تُعد مدينة صنعاء القديمة مدينة مأهولة بالسكان منذ 2,500 سنة، وتتميز بفنها المعماري الفريد -الأبراج المميزة ذات الطوابق المتعددة والتصاميم البيضاء الناعمة- وهي مدرجة على قائمة التراث العالمي لليونسكو.[1] ولكن هذا التراث والتاريخ يواجه اليوم تهديدات عدة. أحدثت الأمطار الغزيرة التي ضربت المدينة مؤخرًا أضرارًا طالت ما يقارب ألف منزل، ما كشف عن الوضع الخطر الذي تعيشه المدينة وعن حجم المشاكل في قطاع الخدمات. تمثل هذه الأمور تحديًّا كبيرًا أمام عملية الحفاظ على المدينة القديمة، كما أنها دعت لطرح العديد من الأسئلة حول دور الهيئة العامة للحفاظ على المدن التاريخية في اليمن، وهي الجهة المسؤولة الأولى عن حفاظ المدن التاريخية وفقًا للقانون رقم 16 لسنة 2013.
يلخص هذا المقال تاريخ مدينة صنعاء القديمة وأبرز الصعوبات التي تواجهها، ويفصّل دور الهيئة في الحفاظ على المدينة ويتفحص عملها الحالي والتحديات التشغيلية.
يكتنف تاريخ مدينة صنعاء القديمة الكثير من الغموض والأساطير والروايات المختلفة. الأدلة على النشاط البشري في المدينة، بناءً على البحث الأثري، تعود إلى 1.6 مليون سنة، أي إلى العصر الحجري القديم. يقول البعض إن سام بن نوح[2] هو من بنى المدينة، ولكن ليس هناك معلومات تاريخية تؤكد هذه الرواية.[3] كما أن مصادر أخرى تشير إلى أن صنعاء مدينة سبئية بناها هلك أمر بن كرب، ملك سبأ وذو ريدان، عام 140-150 في التقويم السبئي الموافق 1070-1080 قبل الميلاد.[4] ووفقًا لمنظمة اليونسكو، يرجع تاريخ بناء المدينة إلى ما يزيد عن 2,500 سنة.[5]
بُنيت صنعاء على واد جبلي يرتفع 2,350 مترًا فوق مستوى سطح البحر، في وسط سهل يمتد من نُقم شرقًا حتى عيبان غربًا ومن نقيل يسلح جنوبًا حتى منطقة شبام الفراس شمالًا.[6] ساعد موقعها الاستراتيجي الذي سمح بالتحكم بطرق التجارة بين مملكة سبأ في مأرب ومدينة تهامة الواقعة على ساحل البحر الأحمر في ازدهار المدينة في الألف الثاني قبل الميلاد.[7] بحلول القرن الثاني قبل الميلاد، كانت صنعاء قد أصبحت راسخة كمقر للسلطة في المنطقة وأصبحت عاصمة ممالك اليمن القديمة.
بدأ الصراع بين الدول في المنطقة حين أصبحت اليمن في عهد الخلافة العباسية (التي امتدت منذ حوالي عام 750 وحتى عام 1250)، وكانت صنعاء مدينة يرغب الكثيرون بالسيطرة عليها.[8] بالنسبة للدولة الزيادية (819-1018) مثلت صنعاء بداية انطلاقة للسيطرة على كل أجزاء اليمن، أما دولة بني رسول (1229-1454) فقد اعتبرت المدينة معسكرًا استراتيجيًّا مهمًّا لجنودها.[9] أما الدولة اليعفرية، التي كانت قد استقلت عن حكم الخلافة العباسية، خرجت منتصرة من سلسلة من المعارك ضد قوات الزيديين عام 819، وأصبحت صنعاء عاصمة الدولة اليعفرية وامتد حكمها عبر اليمن إلى حضرموت واستمر حتى حوالي عام 1000.[10]
المرحلة الأولى: فترة ما قبل الإسلام (910 قبل الميلاد – 525 ميلادي). بُني قصر غمدان في القرن الأول قبل الميلاد،[11] وكان السبب الرئيسي في ازدهار مدينة صنعاء القديمة وتوسعها من مجموعة قرى متناثرة. ثم بُني في فترة بين 115- 80 قبل الميلاد سور من الطين حول المدينة مكون من أربعة أبواب رئيسية: باب اليمن، باب شعوب، باب السبح، وباب ستران. وبعد ذلك بُنيت كنيسة القليس. تُعد هذه الأماكن، إضافة إلى السوق، أهم معالم المدينة خلال هذه الفترة.[12]
