أدى الصراع المستمر في اليمن إلى أزمات طويلة الأمد في توفير الخدمات العامة لقطاعات متعددة في جميع أنحاء البلاد. في محافظة تعز، وسط اليمن، تسببت الحرب بنقص حاد في مادة الغاز، لا سيما في مدينة تعز، مركز المحافظة التي تحمل ذات الاسم.
تخضع مدينة تعز إما لحصار كامل أو جزئي من قِبل جماعة الحوثيين المسلحة منذ أغسطس/ آب 2015،[1] وهو وضع وصفه فريق الخبراء الدوليين والإقليميين البارزين المعني باليمن والتابع لمجلس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة، بأنه شكل من أشكال العقاب الجماعي وانتهاك للقانون الإنساني الدولي.[2] قُدِّر عدد سكان المدينة بـ 372,845 نسمة عام 2019،[3] لكن النزاع وحركة الأشخاص النازحين داخليًا جعلا من الصعب التأكد من الأعداد الحقيقية. تسبب الحصار في نقص الغذاء والمياه والأدوية، وتراجع الخدمات الصحية والتعليمية في المدينة.[4] كما ساهم في نشوء أزمة غاز الطهي.
بعد سنوات من الحصار الكامل والجزئي المفروض من قِبل قوات الحوثيين والإهمال من الشركة اليمنية للغاز والسلطات المحلية، تلبي إمدادات الغاز النفطي المسال، في بعض الأحيان، أقل من نصف الطلب. وظهرت سوق سوداء مزدهرة، يغذيها التحويل غير القانوني لوجهة الإمدادات؛ ما أدى لزيادة الأسعار التي تصل -في بعض الأحيان -إلى ضعف ما يتقاضاه موزعو الغاز الرسميون. لا توجد في محافظة تعز محطة مركزية للتعبئة ولا مستودع استراتيجي للغاز. ورغم أن السلطات المحلية والجهات الحكومية الأخرى بذلت محاولات للتخفيف من حدة المشكلة، إلا أن جميعها باءت بالفشل. كان لأزمة الغاز المستمرة آثار سياسية واجتماعية واقتصادية وصحية وبيئية وأمنية كبيرة على جميع شرائح مجتمع تعز، ولا سيما على الفئات الأشد فقرًا وضعفًا. وبالتالي، يتحتم معالجة هذه الأزمة على وجه السرعة.
تستعرض ورقة السياسات هذه أسباب وتأثيرات أزمة الغاز في تعز، وتحدد الأطراف المعنية، كما تقدم توصيات للتخفيف من حدة الأزمة ومعالجتها في نهاية المطاف.
تستند هذه الورقة إلى 25 مقابلة شبه منظمة أُجريت ما بين أبريل/نيسان ويونيو/حزيران 2021. 20 مقابلة أُجريت مع مواطنين يمنيين، يقطن نصفهم في مدينة تعز، وتحديدًا في المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا، أما الباقون فيقطنون خارج مدينة تعز، وتحديدًا في المناطق الواقعة تحت سيطرة الحكومة اليمنية، أو جماعة الحوثيين المسلحة، أو قوات المقاومة الوطنية بقيادة طارق صالح. يأتي هؤلاء الأشخاص المُقَابلون من خلفيات اجتماعية واقتصادية مختلفة، وهم مواطنون عاديون وصحفيون ونشطاء، إضافة إلى موظفين من مكتب الشركة اليمنية للغاز في تعز، سُئلوا جميعهم عن كيفية حصولهم على غاز الطهي، وكيف تأثروا بنقص الغاز، وآرائهم حول الجهات التي تعمل على حل المشكلة.
أُجريت ثلاث مقابلات هاتفية أو شخصية مع مسؤولين من الجهات المعنية بحلّ مشكلة نقص الغاز، وهم: أحمد عبدالعزيز الصبري، نائب مدير إدارة المنشآت في الشركة اليمنية للغاز في صافر، ولبيب المقرمي نائب مدير مكتب الشركة اليمنية للغاز بمحافظة تعز، وناظم العقلاني، رئيس لجنة الرقابة التابعة لمكتب الشركة اليمنية للغاز في تعز. وطلب شخصان آخران ممن أُجريت معهم مقابلات، أحدهما عضو في مكتب الصناعة والتجارة في تعز والآخر مسؤول في الشركة اليمنية للغاز مقيم في تعز، عدم ذكر اسميهما. تحدث المسؤولون عن أسباب نقص الغاز والعقبات التي تحول دون حل الأزمة. كما شاركوا البيانات والتقارير والدراسات وأوراق السياسات التي أمدت الباحث بالمعلومات عند كتابة هذه الورقة.
