منتصف العام 2015، هرب يوسف[1] وأسرته الممتدة من قصف جوي بالقرب من مسقط رأسه، قرية الشريفية الواقعة خارج حرض شمالي محافظة حجة، ووجد يوسف البالغ من العمر 68 عاماً، وهو رب أسرة كبيرة، ملاذاً في مديرية حيران المجاورة، على أمل أن تتوقف الغارات الجوية قريباً حتى يتمكن هو وعائلته من العودة إلى منازلهم ومزرعة الموز الكبيرة التي يملكونها، لكن الهجمات الجوية والبرية اشتدت في حرض والمناطق المجاورة ومنها حيران التي كانوا يحتمون فيها، وسرعان ما اضطر هو وعائلته إلى الفرار مرة أخرى.
اليوم بعد قرابة من عقد من الزمن على تركه لمسقط رأسه، يعيش يوسف مع أسرته في مخيم مؤقت للنازحين، ولم يتمكنوا من العودة إلى ديارهم، شأنهم شأن العائلات المحلية الأخرى التي نزحت من مدينة حرض الحدودية، التي كانت تحتضن أكثر من 100 ألف نسمة.
اندلعت الاشتباكات بالقرب من مديرية الدريهمي غربي محافظة الحديدة، منتصف عام 2018، مما دفع عائلات بأكملها إلى الفرار من قُراها، وكان كريم وعائلته من أوائل الذين غادروا. مثل العديد من العائلات الأخرى، لجأ هذا الأب البالغ من العمر 48 عاماً، وأطفاله الخمسة إلى خارج الدريهمي، قبل أن ينتقلوا إلى مدينة الحديدة. بعد قرابة خمس سنوات من النزوح، تمكنت العائلة أخيراً من العودة إلى ديارها مطلع العام 2023. قبل نزوحه كانت الدريهمي تفخر بوجود أعداد كبيرة من أشجار النخيل، لكن عندما عاد كريم، وجد مسقط رأسه قد دمره القصف وامتلأ بالألغام.
واجه النازحون من حرض والدريهمي كوارث مماثلة، وهما مدينتان تقعان على طرفي سهل تهامة الذي يمتد على طول 420 كيلومتراً، وكانتا مركزاً للمعارك لسنوات. أُخرج السكان المحليون من منازلهم، وما تزال بعض الأسر غير قادرة على العودة إلى منازلها ومصادر رزقها، حيث لا تزال الشوارع والحقول مليئة بالذخائر غير المنفجرة.
في حين تمكن مئات السكان المحليين، ومنهم عائلة كريم من العودة إلى منازلهم في الدريهمي، إلا أن أيا من النازحين من حرض ومنهم عائلة يوسف الممتدة لم يتمكن من العودة. تعاني العائلتان من ظروف قاسية، بعد أن واجهتا نقص المساعدات والحماية في مخيمات النزوح، وقلة أو انعدام المساعدات لتسهيل عودتهما الآمنة إلى ديارهما ومصادر رزقهما.
حرض: مدينة أشباح
في 26 مارس 2015، بدأ تحالف بقيادة السعودية حملة قصف جوي في اليمن ضد الحوثيين، الذين استولوا على السلطة في العاصمة اليمنية صنعاء، وسيطروا على مناطق واسعة في شمال اليمن. تعرضت مدينة حرض ومناطق أخرى ضمن نطاقها الإداري فوراً لقصف مكثف استمر عدة أشهر، واشتعلت المعارك في المدينة الحدودية وميناء ميدي القريب حتى عام 2022، واشتبكت فيها القوات الحكومية المدعومة من السعودية والإمارات العربية المتحدة مع الحوثيين.
قبل العام 2015، كانت حرض مدينة نابضة بالحياة على مدار الساعة، حتى أنها كانت تُعرف بـالمدينة التي لا تنام. تقع حرض على بعد أربعة كيلومترات فقط من الحدود مع المملكة العربية السعودية، وهي أول تجمع حضري بعد منفذ الطوال، أحد المنافذ الحدودية الحيوية في اليمن، الذي كان يمر عبره جزء كبير من الصادرات غير الاستخراجية ولا سيما المحاصيل والأسماك من سهل تهامة الساحلي، لكن التجارة عبر منفذ الطوال توقفت نتيجة الحرب، وتدمير منازل المدنيين والبنية التحتية العامة، وأصبحت حرض الآن تشبه مدينة أشباح.
