انتهت المواجهة العسكرية بين إسرائيل والولايات المتحدة وإيران والتي استمرت 12 يوماً، وهذه المرة لم تكن الاشتباكات عادية، فقد استخدمت جميع الأطراف أسلحتها الأكثر تطوراً، وتكبدت كل من إيران وإسرائيل خسائر فادحة في الأرواح وخسائر مادية والأهم الخسائر النفسية.
بعد أيام من الحملة الجوية الإسرائيلية الشرسة، قصفت الولايات المتحدة المنشآت النووية الإيرانية باستخدام قاذفات استراتيجية من طراز بي-2 محدثة نقطة تحول في الصراع، وردت طهران بدورها بضرب قاعدة العُديد الجوية بقطر في هجوم لم يتسبب بأضرار فعلية، كونه هجوما رمزيا هدف إلى حفظ ماء الوجه أكثر من إحداث أذى، وبعدها بوقت قصير أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وقف الأعمال العدائية.
بعد التهدئة، تراجع الطرفان في نهاية المطاف وبدآ في تقييم خسائرهما. تكبدت إيران أضراراً جسيمة في بنيتها التحتية، وخسرت شخصيات عسكرية رفيعة المستوى وعلماء نوويين، وتلقى برنامجها للصواريخ الباليستية ضربات قوية في الغارات الإسرائيلية. كانت الأضرار المادية أقل خطورة في إسرائيل، على الرغم من أنها واجهت مستوى تهديد لم تشهده منذ عقود، وسُمعت فيها صفارات الإنذار بشكل شبه مستمر، وقضى المدنيون معظم فترة الصراع في الملاجئ، وتشير التقارير أيضًا إلى أن تواتر وشدة الضربات الإيرانية هددت مؤقتًا باستنفاد مخزون إسرائيل من صواريخ أرو الاعتراضية، مما وضع قدرات الدفاع في البلاد على المحك.
كان دخول الولايات المتحدة في المعركة، رغم أنه بدا مفاجئًا، نهجاً مدروساً بعناية، واستهدفت الضربات القدرات النووية الإيرانية بهدف تحقيق التوازن بين توجيه رسالة قوية إلى طهران ومنع تصعيد أوسع، فأي تصعيد قد يهدد بسهولة دولًا أخرى في المنطقة، خصوصاً التي تستضيف قواعد عسكرية أمريكية على أراضيها، وقد يدفع إيران إلى إغلاق مضيق هرمز أو إعادة إشعال الصراع حول مضيق باب المندب الحيوي في البحر الأحمر.
في 23 يونيو، أعلن ترامب نهاية العمليات العسكرية بين إيران وإسرائيل، واصفاً إياها بـاتفاق وقف إطلاق نار شامل، ومن ثم علق في منشور منفصل على الضربة الانتقامية الإيرانية على قاعدة العُديد واصفاً إياها برد ضعيف للغاية على تدمير المنشآت النووية الإيرانية، وأن الصواريخ الأربعة عشر التي أطلقت على القاعدة قد اعترضت، وشكر إيران في المنشور نفسه على إخطار الولايات المتحدة المسبق بالهجوم، مما ساعد على تجنب وقوع أي إصابات أو خسائر في الأرواح. أكد الرئيس ترامب أن الضربات الأمريكية دمرت برنامج إيران النووي، لكن تقارير استخبارية طعنت في صحة هذه الرواية، وقدرت أن تلك الضربات لم تؤد إلا إلى تأخير تطوير برنامج إيران النووي، ولم تقضِ عليه تماماً.
سرعان ما أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، تحقيق انتصار تاريخي وأن إسرائيل حيدت “تهديدين وجوديين – تهديد الإبادة بالأسلحة النووية، وتهديد الدمار بـ 20 ألف صاروخ باليستي”، في حين ظهر المرشد الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي علناً لأول مرة منذ اندلاع الحرب، بعد أن أمضى معظم فترة الصراع في مرافق آمنة تحت الأرض، وأعلن انتصار إيران وأكد تلقي الولايات المتحدة صفعة قوية، وأن العالم فشل في كسر إرادة إيران. سرديات نتجت عن الحرب وتصادمت فيها خطابات الولايات المتحدة وإسرائيل وإيران، وهنأت فيها كل دولة نفسها على النصر.