المرحلة الثانية: فترة ما بعد الإسلام (627 ميلادي – 1129 ميلادي). استمرت أعمال البناء في المدينة واستمرت صنعاء بالتوسع خلال العصرين الأموي والعباسي.[13] وعام (627 ميلادي)، بُني الجامع الكبير. كما بنيت جبانة مصلى العيد في شمال المدينة عام 998 ميلادي وبُنيت منازل حولها لاحقًا.[14] ازدهرت المدينة خلال عهد هارون الرشيد حيث وصلت حدودها إلى مجرى السائلة واحتضنت 70 ألف مسكن.[15] وعام 525 هجري (1131 ميلادي)، بنت الدولة الصليحية الجناح الشرقي للجامع الكبير ورممت سور المدينة وأضافت إليه سبعة أبواب. كما توسعت المدينة غربًا في عهد الأيوبيين في القرن الثاني عشر ميلادي حيث بُني حي النهرين. وبُني أيضًا بستان السلطان، وهو مقر الحاكم، في الجهة الجنوبية من النهرين.[16]
المرحلة الثالثة: العصر العثماني (1547 ميلادي – 1629 ميلادي). بنى العثمانيون حيًّا جديدًا في الجانب الغربي من المدينة يُدعى بير العزب وكان يسكنه موظفو الدولة العثمانية.[17] وأحاط العثمانيون هذا الحي بسور وأبراج على نمط سور صنعاء القديمة. كما وسّع العثمانيون قلعة القصر وشيدوا مسجد البكيرية.[18] وفي القرن السابع عشر ميلادي، بُني حي اليهود في موضع سوق السبحة، السبح حاليًّا، غربًا خارج سور المدينة القديمة.[19] ومنذ ذلك الحين، بُني غيره من الأحياء في الشرق والغرب.
يختزل هذا الإرث من المباني تاريخ مدينة صنعاء القديمة التي حافظت على نسيجها الحضري وطرازها المعماري -مبانٍ سكنية ودينية وأسواق وشوارع وساحات- تقدم مثالًا حيًّا للمدن الإسلامية في العصور الوسطى.[20]
أدرجت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) مدينة صنعاء القديمة ضمن قائمة التراث العالمي عام 1986، واصفة المدينة كما يلي:
“تتميز مدينة صنعاء القديمة بالأبراج المبنية من اللبن والطوب المحروق فوق الطوابق الأرضية المبنية بالحجارة، والمزينة بشكل لافت للنظر بأنماط هندسية من الطوب المحروق والجبس الأبيض. يتناسق لون المباني مع لون التراب النحاسي للجبال المجاورة. داخل المدينة، تخترق المآذن الأفق وتنتشر البساتين الخضراء الفسيحة بين المنازل والمساجد والحمامات وخانات القوافل الملاصقة لبعضها البعض”.
ولإدراج أي مدينة أو موقع أثري ضمن قائمة التراث العالمي يجب أن ينطبق عليها أحد المعايير العشرة التي تعتمدها اليونسكو.[21] انطبق على مدينة صنعاء القديمة ثلاثة من هذه المعايير (الرابع والخامس والسادس).[22]
معايير اليونسكو التي أُدرجت على أساسها مدينة صنعاء القديمة على قائمة التراث العالمي:
المعيار الرابع: تحتوي المدينة داخل سورها المحفوظ جزئيًّا مبانٍ تُعد مثالًا بارزًا على الهندسة المعمارية المتجانسة التي يعبر تصميمها وتفاصيلها عن تنظيم استخدام الفراغات خلال القرون الأولى للإسلام والتي حوفظ عليها بمرور الوقت.
المعيار الخامس: تقدم منازل صنعاء، التي أصبحت بخطر نتيجة التغيرات الاجتماعية الحديثة، نموذجًا بارزًا لمستوطنة بشرية تقليدية تمثل تحفة استثنائية.