رغم الإبلاغ عن نقص المنتجات البترولية في تعز منتصف عام 2015، إلاّ أن الوضع تفاقم شهر سبتمبر/ أيلول من العام نفسه حين فرضت قوات الحوثيين والقوات الموالية للرئيس السابق علي عبدالله صالح حصارًا تامًا على مدينة تعز -معقل المقاومة الشعبية المناهضة للحوثيين.[5] وإلى جانب الوقود، أُبلغ عن نقص حاد في الغذاء والدواء.[6]
خلال المرحلة الأولى من الحصار الشامل،[7] أي من منتصف سبتمبر/أيلول 2015 وحتى منتصف أبريل/نيسان 2016، نصبت قوات الحوثيين نقاط تفتيش وأغلقت الشوارع بشكل تعسفي. تعرض السكان في كثير من الأحيان للإيقاف لعدة ساعات والتفتيش، ومصادرة بضائعهم (بما في ذلك المواد الغذائية) من قِبل قوات الحوثيين.[8] واشتهرت نقطة التفتيش عند معبر الدحي، وهو منفذ الدخول الرئيسي إلى وسط مدينة تعز،[9] بالمعاملة القاسية التي تعرض لها المدنيون.[10]
قبل الحرب، لم يتجاوز قط سعر اسطوانة الغاز حدود 1,500 ريال يمني،[11] ولكن بحلول أواخر عام 2015 ارتفعت أسعار المشتقات النفطية بشكل ملحوظ لتسجل مستويات قياسية. بحلول ديسمبر/ كانون الأول 2015، بلغ سعر أسطوانة الغاز في تعز 10 آلاف ريال يمني، أي ما يعادل نحو 40 دولارًا أمريكيًا حينها. قال الصحفي وجدي السالمي، الذي كان يعيش آنذاك في مدينة تعز، إن العثور على أسطوانة غاز بذلك السعر في السوق السوداء استغرق منه أيامًا.
في أغسطس/آب 2016،[12] شنت القوات الحكومية هجومًا نجح في كسر الحصار جزئيًا، وفتح الطريق من تعز إلى عدن عبر منطقة الحجرية.[13] ومع ذلك، تواصل قوات الحوثيين سد الشرايين الرئيسية المؤدية إلى المدينة من الشمال والشرق والغرب.
بعد وصول القتال إلى تعز مطلع أبريل/نيسان 2015،[14] شهدت مستويات مختلفة من السلطة المحلية انهيارًا مؤسسيًا. تأثرت بشدة قدرة المجالس المحلية على توفير الخدمات الأساسية في مدينة تعز طوال فترة النزاع[15] وساهم ذلك في نشوء أزمة الغاز في المدينة.
سارت المحاولات الرامية إلى استعادة المؤسسات الحكومية ببطء. استقال محافظ تعز شوقي هائل سعيد عام 2015،[16] وعينت الحكومة اليمنية منذ ذلك الحين ثلاثة محافظين جدد: النائب علي المعمري في يناير/كانون الثاني 2016[17] وأمين محمود في ديسمبر/كانون الأول 2017[18] ونبيل شمسان في يناير/كانون الثاني 2019.[19] أدى انعدام الاستمرارية هذا إلى إضعاف القدرة المؤسسية. ومنذ انسحاب قوات الحوثيين من مركز المدينة،[20] شهدت تعز اشتباكات داخلية بين الفصائل المناهضة للحوثيين، ما زاد من تشرذم قدرات الدولة.
