية لداعميها من الأطراف المتحاربة.[36] وقالت العلس إن مثل هذا الخطاب لم يعارضه أي مسؤول.[37] ونتيجة لذلك، لم يعد في عدن بيئة إعلامية أو سياسية يمكن فيها إجراء دعوات للسلام والتسامح المجتمعي وقبول الآخرين.
ك.ل، وهو صحفي، قال إنه أُجبر على الفرار من عدن إلى حضرموت بعد تعرضه للمضايقة والتهديد بالاعتقال بعد انتقاد سياسات المجلس الانتقالي الجنوبي. عاد في نهاية المطاف إلى عدن ومنذ ذلك الحين توقف تمامًا عن التعبير عن آرائه.[38] صحفي آخر، وهو مراسل لقناة إخبارية عربية في عدن، اضطر إلى الفرار من المدينة بعد استهدافه من قِبل أفراد تابعين لقوات الحزام الأمني حيث هددوه بالقتل وحرضوا آخرين ضده علانية.[39]
المؤشر الآخر على زيادة التمييز المناطقي في عدن مؤخرًا، هو تزايد استخدام المصطلحات الازدرائية، مثل “الدحباشي”، لوصف المنحدرين من أصل شمالي.
بالإضافة إلى المثال الذي قدمه الذرحاني أعلاه، قال أ. أ، [40] صحفي من صنعاء، إن قوات الحزام الأمني أوقفته مرتين عند نقاط التفتيش على الطريق من صنعاء إلى عدن، بالقرب من مدينة الضالع في ديسمبر/كانون الأول 2015 وأغسطس/آب 2019. وفي المرتين كان التبرير أنه “دحباشي”. قال أ. أ أيضًا إنه كان سيُمنع من مواصلة الطريق إلى عدن لولا تدخل الجنوبيين الذين كانوا يسافرون معه.
وتعد الأعمال التمييزية على الحواجز مخالفة للدستور اليمني الذي نص في مادته 57 على أن حرية التنقل من مكان إلى آخر داخل البلاد مكفولة لجميع المواطنين.[41] كما تنص المادة على أنه لا يجوز تقييد الحركة، إلا بموجب القانون، أو لأسباب تتعلق بالأمن والسلامة، ولا يجوز إبعاد أي مواطن من البلاد أو منعه من العودة إليها.
مصطلح ازدرائي آخر هو “عرب 48”. ويستخدم بشكل سلبي لوصف الشماليين الذين عاشوا في الجنوب -وعدن على وجه الخصوص -منذ ما قبل الاستقلال عن بريطانيا عام 1967.[42] يظهر المصطلح الآن على منصات وسائل التواصل الاجتماعي[43] ويستخدم لترسيخ الانقسامات.
وقال مجيب الوصابي، الأكاديمي في جامعة عدن، إن تذكرته المقررة من مطار عدن في يونيو/حزيران 2021 بيعت لراكب آخر بسعر أعلى قبل ساعات قليلة من إقلاع الطائرة. وعندما احتج أمام مسؤولي المطار، أهانوه وضايقوه وهددوا بتمزيق جواز سفره. كما أطلقوا عليه لقب “عرب 1948″، بعد أن رأى أحد المسؤولين أن اسم عائلته من منطقة في شمال اليمن.[44]
تضرر النسيج الاجتماعي في عدن بشدة من الممارسات التمييزية.[45] وقالت العلس إن كل من في المدينة، سواء كانوا جنوبيين أو من أصول شمالية، تأثروا بالوضع السياسي والانقسامات بين الأحزاب السياسية. وقالت إن الاتهامات تتبادل بين الحكومة والمجلس الانتقالي الجنوبي، لكن لم يتم اتخاذ أي خطوات من أجل مصلحة الشعب.
وصف سكان عدن الذين تحدثوا للباحثة في يوليو/تموز 2021 المدينة بأنها في حالة تدهور من حيث الخدمات والحقوق والاقتصاد، إذ أن الضروريات الأساسية غير متوفرة. وقالوا إن المدينة تفتقر إلى المياه والكهرباء بصورة منتظمة والوظائف والأمن، بسبب غياب الدور الحقيقي للشرطة وغياب الخدمات التي تراعي حقوق السكان.[46]
كما أن قدرة النشطاء ومنظمات المجتمع المدني على التعامل مع الممارسات السلبية والتمييزية ومعارضة الخطاب التحريضي محدودة. ويعود ذلك إلى المشاكل الأمنية وغياب الدولة وعدم ممارسة الضغط على الأطراف مما يساعد على نشر خطاب الانقسام. كما انخرط بعض نشطاء حقوق الإنسان بشكل مباشر أو غير مباشر في الصراع السياسي، وتعاملوا مع القضايا بناءً على انتماءاتهم السياسية أو آراء الجهات التي تمولهم. وقد أثر ذلك بشدة على مصداقيتهم وفعاليتهم.[47]
لسنوات عديدة، عُرفت عدن باسم “ثغر اليمن الباسم”، كمدينة عالمية للتسامح والتعايش، تقبل معتقدات وخلفيات سكانها المختلفة.
أما الآن، فقد ظهر جانب مختلف من عدن: الطرد والإقصاء، حيث أدى الخطاب المناطقي إلى الانقسام والتشرذم. وازدادت الإجراءات ضد المواطنين اليمنيين الذين يُعتقد أنهم من الشمال، وكذلك الشعور بانعدام الأمن، رغم وجود العديد من قوات الأمن المختلفة في المدينة. رغم ذلك، تواصل الحكومة المعترف بها دوليًا ومؤسساتها التعامل مع الوضع باللامبالاة، وتكتفي بإصدار بيانات أو توجيهات ضعيفة، مع عدم اتخاذ خطوات حاسمة تجاه الحل. وهذا النهج أدى فقط إلى تفاقم الوضع، وتسريع تدهور عدن.
للحكومة المعترف بها دوليًا:
للمجلس الانتقالي:
للمؤسسات الإعلامية:
للمنظمات الحقوقية المحلية والمجتمع المدني:
للتحالف بقيادة السعودية:
أُنتجت هذه الورقة كجزء من مبادرة منتدى سلام اليمن، وهي مبادرة لمركز صنعاء تسعى إلى تمكين الجيل القادم من الشباب والجهات الفاعلة في المجتمع المدني اليمني وإشراكهم في القضايا الوطنية الحرجة.
مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية هو مركز أبحاث مستقل يسعى إلى إحداث فارق عبر الإنتاج المعرفي، مع تركيز خاص على اليمن والإقليم المجاور. تغطي إصدارات وبرامج المركز، المتوفرة باللغتين العربية والإنجليزية، التطورات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية، بهدف التأثير على السياسات المحلية والإقليمية والدولية.