المعيار السادس: مدينة صنعاء القديمة مقترنة على نحو مباشر وملموس بتاريخ انتشار الإسلام خلال السنوات الهجرية الأولى. الجامع الكبير، الذي بُني عام 6 هجرية، هو أول مسجد بُني خارج مكة والمدينة. لعبت مدينة صنعاء دورًا بارزًا في تاريخ اليمن والعرب والإسلام من خلال مساهمات شخصياتها التاريخية أمثال الحسن بن أحمد الهمداني، وأحمد الرازي والشوكاني.
تتميز مدينة صنعاء القديمة بمبانيها المشيّدة من مادة الطين والطوب المحروق والحجر.[23] أما الأسقف فهي مغطاة بمادة الجص والقضاض، وهو مادة بناء عبارة عن مزيج من الجص والنورة (أحجار جيرية) وصخور نايس تستخدم في اليمن منذ القرن الخامس قبل الميلاد.[24] يتراوح ارتفاع المنازل ما بين أربعة إلى تسعة طوابق. وتتميز مدينة صنعاء القديمة أيضًا بأسواقها المتنوعة وحاراتها ومآذنها شاهقة الارتفاع وشوارعها الضيقة وبساتينها وحدائقها. تقدر مساحة مدينة صنعاء القديمة في حدود 5,87 كيلومتر مربع.[25] ويبلغ عدد الأحياء تقريبًا فيها 56 حيًّا سكنيًّا، وتحتوي على 7 آلاف مبنى سكني و42 مسجدًا و40 سوقًا و15 حمامًا بخاريًّا.[26] ويبلغ عدد سكانها وفقًا للتعداد السكاني لعام 2004 حوالي 156,569 نسمة.[27]
كشفت الأمطار في أغسطس/آب 2020 حجم الصعوبات التي تواجه مدينة صنعاء القديمة؛ إذ خلفت، بحسب اليونسكو،[28] دمارًا طال نحو ألف منزل من إجمالي عدد المنازل البالغ عددها 6,400، وتنوعت الأضرار ما بين الضرر الكلي والمتوسط والخفيف.[29] يفاقم هذا الضرر من حدة تردي قطاع الخدمات نتيجة التقادم والنزاع الحالي وعدم الصيانة والإصلاح.
ففي دراسة أجرتها الهيئة العامة للمحافظة على المدن التاريخية، الممولة من منظمة اليونسكو والاتحاد الأوروبي، في أعوام 2019-2017، لتقييم وضع البنية التحتية في مدينة صنعاء القديمة،[30] تبيّن أن خدمات مهمّة -المياه، الصرف الصحي، الطرق، والطاقة والاتصالات- غير متوفرة كليًّا أو جزئيًّا.[31]
شبكة الصرف الصحي في المدينة تجاوزت ضعف عمرها الافتراضي ولم يتم تحديثها نهائيًّا منذ عام 1982.[32] أما شبكة المياه التي لديها حوالي 6,900 إمدادات، أي يستفيد منها حوالي 50 ألف مواطن (حوالي سبعة أفراد في كل منزل)، أصبحت متهالكة حيث إنها عجزت عن تزويد السكان بالمياه منذ عام 2011.[33] وعام 1984، دُشن مشروعًا لشق الطرق بهدف المساعدة للحفاظ على مباني صنعاء القديمة عبر إعادة توجيه مياه الأمطار ومنعها من التجمع حول أساسات المباني. ولكن التسربات من شبكة المياه والصرف الصحي أحدثت ضررًا هائلًا بالطرق في المدينة إذ لحق بحوالي 66% من الطرق الرئيسية والفرعية أضرار تتراوح بين المتوسطة والكبيرة.[34]
وبحسب أبو بكر الجمرة، أحد موظفي الهيئة ونائب رئيس لجنة الحصر للمباني المتضررة من الأمطار، فإن أحد أهم المشاكل التي تواجه مباني مدينة صنعاء القديمة، والتي تفوق في خطورتها الأمطار الغزيرة، هي التسربات من شبكة المياه والصرف الصحي.[35] ونظرًا لضعف ضغط المياه، عمد المواطنون منذ عام 2011 إلى الحفر في الطرق لتركيب أنابيب في شبكة المياه لتأمين مياه الشرب إلى منازلهم؛ الأمر الذي يؤدي إلى تسرب المياه وبالتالي يؤثر على أساسات البيوت والشوارع.[36]
توقف قطاع الكهرباء والطاقة عن تأمين الخدمات لمعظم المناطق اليمنية ومنها مدينة صنعاء القديمة منذ اندلاع الحرب. وبالتالي، اضطر السكان إلى استخدام المولدات وألواح الطاقة الشمسية، ما تسبب في ظهور شبكة خطوط كهرباء عشوائية شوّهت المنظر العام للمدينة وشوارعها.[37]
أما قطاع الاتصالات، فتضرر أيضًا عبر الوقت نتيجة الإهمال، والتقادم، وغياب الصيانة وتدهور أكثر نتيجة الصراع الحالي والغارات الجوية التي تشنها السعودية على صنعاء. أسفر هذا الأمر عن توقف شبكة الاتصالات الأرضية بشكل متقطع في سبعة أحياء بالمدينة القديمة.