تفاقمت آثار هذا التشرذم بسبب الافتقار النسبي إلى الأولوية الممنوحة لمحافظة تعز على صعيد البنية التحتية للغاز وحصص الغاز، على الرغم من عدد سكانها الكبير. لم يكن هناك فرع للشركة اليمنية للغاز في تعز حتى أكتوبر/ تشرين الأول 2017، حين أُنشئ مكتب يمثل شركة الغاز في المدينة.[21] في السابق، كانت شركة النفط اليمنية تضطلع اسميًا بمسؤوليات شركة الغاز. لا تملك المحافظة محطة تعبئة مركزية،[22] واستُنفد المستودع الوحيد المتوفر بعد قصف قوات الحوثيين منشآت الغاز في منطقة الضباب جنوب غربي تعز في يوليو/تموز 2015، ما أسفر عن انفجار 65 ألف أسطوانة من غاز الطهي.[23]
علاوة على ذلك، لا تتناسب حصة الغاز التي خصصتها الشركة اليمنية للغاز لتعز مع عدد سكان المحافظة، خاصة بعد عودة السكان النازحين إلى مدينة تعز في 2020-2021.[24] تبرر شركة الغاز نسب الحصص هذه إلى التراجع الكبير في إنتاج الغاز خلال سنوات الحرب وأعمال الصيانة الدورية في منشأة صافر بمأرب، حيث توجد معظم موارد اليمن من الغاز والمقر الرئيسي للشركة اليمنية للغاز.[25]
إضافة إلى الانهيار المؤسسي والتشرذم الذي شهدته المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة، تزداد أزمة الغاز تعقيدًا بسبب انقسام المحافظة إلى ثلاث مناطق تسيطر عليها أطراف الصراع المختلفة.
تتألف المنطقة الأولى، الواقعة تحت سيطرة قوات الحكومة اليمنية، من 12 مديرية. وتشمل هذه المنطقة: مركز مدينة تعز الذي يتألف من ثلاث مديريات (المظفر، والقاهرة، وصالة)، والريف الجنوبي (مديرية صبر الموادم ومنطقة الحجرية) وجزءًا من الريف الغربي (مديرية جبل حبشي). هناك خمس محطات تعبئة غاز تخدم هذه المناطق، إلا أن ثلاث منها عُلّقت خدماتها بسبب خلاف حول الحصص المخصصة لها من الغاز المتاح وبسبب تدخلات المسؤولين المحليين والقادة العسكريين.[26] تحصل هذه المحطات على حوالي 60% من حصة الغاز المخصصة من الشركة اليمنية للغاز لمحافظة تعز.[27]
تُعد محطة الفرشة بمحافظة لحج المجاورة أكبر محطة تعبئة تزوّد تعز بالغاز.[28] لكي يصل الوقود إلى تعز من لحج، ينبغي تحميله على ناقلات صغيرة قادرة على المرور عبر طريق هيجة العبد الوعر. وفي حال إغلاق هذا الطريق، يُستخدم طريق الصحى-كربة الذي يمكن فقط للمركبات ذات الدفع الرباعي اجتيازه؛ الأمر الذي يضاعف من تكلفة النقل. لا يزال طريق جديد، يُدعى شريان تعز، قيد الإنشاء. تزيد تكاليف النقل الإضافية من سعر أسطوانة الغاز بحوالي ألف ريال يمني.[29] بلغ السعر الرسمي لأسطوانة الغاز في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة في تعز 5 آلاف ريال يمني في أبريل/ نيسان ومايو/أيار 2021، وارتفع إلى 5,500 ريال يمني بحلول نوفمبر/ تشرين الثاني 2021.[30] أما سعر الأسطوانة في السوق السوداء فبلغ 8 آلاف ريال يمني أوائل 2021 في حين بلغ سعرها في المحطات المؤقتة 10,800 ريال يمني.[31]
تتألف المنطقة الثانية من مناطق خاضعة لسيطرة جماعة الحوثيين المسلحة. تغطي هذه المنطقة سبع مديريات، تبدأ من الجهة الشرقية لمدينة تعز (الحوبان) وتمتد لأجزاء من مديرية حيفان جنوبًا إلى مناطق في مديرية مقبنة غربًا. هناك عشر محطات وقود تخدم هذه المديريات حيث خُصص لها نحو 40٪ من حصة الغاز لمحافظة تعز. يأتي الغاز لهذه المحطات من مأرب مرورًا بمحافظات إب وذمار وصنعاء.[32] كان سعر الأسطوانة في المنطقة الواقعة تحت سيطرة الحوثيين يتراوح بين 5 آلاف ريال و6،500 ريال يمني رغم أن قيمة الريال اليمني في المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون أعلى بنسبة 40% عن القيمة المتداولة في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة اليمنية، ما يعني أن سلطات الحوثيين حققت أرباحًا أكبر من هذه المبيعات. وحين يكون هناك نقص، يمكن الحصول على الغاز من السوق السوداء في المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون بأسعار تصل إلى 14 ألف ريال يمني لكل أسطوانة.[33]
