عندما دخل تنظيم القاعدة إلى مدينة المكلا في أبريل/نيسان 2015، شُلّت الحركة الثقافية والفنية حيث أرهب التنظيم الفنانين، وأسكت الكُتاب ومنع العروض الفنية وحدد واستهدف أصحاب الرؤى الثقافية. اليوم، وبعد مرور خمس سنوات على طرد القاعدة من المدينة، بدأت الفنون بالعودة تدريجيًّا. تقول شيماء بن عثمان، مؤسس شريك في مبادرة ميمز الفنية، “لقد كان جل عملنا بميزانيات شبه صفرية لدرجة أننا استخدمنا نفس اللافتة 15 مرة”.
تأسست ميمز عام 2018 تحت شعار “الفن راجع” بهدف تعزيز الفنون والفنانين ورفدهم إلى سوق العمل. عقدت مبادرة ميمز منذ تأسيسها أكثر من 17 فعالية شملت ورش عمل لتمكين الفنانين وتعليم تصميم الجرافيك ودورات عن صناعة الأفلام وفعّاليات الكاريوكي والعزف على آلة العود. تعتقد بن عثمان، الشابة التي تنحدر من حضرموت، أن عملها ودورها يخدم هدفين: إعادة إحياء الفن بعد دحر القاعدة، والمساهمة في كسر النمط الذكوري الذي طالما هيمن على الفن المحلي. تأمل بن عثمان وغيرها من النساء في المكلا أن يلعب الفن دورًا في تقليص الفصل بين الجنسين في المدينة.
وبالإضافة إلى مبادرة ميمز، يعمل نادي تكوين الثقافي الذي أسسته ست فتيات في أواخر سن المراهقة وأوائل العشرينيات (وللأمانة أنا واحدة من المؤسسات) على كسر الحواجز بين الجنسين. بدأ نادي تكوين عمله كمجموعة غير رسمية لتعليم تلامذة المدارس، ثم توسع ليشمل فنانين وفنانات يتعاونون ويعملون مع بعضهم البعض. يقيم النادي فعاليات لقراءة الشعر وجلسات لمناقشة الكتب ودورات تدريب ويعرض الأفلام بهدف إحياء التراث الثقافي والفني في حضرموت.
ولكن لا يزال هناك تحديات عدة. فعلى الرغم من انسحاب تنظيم القاعدة في جزيرة العرب من المكلا مطلع 2016، لا يزال هناك رواسب أيديولوجية متطرفة في المدينة إذ لا يرحّب الجميع بالفعاليات المختلطة. عام 2019، على سبيل المثال، اعتقلت السلطات المحلية شباب من فرقة رقص Wax on Crew بسبب انخراطهم بما سمي “ممارسات دخيلة” وأجبرتهم على توقيع تعهدات بعدم ممارسة رقص الهيب هوب. ولكن القرار أُلغي لاحقًا عقب احتجاجات محلية، ودُعي الراقصون للأداء في حفل وافقت السلطات المحلية على تنظيمه.
حين سيطر تنظيم القاعدة على المكلا عام 2015، حاول في البدء أن يحكم عبر واجهة محلية أطلقت على نفسها اسم “أبناء حضرموت.” ولكن لطالما كان واضحًا من المسؤول. منع التنظيم فن الشوارع وأزال اللوحات الإعلانية واللافتات التي تحتوي على صور نساء وصادر المجسمات البشرية المصنوعة من الورق المقوى في الأسواق والمحلات. كما شن التنظيم حملة موسعة لهدم المزارات الصوفية التي تمثل فرع من الإسلام يعتبره التنظيم شكل من أشكال البدع الدينية. ولتنفيذ هذا الأمر، شكلت القاعدة إدارة الحسبة والتي كان من ضمن المهامّ العديدة الموكلة إليها إعداد قوائم بالمواقع التي يجب تدميرها. وعلى سبيل المثال، دمر التنظيم “مقام يعقوب” الشهير عام 2015. نبش أعضاء التنظيم القبور في المقام ونهبوا محتوياته ثم فجروه. أدّى الانفجار إلى إحداث أضرار بالغة في المساكن المحيطة بالمقام. كما دمر التنظيم لاحقًا “قبة المحجوب” و”قبة مسجد بازرعة”.
منع التنظيم أيضًا إقامة الموالد التي تحتفل بمولد النبي محمد و”الحضرات” -وهي محاضرات تتحدث عن حياة النبي محمد، وغالبًا تُذاع عبر مكبّرات الصوت في المساجد- بحجة أنّها من “البدع” الصوفية المرفوضة. كان الكثير من سكان حضرموت يخشون أن ممارسات القاعدة لن تقف عند هذا الحد وأن التنظيم سيمنع في نهاية المطاف كل ما يعتبره من البدع، ومن بينها العديد من الممارسات الدينية المحلية مثل “الختايم”، وهي فعاليّة تقام في مدن حضرموت احتفالًا بختم قراءة القرآن خلال شهر رمضان. كما نشر التنظيم الأناشيد الدينية والجهادية ومنع إقامة الأعراس والمعارض الفنية والعروض المسرحية ومعارض الكتب الدولية والندوات.