أُنشئت الهيئة العامة للحفاظ على المدن التاريخية عام 1997، أي بعد عقد من إدراج مدينة صنعاء القديمة ضمن قائمة التراث العالمي. كان القرن العشرين قاسيًّا على مدينة صنعاء القديمة، لا سيما بعد ثورة 26 سبتمبر 1962 حين دُمرت أجزاء من سور المدينة لبناء منازل ضمن إطار جهود التحديث التي بُذلت بعد الثورة.[38]
وعام 1979، كان هناك دعوات تطالب بإنشاء جهة حكومية مستقلة لتتولى الحفاظ على مدينة صنعاء القديمة. وفي منتصف الثمانينيات، شُكلت هيئتان لهذا الغرض،[39] ولكن عملهما اقتصر على تحديد الطرق المناسبة للحفاظ على المدن التاريخية.[40] صدر قرار إنشاء الهيئة العامة للحفاظ على المدن التاريخية عام 1997.[41]
وفقا للمادة (5) من القانون رقم 16 لسنة 2013، فإن الجهة المسؤولة عن الحفاظ على المدن التاريخية هي الهيئة العامة للحفاظ على المدن التاريخية.[42] لدى الهيئة صلاحيات واسعة لاتخاذ ما يلزم لحماية وحفظ المدن المدرجة ضمن قائمة التراث العالمي أو المسجلة ضمن قائمة التراث الوطني. ولكن القانون رقم 16 لا يمنح الهيئة الصلاحية اللازمة لمنع المخالفات ومعاقبة المخالفين، ما يعني أنه من المستحيل على الهيئة أن تنفذ عملها بشكل كامل.
يلخص هذا القسم الأمور التي تعيق عمل الهيئة.
على الرغم من صدور قرار بإنشاء الهيئة العامة للحفاظ على المدن التاريخية عام 1997 إلا أن القانون الذي تستند عليه في عملها صدر عام 2013. وخلال هذه الأعوام الستة عشر، حدثت العديد من المخالفات شمل الكثير منها استخدام مواد غير مناسبة للبناء تهدد طابع المدينة ولم تستطع نيابة الآثار والمدن التاريخية من كبحها أو معاقبة المخالفين.[43] وحتى القانون نفسه الذي صدر عام 2013 لم يتعامل بجدية مع هذه المخالفات، بل أنه أوجد ثغرات سمح من خلالها لأصحاب الممتلكات بإخفاء التعديلات التي أجروها على المباني باستخدام مواد تقليدية وعلى نفقة الهيئة.[44] هذه الممارسات -وهي في الواقع تعد تزويرًا للتراث- تتعارض مع توصيات لجنة التراث العالمي وتهدد بإزالة مدينة صنعاء القديمة من قائمة التراث العالمي.[45]
ورغم أن المادة رقم (126) من القانون رقم 16 لسنة 2013 منحت موظفي الهيئة سلطة إنفاذ القانون، إلا أنها أفرغت هذه الصفة من مضمونها عبر حصر عمل الهيئة برصد المخالفات فقط دون التدخل لضبط المخالفات أو تصحيحها.[46]
وأوضح أبو بكر الجمرة، آلية عمل الهيئة في التعامل مع المخالفات التي يقوم بها الأهالي. ويقول إنه في حال ارتكاب مخالفة، يحاول مفتش الهيئة ضبط المخالف وإزالة المخالفة، ولكن في كثير من الأحيان، لا يتجاوب المخالف لأوامر الهيئة. ثم ترفع الهيئة تقريرًا بالمخالفة إلى الجهات الأمنية المختصة. ينتهي عمل الهيئة هنا، ويصبح الأمر بيد قسم الشرطة المختص. وفي كثير من الأحيان، لا تمنع هذه السلطات المخالفات وغالبًا ما تكتفي برفع تقرير بعدم تجاوب المخالف للأوامر.[47]
وبالتالي، تستمر الممارسات التي تشوه المباني التراثية في المدينة القديمة دون رقابة أو محاسبة. وما بين الأعوام 2015 و2018 سجلت الهيئة 150 مخالفة هدم وبناء بالأسمنت و15 مخالفة حفر بحثًا عن كنوز.[48]