تتألف المنطقة الثالثة من أربع مديريات على الساحل الغربي لمحافظة تعز وهي المخا وذُباب وموزع والوازعية، وتسيطر عليها قوات المقاومة الوطنية التابعة لطارق صالح. هناك محطة وقود واحدة تخدم هذه المنطقة، وهي محطة النور في المخا، إلا أنها توقفت عن العمل في بداية اندلاع المعارك عام 2015. حتى وقت قريب كانت حصتها من الغاز تُوجّه نحو المحطات الواقعة ضمن المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون. استأنفت المحطة عملياتها في أبريل/ نيسان 2021 قبل أن تُغلق مرة أخرى بعد شهر واحد بسبب تدخل قادة عسكريين. دفع ذلك الشركة اليمنية للغاز لعقد اجتماعات مع المجتمعات المحلية في المديريات الساحلية الأربعة لتقرير ما إذا كانت حصة المحطة من الغاز ستُوجه إلى مديرية الخوخة بمحافظة الحديدة.[34]
يُنقل الغاز إلى المنطقة الثالثة من مأرب عبر محافظات عدن وأبين وشبوة. تعتمد المجتمعات المحلية في هذه المنطقة بشكل رئيسي على مشتريات الغاز من السوق السوداء، حيث يمكن أن يصل سعر الأسطوانة إلى 8 آلاف ريال يمني، أو من المحطات التجارية مقابل 10 آلاف ريال يمني. نادرًا ما يتوفر الغاز من وكلاء البيع بالتجزئة بالسعر الرسمي، ولا يزال سعر الغاز القادم من عدن والمحافظات الجنوبية متقلبًا.[35]
لا تخضع بعض المديريات في تعز، مثل سامع، للسيطرة الفعلية لأي طرف، بمعنى أنه لا يوجد فصيل يحتفظ بوجود عسكري هناك. على النقيض من ذلك، فإن المديريات الأخرى، مثل مقبنة وجبل حبشي وحيفان، هي ساحات للنزاع المسلح والسيطرة المتداخلة. وبالتالي فإن المجتمعات في هذه المناطق هي الأكثر تضررًا من أزمة غاز الطهي.
أصبحت السوق السوداء الكبيرة سمة بارزة لتوزيع الغاز المحلي في تعز. تلبي كمية الغاز التي تصل إلى المحافظة أقل من 50% من الطلب المحلي، ويرجع ذلك جزئيًا إلى زيادة الطلب الناتج عن ارتفاع أسعار أنواع الوقود الأخرى. يُقدّر عدد أسطوانات غاز الطهي المتدفقة إلى مدينة تعز يوميًا ما بين 8 آلاف و10 آلاف أسطوانة. لكن غالبًا ما يكون هناك انقطاع في هذه الإمدادات. وحين تصل الأسطوانات، لا تُوزع بشكل متكافئ؛ إذ يُخفى جزء كبير منها ويُباع لأصحاب المركبات والمستهلكين الكبار مثل المطاعم والمصانع ومزارع الدواجن.[36]
وحتى لو لم يكن هناك أي انقطاع في الإمدادات، ستظل أزمة الغاز قائمة طالما لا توجد مخصصات ثابتة للمركبات وكبار المستهلكين. على أقل تقدير، تحتاج مدينة تعز إلى 15 ألف أسطوانة يوميًا: 10 آلاف للاستهلاك المنزلي و5 آلاف أخرى للتخفيف من عبء الطلب الإضافي.[37]
بعد ارتفاع أسعار البنزين فوق الـ 10 آلاف ريال لكل صفيحة عبوة 20 ليترًا، شرع العديد من أصحاب المركبات والحافلات إلى إدخال تعديلات على المحركات لتعمل على غاز الطهي، فيما تحولت بعض المخابز إلى استخدام الغاز بسبب ارتفاع سعر الديزل.[38] من المقدر أيضًا أن قطاع الخدمات، الذي لا يتلقى مخصصات رسمية من الشركة اليمنية للغاز، يستهلك أكثر من 2500 أسطوانة غاز يوميًا.[39]
أدى هذا الطلب المرتفع بدوره إلى ارتفاع أسعار الغاز، مما حفز تحويل الإمدادات إلى قنوات أخرى وتسبب في حدوث نقص لدى المستهلكين المحليين. يخزن التجار الجزء الأكبر من الحصة المخصصة للاستهلاك المنزلي من أجل بيعها للسماسرة، الذين يفرضون فيما بعد أسعارًا أعلى في السوق السوداء.[40] حتى السماسرة الذين يبيعون لأصحاب السيارات يقفون في طوابير لشراء أسطوانات الغاز المخصصة للاستهلاك المنزلي،[41] ثم تُباع لأصحاب الحافلات مقابل مبلغ إضافي قدره ألف إلى ألفي ريال يمني لكل أسطوانة.[42]
ما يزيد من هذا التعقيد في السوق السوداء هو شبكة محطات الوقود المؤقتة أو “التجارية”. من المفترض أن توفر هذه المحطات الوقود للمركبات فقط. ولكن في مثل هذه المحطات، تباع الأسطوانة بضعف السعر المعروض من قِبل وكلاء بيع الغاز. يدفع ارتفاع أسعار الأسطوانات، التي تتراوح سعتها بين 18 إلى 20 ليترًا، مالكي السيارات وكبار المستهلكين إلى شراء الإمدادات المخصصة للاستهلاك المنزلي، الأمر الذي يسهم في حدوث نقص واسع النطاق. ويضطر المواطنون الذين نفد منهم الغاز للجوء إلى المحطات المؤقتة رغم أسعارها المتضخمة.