في خضم سياسات السلطة في المنطقة، دخلت جماعة الحوثيين (أنصار الله) المعركة، في محاولة لتضخيم سردية طهران عن انتصارها على ما تسميه “قوى الهيمنة والاستكبار العالمي”، لم تكن الحرب بين إسرائيل وإيران مجرد مواجهة إقليمية بالنسبة للحوثيين، بل كانت لحظة استراتيجية لإعادة التأكيد على أنهم لاعب قوي ومركزي ضمن محور المقاومة، وكما فعل الحوثيون في المواجهات السابقة، صاغوا خطابهم هذه المرة من خلال سردية مدروسة بعناية تربط الصمود بالنصر، وهو ما يفسر إصرارهم على استمرار التوتر مع إسرائيل لسنوات، حيث يرى الحوثيون فشل واشنطن وتل أبيب في تحقيق نصر حاسم في الحرب نجاحا لقوى المحور. لم يقتصر أثر هذا الموقف على تعزيز مكانة الحوثيين ضمن محور المقاومة (خاصة بعد نوفمبر 2023)، بل وفر لهم ذريعة لمواصلة إخضاع مناطق سيطرتهم لمزيد من التشديد وتطوير قدراتهم العسكرية.
انخراط الحوثيين: الدعم المعنوي بدلاً من المشاركة العسكرية
كان أداء الحوثيين العسكري محدوداً بشكل ملحوظ خلال المواجهة بين إيران وإسرائيل، خاصةً بالمقارنة مع الفترة التي سبقت الحملة الجوية لإدارة ترامب التي أطلق الحوثيون خلالها الصواريخ والطائرات المسيرة نحو إسرائيل بشكل شبه يومي، وتعمد الحوثيون بدلاً من ذلك اتباع نهج حذر مفضلين تجنب إثارة أي اشتباك عسكري كبير. رغم أن قدرات الحوثيين الصاروخية وطائراتهم بدون طيار أثبتت فعاليتها ووصلت أحياناً إلى أهداف عميقة داخل إسرائيل، إلا أنها تظل غير كافية لإحداث تحول ملموس في ميزان القوى في صراع إقليمي كالذي حدث.
أدت الضربات الأمريكية على الحوثيين بين مارس ومايو، إلى استنزاف كبير لمخزون صواريخهم وفقاً لمصدر أمني يمني، وكانت الغارات الجوية الأمريكية في إطار عملية “الراكب الخشن” قد استهدفت عدة منشآت تخزين رئيسية ومنصات إطلاق وورش تصنيع، وأشار المصدر إلى أن بعض المستودعات الكبيرة المخفية في المناطق الجبلية لم تدمر بالكامل، لكنه أكد أن الغارات الجوية نجحت في إغلاق نقاط الوصول إليها، مما جعل الحوثيين غير قادرين على الوصول إليها أو إعادة استخدامها حتى الآن.
أُرهق الحوثيون نتيجة الحملة الطويلة التي استمرت لشهور وأدركوا خطر التصعيد، ووجهوا انتباههم بالتالي نحو حملة إعلامية وسياسية لدعم إيران. مع بدء الضربات الإسرائيلية على إيران، سارع المكتب السياسي للحوثيين إلى إصدار بيان يدين (العدوان الإسرائيلي)، ويؤكد حق طهران الكامل والشرعي بالرد في 13 يونيو، وتداولت أصوات رسمية وغير رسمية في العاصمة صنعاء التي يسيطر عليها الحوثيون هذه الإدانات، وصرح محمد علي الحوثي، أحد كبار قادة الجماعة أن الضربات الإسرائيلية على إيران دليل كافٍ على “همجية وإرهاب العدو الصهيوني”.
لم يقتصر الدعم الخطابي للحوثيين على الإدانات والتعليقات التي أعقبت الضربات، بل حذر وزير الدفاع الحوثي إسرائيل من التهور حتى قبل اندلاع الأعمال العدائية بين إسرائيل وإيران، قائلاً إن الحوثيين يمتلكون عدة صواريخ متعددة الرؤوس مصممة خصيصاً لتجاوز الدفاعات الجوية الإسرائيلية والتغلب عليها، وهي المرة الأولى التي يزعم فيها الحوثيون امتلاكهم مثل هذه التكنولوجيا، وجاء هذا الإعلان مطابقًا لتصريحات إيرانية بأن الحرس الثوري الإيراني كشف النقاب عن استخدامهم صاروخ خيبر متعدد الرؤوس للمرة الأولى، ولم تكن هذه التصريحات مصادفة فغالباً ما يصدر الحوثيون تحذيرات ورسائل كقنوات غير مباشرة لإيران لإيصال إشارات استراتيجية إلى أعدائها.