كما أن المعالم التاريخية والتراث الثقافي في اليمن، ومنها مدينة صنعاء القديمة، تخضع لقوانين إضافية صادرة عن جهات حكومية أخرى مثل وزارات السياحة والأشغال العامة والطرق والمياه والبيئة والأوقاف والإرشاد والمجالس المحلية، وغالبًا ما تتعارض أولويات هذه الجهات مع أولويات الهيئة وتعطّل عملها، كما أنها تصدر تراخيص بناء دون إشراف الهيئة.[49]
تعتمد الهيئة في معظم عملها -سواءً في الاستجابة للكوارث وعمليات الترميم والصيانة أو إجراء المسوحات الميدانية- على التمويل المحلي والدولي. وعند غياب هذا الدعم، يتوقف عمل الهيئة. وقد كشفت استجابة الهيئة الضعيفة للأمطار الغزيرة -وفشلها في إنقاذ ما يقارب ألف منزل- قدراتها المحدودة.
لا تتجاوز الموازنة الرأسمالية للهيئة 260 ألف ريال مع دعم لا يتجاوز مليوني ريال شهريًّا يُقدم من الصندوق الاجتماعي للتنمية لتغطية رواتب الموظفين البالغ عددهم 117 موظفًا و40 متعاقدًا.[50] ولكن الرواتب الرسمية انقطعت بشكل كبير بعد وقف صرف رواتب القطاع الرسمي بشكل عام منتصف 2016. أما ما تجنيه الهيئة من إصدار تراخيص البناء والتأهيل وتأمين الاستشارات الفنية فهو ضئيل. وبالتالي، فإن تدفق التمويل المحدود للغاية يجعل من المستحيل على الهيئة القيام بعملها.
وحاليًّا، فإن الصندوق الاجتماعي للتنمية هو من يقوم بأعمال الترميم في المدينة القديمة بدعم من اليونسكو والاتحاد الأوروبي ضمن مشروع النقد مقابل العمل الذي بدأ في سبتمبر/أيلول 2018 وينتهي في أغسطس/آب 2021 ويستهدف مباني تاريخية في أربع مدن يمنية.[51] يقتصر عمل الهيئة على دور إشرافي حيث إنه ليس لديها تواصل مع اليونسكو ولا تتلقى دعمًا مباشرًا منه. لا ينسق الصندوق الاجتماعي للتنمية أعمال الترميم مع الهيئة. يؤمن الصندوق الاجتماعي للتنمية الدعم العملي للمشروع، ولكنه للأسف غير فعّال. ووفق الجمرة، يُمنح الصندوق المال المخصص لدعم ترميم البيوت على أجزاء، ما يؤخر العمل لأشهر. لا تستطيع الهيئة أن تأمر الصندوق الاجتماعي للتنمية بإكمال المشروع بسرعة ومع ذلك تتحمل مسؤولية التأخير.
وبحسب الجمرة، من المفترض أن يرمم هذا المشروع 129 منزلًا في المدينة القديمة، لكن حتى الآن لم يتم العمل إلا على 80 منزلًا. بعض المنازل المهدمة تمامًا لم يبدأ العمل فيها. كما أن أولويات أعمال الترميم تستند على القيمة التاريخية والجمالية للمبنى وليس على الجانب الإنساني. يقول ناصر، أحد سكان مدينة صنعاء القديمة، “فقد جاري الذي تدهورت حالته الاقتصادية ابنته بسبب انهيار سقف البيت. أدرجته الهيئة ضمن قائمة الحصر والآن ينتظر المساعدة لكنه لم يتلقَ أي مساعدة حتى الآن”. حتى أولئك الذين يتلقون المساعدة يواجهون صعوبات إذ قد تتوقف أعمال الترميم حسب ما يتلقون الدعم. وبالتالي، يضطر الكثير من السكان إلى ترك المبنى أو تحمل تكاليف الترميم بأنفسهم.[52] الكثير من المباني في صنعاء لا زالت مهدمة بالكامل أو جزئيًّا.