وفي حين تُعرف هذه المحطات المؤقتة باسم محطات الوقود “التجارية”-وهو مصطلح لم يكن موجودًا من قبل -لكن الحقيقة هي أنها محطات للسوق السوداء. إذ أنها تحصل على الغاز بشكل غير قانوني ولا تخضع لسلطة مكتب الشركة اليمنية للغاز حيث لا توفر الأخيرة الغاز لها.[43]
وفقًا لنائب مدير مكتب الشركة اليمنية للغاز في تعز، فإن الغاز المتوفر في هذه المحطات لا يأتي من المخصصات الرسمية لتعز، بل تُهرب من محافظات أخرى.[44] وكرر العضو في مكتب التجارة والصناعة بتعز هذه النقطة، مشيرًا إلى أن جزءًا كبيرًا من الغاز المتوفر في السوق السوداء يأتي إلى تعز من المحافظات الجنوبية.[45]
بينما يساهم انتشار المحطات المؤقتة في أزمة غاز الطهي، كان من الممكن أن يساعد وجودها أيضًا في التخفيف من حدتها. ولو أُجبرت هذه المحطات على وضع سقف محدد للأسعار بنسبة 20% على السعر المعروض من الوكلاء الرسميين، لساعد ذلك في منع المضاربة على الأسعار التي أعقبت ذلك. غير أن هذه المحطات تعمل على ما يبدو خارج نطاق أي سلطة. أُنشئت هذه المحطات بشكل عشوائي، على مقربة من الشوارع والأحياء المزدحمة، وليس هناك أي إشراف على طريقة عملها حيث فشلت محاولات تنظيمها حتى الآن.
في منتصف ديسمبر/كانون الأول 2019، أُطلقت حملة لإغلاق محطات الوقود المؤقتة التي تفتقر إلى الحد الأدنى من معايير السلامة وتشكل مخاطر لحدوث حرائق.[46] أُبلغ بعد ذلك عن نقص في الغاز، رغم استمرار وصول شحنات الغاز اليومية إلى المدينة.[47] حدث هذا النقص بسبب إخفاء موزعي غاز الطهي الغاز الإضافي الذي أتاحه هذا الإغلاق من أجل بيعه بسعر أعلى لأصحاب الحافلات الذين زُوِدوا عادة بالغاز من قِبل المحطات المؤقتة. تقاعس المسؤولين المحليين دفع السكان إلى اتهام أفراد من السلطات المحلية والشركة اليمنية للغاز باستغلال الأزمة. ووردت مزاعم مفادها أن بعض هؤلاء المسؤولين قد يمتلكون هذه المحطات المؤقتة المعنية،[48] التي سرعان ما استأنفت عملها مرة أخرى. في الآونة الأخيرة، اتُهم أحد وكلاء توزيع الغاز في مدينة تعز بتحويل أسطوانات إلى السوق السوداء خلال النقص الحاد في الغاز الذي شُهد في أكتوبر/تشرين الأول ونوفمبر/تشرين الثاني 2021،[49] عندما بلغ سعر الأسطوانة في السوق السوداء 30 ألف ريال يمني.