قال يوسف من مأواه في مخيم للنازحين خارج مدينة الحديدة: “عندما لجأنا لأول مرة إلى مديرية حيران [المديرية المجاورة]، اعتقدت أن الغارات الجوية ستستمر لأسبوع أو نحو ذلك، وكنت آمل حقاً أن نتمكن من العودة إلى قريتنا في وقت قريب، لكننا لم نتمكن من العودة، حيث استمرت الغارات الجوية في الاشتداد يوماً بعد يوم. تعرضت منازلنا ومزارعنا للضربات الجوية، وقُتل بعض العمال. حتى المناطق التي لجأنا إليها تعرضت لغارات جوية عنيفة، واضطررنا إلى الفرار عدة مرات حفاظاً على سلامتنا”.
في 30 مارس 2015، ضربت غارة جوية مخيم المزرق خارج حرض، الذي كان يأوي حوالي 12 ألف نازح من حروب صعدة منذ العام 2009، وقُتل في الغارة ما لا يقل عن 40 شخصا، وأصيب حوالي 200 آخرون في المخيم. على مدى الأشهر الأربعة التالية، وثقت هيومن رايتس ووتش، ما لا يقل عن سبع هجمات صاروخية بأسلحة من نوع الذخائر العنقودية شنها التحالف بقيادة السعودية في محافظة حجة، ووقعت ستة من هذه الهجمات في حرض وأسفرت عن مقتل وجرح عشرات المدنيين. كما عثرت هيومن رايتس ووتش على “ذخائر فرعية غير منفجرة متناثرة” في حقول تستخدم للزراعة والرعي، مما يهدد “سبل عيش المزارعين المحليين ويزيد من انعدام الأمن الغذائي”.
كما هو الحال في أجزاء أخرى من سهل تهامة، تقع الأراضي الزراعية الصالحة للزراعة على مشارف مدينة حرض، حيث كان المزارعون المحليون يزرعون عدة أنواع من الفاكهة، وخلف يوسف وراءه مزرعة موز كبيرة في مسقط رأسه الشريفية، إلى جانب عدة أعمال تجارية وسط مدينة حرض. كان معظم أبنائه الخمسة عشر يساعدونه في إدارة مزرعة الموز التي تبلغ مساحتها 66 هكتاراً، كما اضطر أشقاء يوسف الثلاثة إلى التخلي عن مزارعهم في الشريفية، التي كانت كل منها تقريباً بحجم مزرعة الموز الخاصة به.
كانت مزرعة يوسف توظف في السابق عشرات العمال، وكان عمله يسير بنجاح. يقول يوسف متذكراً تلك الأوقات وترتسم ابتسامة حزينة على وجهه “قبل الحرب (2015)، كان لدي حوالي 70 عاملاً دائماً في مزرعتي، وعشرات العمال اليوميين، وكان هناك 30 مولداً لضخ المياه التي تستخدم للري، وكنت أوزع كميات كبيرة من الموز على عدة أسواق يمنية وعلى السعودية براً”.
يقول يوسف إن من الصعب جداً عليه وعلى عائلته أن يبدأوا من جديد وهم نازحون، على الرغم من أنهم احتفظوا بمبلغ كبير من المال: “حاولنا، لكننا فشلنا للأسف، واضطررنا إلى إنفاق الكثير من المال لتغطية نفقات الأسرة على مدار السنوات، ومؤخرا، إلى بيع بعض السيارات التي أخذناها معنا عندما هربنا من الغارات الجوية”.
وفقًا ليوسف، لم يتمكن أي من سكان الشريفية من العودة إلى منازلهم ومصادر رزقهم حتى الآن: ” سمح لي [الحوثيون] مؤخرًا بالعودة مرة واحدة فقط ولفترة وجيزة، للتحقق من محطات الوقود الخاصة بي، وممتلكاتي الأخرى في وسط مدينة حرض”.
على الرغم من هدوء الأعمال العدائية في حرض منذ العام 2022، بعد الإعلان عن هدنة بوساطة الأمم المتحدة، لا تزال المنطقة منقسمة، حيث يقع جزء منها يضم معبر الطوال الحدودي والشريفية، تحت سيطرة الحكومة والجزء الآخر تحت سيطرة الحوثيين.
يقول يوسف: “أنا رجل مسن ولا أرى أي فرصة للعودة إلى دياري في أي وقت قريب، أو حتى فرصة أن أدفن في مسقط رأسي عندما أموت. آمل فقط أن تتمكن عائلتي من العودة إلى ديارها وبدء، حياتها الطبيعية مرة أخرى”.
الدريهمي: مدينة تملؤها الألغام
منتصف العام 2018، تقدمت القوات المشتركة على الساحل الغربي، بدعم من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، نحو ميناء الحديدة الاستراتيجي في هجوم يهدف إلى استعادته من الحوثيين، وتقع الدريهمي التي يبلغ عدد سكانها حوالي 60 ألف نسمة على بعد حوالي 23 كيلومتراً، جنوب المدينة الساحلية وكانت مركز معركة كبيرة. كان كريم وعائلته قد فروا في وقت سابق من العام، عندما شهدت مناطق أخرى خاضعة للحوثيين، جنوب الحديدة، بما في ذلك التحيتة والخوخة وحيس، معارك عنيفة.