بدأ دعم الحوثيين لطهران يتسلل إلى خطابهم الداخلي، حيث نظم الحوثيون مسيرة مليونية في 13 يونيو، وهي مظاهرات أسبوعية في صنعاء يستخدمها الحوثيون لإظهار الدعم الشعبي لقراراتهم ومواقفهم السياسية، وأدان المتظاهرون العدوان الإسرائيلي وأكدوا حق إيران المشروع في الرد، ومن ثم في 20 يونيو، نُظمت مظاهرات إضافية تحت شعار: ثابتون مع غزة وإيران ضد الإجرام الصهيوأمريكي، وأعرب المشاركون عن دعمهم للرد الإيراني على العدوان الإسرائيلي، ورفعوا الأعلام الإيرانية، وأكدوا على وحدة القضية وموقفهم المشترك في مواجهة “العدو المشترك”.
في ذروة التصعيد، أعلن المتحدث العسكري للحوثيين يحيى سريع، في 21 يونيو، أنهم سيستهدفون السفن الأمريكية في البحر الأحمر، إذا شاركت الولايات المتحدة في أي هجوم على إيران، وهو أول بيان رسمي يشير بوضوح إلى احتمال العودة إلى استهداف الملاحة البحرية بعد قرار ترامب وقف العمليات العسكرية الأمريكية ضد الجماعة في مايو، بموجب اتفاق يقضي بوقف الحوثيين هجماتهم على السفن الأمريكية.
رافقت تهديدات المتحدث سريع شديدة اللهجة تصريحات تنذر بالسوء من رئيس المجلس السياسي الأعلى للحوثيين مهدي المشاط، الذي أعلن أن “اليمن ستواجه أي عدوان محتمل ضد إيران بكل الوسائل المشروعة”، وحذر من أن النار ستصل لكل دولة تشارك في دعم العدوان على إيران. لكن هذه التصريحات لم تبدُ أكثر من تهديدات جوفاء، حيث امتنع الحوثيون عن الدخول في أي مواجهة على الرغم من الهجمات الأمريكية على إيران التي تجاوزت الخط الأحمر الذي وضعه الحوثيون، كما ثبت عدم جدية تهديدات إيران عندما أصدر الحرس الثوري الإيراني تحذيرات شبيهة، بأنه سيستهدف أي سفينة تحمل أسلحة أو تقدم الدعم لإسرائيل.
سارع قادة الحوثيين إلى تهنئة طهران عقب انتهاء المواجهة بين إيران وإسرائيل، حيث هنأ المشاط الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، على ما وصفه بـ “انتصار” إيران على الولايات المتحدة وإسرائيل، وهنأ زعيم الجماعة عبد الملك الحوثي، طهران على ما أسماه “الانتصار العظيم” على العدو الإسرائيلي. حرص الحوثي على تبنّي الأداء الإيراني، واصفاً إياه بالانتصار للعالم الإسلامي بأسره، وشدد على أن الهزيمة التي مني بها الاحتلال الإسرائيلي وشركاؤه الغربيون تمثل تحولاً استراتيجياً لصالح محور المقاومة، وأضاف أن أي محاولة للإطاحة بالنظام الإسلامي الإيراني أو إخضاعه هي محاولة عقيمة، مؤكداً أن اليمن شريكة له، وتقدم كل ما في وسعها.
واصل الحوثيون جهودهم لتعبئة الدعم المجتمعي والشعبي لإيران بعد انتهاء الصراع، حيث شهدت العاصمة صنعاء وعدد من المناطق الأخرى الخاضعة لسيطرة الحوثيين مظاهرات حاشدة تحت شعار: “مباركة بانتصار إيران.. وثباتاً مع غزة حتى النصر”، وعبرت فيها الحشود عن دعمها للشعبين الفلسطيني والإيراني، ووصفت انتصار إيران على (الأعداء الصهاينة والأمريكيين) بأنه انتصار للأمة الإسلامية بأسرها.
استئناف الهجمات ضد إسرائيل
بعد أربعة أيام من انتهاء المواجهة بين إيران وإسرائيل، استأنف الحوثيون عملياتهم العسكرية المنتظمة ضد إسرائيل بشن هجوم صاروخي استهدف مدينة بئر السبع، وبعدها بيومين، أعلن الحوثيون عن سلسلة من هجمات الصواريخ والطائرات المسيرة، في إشارة إلى عودتهم إلى سياستهم السابقة للصراع المتمثلة في شن هجمات شبه يومية، حتى أن المتحدث العسكري للحوثيين، أشار إلى أن الجماعة كانت تطلق المقذوفات منذ أيام، ويتطابق هذا الادعاء مع التصريحات الإسرائيلية التي أفادت بأنها أسقطت طائرة مسيرة في وقت مبكر من يوم 25 يونيو.