تفاقم انتشار السوق السوداء في تعز بسبب سوء تنظيم السلطات المحلية في توزيع الغاز، وفشلها في بناء آلية موحدة لتزويد المستهلكين به. تواجه السلطات المحلية والشركة اليمنية للغاز صعوبة في تنظيم عملية توزيع غاز الطهي لا سيما في المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين. يعتمد النظام الحالي على إرسال حصص يومية ثابتة من غاز الطهي إلى الموزعين، إلا أن هذه الحصص لم تعد تتوافق في كثير من الأحيان مع عدد الأشخاص الذين يعيشون في منطقة ما. في بعض الحالات، يحصل الموزعون في المناطق المكتظة بالسكان على حصص صغيرة نسبيًا من الغاز ما يتسبب في حدوث نقص، بينما يحصل الموزعون في المناطق ذات الكثافة السكانية المنخفضة على حصص كبيرة، مع توجيه الفائض إلى السوق السوداء. في أسوأ الحالات، يُخصص الغاز للموزعين الذين توقفوا عن البيع لعامة الناس والذين يبيعون حصصهم الكاملة للسوق السوداء.[50]
بالنسبة للمواطن العادي في تعز، يعد الحصول على أسطوانات الغاز من خلال شبكات التوزيع الرسمية أمرًا صعبًا ومتقلبًا. أولًا، يجب على المرء التسجيل من خلال (عقال الحارات)، الذين يشرفون على توزيع الغاز في أحيائهم باعتبارهم ممثلين لها. يمكنهم بعد ذلك تسليم أسطوانة الغاز الفارغة إلى الموزع، مع عدم السماح بتسليم أكثر من أسطوانة واحدة في كل زيارة. يجب على المرء أن ينتظر ما بين أسبوع و20 يومًا -وأحيانًا حتى شهر- حتى يملأ الموزع الأسطوانة. وفي حين يوزع بعض التجار أسطوانات الغاز على المستهلكين من خلال عقال الحارات، يسجل البعض الآخر كل من يأتي بأسطوانة غاز فارغة، حتى لو كان من سكان حي آخر.[51]
استنادًا إلى المقابلات التي أجراها الباحث مع سكان مدينة تعز، يجري التسجيل والتسليم في مواعيد مختلفة اعتمادًا على الوكيل. هناك البعض ممن يجرون التسجيل والتسليم بين الساعة السادسة صباحًا والسابعة صباحًا، والبعض الآخر يجريها في منتصف النهار أو حتى في الليل. يحدث هذا غالبًا مرتين في الأسبوع دون إعلان مسبق، مما يجبر المستهلكين على مراقبة الوضع باستمرار. في حال أخفق المستهلك في التسجيل أو التسليم، عليه الانتظار أسبوعًا آخر للتسجيل مرة أخرى أو للحصول على أسطوانة غاز مُعاد تعبئتها.[52] وحتى إن وصلوا إلى الموزع في الوقت المناسب، غالبًا ما يضطر المستهلكون إلى الانتظار في طوابير طويلة لساعات، وفي بعض الأحيان يضطرون إلى أخذ إجازة من العمل للقيام بذلك. كما أن الطبيعة غير المنظمة والمرهقة لتوزيع الغاز تعني أيضًا أن طوابير الغاز أصبحت موقعًا شائعًا لنشوب الخلافات، حيث تتصاعد الجدالات أحيانًا إلى أعمال عنف مميتة.[53]
أكثر جهة مسؤولة عن استمرار أزمة غاز الطهي في تعز هي الشركة اليمنية للغاز ومقرها صافر بمحافظة مأرب.
تشمل المهام الرئيسية للشركة اليمنية للغاز استلام ومعالجة وتصفية وتعبئة وتخزين ونقل وتسويق الغاز، إما بشكل منفرد أو بالشراكة مع جهات أخرى، لتلبية احتياجات المجتمع المحلي والقطاع الصناعي من الغاز. كما أن الشركة مسؤولة عن مراقبة أسعار وأوزان أسطوانات الغاز والتحكم فيها بالتنسيق مع الجهات ذات الصلة، وتطوير أنظمة الأمن الصناعي والسلامة المهنية، وتنفيذ برامج التفتيش الموقعي لمنشآت الغاز المختلفة، وتنفيذ لوائح حماية البيئة.[54]
لا يتم الوفاء بأي من هذه الواجبات في تعز. لا تُلبى احتياجات المجتمع المحلي من غاز الطهي بسبب عدم كفاية حصص الغاز،[55] ولا تُراقب الأسعار والأوزان؛ كما لا تُطبق أنظمة حماية البيئة.[56] وكلما كان هناك نقص حاد في أسطوانات غاز الطهي، يضطر المستهلكون إلى استخدام الحطب كبديل،[57] مما يتسبب في أضرار بيئية ويشكل مخاطر صحية مباشرة على الأسر. كما أن فشل الشركة في إجراء الصيانة الدورية لأسطوانات الغاز يهدد سلامة المستهلك.