كما تفتقر أعمال الترميم للتنسيق بين الجهات الحكومية المسؤولة مثل وزارة الأشغال العامة ووزارة الأوقاف والإرشاد وأمانة العاصمة. غياب التنسيق بين هذه الجهات قد يكون خطيرًا. على سبيل المثال، فيما يخص أساسات المنازل التي انهارت بسبب هبوط الشارع الذي يتحمل عملية إصلاحه مكتب الأشغال في أمانة العاصمة، تقتصر عملية الترميم على المبنى نفسه -نهج لا يأخذ بعين الاعتبار خطورة انهيار المبنى.[53]
يتسم عمل الهيئة بالبطء الشديد لأنها تحاول قدر الإمكان إعادة ترميم المنزل لكي تعيده كما كان عبر الحفاظ على أي مخلفات من المنزل نفسه. وعند انتهاء أعمال الترميم، لا تلزم الهيئة أصحاب البيوت بالعودة إلى منازلهم أو إجراء أعمال الصيانة، ما يأتي بنتائج عكسية إذ قد تنهار البيوت المهجورة بعد ترميمها نتيجة الإهمال. أما ساكنو البيوت، فهم لا يشعرون بأي تحفيز لإجراء أعمال صيانة لأنهم مستأجرون أو لأن المنازل هي بيوت وقف.
هذا الوضع هو حال 70% من المباني التاريخية في صنعاء، ومعظم هذه المباني متضررة بشدة.[54] وفقًا للمادة (26) من القانون رقم (13) فإن مسؤولية المنازل في ممتلكات الأوقاف تعود لوزارة الأوقاف والإرشاد. وبالتالي، لا تستطيع الهيئة القيام أو التدخل أو تمويل أي أعمال، وبالتالي يقتصر عملها على تخطيط أعمال الترميم والإشراف على تنفيذها.
وبناءً على ما سبق، تفتقر الهيئة إلى السلطة والقدرة للحفاظ على مدينة صنعاء القديمة وكل المدن التاريخية في اليمن. تعتمد هذه الهيئة على دعم الجهات الحكومية والمنظمات الدولية. هذا الدور الذي يقتصر على الإشراف والتخطيط يجعلها غير قادرة على رعاية المشاريع في الوقت الذي تتحمل فيه مسؤولية الفشل أو التأخير. يتضمن القانون الذي يحكم عملها على تناقضات متأصلة: القانون ينص على أن الهيئة مسؤولة في الحفاظ على المدن التاريخية، ولكنه لا يعطيها الصلاحيات اللازمة لإتمام هذا ولا يلزم الجهات ذات الصلة بتنفيذ ما يدخل في اختصاصها. غياب الوعي، وتضارب الأولويات وضعف التنسيق بين هذه الجهات والهيئة يؤدي إلى تنفيذ فوضوي للمشاريع التي تسعى إلى الحفاظ على تراث مدينة صنعاء القديمة، ما يؤدي إلى حصر قدرة الهيئة ويهدد المباني التاريخية في صنعاء واليمن ككل.
*ملاحظة المحرر: (11 أغسطس/آب 2021): ذكرت نسخة سابقة من هذا المقال حول مدينة صنعاء القديمة بشكل خاطئ أن صنعاء كانت عاصمة مملكة سبأ ومملكة حمير، وأن الدولة الزيادية تصارعت مع دولة بني رسول للسيطرة على المدينة. يأسف مركز صنعاء على هذا الخطأ.
مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية هو مركز أبحاث مستقل يسعى إلى إحداث فارق عبر الإنتاج المعرفي، مع تركيز خاص على اليمن والإقليم المجاور. تغطي إصدارات وبرامج المركز، المتوفرة باللغتين العربية والإنجليزية، التطورات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية، بهدف التأثير على السياسات المحلية والإقليمية والدولية.