كان المسؤولون الإسرائيليون قد وصفوا هجمات الحوثيين بأنها ليست أكثر من “ذبابة مزعجة”، وشنت إسرائيل مراراً ضربات مدمرة على البنية التحتية والموانئ اليمنية رداً على اختراقات الحوثيين الصغيرة للدفاعات الإسرائيلية، في أعقاب هجمات الحوثيين أول يوليو، التي تسببت في انطلاق عدد من صفارات الإنذار في جميع أنحاء تل أبيب، أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي إسرائيل كاتس، أن مصير اليمن سيكون كمصير إيران وإن إسرائيل “ضربت رأس الأفعى في طهران” وستضرب الآن ذيلها في اليمن، مضيفًا أن “أي يد ترفع ضد اسرائيل ستقطع”. عقب العملية الثالثة للحوثيين والتي استهدفت مطار بن غوريون، شنت القوات الإسرائيلية غارات جوية صباح يوم 7 يوليو، استهدفت موانئ الحديدة ورأس عيسى والصليف بالإضافة إلى محطة كهرباء في منطقة الكثيب.
واصل الحوثيون مواقفهم الخطابية حتى بعد التدمير المتكرر لبنيتهم التحتية، حيث أصدروا بيانًا عقب الضربات الإسرائيلية طمأنوا فيه أنصارهم المحليين بأنهم قادرين على الصمود بسهولة في وجه الهجمات الإسرائيلية، وأعلنوا أنهم سيعيدون البناء، والأهم من ذلك أن الضربات لم تؤثر على قدرتهم على شن عمليات دفاعية عن غزة. ذهب المتحدث الحوثي سريع إلى حد الادعاء بأن الجماعة اعترضت قذائف إسرائيلية بصواريخ أرض-جو محلية الصنع ما تسبب في مفاجأة وإرباك الطيارين الإسرائيليين.
إلى أين تؤول الأمور؟
أشعلت الحرب بين إيران وإسرائيل صراع سرديات متضاربة، برزت خلاله جماعة الحوثي كأكثر أذرع محور المقاومة الإيراني قوة وحزماً، وتميزت الجماعة بتأكيدها الصريح على ولائها لطهران في وقت بدا فيه أن الفصائل الأخرى تتراجع. لم تكتف الجماعة بالتميز عن غيرها بشن هجوم محدود خلال فترة مشحونة سياسياً، بل شنت معركة سرديات مهمة تهدف بوضوح إلى دعم طهران، والأهم من ذلك هو أن خطاب الحوثيين ساعد أيضاً في تعزيز أهداف الجماعة داخل المحور، مما يعكس طموحها المتزايد ورغبتها في تمييز نفسها كوحدة متماسكة ومؤثرة خصوصاً في ظل الفراغ الذي خلفه زعيم حزب الله حسن نصر الله. على هذا النحو، شهد خطاب الحوثيين تحولاً مهماً من “دعم غزة” إلى “دعم غزة وإيران” خلال الصراع بين إسرائيل وإيران، وفي نهاية المطاف يخدم هذا التحول سردية الحوثيين للجمهور المحلي أو الخارجي بأنهم ليسوا مجرد فصيل محلي، بل جزء لا يتجزأ من صراع أوسع نطاقاً من أجل الأمة الإسلامية.
كلما أظهر الحوثيون قدرتهم على المشاركة الرمزية والعملية في صراعات إقليمية أوسع، أو على مواصلة تعطيل طرق التجارة العالمية، زادت أهميتهم في أعين الفاعلين الإقليميين والدوليين، بما في ذلك الرياض وواشنطن وتل أبيب وطهران. أما على الصعيد المحلي فيسمح هذا السلوك والاستراتيجية الأوسع للحوثيين بتصوير الصعوبات الاقتصادية وتدهور الأوضاع المعيشية التي يواجهها المدنيون في مناطقهم على أنها “ثمن للنصر” وإعادة صياغة الصراع على أنه مبرر لاستمرار فشلهم في توفير الخدمات الأساسية.
من ناحية أخرى وعقب استئناف العمليات الحوثية التي تهدد أهدافا إسرائيلية، ربطت إسرائيل صراحة الأحداث في إيران بما قد يحدث في اليمن، كما يتضح من تصريحات وزير دفاعها، أما عسكرياً فقد تجد إسرائيل نفسها الآن أكثر ارتياحاً في تنفيذ تهديداتها، خاصة مع توقف مواجهتها مع طهران، مما يسمح لها بتوجيه قدراتها الضاربة نحو عمليات أكثر كثافة في اليمن. نتيجة لذلك، يجد الحوثيون أنفسهم في معادلة معقدة بشكل متزايد، معادلة توازن بين المبالغة في الخطاب والحدود التي تفرضها قدراتهم، وبين طموحاتهم الإقليمية والضغوط الاقتصادية المتزايدة في الداخل، وبين إغراء لعب دور المقاومة الخارجية وضرورة تعزيز الشرعية والحكم الداخليين.