تمتلك الشركة اليمنية للغاز مكاتب مجهزة بالتجهيزات المناسبة في العديد من المحافظات، لكنها لم تنشئ مكتبًا لها في تعز إلا أواخر 2017. لا يشمل المكتب أي منشآت للتعبئة المركزية ولا معارض ولا احتياطيات استراتيجية لخدمة السكان، الأمر الذي يدفع المقيمين للاعتماد على وكلاء من القطاع الخاص.[58]
السلطات المحلية في تعز أيضًا مسؤولة عن أزمة الغاز. في السنوات الأخيرة، لم تسعَ السلطات إلى زيادة حصة تعز من غاز الطهي المخصصة من الشركة اليمنية للغاز، ولم تحاول توفير وسائل عادلة ومنصفة لتوزيع الغاز. علاوة على ذلك، فإن الإجراءات المتواضعة التي حاولت السلطات المحلية القيام بها اتسمت بعدم الحزم وباءت بالفشل.
غالبية المواطنين الذين تمت مقابلتهم لغرض إعداد هذا التقرير (15 من أصل 20 شخصًا) حملوا السلطات المحلية في تعز المسؤولية عن أزمة غاز الطهي. وأشاروا إلى افتقار السلطات للرقابة على قطاع الغاز وتهاونها في التعامل مع التجار وفشلها في إيجاد حلول للتخفيف من الأزمة. ونوّه البعض إلى أن بعض المسؤولين قد يكونون متواطئين في صفقات السوق السوداء.[59]
علاوة على ذلك، فشلت السلطات المحلية حتى الآن في إنشاء آلية توزيع عادلة لغاز الطهي، أو السيطرة على المسألة من خلال المجالس المحلية. تُعد هذه المجالس غير فعّالة،[60] وبات اللجوء حاليًا إلى عقال الحارات والآليات المخصصة الأخرى هو الحل. في الواقع، جميع القرارات والإجراءات المتخذة حاليًا لتنظيم توزيع الغاز كانت مرحلية ومؤقتة، تركز فقط على جوانب معينة من المشكلة -ما أفضى إلى فشل منهجي متكرر.
في حال عزمت السلطات المحلية بالتصدي لظاهرة التربح في السوق السوداء، هناك عدد من الأحكام القانونية تحت تصرفها. تُلزم الفقرة 2 من المادة 8 من القانون رقم 46/2008 بشأن حماية المستهلك مزودي الخدمات “بعدم الامتناع عن بيع أي سلعة أو إخفائها بقصد التحكم في سعر السوق”، وتحظر صراحة ظاهرة التلاعب بالأسعار التي يمارسها أبرز تجار الغاز في السوق السوداء. وتتابع المادة 34 من نفس القانون “مع عدم الإخلال بأية عقوبة أشد، يُعاقب كل من يخالف أحكام هذا القانون أو اللائحة بالحبس مدة لا تقل عن سنة، وفي حالة تكرار المخالفة تُضاعف العقوبة”.[61] قد يكون التطبيق التام لهذا القانون كافيًا لردع المتلاعبين. ووفقًا للمادتين 43 و44 من القانون نفسه، فإن حق المستهلكين في رفع دعاوى للحصول على تعويضات لا يسقط بالتقادم. كما تُصنف القضايا المتعلقة بحقوق المستهلك مستعجلة من قِبل السلطة القضائية وفقًا لقواعد وإجراءات القضاء المستعجل المنصوص عليها في قانون المرافعات.
ومع ذلك، في ظل الظروف الحالية، من المستبعد جدًا أن يلجأ الأفراد إلى المحكمة لطلب التعويض عن التلاعب في الأسعار المُمارس من قِبل تجار الغاز في السوق السوداء. وبالتالي، تتطلب مسألة التعامل مع السوق السوداء استراتيجية شاملة، بما في ذلك تسهيل الوصول إلى العدالة بالتنسيق بين السلطات المحلية والشركة اليمنية للغاز وأصحاب المصلحة المحليين الآخرين.