قال كريم في مدينة الحديدة: “كنا نعلم أن القوات الحكومية تتقدم نحونا ببطء ولكن بثبات، وكان علينا الفرار قبل أن نعلق في تبادل إطلاق النار، كان الوقت صباحاً عندما غادرنا منزلنا مع بعض العائلات الأخرى، وسلكنا طريقاً ترابياً محدداً، قال الحوثيون إنه الطريق الوحيد الخالي من الألغام”. أخذ كريم عائلته أولاً إلى الطائف وهي قرية صيد جنوب غرب الدريهمي، قبل أن ينتقلوا إلى مدينة الحديدة.
في ديسمبر 2018، اتفقت الأطراف المتحاربة في ستوكهولم، على وقف إطلاق النار في مدينة الحديدة وموانئها الثلاثة، بالإضافة إلى خطة لنزع السلاح من المدينة، لكن الأعمال العدائية في جنوب الحديدة لم تتوقف أبداً. ظلت الدريهمي تحت الحصار لمدة ثلاث سنوات، حتى انسحاب القوات المشتركة بشكل غير متوقع أواخر العام 2021، لكن مديريات الدريهمي والتحيتة والخوخة وحيس ظلت مليئة بالألغام. على الرغم من استمرار جهود إزالة الألغام، لا تزال الآلاف من الألغام مخبأة تحت التربة، مما يجعل جنوب الحديدة واحدة من أكثر المناطق الملوثة بالألغام في اليمن.
أفادت بعثة الأمم المتحدة لدعم اتفاق الحديدة، أن 41 شخصاً قتلوا، وأصيب 52 آخرون بجروح، جراء الألغام ومخلفات الحرب المتفجرة في المحافظة خلال العام 2024، وكان 40 في المائة منهم من النساء والأطفال، وسجلت مديريتا الدريهمي والتحيتة جنوب الحديدة أعلى عدد من الضحايا. في مارس من هذا العام، سجلت بعثة الأمم المتحدة لدعم اتفاق الحديدة خمسة حوادث ألغام في الحديدة، وقعت اثنتان منها في الدريهمي، وقالت الأمم المتحدة: “إن الزيادة في عدد الحوادث والضحايا في مارس مقارنة بشهر فبراير، تؤكد تفاقم الخطر الذي تشكله الألغام الأرضية والمتفجرات من مخلفات الحرب في الحديدة”.
مستقبل مشترك
لطالما كانت الزراعة وصيد الأسماك من سبل العيش المهمة لسكان تهامة، لكن التهديد الذي تشكله الألغام الأرضية والذخائر غير المنفجرة لا يعرقل فقط جهود الأسر للعودة إلى ديارها، بل يحد أيضاً من قدرتها على إعالة نفسها.
في يونيو الفائت، لقي زوجان مصرعهما عندما اصطدمت دراجتهما النارية بلغم خارج الدريهمي. في اليوم نفسه، خارج حرض، داس صبي يبلغ من العمر 14 عاماً، على لغم أثناء رعيه الأغنام بالقرب من مخيم شليلة للنازحين، مما أدى إلى بتر ساقه اليسرى، وفي ديسمبر، كان صبي يبلغ من العمر 13 عاما يرعى الأغنام في منطقة بني حسن في منطقة عبس، حيث لجأ معظم النازحين من حرض، عندما انفجرت عبوة ناسفة مموهة على شكل لعبة وفقد يده اليسرى في الانفجار. بعد أسبوع، أصيب أربعة أطفال، تتراوح أعمارهم بين 4 و14 عاماً، في انفجار لغمين منفصلين وقعا داخل مدينة الدريهمي ومحيطها، وثلاثة منهم ينتمون إلى عائلة واحدة.
في الحين الذي تشهد اليمن جولة جديدة من الصراع، لا تزال الألغام والذخائر غير المنفجرة من جولات الصراع السابقة، تشكل تهديداً للأراضي الزراعية والمراعي وتذكر بالآثار طويلة الأمد للحرب.
هذا المقال جزء من سلسلة من المنشورات الصادرة عن مركز صنعاء، بتمويل من حكومة مملكة هولندا، وتستكشف هذه السلسلة قضايا متعددة في الاقتصاد والسياسة والبيئة، بهدف إثراء مناقشات وصياغة السياسات التي تعزز السلام المستدام في اليمن، ولا يجب أن تُفسر أية آراء معبر عنها في هذه المنشورات على أنها تمثل مركز صنعاء أو الحكومة الهولندية.