ليس من المستغرب أن المكلا لم تشهد أي مقاومة تذكر ضد حملة التنظيم على الفن. بعض الفنانين انسحبوا من الحياة العامة محاولين عدم لفت النظر، بينما سافر البعض خارج البلاد وتخلى البعض الآخر عن فنه خلال تلك الفترة. قال لي الشاعر اليمني سعيد الجريري في رسالة نصية: “لقد كان (ذلك) العام تحت حكم القاعدة رهيبًا”. وأضاف الجريري الذي غادر اليمن إلى هولندا خشية على حياته بعد تلقيه تهديدات: “(خلال) هذا العام من حكم القاعدة تشكلت قاعدة فكرية في المجتمع تنظر إلى الإبداع شزرًا، وبات المبدع متهمًا في أخلاقه وقيمه بدلًا من حقيقة كونه صانعًا لجماليات الأخلاق والقيم التي يرقى بها الإنسان، ويغادر الوحش الذي يسكنه”.
ثقافة حضرموت، التي تعكسها أشعار حسين المحضار وأغاني كرامة مرسال، معروفة بشكل واسع في دول الشرق الأوسط وآسيا، وبالتالي عودتها أمر يستحق الاحتفاء به فعلًا. كما تتميز حضرموت بالفنون المرئية والرقص والقصص الشعبية والأهازيج والدان الحضرمي. وخلال الستينيات، تميزت حضرموت بالتنوع الثقافي والإبداع في شتى المجالات وعلى وجه الخصوص المسرح الذي أخذ طابعًا رسميًّا بحلول السبعينيات والثمانينيات حيث نُظمت العروض المسرحية بدعم ورعاية من السلطان الحاكم للمدينة آنذاك. كما ازدهرت معارض الكتب ودور النشر التي شكلت جزءًا كبيرًا من النشاط الثقافي.
بحسب الروائي صالح باعامر، اتسمت فترة الثمانينيات بالازدهار الثقافي في حضرموت والجنوب إجمالًا، رغم الصراع السياسي الذي شهدته تلك الحقبة. وقال باعامر إن علي ناصر محمد، الرئيس السابق لدولة جنوب اليمن حينها، ساهم في ازدهار وتطوّر الثقافة بطريقة تواكب الواقع الاقتصادي والسياسي والاجتماعي حيث أُقيمت الكثير من المهرجانات التي كانت مشهورة للغاية ونُظمت أيضًا عروضًا لها في الخارج.
كما أن الثقافة الحضرمية واضحة أيضًا في الخارج لا سيما في الهند وإندونيسيا حيث أن المهاجرين الحضرميين سافروا إلى مختلف أنحاء العالم، وتحديدًا في آسيا، وتمسكوا بحضارتهم المحلية أينما ذهبوا. قال المستكشف البريطاني السير ريتشارد برتون عن الحضارم في القرن التاسع عشر: “يقال بشكل عام أنه من المستحيل أن تشرق الشمس على أرض لا يوجد فيها حضرمي”. كما أدخل الحضارم الذين عادوا إلى حضرموت عادات البلاد التي زاروها، فعلى سبيل المثال، الصارون هو اللبس الطاغي في ساحل ووادي حضرموت الآن، وهناك أيضًا الكثير من الكلمات المستعارة مثل خبز البراوطة وفلفل الشتني والعشار في الوجبات اليومية للحضارم، وهي بالأصل هندية ومع مرور الوقت أصبحت جزء لا يتجزأ من المطبخ الحضرمي.
وفي التسعينيات، تأطرت النشاطات الثقافية بشكل أكبر وفق اتجاهات سياسية وأيديولوجية. أُغلقت دور السينما وتقلصت الأنشطة الثقافية وفُرضت قيود على دور النشر في ظل الرقابة المجتمعية والدينية. كما تقلّص دور وزارة الثقافة والإعلام المحدود أصلًا نتيجة تخفيض الميزانية.
شهدت حضرموت بشكل عام والمكلا بشكل خاص فعاليات فنية وثقافية عكست إرث حضرموت الغني والمميز خلال احتفالات 22 مايو/أيار عام 2005 بمناسبة الذكرى الخامسة عشر للوحدة. كان أبرز فعالية خلال الحفل أوبريت أعراس الجذور الذي ظهر فيه المؤدون بأزياء جميلة وغنوا عن التغيرات في حياة اليمنيين وعن تاريخ اليمن من الانجازات والمعارك عن النصر والوحدة. وعام 2008، استضافت مدينة المكلا أول معرض دولي للكتاب بمشاركة 80 دار نشر محلية وعربية من دول الخليج العربي وسوريا ومصر ولبنان والأردن. يستمر المثقفون والفنانون في الكتابة والنشر وإحياء الندوات الثقافية والفنية في المنطقة وفي الاحتفاء بالحضارة.
هذا هو التاريخ الغني الذي تأمل مجموعات مثل ميمز وتكوين في البناء عليه بهدف إعادة إحياء المشهد الفني والمتنوع في حضرموت.
شروق الرمادي هي مهندسة معمارية وريادية في مجال الثقافة والمجتمع، وهي عضو في منتدى سلام اليمن التابع لمركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية. هي أيضًا باحثة في المركز اليمني لقياس الرأي العام، ومؤسس شريك في نادي تكوين الثقافي.