تسبب الفشل المستمر للسلطات في حل أزمة الغاز بفقدان الثقة في الإدارات المحلية. أثّر نقص أسطوانات غاز الطهي وارتفاع أسعارها والنقص على الشرائح الأكثر فقرًا في المجتمع، التي تواجه أساسًا صعوبات اقتصادية كبيرة بسبب تعطّل الأنشطة التجارية وانخفاض قيمة الريال اليمني. ارتفاع أسعار غاز الطهي وصعوبة الحصول عليه والوقت المُهدر في تأمينه جعل الكثيرين يعتقدون أن هناك سياسة عقابية متعمدة ضدهم تهدف إلى حبسهم في حلقة مفرغة من البحث عن ضروريات الحياة الأساسية.[62]
أزمة غاز الطهي في تعز أثّرت على كل أسرة، لكن هذا التأثير يتفاوت باختلاف الوضع الاجتماعي والاقتصادي للسكان. تتمتع الأسر المقتدرة ماديًا بإمكانية الحصول على غاز الطهي من المحطات التجارية والسوق السوداء،[63] في حين ليس لدى الأسر الفقيرة خيار سوى البحث عن موزعين والانتظار في طوابير طويلة.[64]
خلال سنوات الحرب، شهد اليمن تحولًا في طبيعة الأدوار الاجتماعية التي تلعبها المرأة.[65] أصبح الكثير منهن معيلات لأسرهن، بدلًا من الرجال الذين انضموا إلى جبهات القتال. كان على النساء لعب جميع الأدوار التي كانت حتى وقت قريب ضمن اختصاص الذكور من أفراد الأسرة. على سبيل المثال، بات من الشائع رؤية تجمعات كبيرة من الرجال والنساء أمام وكالات بيع الغاز، في انتظار تسجيل وتسليم أسطوانات الغاز الفارغة، أو استلام الأسطوانات المعبأة، في حين أن هذه المهام كانت تُؤدى عادة من الرجال فقط قبل الحرب.[66]
عرّضت أزمة غاز الطهي سكان تعز لمخاطر صحية وبيئية، لا سيما النساء والأطفال. تضطر الأسر الفقيرة إلى استخدام الحطب والكرتون، أو حتى الحاويات البلاستيكية لطهي الطعام حين يُصعب عليها الحصول على غاز الطهي.[67] يترتب على استخدام هذه البدائل العديد من المخاطر الصحية، بما في ذلك خطر التسمم بأحادي أكسيد الكربون أو الأبخرة السامة الأخرى.[68] أظهرت الدراسات الحديثة أن تلوث الهواء الناجم عن الطهي على الفحم والحطب أثناء الحمل ضار بنمو الجنين، وثبت أن استنشاق الهواء السام يؤثر على نمو دماغ الطفل.[69]
من الناحية البيئية، أدى استخدام الحطب كبديل لغاز الطهي إلى اقتلاع الأشجار في المناطق الريفية والحضرية على حد سواء. حتى بعض المخابز تحوّلت إلى استخدام الحطب بدلًا من الغاز أو الكيروسين.[70] وحذرت الهيئة العامة لحماية البيئة اليمنية من أضرار طويلة الأمد ناجمة عن قطع الأشجار بشكل غير قانوني نتيجة أزمة الوقود.[71]
هناك العديد من المخاطر الأمنية المرتبطة بأزمة الغاز، بما في ذلك حوادث إطلاق النار التي تندلع في الطوابير غير المنظمة أمام مراكز توزيع الغاز والتهديدات ضد المالكين والموزعين.[72] يشكل الانتشار الواسع لأسطوانات الغاز المعطوبة من محطات الوقود المؤقتة غير الخاضعة للتنظيم الرقابي خطرًا كبيرًا لحدوث انفجار وحريق. وفقًا لتقديرات الشركة اليمنية للغاز، يوجد حوالي 12 مليون أسطوانة غاز للطهي غير صالحة للاستخدام.[73] وأُبلغ عن العديد من الانفجارات في محطات وقود مؤقتة خلال السنوات الأخيرة. على سبيل المثال، أسفر انفجار وقع في مدينة تعز أوائل مايو/أيار 2021 عن مقتل شخصين وإصابة آخرين.[74]
أُعد هذا التقرير كجزء من منتدى سلام اليمن، وهو مبادرة من مركز صنعاء تسعى إلى تمكين الجيل القادم من الشباب اليمني ونشطاء المجتمع المدني من المشاركة في القضايا الوطنية الملحة.
مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية هو مركز أبحاث مستقل يسعى إلى إحداث فارق عبر الإنتاج المعرفي، مع تركيز خاص على اليمن والإقليم المجاور. تغطي إصدارات وبرامج المركز، المتوفرة باللغتين العربية والإنجليزية، التطورات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية، بهدف التأثير على السياسات المحلية والإقليمية والدولية.